الإمام
الشعبي رحمه الله يقول كما روى عنه
ابن سعد أنه ضرب
للخوارج مثلاً فقال: شأن هؤلاء كرجل مات وترك ثلاثة أبناء: كبير وأوسط وصغير، فجاء الكبير فاستأثر بالمال كله، ولم يترك للاثنين شيئاً فجاء الأوسط للأصغر، وقال له: أعني على قتال الكبير، فقال الأصغر: لا أستطيع أن أقاتله، ولكن أصبر وأحتسب، فعدا الأوسط على الصغير وقاتله؛ لأنه لم يخرج معه ولم يقاتل معه الأكبر، فهذا المثال المبسط يدلنا على حقيقة وضع
الخوارج، فـ
عبد الملك بن مروان -أو
الحجاج - أخذ بيت المال وظلم الناس وفعل وفعل.
فإنهم قالوا للناس: اشتركوا معنا لنقاتل هؤلاء فأبى الناس فأخذوا يستحلون أموال الناس؛ لأنهم لم يخرجوا معهم ليقاتلوا
عبد الملك و
الحجاج ومن بعده ويأخذوا حقهم ونصيبهم من بيت المال، وأكثر ما نقموا على بني أمية -كما تعلمون، ومخالفة بني أمية لم تكن في الاعتقاد- ما كان في المال، ولا شك أن بني أمية خاصة بعد
معاوية رضي الله تعالى عنه خالفوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين في بيت المال؛ فبيت المال إنما هو للمسلمين، ولذلك
أبو بكر رضي الله عنه بعد أن بويع بالخلافة أراد أن يسعى في طلب الرزق وأن يعمل، فقالوا: يا خليفة رسول الله إلى أين؟ قال: عيالي؛ فرتبوا له من بيت المال ما يكفيه، و
عمر رضي الله تعالى عنه معلوم عدله حتى مع أهله وأبنائه، فكان لا يسمح أن يأخذ أحد من بيت المال درهماً واحداً، بل يذكر عنه رضي الله تعالى عنه أنه ذهب مرة إلى السوق فوجد إبلاً سماناً أسمن من غيرها من الإبل فقال: لمن هذه الإبل؟ قالوا: هذه لابنك
عبد الله بن عمر، فدعاه فقال: يا
عبد الله! هذه الإبل لك؟ قال: نعم. قال: مالي أراها أسمن من غيرها من الإبل؟ قال: والله! يا أمير المؤمنين: لا علم لي، هذه إبلي، واستأجرت لها الرعاة يرعونها، قال: لا. هذه الإبل إذا ذهبت عند الماء قيل: إبل ابن أمير المؤمنين فتشرب قبل إبل المسلمين، وإذا ذهبت في مرعى قالوا: دعوها ترتع؛ لأنها إبل ابن أمير المؤمنين، فلذلك كانت أسمن من غيرها، بيعوها، ولك يا
عبد الله رأس مالك، والباقي في بيت مال المسلمين، هكذا ضرب الأمثلة في القسطاس والعدل، فلما كانت تلك سيرتهم أحبهم الناس ولا شك أنها سيرة عالية راقية، وهذا الذي يجب أن تتطلع الأمة إلى أن تُوجد مثله، وإن وجد من يخالف؛ فقولوا لهم: كونوا مثلهم، فلو نُصح
عبد الملك بن مروان مثلاً أو من بعده: كن كـ
عمر، كن كـ
أبي بكر -ويجب أن يقال له ذلك- حتى تبقى عند الأمة هذه الصورة العليا، لكن هناك تفاوت وهناك درجات، وليس الأمر كله كذلك، فكان أوضح ما يكون من انحراف في عهد بني أمية في بيت المال في عهد
عبد الملك بن مروان و
الوليد بن عبد الملك ثم
سليمان حتى جاء
عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه الذي سار بسيرة جده
عمر بن الخطاب، فرد المظالم ورد الأموال حتى إن عقد زوجته
فاطمة بنت عبد الملك -وهو عقد أعطاها إياه أبوها وأقرها عليه أخواها- رده إلى بيت المال.
وهكذا أرجع إلى الناس مظالمهم حتى شكرت له الأمة ذلك، يذكر التاريخ في سيرته -كما ذكر
ابن الجوزي و
ابن عبد الحكم - أن
عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه في أيامه أخذ المظالم فردها، ومن جملة ما رد من المظالم ضيعة كانت لرجل، فجاء هذا الرجل بعد وفاته بزمن إلى
هشام بن عبد الملك وقال: يا أمير المؤمنين! إنه كانت لي ضيعة أو بستان وهبني إياها أبوك
عبد الملك وأقرني عليها أخوك
الوليد وأخوك
سليمان، ثم جاء
عمر رحمه الله فنزعها مني وأرجو أن تعيدها لي، فقال: أعد ما تقول يا رجل! قال: إنه كانت لي ضيعة أعطاني إياها أبوك
عبد الملك ثم أقرني عليها أخواك
الوليد و
سليمان حتى جاء
عمر رحمه الله فنزعها مني، فتعجب
هشام سبحان الله! يترحم على من أخذها ولا يترحم على من أعطاه.
فالأمة بفطرتها تشهد له أنه على الحق وإن كان حَرَمَها، لكنه لم يظلمها، وإنما أخذ منها الظلم ورد الحق لأهله، والذين أعطوا بغير حق لا يشكرون ولا يذكرون، ولا يقال لأحدهم رحمه الله، هذا الجزاء في الدنيا وما عند الله أشد -ونعوذ بالله- المهم في الأمر أن بيت المال أمره عظيم، فكان الخلاف في مسألة بيت المال أوضح ما كان عند
الخوارج، فـ
الخوارج كانوا يجادلون من يجادلون في هذا، ولهذا ضرب
الشعبي رحمه الله هذا المثل
للخوارج بما قاله الأخ الأوسط للأصغر: تعال معي نأخذ حقنا. فقال: لا. ولكن أصبر وأحتسب، وكثير من الأمة وكثير من الناس في البوادي وفي وسط
الجزيرة وغيرها، قالوا: لا نقاتل
الوليد لأنه لم يعطنا حقنا من الفيء ومن بيت المال، نتركه وأمره إلى الله، فقالت:
الخوارج إذا لم تقاتلوه فأنتم تقرونه، وعليه فأنتم كفار، وقاتلوهم على ذلك، فهذه مشكلة
الخوارج ولهذا لما قدموا على
أبي مجلز السدوسي وهو من التابعين المشهورين جاء إليه نفر منهم يناظرونه وقالوا له:
فسر هذه الآية: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ))[المائدة:44] قالوا: أليس هؤلاء يحكمون بغير ما أنزل الله؟ قال: بلى، قالوا: إذاً هم كفار، ولكنك وأمثالك تداهنونهم، وهم يحكمون بغير ما أنزل الله، قال: لا. إن دينهم الذي يدينون به هو الحكم بما أنزل الله، ولكنهم يخالفون في العمل، والكفر كما سيأتينا إن شاء الله ليس هو مجرد المخالفة في العمل -لأن المخالفة في العمل تسمى معاصي وذنوباً، وهذا في الغالب- لكن منهجهم في الحكم ودينهم وشرعهم هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه القضية كانت تشغل بال
الخوارج، وكانوا يُثيرون الأمة بالذنوب والمعاصي التي تقع من الحكَّام وقد كان بعضهم كذلك، فهؤلاء يريدون أن يقولوا للناس: إن من ارتكب كبيرة فهو كافر، إذاً فـ
الحجاج و
عبد الملك و
الوليد كلهم كفار، وكل من أقر هؤلاء أو اعترف بأنهم ولاة أمر للمسلمين فهو كافر مثلهم.
ولم يقف مذهب الخوارج عند هذا الحد، فالبدع دائماً تتطور وتتفاقم وهذه من العبر التي يجب علينا نحن الشباب المسلم أن نأخذها دائماً بعين الاعتبار، فـالخوارج كان أصل مذهبهم التعبد كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: {تحقرون -يعني الصحابة رضي الله عنهم- صلاتكم إلى صلاتهم}، فهؤلاء مع هذه العبادة ومع هذا الغلو والشدة في أخذ الحق وفي الوقوف عند حدود الله، لكن لأن المنهج قائم على البدعة، فالذي حصل أنه لم ينته القرن الأول أو الثاني حتى ظهر في الخوارج من ينكر بعض الحدود، وبعض القرآن والعياذ بالله، فلم ينفعهم الغلو ولا يظن أحد أن الغلو نافع لأهل البدع، فمن ابتدع بدعة وخالف بها الحق فلا يغرنك منه قيامه ولا صلاته وهو على هذه الضلالة -عياذاً بالله- حتى الصوفية أصل مقالتهم هي: السياحة في الأرض والطواف وذكر الله، وترك الدنيا وترك ملذاتها والزهد فيها، فلم ينفعهم ذلك المنهج المبتدع! بل آل بهم الأمر إلى حد استحلال الفروج، واستحلال المحرمات -والعياذ بالله- ويرون ذلك عين الحلال، فلا يمكن أن يثبت على الحق إلا أهل الحق أهل السنة والجماعة، أما أولئك فلابد أن ينحرفوا عن المنهج القويم والصراط المستقيم، وإن كان أصل مذهبهم يقوم على الطاعات، كما كان حال الخوارج والصوفية، فقد كان أصل مذهبهم هو الزهد والبعد عن المعاصي، فيتجنبونها تماماً، لكن هل يتجنبونها على منهج السلف، أم على منهج بدعي؟