ذكر اللالكائي رحمه الله الأثر الذي بعده بسنده عن جعفر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال له: يا أبا عبد الله! ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] كيف استوى؟...
الرجل لم يسأل عن معنى الاستواء، وإنما سأل عن الكيفية، وهذا الذي نهى عنه السلف، وهذا الذي ليس من عقيدة أهل السنة والجماعة الذين يثبتون ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تكييف، فمقصود السلف من نهيهم عن التعرض لأدلة الصفات النهي عن قول: (كيف؟) وألا نقر من يسأل في صفات الله تعالى بالكيف، فيقول: كيف استوى؟ كيف يده؟ كيف وجهه؟ كيف ينزل؟ كيف يأتي؟ ونحو ذلك، لأننا لا نعلم ذاته سبحانه وتعالى، فكيف نعلم صفاته؟!
فمعرفة كيفية الصفات فرع عن معرفة الذات، ولا إشكال في هذا، فهذا شيء معهود معقول، لا ينكره أحد؛ لأنه من الأمور العادية المعروفة، فإذا سألتك عن كيفية صفة من صفاته، فقلت لي: أنا لا أعلم الكيفية لأني لم أره، فسيكون جوابك سليماً، لأنك ما دمت لا تعرفه، فلن تتكلم في كيفية أية صفة من صفاته.
يقول الراوي: (فما رأيت مالكاً وجد من شيء كموجدته من مقالته)، يعني: تأثر تأثراً شديداً رحمه الله ورضي عنه (وعلته الرحضاء) يعني: تغشاه العرق (كأنه محموم)، أي كأنما أصابته حمى بسبب هذا السؤال الذي لم يعهد مثله، ولم يسمعه أحد قبله من السلف الصالح، لا من سأل ولا من سئل، فكأنه رأى أن هذا شيء غريب، كعادة أهل الحق وأهل العلم والإيمان، إذا جيء بأمر مستغرب مستحدث في الدين، فإن الإنسان يقشعر جلده من هذا القول المبتدع المحدث.
ويشبه هذا سؤال أحد التابعين أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: [[هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت]] وذلك يدل على أن الإنسان إذا فوجئ بشيء مستغرب -وخاصة فيما يتعلق بالله عز وجل- فإنه يستنكره.
ظهرت علامات وأمارات الاستنكار في هيئة الإمام مالك رحمه الله، وهو ذلك الرجل الرزين الوقور، المشهور بوقاره وسكينته، لكن هذا أمر لم يستطع أن يتمالك نفسه له، فتغشاه العرق، ووجد موجدة عظيمة، يقول الراوي: (وأطرق القوم وجعلوا ينتظرون ما يأتي منه فيه) فالكل ينتظرون ما سيجيب به الإمام على هذا السؤال المبتدع -أو سؤال المبتدع- قال: (فسري عن مالك ) أي: لما سري عنه وتمالك نفسه قال: [[الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالاً.. وأمر به فأخرج]] أي أن ما يتعلق بالكيف الذي سألت عنه غير معقول؛ أي: لا يدخل في دائرة الإدراك العقلي البشري على الإطلاق، فهو أمر فوق ما تدركه العقول، لأنه من أمر الغيب بالكلية، (والاستواء منه غير مجهول)، يقول: أما الاستواء فمعناه غير مجهول، فكل من يعرف لغة العرب يعرف معنى الاستواء، لكن كيفيته -فيما يتعلق باتصاف الله سبحانه وتعالى به- شيء آخر تتقاصر دونه العقول، ولا يمكن أن تدركه.
قال: (والإيمان به واجب)؛ لأن الله تبارك وتعالى ذكره في كتابه.
قال: (والسؤال عنه بدعة) يعني عن كيفية الاستواء.
ليس التفويض هو مذهب السلف الصالح كما يقال، وأنهم لا يسألون عن المعنى، فإنهم إذا قالوا: لا نسأل عن المعنى، أو لا نفسر، فالمقصود (لا نكيف).
وقولهم: (أمِروّها كما جاءت بلا تفسير)، يعني: أمروها كما جاءت بلا كيف.
أما المعنى اللغوي فهو معروف، لكن الكيفية هي المجهولة (غير المعقولة)، وهي التي يكون السؤال عنها بدعة، قال مالك : (وإني أخاف أن تكون ضالاً، وأمر به فأخرج) أي: أن هذا الرجل قد يكون مستعلماً مستفهماً يريد أن يعرف الحق، وقد يكون جاهلاً لا يعرف شيئاً عن الله، ولا يقدر الله تعالى حق قدره، وقد يكون من أهل الضلال، ومن أهل البدع، ممن نزغ الشيطان وألقى في قلوبهم الشبهات والضلالات، ليضل بها كثيراً؛ إذ أنه قد ظهرت ضلالات في تلك الآونة في زمن الإمام مالك رحمه الله، وكان الجعد بن درهم قد ظهر قبل ذلك في أوائل القرن الثاني، وممن سمعنا عنهم في العراق : الجعد والجهم ومن والاهم، كل أولئك كانوا قبل ذلك الزمن.