كان من أهل الغلو في ذلك الزمان الخوارج، فقد صالوا وجالوا ودوخوا الدولة الأموية في تلك الفترة؛ في أيام الحجاج وما بعده؛ وكان لهم حروب طاحنة ضارية في تلك المنطقة بالذات، حتى إنهم دخلوا الكوفة، وكادوا أن يقتلوا الحجاج والي بني أمية على العراق .
وصولاتهم وجولاتهم مع الحجاج ومع غيره مسطرة في كتب التاريخ.
هؤلاء الخوارج كانوا يعيشون في غاية التقشف وغاية الزهد وشدة الاجتهاد في العبادة، ولكنه اجتهاد على بدعة وضلالة -نسأل الله العفو والعافية- فكانوا لا يرون أن هناك أحداً من أهل الإسلام غيرهم، وكانوا يعدون أية دار غير دارهم دار كفر؛ كـ الأزارقة مثلاً، وقريب منهم في ذلك النجدات، الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق، والنجدات أتباع نجدة بن عامر الحنفي.
وكان هؤلاء الخوارج يقاتلون قتالاً ضارياً، وقامت لهم دول في عُمان، وكذلك في بلاد فارس وفي جنوبي العراق وشرقيه؛ تتسع وتضيق بحسب قوتهم، وبحسب ضعفهم، فكان لهم نشاط عظيم.
وقد فتن هؤلاء الخوارج بأنهم هم المؤمنون وأن غيرهم كافر، وأنهم هم أهل السنة، وأنهم هم الذين على منهج الشيخين، وأن غيرهم قد ضل وانحرف ومرق وخرج من الدين.
فـالخوارج لا تقر إلا بالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بالشيخين: أبي بكر وعمر، فترى أن الإمامين اللذين على الحق هما أبو بكر وعمر فقط، فهم يأتون بالصورة المثلى ويجعلونها الصورة الوحيدة؛ ويرون إن إنسان المحسن هو الذي لا يذنب.. هذا هو المؤمن الذي ليس بكافر.
وهذه الصورة مثلى، وهي الغاية، لكن المؤمنين درجات، بينما الخوارج ليس لديهم إلا تلك المنزلة المثلى وما عداها فهو كفر، وهذا هو أساس المشكلة في فكر الخوارج وفي فقههم؛ أنهم يظنون أن السنة هي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر فقط؛ فيرون -بعد ذلك- تكفير عثمان وتكفير علي رضي الله عنهما، أما معاوية، و يزيد، فإنهم يكفرونهما رأساً، وكذلك عبد الملك بن مروان وبنوه ومن والاهم؛ فهؤلاء عندهم مرتدون كفار، ويرون أنفسهم أنهم هم الورثة للسنة التي كان عليها أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم.
كذلك يرون أنهم هم الذين على السنة؛ لأن فيهم عبادةً، وزهداً، وتقشفاً، وجهاداً.. كما قال شاعرهم:
أألفا مؤمن فيما زعمتم            ويهزمهم بآسك أربعونا
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم            ولكن الخوارج مؤمنونا
وهذا البيتان لهما قصة؛ فقد جردت عليهم الدولة الأموية كتيبة فيها ألفان من الجنود، ولم يكن عند الخوارج مما يقابلهم إلا أربعون رجلاً، فقابل الأربعون الألفين، فهزموهم، فكيف هزموهم؟!
هؤلاء الخوارج أهل غلو، وهؤلاء -جنود الدولة الأموية- أهل إتراف وإسراف، وعادةً أهل الإتراف والإسراف مهما كثر عددهم لا يواجهون من كان لديهم شكيمة وبأس وشدة كـالخوارج ؛ فهزموا؛ فاستدل الخوارج بهذا على أنهم هم المؤمنون.
فقال شاعرهم: (أألفا مؤمنٍ فيما زعمتم) هل يعقل ذلك؛ ألفا مؤمن ويهزمهم أربعون إلا لأن هؤلاء الجنود ليسوا بمؤمنين، ولأن الخوارج هم وحدهم المؤمنون.
والحقيقة أن هؤلاء الجنود ليسوا كفاراً بل هم مترفون ومسرفون.
وأولئك الخوارج أيضاً ليسوا على السنة؛ بل هم غلاة مبتدعة؛ لكن هذا الذي حصل؛ تقابل أهل الغلو مع أهل الإسراف والإتراف؛ فغلب أهل الغلو أهل الترف، وهكذا كانت الفتنة التي وقعت لهم.