المادة كاملة    
جاءت الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والآثار عن السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، بالنهي عن مجالسة أهل البدع وجدالهم، والاستماع إلى أقوالهم المحدثة وآرائهم الخبيثة؛ لما لذلك من أثر في زرع الشبهات والشكوك في النفوس، ومحق الدين، وإنبات النفاق في القلب، وسوء العاقبة والخاتمة.
  1. ذم الجدل في الدين والتحذير منه

     المرفق    
    حتى نتوسع في الكلام عن موضوع الجدل فسنذكر التحذير منه من كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للإمام اللالكائي رحمه الله، فإنه ذكر الآثار في ذلك، وكذلك ذكرها ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وذكرها غيرهما ممن ألف في العقيدة من علماء السلف متعرضاً لهذه المسألة، لكن منهم من يسهب ويطيل، ومنهم من يوجز ويقتصر، واللالكائي رحمه الله من أكثرهم بسطاً للمسائل، وقد أتى بالأحاديث، ثم بالآثار عن الصحابة، وكذلك عن التابعين ومن بعدهم.
    1. الأحاديث النبوية الواردة في ذم الجدل

      عنون رحمة الله عليه فيما يتعلق بذم الجدل بقوله: "سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن مناظرة أهل البدع وجدالهم، والمكالمة معهم، والاستماع إلى أقوالهم المحدثة وآرائهم الخبيثة".
      وذكر عدة أحاديث منها:
      الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم} رواه الإمام البخاري .
      ثم ذكر الحديث الآخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: {أن نفراً كانوا جلوساً بباب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا، قال: فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج فكأنما فقئ في وجهه حَبُّ الرمان} وذلك لما سمع من الاختلاف والجدال في كتاب الله، {فقال: بهذا أمرتم؟ أو: بهذا بعثتم أن تضربوا القرآن بعضه ببعض؟ إنما هلكت الأمم قبلكم في مثل هذا، فانظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، وانظروا الذي نهيتم عنه فانتهوا عنه} أي: وما كان خلاف ذلك وكان غيباً ولا عمل تحته؛ فلا تجادلوا فيه.
      ومما ذكر أيضاً حديث عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ))[آل عمران:7] حتى بلغ: (( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ ))[آل عمران:7]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه؛ أولئك الذين سماهم الله فاحذروهم} أخرجه البخاري ومسلم .
      ثم ذكر حديث علي رضي الله عنه وهو في الصحيحين وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{المدينة حرام ما بين عَيْر إلى ثور -بين الجبلين المعروفين- فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى فيها محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً} فهذا حال من أحدث أو من آوى المحدث، وأكثر الروايات فيها: (من آوى أهل البدع) فكيف بالمبتدع؟! فكيف بمن هو رأس في البدعة والضلالة؟
      فعقوبته أن عليه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين، وهذه هي اللعنة التي لعن الله سبحانه وتعالى بها الكافرين كفراً مطلقاً جلياً.
      ثم قال: {لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً} أي: لا يقبل الله منه أي عمل عمله، أي: وإن اجتهد في العبادة، وبذل وسعه وجهده في الطاعة، والصلاة، والحج، والجهاد، وهو على هذه البدعة والضلالة، وقد قامت عليه الحجة ولكنه رفضها ورفض السنة؛ فإن الله تعالى لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً، ومما قيل في معناه: إنه لا يقبل منه فريضة ولا نافلة، والمقصود في النفي هنا هو النفي المطلق، أي أن الله تعالى لا يقبل منه أي عمل؛ لأن هذا حاله وهذا شأنه من الابتداع.
      ثم ذكر أيضاً حديث عائشة رضي الله عنها: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: {ليسألنكم الناس عن كل شيء، حتى يقولوا: خلق الله كل شيء، فمن خلق الله؟} وهكذا كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: [[الله أكبر! ما حدثني خليلي -صلى الله عليه وسلم- بشيء إلا وقد رأيته، أو أنا أنتظره]] أي: أن كل ذلك قد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق.
    2. الآثار الواردة عن الصحابة في ذم الجدال

      أورد اللالكائي عن الصحابة الكرام كثيراً من الآثار، من ذلك ما ذكره عن مجاهد قال: [[قيل لـابن عمر : إن نجدة يقول كذا وكذا، فجعل لا يسمع منه؛ كراهية أن يقع في قلبه منه شيء]] ونجدة هذا هو نجدة بن عامر الحنفي زعيم النجدات وهم من أشد طوائف الخوارج غلواً، والذي يعرض عن سماع ما يقال عن نجدة ويخشى أن يقع في قلبه منه شيء هو عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
      فهؤلاء الصحابة الكرام أبعد الناس عن الشبهات والبدع، وأبعد الناس عن مخالفة السنة وأقوى الناس وأثبتهم إيماناً وأحرصهم على الهدى، ومع ذلك يخافون أن يقع في قلوبهم شيء مما ينقل عن نجدة بن عامر الحنفي، ومع ذلك تجد بعض الناس يحب أن يسمع كلام أهل البدع، بل ربما دافع عنهم، بل ربما نشر كتبهم وآراءهم، والعياذ بالله.
      ونقل رحمه الله أثراً روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وروي أيضاً عن علي رضي الله عنه يقول فيه: [[سيأتي أناس يجادلونكم بالقرآن -أو بمتشابه القرآن- خذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله]] .
      وبهذا الأثر نستدل على أن السلف لم ينهوا عن المجادلة مطلقاً، ولكنهم علمونا كيف نجادل ومتى نجادل، وحذرونا من الاستماع إلى أهل البدع، فهذا له مقام وذاك له مقام، فمن كان متصدياً أو متصدراً للمعركة مع أهل البدع؛ فلابد له أن يعرف أقوالهم لكي يرد عليهم، ولكن الرد يكون على منهج مرسوم وسنة متبعة في مجادلة أهل البدع والرد عليهم، وتقريرهم بالحق الذي يجادلون فيه بمتشابه القرآن، أو في القرآن عموماً كما مر.
      ثم ذكر رحمه الله تعالى أثراً عن علي رضي الله عنه قال: [[إياكم والخصومة؛ فإنها تمحق الدين]]. وذلك أن الرجل قد يتكلم بكلام ربما رجع عنه، فإذا وجد من يخاصمه فيه أصر عليه وبحث له عن علل وأدلة عناداً وانتصاراً للنفس.
      وكذلك ذكر أثراً عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [[أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم بما هلك من كان قبلهم: بالمراء والخصومات]].
    3. الآثار الواردة عن التابعين وتابعيهم في ذم الخصومة في الدين

      جاء في الأثر عن محمد بن الحنفية أنه قال: [[لا تنقضي الدنيا حتى تكون خصومات الناس في ربهم]].
      ولو أن المسلمين انصرفوا إلى العلوم الكونية، وإلى النظر في الأنفس والآفاق، وفي سنن الله، وفي قيام الأمم وسقوطها، وتأملوها وشغلوا عقولهم بها؛ لكانوا أسبق إلى الحضارة والتقدم من الغرب، لكنهم انشغلوا بالخصومات في الغيب الذي كفاهم الله أمره من القدر والصحابة وغيرها من الأمور، فجاءت أوروبا بعد أن تركت دينها فنظرت في المادة ففتح الله عليها في هذا الجانب.
      ثم ذكر أثراً آخر عن الحسن البصري رحمه الله: [[أن رجلاً أتاه فقال: يا أبا سعيد ! إني أريد أن أخاصمك! فقال الحسن : إليك عني، فإني قد عرفت ديني، وإنما يخاصمك الشاك في دينه]] وفي رواية أخرى أظنها عند الآجري قال: [[اذهب إلى شاك مثلك يناظرك، فإني قد عرفت ديني]]. وهذا ينطبق على المتكلمين.
      ثم ذكر أثراً آخر عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: [[من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر الشك -أو قال- يكثر التحول]] وفي بعض الكتب: [[من جعل دينه عرضة للخصومات؛ أكثر التنقل]] فإذا ناظره أحد المرجئة صار من المرجئة، وإذا ناظره أحد الخوارج صار من الخوارج، وإذا ناظره أحد المعتزلة صار معتزلياً وهكذا.
      ثم ذكر في الأثر الذي بعده: عن الأصمعي قال: حدثنا الخليل بن أحمد قال: [[ما كان جدل إلا أتى بعده جدل يبطله]] .
      وهذا حق، فقد تكلم أفلاطون، فنقض كلامه أرسطو، ثم جاء أفلوطين، ثم فرفريوس، وكل واحد ينقض كلام من قبله. ثم جاء ابن سينا واعتنق رأي أرسطو ونقض فيه أشياء، وكتب الشفاء الذي يقول فيه العلماء:
      برئنا إلى الله من معشر            بهم مرض من كتاب الشفاء
      فـأبو حامد الغزالي أمرضه الشفاء، ثم جاء ابن رشد ونقض كلام ابن سينا، وهكذا المعتزلة: ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء فاختلفا، ثم النظام والعلاف، وما ماتا حتى كفر كل منهما الآخر، والخوارج اختلفوا وماتوا حتى كفر بعضهم بعضاً، فـنجده يكفر نافع بن الأزرق، ونافع يكفره وهكذا، لأن أمورهم بنيت على غير سنة.
      ثم قال: عن عمرو بن قيس قال: قلت للحكم بن عتيبة : [[ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء أن يدخلوا فيها؟ قال: الخصومات" أي أنهم يتجادلون ويتخاصمون ويتناظرون ثم يذهب كل واحد منهم برأيه.
      وأنت لو جئت إلى مسجد فيه شباب، كلهم يقرءون كتاب الله، ويسبحون ويهللون ويعبدون الله على منهج سليم، وافتعلت مسألة خلافية بينهم، فستجد أن ذلك يؤدي إلى تفرقهم، وهذا هو الواقع، ولهذا فعلى شباب الإسلام أن يحذروا الخصومات ومَنْ يبثها، وليسعنا ما وسع الصحابة والتابعين والسلف في الخلاف والرأي، وهذا هو المنهج الصحيح، ولو أردنا أن نحجر الناس على منهج واحد مما وسع السلف فيه القول؛ لكنا بذلك على خطأ، ولن يجتمع الناس على منهج واحد مما وسع السلف فيه القول، وسيكون ذلك على حساب القضايا الأساسية المهمة التي ليس للسلف فيها إلا قول واحد، وهو إثباتها والدعوة إليها
      ]].
      ثم ذكر أثراً عن الأحنف بن قيس قال: [[كثرة الخصومة تنبت النفاق في القلب]] وقال معاوية بن قرة : [[إياكم وهذه الخصومات فإنها تحبط الأعمال]] فالذي يعيش كل وقته في جدل لا يشعر بلذة الإيمان وحلاوته، بل سيجد قسوة في قلبه، حتى ينبت النفاق في قلبه والعياذ بالله، حيث يحب أن يظهر أنه قد جادل خصمه حتى أفحمه، ثم يشتغل بما لا يعنيه، ثم ترى الغلظة في أقواله وأعماله، ويبتعد عن الرقة واللين، وعن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتعامله بالرحمة والشفقة، ويبتعد عما كان عليه الصحابة الكرام قليلاً قليلاً، حتى يصبح على أخلاق أهل البدع والعياذ بالله، وإن كان في ظاهره وفي أصل دعواه أنه على الحق.
      ثم قال: وعن هرم بن حيان أنه قال: [[صاحب الكلام على إحدى المنزلتين: إن قصَّر فيه خُصم، وإن أعرق فيه أثم]] أي: فإن حقق وتعمق غلب خصمه؛ لأنه لابد أن يأتي بما لا دليل عليه وأن يقول على الله بغير علم، وأن يفتري الكذب فيأثم.
      ثم ذكر أثراً عن الفضيل بن عياض أنه قال: [[لا تجادلوا أهل الخصومات؛ فإنهم يخوضون في آيات الله]] أي: والله تعالى قد نهانا عن جدالهم، وأمرنا أن نعرض عن الذين يخوضون في آيات الله.
      ثم ذكر في الأثر الذي بعده قصة: [[أن حماد بن أبي حنيفة -وقد كان من أهل الكلام- أتى إلى شريك بن عبد الله القاضي في شهادة، فقال له شريك : لا أقبل شهادتك، فقال: لم ترد شهادتي؟ فقال: أما إني لا أطعن عليك في بطن ولا فرج؛ ولكن متى تدع الخصومة في الدين أجزت شهادتك]] أي: إذا تركت علم الكلام والخصومة والجدال في الدين قبلت شهادتك.
  2. ذم الابتداع في الدين

     المرفق    
    ذكر اللالكائي آثاراً منها: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: [[ما فرحت بشيء من الإسلام، أشد فرحاً بأن قلبي لم يدخله شيء من هذه الأهواء]]، وهذا يفسره الأثر الذي بعده عن أبي العالية قال: [[ما أدري أي الغنمين عليَّ أعظم: إذ أخرجني الله من الشرك إلى الإسلام، أو عصمني في الإسلام أن يكون لي فيه هوى]] . أي: أن يكون من أصحاب البدع، وابن عمر إنما ذكر ما ذكر؛ لأنه كان قد أدرك ظهور البدع، وكان يتكلم فيها ويحذر من أهلها، وأما أبو العالية فهو من خيار التابعين، فتجده يقول: لا أدري أي الأمرين أعظم وأغنم بالنسبة لي: أن الله تعالى أنقذني من الشرك وهداني للإسلام، أو أنه عصمني من البدع وجعلني من أهل السنة .
    فانظر إلى فضل الله سبحانه وتعالى، كيف أنعم عليك وصرت من أهل السنة وتركت أهل البدعة، إنها لنعمة عظيمة، وكثير من أهل السنة لا يقدرها حق قدرها، وأهل البدعة لا يقدرونها ولو قدروها لتركوا البدعة وأقبلوا على السنة.
    1. تحذير السلف من مجالسة أهل الأهواء وسماعهم

      عن أبي الجوزاء رضي الله عنه أنه قال: [[لأن يجاورني قردة وخنازير أحب إليَّ من أن يجاورني أحد منهم؛ يعني: أصحاب الأهواء]] إن من عرف السنة وعرف الدين الحق؛ فإن أهل الأهواء والبدع يكونون عنده -كما قال رضي الله عنه- أخس من القردة والخنازير.
      ثم ذكر أثر ثابت بن عجلان حيث يقول: [[أدركت أنس بن مالك وابن المسيب والحسن البصري وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وطاوس ومجاهد وعبد الله بن أبي مليكة والزهري ومكحول والقاسم أبا عبد الرحمن وعطاء الخراساني وثابت البناني والحكم بن عتيبة وأيوب السختياني وحماد ومحمد بن سيرين وأبا عامر -وكان قد أدرك أبا بكر الصديق - ويزيد الرقاشي وسليمان بن موسى : كلهم يأمروني بالجماعة وينهوني عن أصحاب الأهواء، قال بقية -الراوي عنه-: ثم بكى -أي: ثابت بن عجلان رضي الله عنه- وقال: أي ابن أخي! ما من عمل أرجى ولا أوثق من مشيٍ إلى هذا المسجد، يوصيه بالصلاة]] . وهذا مهم، فنحن أحوج ما نذكر الناس بالتوحيد وقواطع الإسلام، ولا نغرقهم وندخلهم في متاهات، وهم مقصرون في أركان الإسلام وأسسه كما يفعل أهل الكلام.
      ثم ذكر أثراً عن الحسن أنه كان يقول: [[لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم]].
      ثم ذكر أثراً آخر: [[أنه دخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث. قال: لا، قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله. قال: لا، قال: تقومان عني وإلا قمت، فقام الرجلان فخرجا، فقال بعض القوم: ما كان عليك أن يقرءا آية؟ قال: إني كرهت أن يقرءا آية فيحرفانها، فيقر ذلك في قلبي]] فانظر إلى حال السلف كيف كانوا يحرصون على قلوبهم حتى تبقى نقية، لأن المبتدع قد يقرأ آية ثم يفسرها بما يوافق هواه ويزين ذلك، ثم يقول لك: هذه الآية تدل على ما أقول، وكما قال عمر وعلي رضي الله عنهما: إن بعض آيات القرآن قد تدل على ما يقولون بوجهٍ ما من وجوه الدلالة؛ ولكننا عندما نجمع الأدلة ونستوفي أطراف المسألة نجدها لا تدل على ذلك، ولكن ما يدريك فلعل هذا المعنى الذي يقوله المبتدع يصادف موقعاً من قلب السامع، فربما أمرضه، والكلام في هذا كثير.
      وهنا قصة: جاء رجل إلى ابن الجوزي فكلمه في رؤية الله وفي لقاء الله، ثم أخذ يبحث معه فقال له ابن الجوزي : أنت لابد أن تؤول، وإلا فماذا تقول في قول الله تعالى: ((فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ))[التوبة:77]، فهل المنافقون يرون الله أو يلقونه، فيلزمك أن تقول: لابد أن نتأولها. والشاهد أن الإنسان لا يأمن على نفسه لو جاءه مبتدع بشبهة، فإن لقاء الله حق، فيلقاه المؤمنون ويلقاه المنافقون، ولكن شتان بين الموردين والمصدرين، فهؤلاء يتلقاهم بغضبه وعقوبته، وأولئك يكون لقاؤهم بالبشرى والخير. لكن المقصود أن الشبهة قد تنغرس في العقول، وخاصة إذا كانت ممن لهم شأن ومكانة.
    2. اجتماع أهل البدع على الخروج على الأئمة بالسيف

      وعن أيوب السختياني رضي الله عنه قال: قال لي أبو قلابة : [[يا أيوب ! احفظ عني أربعاً: لا تقولن في القرآن برأيك، وإياك والقدر، وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمسك، ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك]] والشاهد في الوصية الرابعة: [[ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك]] ؛ لأنهم يؤدون إلى الفتنة كما ذكرنا سابقاً، وكما يقول ابن أبي العز رحمه الله تعالى في شرح الطحاوية : "ولهذا ذم السلف أهل الأهواء، وذكروا أن آخر أمرهم السيف" وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان، إن شاء الله تعالى.
      فأهل الأهواء أول ما يبدءون بالغلو في جانب والتفريط في جانب، ثم البدعة في جانب، حتى يصل الأمر إلى استحلال دماء المسلمين من أجل هذه البدعة، وهنا ذكر اللالكائي في كتابه أثراً ذكر فيه أنه : [[ما ابتدع قوم بدعة إلا استحلوا السيف]] وذكر أثراً قال: [[كان أيوب يسمي أهل الأهواء كلهم خوارج]] ويقول: [[إن الخوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف]].
      ومعنى كلامه: أن جميع الفرق التي فارقت أهل السنة والجماعة قد خرجت عن الصراط المستقيم، فهم بهذا الاعتبار خوارج ؛ لأنهم فارقوا أهل السنة والجماعة، وفارقوا الصراط المستقيم الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ))[الأنعام:153] وقال: ((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ))[آل عمران:105] وقال: ((إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ))[الأنعام:159].
      وقوله: (اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف) كلام سديد؛ فزعيم الجهمية الجهم بن صفوان خرج لقتال بني أمية مع الثوار حتى قتله سلم بن أحوز، وكان الجهم يعتقد الإرجاء، ويرى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب فقط، وكذلك الرافضة والصوفية يقاتلون ويخرجون بالسيف.
      فليس هناك أهل بدعة إلا ويمكن أن ينتهي أمرهم إلى أن يستحلوا دماء المسلمين، فإذاً مهما اختلفت الأسماء فإنهم يجتمعون على السيف.
      وفي الأثر التالي قال عبد الرزاق : حدثنا معمر، قال: [[كان ابن طاوس جالساً، فجاء رجل من المعتزلة، قال: فجعل يتكلم. قال: فأدخل ابن طاوس إصبعيه في أذنيه وقال لابنه: أي بني! أدخل إصبعيك في أذنيك، واشدد،لا تسمع من كلامه شيئاً قال معمر: يعني أن القلب ضعيف]] أي: وقد تدخله شبهة فلا تخرج.
      وليعلم أن اليهود والنصارى قد حذر الله منهم في القرآن؛ ولكن شبهات أهل البدع أخطر، ولو جاء من يقول: اليهود والنصارى يعلم كل مسلم أنهم على ضلال وأنهم في النار، ومع هذا لو سمع المسلم كلامهم، فإنه لا يتأثر في الغالب، أو ليس أهل البدع أخف منهم؟ فالجواب ما ذكر من وجود حاجز طبيعي بين القلب وبين كلام اليهود والنصارى، بخلاف أهل البدع.
      ثم ذكر أثراً عن عبد الرزاق الصنعاني أنه قال: قال لـ إبراهيم بن أبي يحيى : [[إني أرى المعتزلة عندكم كثير! قال: نعم. وهم يزعمون أنك منهم]].
      ومن قرأ كتاب المنية والأمل في طبقات المعتزلة فسيجد أن الطبقة الأولى من المعتزلة فيهم: أبو بكر وعمر وعلي، ومن قرأ كتاب حلية الأولياء وهو يتكلم عن الصوفية فسيجد أن أول الصوفية الذين يذكرهم أبو نعيم هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهذا الخطأ دخل عليه من ظنه أن التصوف هو الإسلام، والشاهد من هذا أنه قد يلبس على الإنسان، فيظن أن أهل البدع هم الكثرة.
      وقديماً اتهم الحسن البصري أنه من القدرية ؛ بسبب كتاب كتبه إلى عمر بن عبد العزيز بيّن فيه مذهب أهل السنة في القدر، فأخذوا يشيعون أن الحسن البصري من القدرية، وعابه بعض الناس بذلك، وقالوا عن عبد الرزاق إنه من المعتزلة، وعابه بعض الناس.. وهكذا قد يبتلى بعض أهل السنة بأن ينسبوا إلى بعض البدع.
      وقال عبد الرزاق : [[قال لي: إبراهيم بن أبي يحيى: أفلا تدخل معي هذا الحانوت حتى أكلمك؟ قلت: لا، قال: لم؟ قلت: لأن القلب ضعيف، وإن الدين ليس لمن غلب]].
    3. من علامات المبتدعين التناجي في الدين

      يعطينا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قاعدة عظيمة في معرفة المبتدعين، فقد جاء في الأثر عن عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي قال: قال عمر بن عبد العزيز : [[إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم بشيء دون العامة؛ فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة]] والمقصود بالعامة في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الذين هم على السنة مع وجود العلماء وظهور الحق.
      ومعنى أن تكون المناجاة في أمور الدين دليلاً على تأسيس بدعة وضلالة؛ أن ذلك المتناجى فيه لو كان حقاً لأعلن، فليس المقصود بالمناجاة: التشاور في أمر من أمور الدعوة أو في تبليغ الدعوة، ولكن يتناجون في أمر من أمور الاعتقاد نفسه: فـالخوارج أول ما تكلموا في العلماء وطعنوا فيهم، وقد قالوا عن أبي مجلز وابن عباس: هؤلاء العلماء في ركب السلطان، أي: مع سلاطين بني أمية، فأهل البدع يحجرون أتباعهم عن سماع كلام العلماء، ويعلمونهم ما يشاءون، فالمناجاة في الدين وفي الاعتقاد وفي أصول الإيمان بأمر دون ما عليه عامة الناس في وقت ظهور السنة وإعلانها يكون محلاً للشك.
      ثم ذكر أثراً عن حماد بن سلمة قال: قال يونس بن عبيد : [[لا تجالس سلطاناً ولا صاحب بدعة]] .
      وفي الأثر الذي بعده قال أحمد بن يونس : قال رجل لـسفيان وأنا أسمع: [[يا أبا عبد الله ! أوصني، قال: إياك والأهواء والخصومة، وإياك والسلطان]].
      وفي الأثر المشهور عن ميمون بن مهران أنه ذكر [[ثلاثة ينبغي ألا تقربهم، وإن كنت تظن أن في ذلك خيراً: المرأة، والسلطان، وصاحب البدعة]]، يقول ميمون بن مهران: [[لا تخلون بامرأة ولو أن تعلمها القرآن، ولا تجلس إلى صاحب بدعة ولو أن تناظره، ولا تجلس إلى صاحب سلطان ولو أن تعظه]] والمعنى أن الحذر من ذلك هو الأصل.
      ثم ذكر أثراً آخر عن سفيان أنه قال: [[المسلمون كلهم عندنا على حالة حسنة إلا رجلين صاحب بدعة أو صاحب سلطان]] ؛ لأن صاحب البدعة تأتيه بدعته بالشبهات، وصاحب السلطان يغره سلطانه، فيقع في الظلم والجور إلا من رحم الله.
      ثم ذكر أثراً آخر عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: [[إذا لقيت صاحب بدعة في طريق؛ فخذ في غيره]] أي: اسلك طريقاً أخرى، حتى لا تضطر أن تسلم عليه أو تكلمه وتنظر إليه.
      ثم ذكر أثراً آخر فقال: وقال الفضيل بن عياض : [[من أتاه رجل فشاوره، فدله على مبتدع، فقد غش الإسلام]]، أي: فاحذروا الدخول على أصحاب البدع، فإنهم يصدون عن الحق.
      وعن إبراهيم بن ميسرة قال: [[من وقَّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام]].
      ثم ذكر أثراً بعده فقال: حدثنا عبد الله بن عمر السرخسي عالم الخزر، قال: [[أكلت عند صاحب بدعة أكلة، فبلغ ذلك ابن المبارك رضي الله عنه، فقال: لا كلمته ثلاثين يوماً]] .
      وفي الأثر الآخر عن الأعمش عن إبراهيم قال: [[ليس لصاحب البدعة غيبة]] .
      وقال الحسن : [[ليس لصاحب بدعة ولا لفاسق يعلن بفسقه غيبة]]، وقال كثير من العلماء: (أهل الأهواء لا حرمة لهم) أي: إذا جاء بعض الناس يقول: اتقوا الله لا تغتابوا العلماء والدعاة، ولا تتكلموا في المسلمين، ونحن نقول: إذا كان هذا داعية أو عالماً من أهل السنة، فيجب عليك أن تتقي الله فيه، ولكن إذا كان من أهل البدع، فليس لأهل البدع غيبة ولا حرمة، بل يجب أن يحذر منهم، لكن ذلك بشرط أن يكون في وقته المناسب، وفي مكانه المناسب وبالأسلوب المناسب. وكذلك الفاسق المجاهر بفسقه.
      وقد بين النبي حد الغيبة أنها ذكرك أخاك بما يكره، أي: أخاك المسلم الذي على منهجك من السنة والحق، فتذكره بأمر يكرهه، أما من جاهر بمعاداة الحق وأهله، وأعلن بالذنوب والمعاصي كمن يفتح بنكاً ربوياً فيقال: لا تتكلموا فيه، نقول: كيف هذا وقد فتح بنكاً للربا معلناً؟! لأن من الناس من يأتينا بالورع الكاذب، وهذا الورع الكاذب يريدون أن يبطلوا به كلام أهل السنة، وقد وقع هذا في القرون الأولى فقالوا: كيف تتكلمون عن رجال قد حطوا رحالهم في الجنة منذ سنين؟ وهم لم يقصدوا غيبتهم ولكن ليحفظ الدين وتعرف السنة، والدين أحب إلينا من كل أحد، ومصلحة الشرع مقدمة على كل مصلحة، ومفسدة تقع في الدين أعظم من مفسدة تقع على فرد.
      ثم ذكر أثراً عن علي بن المديني رضي الله عنه قال: [[من قال: فلان مشبه؛ علمنا أنه جهمي، ومن قال: فلان مجبر، علمنا أنه قدري، ومن قال: فلان ناصبي؛ علمنا أنه رافضي]] وبهذه الآثار العظيمة نكون قد أتينا على هذا الباب الهام من كتاب اللالكائي .
  3. رد شيخ الإسلام على أهل المنطق

     المرفق    
    قد علمنا موقف السلف من الجدل ومن مجالسة أهل الأهواء، ومن مناظرتهم وخصوماتهم، فلنعلم أن أهل الأهواء وخاصة المتأخرين من المتكلمين يتهمون أهل السنة بالغباء وعدم الفقه في الدين، وأنهم لا يعرفون ما يقوله الله، يقولون: ألم يقل الله تعالى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))[النحل:125] وهذه الثلاثة هي التي تعيبون علينا في علم الكلام والجدل، وهي التي نشتغل بها لرد الباطل وإن كان أصلها مأخوذاً عن أرسطو، وهذه الثلاثة هي: البرهان والخطابة والجدل، فالبرهان هو الحكمة، والخطابة هي الموعظة، والمجادلة هي الجدل، فلابد أن ندعو الناس بها، فبعضهم يغفلها.
    وبأسلوب عجيب يقولون أيضاً: الصحابة رضي الله عنهم كانوا مشغولين بالجهاد، والتابعون ما كانوا يتعمقون في فهم الآيات ومعاني الصفات أو في القدر، بل يكتفون بظاهر النص، ولما ظهرت الأهواء وظهرت البدع احتاج الناس إلى تأصيل وتقعيد، وإلى فهم عميق، فوضعنا قواعد المجاز والحقيقة والألفاظ المشتركة، والمنطق، وبدأنا نأخذ الأقيسة البرهانية والخطابية والجدلية، فهذا الذي نفعله من حماية الدين.
    وقالوا: (مذهب السلف الصالح أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم). وهذا الكلام مضمونه أن ورثة عمرو بن عبيد والنظام والعلاف وبرغوث وأمثالهم أعلم ممن تعلموا من محمد صلى الله عليه وسلم، فهم يقولون: نحن أعلم ممن ورثوا الهدى والكتاب عن محمد صلى الله عليه وسلم؛ ويقولون: لماذا تنكرون الجدل ومناظرة أهل البدع، والله جعل طرائق الدعوة ثلاثاً، كما في آية النحل، وهي ما نسميه نحن في علم الجدل أو المنطق: (البرهان والخطابة والجدل).
    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الرد على المنطقيين (ص:467) وهو يرد عليهم ما ذكرناه عنهم: "والمقصود هنا أن ما يجعلونه من القرآن مطابقاً لأصولهم ليس كما يقولون، فإن قيل: لا ريب أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحكمة والموعظة الحسنة والجدل يخالف أقوال هؤلاء الفلاسفة أعظم من مخالفته لأقوال اليهود والنصارى؛ لكن المقصود أن الثلاثة المذكورة في القرآن هي البرهان الصحيح، والخطابة الصحيحة، والجدل الصحيح، وإن لم تكن هي عين ما ذكره اليونان ؛ إذ المنطق لا يتعرض لشيء من المواد، وإنما الغرض أن هذه الثلاثة هي من جنس هذه الثلاثة"، ومعنى هذه الشبهة أنهم يقولون: نحن نعلم أن اليونان كفار، وأن كلام الفلاسفة مخالف للقرآن؛ ولكن نحن نأخذ منهم الأساليب المنطقية الثلاثة: البرهان والخطابة والجدل، وهي نفسها في القرآن، فالأسلوب واحد، والمنطق لا يهتم بموضوع النقاش، بل يهمه صحة المقدمات والنتائج فقط، أما وجوده في أي موضوع: في الدين أو الدنيا فذلك لا يهمه.
    يقول شيخ الإسلام رداً على هذه الشبهة: "قيل: وهذا أيضاً باطل، فإن الخطابة عندهم ما كان مقدماته مشهورة، سواء كانت علماً مجرداً أو علماً يقينياً" ومثال ذلك في البرهان الخطابي أن تقول: الخلق الفاضل يجلب الخير والسعادة، فلا ترتكب غيره، فهذا برهان خطابي مقدمته ليست قطعية، لكنه مشهور عند الناس أنه حق وخير، فهذا يسمونه الطريقة الخطابية أو القياس الخطابي.
    قال شيخ الإسلام: "والوعظ في القرآن هو الأمر والنهي، والترغيب والترهيب" فمثلاً لما قال الله تبارك وتعالى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ))[النحل:125] هل الموعظة هي ما كانت مقدماته مشهورة؟ نقول: لا. هي الأمر والنهي والترغيب والترهيب، ثم ذكر قوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ ...))[النساء:66] قال: "أي: ما يؤمرون به" قال: "وقال تعالى: ((يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا))[النور:17] أي: ينهاكم عن ذلك"، فالموعظة تأتي بمعنى الأمر وبمعنى النهي، وليست مجرد مقدمات.
    قال: "وأيضاً فالقرآن ليس فيه أنه قال:(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل) بل قال: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم))[النحل:125] وذلك لأن الإنسان له ثلاثة أحوال: إما أن يعرف الحق ويعمل به، وإما أن يعرفه ولا يعمل به، وإما أن يجحده؛ فأفضلها أن يعرف الحق ويعمل به" وهذه هي الحكمة، وهي أغلب ما في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم للناس، فقد كان الصحابة إذا عرفوا الحق عملوا به، فهو يدعوهم بها ويربيهم عليها، فتصبح المعرفة موجودة، والاستعداد العملي موجوداً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ الناس بالحكمة قليلاً قليلاً، لكن قد كان مع ذلك يعظ بعض الناس.
    قال: "والثاني: أن يعرفه لكن نفسه تخالفه" أي: تجده يعرف أن الزنا حرام لكن نفسه تشتهيه؛ فإن هذا يوعظ، قال: "فصاحب الحال الأول هو الذي يدعى بالحكمة، فإن الحكمة هي العلم بالحق والعمل به، فالنوع الأكمل من الناس من يعرف الحق ويعمل به، فيدعون بالحكمة، والثاني: من يعرف الحق لكن تخالفه نفسه؛ فهذا يوعظ الموعظة الحسنة".
    قال: "فهاتان هما الطريقان للدعوة: الحكمة والموعظة الحسنة" وليست أي موعظة، قال: "وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا" يحتاجون إلى الحكمة وإلى الموعظة الحسنة "فإن النفس لها هوى يدعوها إلى خلاف الحق وإن عرفته" فالناس يحتاجون إلى الموعظة الحسنة وإلى الحكمة، فلابد من الدعوة بهذا وهذا.
    قال: "وأما الجدل فلا يدعى به، بل هو من باب دفع الصائل" أي: الصائل على دين المسلمين، قال: "فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن، ولهذا قال: (وجادلهم) فجعله فعلاً مأموراً به، مع قوله: (ادعهم)" أي فالمجادلة لا يطمع منها استجابة الخصم لكن لدفعه وإقامة الحجة عليه.
    قال: "فأمره بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وأمره أن يجادل بالتي هي أحسن، وقال في الجدال: (بالتي هي أحسن) ولم يقل: بالحسنة كما قال في الموعظة، لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة حتى يصلح ما فيه من المدافعة والممانعة، والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل، فما دام الرجل قابلاً للحكمة أو الموعظة الحسنة أو لهما جميعاً لم يحتج إلى مجادلة، فإذا دافع ومانع جودل بالتي هي أحسن".
    ثم قال: "والمجادلة بعلم كما أن الحكمة بعلم، وقد سمى الله تعالى من يجادل بغير علم..." إلى آخر كلامه الذي بين فيه رحمه الله أن المقدمات الجدلية التي ليست علماً غايتها بيان أن الخصم مخطئ لا أنها تدعوه إلى الحق.