ثم قال رحمه الله: "والحس مع العقل يدل على ذلك؛ فإنه من تأمل دوران الكواكب القريبة من القطب في مدار ضيق حول القطب الشمالي، ثم دوران الكواكب المتوسطة في السماء في مدار واسع، وكيف يكون في أول الليل وفي آخره، يعلم ذلك" ومعنى هذا أن القطب الشمالي يختلف عن خط الاستواء، ففي القطب الشمالي يسود الليل ستة أشهر، ويسود النهار ستة أشهر بحسب ظهور الشمس، لكن في خط الاستواء وما حوله نجد أن الليل يقصر أو يطول ساعات معينة، فالتفاوت هو نتيجة لذلك، فالكواكب القريبة من القطب يكون مدارها ضيقاً، بينما عند خط الاستواء يكون المدار أكبر وأوسع.
يقول: "وكذلك من رأى حال الشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها في الأوقات الثلاثة على بعد واحد وشكل واحد ممن يكون على ظهر الأرض؛ علم أنها تجري في فلك مستدير، وأنه لو كان مربعاً لكانت وقت الاستواء أقرب إلى من تحاذيه منها وقت الطلوع أو الغروب، ودلائل هذا متعددة".
يقول: "وأما من ادعى ما يخالف الكتاب والسنة فهو مبطل في ذلك"، يقول
شيخ الإسلام : يخالف الكتاب والسنة، ولم يقل: يخالف العقل أو الفلك أو الجغرافيا، ومعنى هذا أن هذا الأمر نجزم به يقيناً.
وهنا عبرة وفائدة ينبغي أن ننتبه لها وهي: أن الإنسان إذا تفقه في الدين، ورسخ في العلم، وتبحر في المعقول والمنقول؛ يتسع أفقه ونظره، ويستطيع بإذن الله سبحانه وتعالى أن يفقه في دين الله، وأن يرد كل شبهة، وأن يستيقن ويطمئن أن هذا الدين من عند الله سبحانه وتعالى: ((
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا))[النساء:82]. ولا يمكن أن يصل البشر إلى حقيقة تخالف ما جاء في الكتاب والسنة.
ثم إذا كان هذا التفكير هو فيما نراه في المحسوسات والمشاهدات والكونيات، وهي التي تقبل النظر، فقد أمرنا الله تعالى أن ننظر ونتدبر فيها في آيات كثيرة، فمهما نظرنا وتدبرنا فلن يصل فكرنا إلى ما يخالف الكتاب والسنة، فكيف بالذي لا نستطيع أن نفكر فيه ولا نستطيع أن نأتي بشيء منه؟! وذلك مثل ما يتعلق بتشريعات الحياة الاجتماعية المتعلقة بأحوال الناس، فهذه أعظم وأعقد من الأفلاك، فالعالم الطبيعي له نواميس وسنن متناسقة، إذا عرفتها فقد عرفت منه أحوالاً كثيرة، لكن العالم البشري الإنساني عالم عجيب جداً.
يجب على البشر أن يعرفوا قدرهم ولا يجاوزوه، ويجب عليهم أن يكلوا أمر التشريع وتنظيم شئون حياتهم في كل شيء إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى ما شرع عز وجل، ويكلوا ما هو أعظم من ذلك، مثل الحياة البرزخية والبعث والحشر والنشور والصراط والميزان إليه سبحانه تعالى؛ لأن هذه أخفى وأخفى، وهي أوجب أن يرجع الأمر فيها كله إلى الله سبحانه وتعالى.
فلا نتحاكم إلى عقول وأهواء، ولا إلى نظريات وآراء، ولا إلى استبيان واستفتاء واستطلاع، فكل ما يخالف شيئاً من دين الله فهو باطل وافتراء، لا يجوز أن نرجع إليه بأي حال من الأحوال؛ فهذه عبرة عظمى نأخذها ونحن نتأمل ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذا المقام.