باب التكفير باب عظيم، وشأنه خطير، فلا بد أن يفهم على فهم السلف الصالح رحمهم الله.. وقد اختلفت فيه الأمة منذ أن ظهر الخوارج؛ فإن الخوارج هي أول فرقة ظهرت في الأمة، وأول خلاف في العقيدة كان معهم؛ لأنهم يكفرون أصحاب الكبائر. وقد افترقت الخوارج إلى فرق كثيرة وطوائف متعددة.
  1. لزوم جماعة المسلمين

    قال الإمام أبو جعفر الطحاوي: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله]
    قال الإمام ابن أبي العز رحمه الله:
    [أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: "ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما دامو بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين" يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
    واعلم -رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.
    فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.
    وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل كافراً مرتداً].
    المقصود هو التنبيه على خطورة باب التكفير وعظم الشأن فيه واختلاف الأمة فيه، وأهميته وضرورة أن يُعلم وأن يُقرأ وأن يفهم على فهم السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، وأول فرقة خرجت في الإسلام، وأول صراع وخلاف في العقيدة هو مع الخوارج في تكفير أصحاب الذنوب، وخلافها في أول الأمر لم يكن في الصفات، ولم يكن في القدر، وإنما كان في موضوع الإيمان والحكم على مرتكبي الكبيرة -دون الشرك- هذا هو أول ما نشب الخلاف فيه بين الأمة، وتفرقت فيه بظهور هذه الفرقة.
    ومعنى الخوارج: جمع (خارجة) وهي صفة لموصوف مقدر، والتقدير فرقة خارجة أو طائفة خارجة، فجُمعت الخارجة جمع تكسير؛ فأصبحت خوارج، وهذا معروف في لغة العرب مثلما تقول: فاكهة جمعها: فواكه، وفاطمة جمعها: فواطم، وقاعدة جمعها: قواعد كما في القرآن: ((وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ))[النور:60] إلى آخره، وهذا كثير، وأصل الخوارج من خرجوا عن الإمام أو عن السنة والإجماع، وسنوضح إن شاء الله أن الخوارج الأولين خرجوا من السنة إلى البدعة، وخرجوا عن الجماعة إلى الفرقة.
    1. معنى لفظ: (الجماعة) شرعاً

      الجماعة في الإسلام -التي أمر الله تبارك وتعالى بها- لها معنيان مهما كثرت الأحاديث {عليكم بالجماعة}... أو {فالزم جماعة المسلمين وإمامهم}.
      المعنى الأول:
      الاجتماع على الحق ولزوم السنة، فإذا خرج أي إنسان عن السنة فقد خرج عن الجماعة، وهذا الذي سوف نوضحه إن شاء الله بالتفصيل في مبحث الجماعة، ومن الأدلة عليه قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثّيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة}. المفارق للجماعة: فارق جماعة المسلمين، أي فارق الحق وفارق الإجماع وخرج من الدين.
      وأوضح صورة من صور الخروج عن الجماعة هي الخروج من الدين والخروج من الملة، فتارك الدين المرتد فارق الجماعة من جميع الوجوه، وأهل البدع فارقوا الجماعة أي فارقوا السنة إلى البدعة وإن بقي بعضهم من أهل القبلة على الاختلاف بينهم كما سنذكر إن شاء الله.
      والمعنى الآخر للجماعة:
      هو اجتماع المسلمين على طاعة إمام حق، ونقيضها الخروج على الإمام الحق الذي اجتمعت عليه الأمة، فمن خرج عليه فيطلق عليه: أنه خارج، والفئة التي خرجت يطلق عليها أنها خارجة، وتجمع على خوارج، وفي الأصل الخوارج هم الذين خرجوا في زمن علي رضي الله تعالى عنه بعد حادثة التحكيم يوم صفين، وقالوا: حكَّم علي الرجال في دين الله، وهؤلاء كانوا شباباً أحداث السن مشغوفون بالعبادة والزهد والتطلع إلى الآخرة، ولكن كان لديهم من ضيق الأفق والنظرة السطحية ومن الحنق والاندفاع والثورة العمياء ما لم يكن في الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، بل هي بعيدة عنهم وعن منهج النبي صلى الله عليه وسلم، وعن منهج السنة وأهلها، ذلك المنهج الرحب الواسع الذي يقبل تعدد الرأي ووجهات النظر والشورى ولكن في حدود ما قرره الشرع، أما هؤلاء فلا يعرفون إلاَّ أمراً واحداً ورأياً واحداً، كما سنعرف ذلك من خلال أخبارهم وأحوالهم.
      كانوا في أول الأمر من أشد الناس وقوفاً مع علي رضي الله تعالى عنه، ويرون أنه على الحق مطلقاً، فلما قبل التحكيم قالوا: حكّم الرجال في دين الله، إذاً كفر؛ فكفروا علياً رضي الله تعالى عنه، وخرجوا عليه وفارقوا الجماعة، والنبي صلى الله عليه وسلم وصف هذه الفرقة ودل عليها وذكر صفاتها، حتى كأن الإنسان يراها، ولهذا بعد معركة النهروان وبعد أن ناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، ورجع منهم من رجع وبقي منهم من بقي، وقاتلهم علي رضي الله تعالى عنه، وقال: [[ابحثوا عن صاحب الثدية -تصغير ثدي- فبحثوا عنه فلم يجدوه، فقالوا: ما وجدناه، فقال لهم: والله ما كَذبت ولا كُذبت -يعني: والله! ما كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كُذبت أي لا يمكن أن يكذب عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- فابحثوا عنه -وقيل: إن اسمه حرقوص بن زهير، فبحثوا عنه فوجدوه في ساقية تحت القتلى، فاستخرجوه وفي عضده مثل الثدي، فقالوا: هذا صاحب الثدية]] يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر علياً بأنه سيقاتلهم وأن هذا هو حالهم وشأنهم وأن منهم أو من قادتهم رجلٌ يسمى ذا الثدية
  2. الفرق بين الخوارج والبغاة

    الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم وصفهم بأوصافهم، ومن جملة ما وصفهم به النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث: {يخرجون} وفي رواية: {يمرقون}، ولهذا سُمُّوا خوارج وهو اسم مشتق من لفظ الحديث، ويُسمون أيضاً المارقة اشتقاقاً من قوله صلى الله عليه وسلم: {يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية}، وكانوا يُسمون القُراء لكثرة اجتهادهم في القراءة، وهم سموا أنفسهم الشراة ولا يرضون أن يسموا خوارج ولا مارقة وإنما يسمون أنفسهم الشراة، وهو جمع شارٍ والشاري هو المبتاع، قالوا: نحن الشراة الذين شروا أنفسهم لله؛ يعني باعوا أنفسهم في سبيل الله عز وجل، ففي الخوارج الأولين اجتمع الوصفان أنهم خرجوا على السنة؛ المنهج القويم والصراط المستقيم، وفي الوقت نفسه خرجوا عن الإمام الحق والولي العدل، ولما طال بهم الزمن أصبحوا فرقة من الفرق المشهورة التي لها منهج، وتطور هذا المنهج على امتداد تاريخ المسلمين، فأصبح يطلق اسم الخوارج على من يخرجون عن السنة وعن الدين، ويكفرون المسلمين بالذنب.
    وعليه فلم يعد الخروج عن الإمام السمة البارزة لهم فقط إذ ليس كل من خرج على الإمام العدل يسمى خارجياً، وبعض الناس يقع في خطأ فيظن أنهم خوارج ؛ لأنهم خرجوا على الإمام الحق، وفي حالة علي رضي الله تعالى عنه اجتمع فيهم الوصفان، لكن بعد أن تحدد الاصطلاح وأصبح علماً على فرقة ذات أصول بدعية فلا يجوز أن يسمى خارجياً إلا من كان على هذا الوصف، وأما من خرج على الإمام العادل فقد اصطلح على تسميته بالباغي وجمعه: البغاة، والباغي قد يكون من أهل السنة. والإمام علي رضي الله تعالى عنه، كان أهل الشام خارجين عن طاعته، ومع ذلك لم يُسمِّهم خوارج، وإنما كان يعتبرهم ويعدهم بغاة.
    إذاً: لو كان الخارجون هم كل من خرج على الإمام العدل، لكان كل من خرج على علي رضي الله تعالى عنه من أهل الجمل، وأهل الشام خوارج، لكن الحقيقة أن أصل كلمة (الخوارج) إذا أطلقت فالمراد من يعتقد هذه البدعة أو هذه العقيدة، ولا يجوز أن تطلق على مجرد الخروج على الإمام، فالخارج على الإمام إن كان خرج عليه معتقداً اعتقاد الخوارج فهو خارجي؛ لأنه على عقيدة الخوارج ؛ أما إن خرج عن طاعة الإمام الحق على تأويل آخر أو طمعاً في الدنيا أو ما أشبه ذلك فيسمى باغياً.
    فأوضح وصف لهؤلاء أنهم:
    الذين يكفرون المسلمين بمجرد المعاصي والذنوب التي هي دون الكفر أو الشرك، ولم يكفر الله ورسوله من اقترفها، وإن كانوا قد تأولوا بعض النصوص.
  3. فرق الخوارج

    وهؤلاء الخوارج طبقات ودرجات وفرق -وإن كان أصلها واحداً- ويجب أن ننبه دائماً على أن البدعة مدعاة للفرقة فما ابتدع قوم بدعة قط إلا وتفرقوا فيها، فأول ما بدأ الرفض والتشيع في رجل واحد اسمه عبد الله بن سبأ اليهودي، ثم أصبحوا -كما في كتبهم- أكثر من سبعين فرقة، وكذلك الخوارج، ومثل ذلكالصوفية إذ أنها بدأت بأشخاص زهَّاد يتعبدون و... إلخ، والآن طرق الصوفية لا تحصى كثرةً، بل الطريقة الواحدة تنشق إلى طريقتين والطريقة التي انشقت تنشق إلى طريقتين أو ثلاث أو أربع أو عشر... إلخ.
    وبما أن البدعة دائماً مدعاة للفرقة فلا يوحد الناس ولا يجمعهم إلاَّ منهج أهل السنة والجماعة الذي هو المنهج الحق، فـالخوارج أول ما خرجوا كانوا فرقة واحدة، وكانوا رأياً واحداً كل همهم وكل جهدهم هو تكفير علي رضي الله تعالى عنه، ثم كفروا أيضاً عثمان رضي الله تعالى عنه، وكفروا بطبيعة الحال معاوية وعمرو بن العاص، بل لما كانت معركة الجمل -وكانوا مع علي رضي الله تعالى عنه- كفروا أصحاب الجمل، وهكذا أخذوا يكفرون حتى إنه لم يسلم من تكفيرهم من الأمراء المؤمنين أو الخلفاء إلا الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولهذا لما أرسل إليهم علي رضي الله عنه من يناظرهم قالوا: لا نبايعه ولا نرجع في طاعته، وقالوا: إن جئتمونا بمثل عمر دخلنا في طاعته، وعلي ليس كمثل عمر، فمن أين نأتي بمثل عمر؟! وليت الخوارج رضوا بعد الجهد أن يبايعوا علياً رضي الله تعالى عنه، لكنهم أبوا واستمروا بلا راية، حتى اجتمعوا في مكان يقال له حروراء، ولهذا يقال لهم: حرورية -كما قالت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: [أحرورية أنتِ؟] عند أن سألتها امرأة: لماذا تقضي الحائض الصيام ولا تقضي الصلاة؟ تريد أن تكشف لنا منهج الخوارج، وهكذا سؤال الخوارج دائماً: لماذا كذا؟ أما المؤمنون فهم يسلّمون ولا ينازعون ولا يجادلون، هذا هو الدين وهذا هو الشرع-.
    بعد أن تجمع الخوارج في حروراء أمَّروا عليهم رجلاً من بني تميم يقال له عبد الله بن وهب الراسبي، هذا في زمن علي رضي الله تعالى عنه حتى إن ابن حزم رحمه الله نقدهم في ذلك قال: "طالبوا بـعمر أو بمثل عمر، فلما لم يجدوا أمَّروا عليهم عبد الله بن وهب وهو أعرابي بوال على عقبيه ليس له سابقة ولا فضل ولا شهد الله له بخير" وليتهم أمروا أحد الصحابة.
    فالمقصود أنهم خرجوا وكانت المعركة التي أشرنا إليها ثم تطور حالهم فيما بعد، وبعد عام الجماعة بقي الأمر في مدة خلافة معاوية رضي الله تعالى عنه هادئاً، وكانت تلك العشرون سنة التي تولى فيها معاوية رضي الله تعالى عنه من أفضل وأصلح العصور، هدأت فيها الأحوال وسكنت فيها الفتن وانصرف الناس إلى العلم، وكثير من الأحاديث والآثار إنما رويت في هذه الفترة، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يأتي بعده يزيد ومع يزيد ظهرت الفتن واستشرت، ومنها انتشار الخوارج، ثم بعد ذلك في أيام عبد الملك بن مروان والحجاج كان ظهورهم أشد، فـالخوارج أشد ما ظهروا وقويت شوكتهم في زمن بني أمية، مع أنهم خرجوا في أيام علي رضي الله تعالى عنه، واستمرت فتنتهم حتى قتلوه رضي الله تعالى عنه، لكن ما تطوروا وتفرقوا وحكموا بعض الأقطار إلا في آخر زمن صغار الصحابة، كـعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري وأمثالهم.
    ونستطيع على سبيل الإجمال أن نصنف الخوارج بحسب غلوهم إلى ثلاثة أصناف رئيسية، وإلا فهم فرق كثيرة:
    1. الأزارقة

      الأزارقة هم أعظم الخوارج غلواً وأبعدهم عن السنة -وقد ظهر الأزارقة بعد المحكمة الأولى وهم أصحاب النهروان - وترأسهم نافع بن الأزرق الذي هو شيخهم وإمامهم وهو مشهور في كتب التفسير كما تجدون في الدر المنثور مثلاً أو في الطبري وحتى في البخاري لكن لم يسمه، وهو الذي عرف بسؤالاته لـابن عباس عندما كان يسأل ابن عباس ويجيبه، ولا يقبل، ويجادل، وهذا شأن الخوارج وأساس ضلالهم أنهم يعتقدون أن العبد متعبد بعين الحق في كل مسألة، وهذا مخالف لما نحن مأمورون به من الاجتهاد لبلوغ الحق والتسديد والمقاربة في حدود الاستطاعة.
      فـنافع بن الأزرق كان يعتقد هو ومن معه أن المسلمين جميعاً كفار، وأن الأمة بأجمعها كافرة إلا نافعاً ومن كان معه، حتى من كان على مذهب نافع ولكنه لم يهاجر إليه فهو عندهم كافر، فلو أن إنساناً محبوس، ولا يستطيع أن يتخلص من ظلم الحجاج أو من سيطرته -مثلاً- فلم يخرج ولم يهاجر إلى نافع ويلتحق بجيشه، فهذا عندهم كافر وإن كان على مذهبهم، وهؤلاء يسمونهم القعدة، فكان نافع يكفر القعدة، ويرى أن دارهم كلها دار كفر، فكل الأمة الإسلامية دار كفر إلا معسكره فقط.
    2. النجدات

      لما جاء نافع بهذا التشدد وهذا الغلو وهذا التكفير العام للأمة خالفه رجل من أتباعه يدعى نجدة بن عامر الحنفي، فقال: نجدة هذا غلو، فخفف الغلو فقط وقال: من كان على مذهبنا ولم يستطع أن يهاجر إلينا لا يكفر، ومن أقمنا عليه الحد لا يكفر، وكلاهما متفقان على أن علياً رضي الله تعالى عنه وعثمان ومعاوية وطلحة والزبير وعائشة ... إلخ كفار، لكن اختلفوا في مسائل تتعلق بالتكفير، فالطائفة الأشد غلواً في الخوارج الذين هم الأزارقة يرون التكفير العام المطلق، وأقل منهم غلواً أو الوسط في مذهب الخوارج الذين هم النجدات -أتباع نجدة بن عامر الحنفي، الذي خفف قليلاً أو شيئاً من غلو الأزارقة وبقيت مصائب أخرى لم يخففها، وخرج من الأزارقة ومن النجدات أيضاً فرق وطوائف ومقالات، وقد اجتمعوا على تكفير عثمان رضي الله تعالى عنه؛ لأنه تأصل لديهم أن كل من ارتكب معصية فهو كافر، ولو كان مؤمناً لم يعصِ، فعندهم أن عثمان رضي الله تعالى عنه قد فعل أموراً خالف فيها سيرة الشيخين.
      وقد قلنا: إن أصل الضلال في مسألة الإيمان هو اعتقاد الفرق المخالفة من المرجئة أو الخوارج في القديم أو الحديث: أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتركب، ولو كانوا كـأهل السنة والجماعة -استنباطاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- يؤمنون بأن الإيمان يزيد وينقص لقالوا: إن عثمان رضي الله تعالى عنه أقل من الشيخين، فليس هنالك مشكلة، ولن نعترض عليهم.
      وفي مثل هذا الباب من يسرق أو يزني أو يشرب الخمر ضعيف الإيمان، ويبقى على إسلامه ولكنه ناقص الإيمان، وهذا وأشباهه قول يقبل ولا بأس به، لكنهم يرون أنه شيء واحد فقط، وليس عندهم تدرج بل نفي للإيمان بالكلية، بخلاف الإيمان عند أهل السنة والجماعة فإنه بضع وسبعون شعبة، أعلاها كذا وأدناها كذا، فقد يكون عند الإنسان ثلاثون شعبة، أو أربعون، أو خمسة وأربعون أو خمسون يتعبد بها وهكذا، ومن ذلك الناس يتفاوتون في إيمانهم وفي صلاتهم وفي صيامهم وفي زكاتهم وفي حجهم تفاوتاً واختلافاً كبيراً، فقد يصلي الرجلان في الصف الواحد وبين صلاتهما بون عظيم، وهذا شيء واضح ومعلوم، لكن هؤلاء قالوا: لا. إما يكون مؤمناً إذا كان موافقاً للحد الذي وضعناه، وإما أنه ليس بمؤمن إذا خالف ولو في شيء يسير، وعليه فـعثمان رضي الله تعالى عنه عندهم كافر غير مؤمن لأنه ارتكب كبيرة -في نظرهم- إذ أنه نقص عما كان عليه الشيخان، فمثلاً حمى الحمى، واستأثر بشيء من بيت المال -بزعمهم- وولى أقرباءه، وأتم الصلاة في مكة.. إلى غير ذلك من أمور اجتهادية وهو رضي الله تعالى عنه له فيها رأي وله اجتهاد، وغاية ما في الأمر أنه أخطأ، لكنهم ليس عندهم شيء اسمه خطأ أو صواب، إما كافر أو مؤمن فقط، وليس هناك ناقص إيمان وضعيف إيمان، كذلك من جاء بعده كـعلي رضي الله تعالى عنه قالوا: حكَّم الرجال، والله يقول: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ))[الأنعام:57]، فهذا كلام الله، وهو يقول بحكم فلان وفلان فقد كفر، سبحان الله! أهكذا يكون الاحتجاج؟!! أهكذا يكون الاستدلال؟!!
      ولهذا حاجهم وألزمهم حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه من كتاب الله تعالى كما تقدم.
      إذاً: ليس عندهم حجج ولا براهين، وليس عندهم إلا شبهات وآراء يجمعونها ويتصلبون عليها ولا يقبلون فيها نقاشاً، وهم بذلك يكفرون الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
    3. فرقة الإباضية

      ثم ظهر بعد ذلك عبد الله بن إباض زعيم الإباضية، فخفف من غلو الطائفتين، فخالف نافعاً ونجدة وقال: إنما هو كفر دون كفر، أو كفر النعمة -كما يسميه البعض- وهم المؤمنون قطعاً وغيرهم مؤمنون لكنهم كفار كفر نعمة، إلا السلطان وعسكره فقط، أي: الذين يخرجون من الملة، فالقضية المهمة عند الخوارج في جميع فرقهم ومقالاتهم هي السلطة أو الحاكم أو الخليفة، وكأنه إذا صلح صلح كل شيء وإذا فسد فسد كل شيء، وليس عندهم إيمان يزيد وينقص، فإذاً ليس عندهم في الحاكم إلا أن يكون مثل أبي بكر وعمر أو يكون كافراً، ولهذا استحل الخوارج دماء المسلمين المخالفين لهم وقالوا: دارهم دار كفر، إما كفر مخرج من الملة، كما هو رأي الأزارقة والنجدات، أو كفر دون كفر كما هو رأي الإباضية، لكن في الآخرة كلهم مجمعون على أنه خالد مخلد في النار ... إلخ، وقضيتهم الأساسية مع الأمة هي بماذا تكفر -حتى لو كان كفراً أصغر-؟!، وبأي شيء يمتحن الناس؟! وعلى أي شيء يوالى ويعادى الناس؟! وكل ذلك مبني على موقفهم من السلطان وعسكره، فهذا هو عندهم أصل الإيمان والدين والولاء والبراء، فإن قال رجل: عبد الملك بن مروان خليفتنا وأمير المؤمنين كفروه؛ لأنه يواليه؛ وهكذا لو كان من جنده فهذا كافر، وإن تبرأ منه فهو مسلم مؤمن، هذا هو الإيمان عندهم، ولذلك استحلوا أن يغزوا وأن يهاجموا العوام من المسلمين، وانتشار هؤلاء الخوارج ملاحظ في أواسط نجد خاصة، ثم في بلاد فارس ثم في عمان ثم انتشروا في المغرب وأنشئوا دولاً في بلاد الفرس ... وكلهم يستحلون دماء المسلمين، ويقولون: هؤلاء كفار لأنهم لم يعينونا ولم يخرجوا معنا على حكام الجور وسلاطين الظلم.
  4. تطور البدع وعدم وقوفها عند حد

    الإمام الشعبي رحمه الله يقول كما روى عنه ابن سعد أنه ضرب للخوارج مثلاً فقال: شأن هؤلاء كرجل مات وترك ثلاثة أبناء: كبير وأوسط وصغير، فجاء الكبير فاستأثر بالمال كله، ولم يترك للاثنين شيئاً فجاء الأوسط للأصغر، وقال له: أعني على قتال الكبير، فقال الأصغر: لا أستطيع أن أقاتله، ولكن أصبر وأحتسب، فعدا الأوسط على الصغير وقاتله؛ لأنه لم يخرج معه ولم يقاتل معه الأكبر، فهذا المثال المبسط يدلنا على حقيقة وضع الخوارج، فـعبد الملك بن مروان -أو الحجاج - أخذ بيت المال وظلم الناس وفعل وفعل.
    فإنهم قالوا للناس: اشتركوا معنا لنقاتل هؤلاء فأبى الناس فأخذوا يستحلون أموال الناس؛ لأنهم لم يخرجوا معهم ليقاتلوا عبد الملك والحجاج ومن بعده ويأخذوا حقهم ونصيبهم من بيت المال، وأكثر ما نقموا على بني أمية -كما تعلمون، ومخالفة بني أمية لم تكن في الاعتقاد- ما كان في المال، ولا شك أن بني أمية خاصة بعد معاوية رضي الله تعالى عنه خالفوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين في بيت المال؛ فبيت المال إنما هو للمسلمين، ولذلك أبو بكر رضي الله عنه بعد أن بويع بالخلافة أراد أن يسعى في طلب الرزق وأن يعمل، فقالوا: يا خليفة رسول الله إلى أين؟ قال: عيالي؛ فرتبوا له من بيت المال ما يكفيه، وعمر رضي الله تعالى عنه معلوم عدله حتى مع أهله وأبنائه، فكان لا يسمح أن يأخذ أحد من بيت المال درهماً واحداً، بل يذكر عنه رضي الله تعالى عنه أنه ذهب مرة إلى السوق فوجد إبلاً سماناً أسمن من غيرها من الإبل فقال: لمن هذه الإبل؟ قالوا: هذه لابنك عبد الله بن عمر، فدعاه فقال: يا عبد الله! هذه الإبل لك؟ قال: نعم. قال: مالي أراها أسمن من غيرها من الإبل؟ قال: والله! يا أمير المؤمنين: لا علم لي، هذه إبلي، واستأجرت لها الرعاة يرعونها، قال: لا. هذه الإبل إذا ذهبت عند الماء قيل: إبل ابن أمير المؤمنين فتشرب قبل إبل المسلمين، وإذا ذهبت في مرعى قالوا: دعوها ترتع؛ لأنها إبل ابن أمير المؤمنين، فلذلك كانت أسمن من غيرها، بيعوها، ولك يا عبد الله رأس مالك، والباقي في بيت مال المسلمين، هكذا ضرب الأمثلة في القسطاس والعدل، فلما كانت تلك سيرتهم أحبهم الناس ولا شك أنها سيرة عالية راقية، وهذا الذي يجب أن تتطلع الأمة إلى أن تُوجد مثله، وإن وجد من يخالف؛ فقولوا لهم: كونوا مثلهم، فلو نُصح عبد الملك بن مروان مثلاً أو من بعده: كن كـعمر، كن كـأبي بكر -ويجب أن يقال له ذلك- حتى تبقى عند الأمة هذه الصورة العليا، لكن هناك تفاوت وهناك درجات، وليس الأمر كله كذلك، فكان أوضح ما يكون من انحراف في عهد بني أمية في بيت المال في عهد عبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك ثم سليمان حتى جاء عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه الذي سار بسيرة جده عمر بن الخطاب، فرد المظالم ورد الأموال حتى إن عقد زوجته فاطمة بنت عبد الملك -وهو عقد أعطاها إياه أبوها وأقرها عليه أخواها- رده إلى بيت المال.
    وهكذا أرجع إلى الناس مظالمهم حتى شكرت له الأمة ذلك، يذكر التاريخ في سيرته -كما ذكر ابن الجوزي وابن عبد الحكم - أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه في أيامه أخذ المظالم فردها، ومن جملة ما رد من المظالم ضيعة كانت لرجل، فجاء هذا الرجل بعد وفاته بزمن إلى هشام بن عبد الملك وقال: يا أمير المؤمنين! إنه كانت لي ضيعة أو بستان وهبني إياها أبوك عبد الملك وأقرني عليها أخوك الوليد وأخوك سليمان، ثم جاء عمر رحمه الله فنزعها مني وأرجو أن تعيدها لي، فقال: أعد ما تقول يا رجل! قال: إنه كانت لي ضيعة أعطاني إياها أبوك عبد الملك ثم أقرني عليها أخواك الوليد وسليمان حتى جاء عمر رحمه الله فنزعها مني، فتعجب هشام سبحان الله! يترحم على من أخذها ولا يترحم على من أعطاه.
    فالأمة بفطرتها تشهد له أنه على الحق وإن كان حَرَمَها، لكنه لم يظلمها، وإنما أخذ منها الظلم ورد الحق لأهله، والذين أعطوا بغير حق لا يشكرون ولا يذكرون، ولا يقال لأحدهم رحمه الله، هذا الجزاء في الدنيا وما عند الله أشد -ونعوذ بالله- المهم في الأمر أن بيت المال أمره عظيم، فكان الخلاف في مسألة بيت المال أوضح ما كان عند الخوارج، فـالخوارج كانوا يجادلون من يجادلون في هذا، ولهذا ضرب الشعبي رحمه الله هذا المثل للخوارج بما قاله الأخ الأوسط للأصغر: تعال معي نأخذ حقنا. فقال: لا. ولكن أصبر وأحتسب، وكثير من الأمة وكثير من الناس في البوادي وفي وسط الجزيرة وغيرها، قالوا: لا نقاتل الوليد لأنه لم يعطنا حقنا من الفيء ومن بيت المال، نتركه وأمره إلى الله، فقالت: الخوارج إذا لم تقاتلوه فأنتم تقرونه، وعليه فأنتم كفار، وقاتلوهم على ذلك، فهذه مشكلة الخوارج ولهذا لما قدموا على أبي مجلز السدوسي وهو من التابعين المشهورين جاء إليه نفر منهم يناظرونه وقالوا له: فسر هذه الآية: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ))[المائدة:44] قالوا: أليس هؤلاء يحكمون بغير ما أنزل الله؟ قال: بلى، قالوا: إذاً هم كفار، ولكنك وأمثالك تداهنونهم، وهم يحكمون بغير ما أنزل الله، قال: لا. إن دينهم الذي يدينون به هو الحكم بما أنزل الله، ولكنهم يخالفون في العمل، والكفر كما سيأتينا إن شاء الله ليس هو مجرد المخالفة في العمل -لأن المخالفة في العمل تسمى معاصي وذنوباً، وهذا في الغالب- لكن منهجهم في الحكم ودينهم وشرعهم هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه القضية كانت تشغل بال الخوارج، وكانوا يُثيرون الأمة بالذنوب والمعاصي التي تقع من الحكَّام وقد كان بعضهم كذلك، فهؤلاء يريدون أن يقولوا للناس: إن من ارتكب كبيرة فهو كافر، إذاً فـالحجاج وعبد الملك والوليد كلهم كفار، وكل من أقر هؤلاء أو اعترف بأنهم ولاة أمر للمسلمين فهو كافر مثلهم.
    ولم يقف مذهب الخوارج عند هذا الحد، فالبدع دائماً تتطور وتتفاقم وهذه من العبر التي يجب علينا نحن الشباب المسلم أن نأخذها دائماً بعين الاعتبار، فـالخوارج كان أصل مذهبهم التعبد كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: {تحقرون -يعني الصحابة رضي الله عنهم- صلاتكم إلى صلاتهم}، فهؤلاء مع هذه العبادة ومع هذا الغلو والشدة في أخذ الحق وفي الوقوف عند حدود الله، لكن لأن المنهج قائم على البدعة، فالذي حصل أنه لم ينته القرن الأول أو الثاني حتى ظهر في الخوارج من ينكر بعض الحدود، وبعض القرآن والعياذ بالله، فلم ينفعهم الغلو ولا يظن أحد أن الغلو نافع لأهل البدع، فمن ابتدع بدعة وخالف بها الحق فلا يغرنك منه قيامه ولا صلاته وهو على هذه الضلالة -عياذاً بالله- حتى الصوفية أصل مقالتهم هي: السياحة في الأرض والطواف وذكر الله، وترك الدنيا وترك ملذاتها والزهد فيها، فلم ينفعهم ذلك المنهج المبتدع! بل آل بهم الأمر إلى حد استحلال الفروج، واستحلال المحرمات -والعياذ بالله- ويرون ذلك عين الحلال، فلا يمكن أن يثبت على الحق إلا أهل الحق أهل السنة والجماعة، أما أولئك فلابد أن ينحرفوا عن المنهج القويم والصراط المستقيم، وإن كان أصل مذهبهم يقوم على الطاعات، كما كان حال الخوارج والصوفية، فقد كان أصل مذهبهم هو الزهد والبعد عن المعاصي، فيتجنبونها تماماً، لكن هل يتجنبونها على منهج السلف، أم على منهج بدعي؟
  5. وقوع الخوارج فيما هو أعظم من المعاصي

    إن مخالفة الخوارج لمنهج السلف جعلهم يقعون فيما هو أكبر من المعاصي، فهذا الخارجي الذي كان يقول إذا خالف الإنسان في آية أو في حديث يكفر أصبح هو يخالف في أمور كثيرة من ذلك، فقالوا: ليس الرجم في كتاب الله إنما ذكر الله الجلد: ((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ))[النور:2] فأين الرجم، وهكذا بدءوا ينكرون السنة، فإن جئت بالحديث عن علي، عن عائشة، عن طلحة، عن الزبير، عن ابن عباس فهؤلاء من الكفار عندهم أو من جنود السلطان وأتباع السلطان إذاً ليس عندهم دليل، وإن كان أصل الخروج التشدد والتنطع في العبادة إلا أنهم خرجوا عن الدين عياذاً بالله، كما قال عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه وقد أدرك مقالتهم قال: [[من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن]]؛ لأن الله تعالى يقول: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ))[الحشر:7]. وقال: ((أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا))[النساء:15] والسبيل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الرجم، وأيضاً إن الرجم كانت له آية تقرأ: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة}، ثم نسخت تلاولها، وبقي حكمها.
    توجيه آخر لكلام ابن عباس يعني قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ))[المائدة:41] إلى أن قال: ((وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ))[المائدة:43] ثم تستمر الآيات إلى أن قال: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ))[المائدة:44] ثم: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))[المائدة:45]، ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))[المائدة:47] في أي شيء هذا؟ وما هو الحكم الذي أراد اليهود أن يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم فيه؟ الجواب: هو حد الزنا، فقالوا: نحكمه فإن حكم بغير الرجم عملنا به، وقلنا: يا رب! هذا رسول أرسلته آمنا بشرعه، يعني إذا أعجبهم الشرع أخذوه وإذا لم يعجبهم تركوه، وهذا حال كثير من الناس إذا توافقت أهواؤهم وشهواتهم مع فتاوى بعض المشايخ قالوا: نحن ما أتينا بشيء من عندنا، هذا في القرآن، وهذا كلام العلماء، والحقيقة أن هذا المنهج هو منهج اليهود وأتباع اليهود وكثير من المنافقين -نعوذ بالله- ولهذا الله تعالى قرنهما أول ما افتتح الآيات: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا))[المائدة:41] أي: المنافقون واليهود يسارعون في الكفر؛ لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله في الرجم.
    قالوا: إن لم يحكم لنا بما نريد تركناه، فهم -أصلاً- كافرون بكل ما جاء به، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقال: ((وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ))[المائدة:43] قال: ائتوا بالتوراة، فجاءوا بها وقرأ الحبر وعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه يراه ووضع يده على موضع الآية وقرأ ما قبلها وما بعدها، قال عبد الله: ارفع يدك، فرفعها فإذا آية الرجم تلوح وإذا الرجم في التوراة موجود، وأكده الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات -وهذا ما سنشرحه إن شاء الله في موضوع الحكم بغير ما أنزل الله- إذاً! من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن.
    فالمقصود أن بعض الخوارج كفر ببعض الحدود بعد أن كانوا يتشددون ويقولون: من زنى كفر، فكفروا هم بالرجم، وكفروا بالقرآن بعد أن كانوا يرون من خالف آية منه أو حرفاً منه كافراً، وظهرت من فرق الخوارج من تقول: إن سورة يوسف ليست من القرآن؛ قالوا: لأن هذه مجرد قصص وفيها ذكر العشق فليست من القرآن.
    والقرآن لا يمكن أن يكون فيه هذا الهوى والعشق، وقالوا: ليست من القرآن فكفروا، وآل بهم الحال بعد التشدد والتنطع والغلو في الدين إلى أن خرجت منهم طوائف عن دين الله.
  6. قواعد في التكفير

    قال رحمه الله: [أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين -ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين) يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب].
    [بكل ذنب] تعبير المصنف بـ(كل) أصح من قول الماتن: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب] لأن من الذنوب ما يكفر، والحق أننا لا نكفر بكل ذنب، وبين التعبيرين بون واضح.
    قال: [واعلم رحمك الله وإيانا أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الأهواء والآراء] وتجد أن الفرق جميعاً ضلت وتخبطت في موضوع التكفير، وإن شاء الله سنتعرف على نماذج من كلام الخوارج والمرجئة وغيرهم، وما فيه من غرائب وعجائب.
    قال رحمه الله: [باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه- في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم -على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية].
    والمقصود بالكبائر العملية: الكبائر الظاهرة الواضحة مثل: الزنا والسرقة وشرب الخمر والخيانة والقذف -والعياذ بالله- والخلاف فيها طويل وشديد وقائم.
    والمقالات، أي: الاعتقادات، والمسألة هي: هل من يعتقد كذا يكفر أو لا يكفر!! تماماً مثل مسألة تكفير مرتكب الكبائر العملية.
    إذاً: الخلاف في التكفير يدخل في بابين هما: باب العمليات، وباب المقالات أو الاعتقادات المخالفة لما جاء به الشرع والدين في نفس الأمر أو في اعتقاد المخالف، أي: قد تكون مخالفة حقيقةً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تكون مخالفةً فقط في اعتقاد المخالف فيكفر من خالفه فهذا التكفير في الاعتقاديات، أما في العمليات فالأمر فيه واضح وهو أن هؤلاء الضُّلال الذين ضلوا -عياذاً بالله- كـالخوارج يكفرون المسلمين بارتكاب الكبائر العملية، فمن زنى أو سرق أو شرب الخمر فهو عندهم كافر، وهذا خلاف ما نصت عليه نصوص الكتاب والسنة، وليس هناك كبيرة بعد الشرك أعظم من قتل النفس المعصومة، فالله تبارك وتعالى لم يحكم بالكفر على من قتل نفساً أو قتل مؤمناً، ولقد بين الله سبحانه وتعالى معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: {سباب المسلم فسوق وقتاله كفر} وأن ذلك ليس كفراً مخرجاً من الملة، وقد يقع من المؤمن فلا يكفر كفراً مخرجاً من الملة قال تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا))[الحجرات:9] إذاً: القتال قد يصدر من المؤمنين ويقع بينهم، وبهذا يتضح ضلال الخوارج في باب الكبائر.