المادة كاملة    
القرآن كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نجادل في ثبوته متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في قراءاته الصحيحة الثابتة، وآياته مرتبة بالنص، وأما سوره فقد رتبها الصحابة باجتهادهم، وهذا الاجتهاد منهم صار ملزماً لمن بعدهم، فإن فعلهم رضي الله عنهم حجة على من يأتي بعدهم. فمن عدل عن الرسم العثماني في كتابة المصحف فهو خارج عن الإجماع، مشاق للصحابة رضوان الله عليهم.
  1. جمع القرآن

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ويحتمل أنه أراد: أنا لا نجادل في القراءات الثابتة، بل نقرؤه بكل ما ثبت وصح، وكل من المعنيين حق، ويشهد بصحة المعنى الثاني ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: {سمعت رجلاً قرأ آية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده، فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهة، وقال: كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا} رواه مسلم .
    نهى صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع صاحبه من الحق؛ لأن كلا القارئين كان محسناً فيما قرأه، وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا، ولهذا قال حذيفة رضي الله عنه لـعثمان رضي الله عنه: [[أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم]]، فجمع الناس على حرف واحد اجتماعاً سائغاً، وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة، ولم يكن في ذلك ترك لواجب، ولا فعل لمحظور، إذ كانت قراءة القرآن على سبعة أحرف جائزة لا واجبة، رخصة من الله تعالى، وقد جعل الاختيار إليهم في أي حرف اختاروه.
    كما أن ترتيب السور لم يكن واجباً عليهم منصوصاً، ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب المصحف العثماني، وكذلك مصحف غيره.
    وأما ترتيب آيات السور فهو ترتيب منصوص عليه، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية بخلاف السور، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إن لم تجتمع على حرف واحد جمعهم الصحابة عليه.
    هذا قول جمهور السلف من العلماء والقراء. قاله ابن جرير وغيره.
    ومنهم من يقول: إن الترخص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام؛ لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولاً، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيراً عليهم وهو أوفق لهم؛ أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة].
    الشرح:
    إن جمع الناس في زمن عثمان على حرف واحد في قراءتهم للقرآن كان سببه ما قاله حذيفة رضي الله عنه لـعثمان رضي الله عنه: [[أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم]] قال المصنف: [فجمع الناس على حرف واحد اجتماعاً سائغاً، وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة].
    ومعنى قوله: (سائغاً) أي: جائزاً، ومعنى هذا أن عثمان والصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يرون وجوب أن تجتمع الأمة على حرف واحد، ولا أن ما عداه ملغي أو باطل وليس بحق، وإنما رأوا أنه يجوز لهم أن يجمعوا الأمة على حرف واحد، إذ أن الله سبحانه وتعالى رخص للأمة أن تقرأ على سبعة أحرف.
    قال: "وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة" فالحكمة التي اجتمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وأجمعوا رأيهم عليها حكمة عظيمة، وهي أن المشقة الحاصلة من جمع الناس على حرف واحد ضررها أقل من الضرر الناشئ عن اختلافهم في كتاب الله سبحانه وتعالى وتجادلهم وتخاصمهم فيه، فلا شك أن تلك أعظم وأهم، فلهذا اختاروا دفع أكبر المفسدتين والمضرتين، وإن كان قد بقي ضرر من الأخرى، وهو أن أمراً كان جائزاً.. كان مرخصاً فيه.. كان واسعاً فضُيِّق، وبدلاً من أنهم كانوا يقرءون على سبعة أحرف أصبحوا يقرءون على حرف واحد، وهذا -كما سيأتي- له أسبابه، ومنها ما ذكره المصنف بقوله: [فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة] أي أن من أسباب ذلك: أن الصحابة رضوان الله عليهم تذللت ألسنتهم بالقراءة، وهكذا حال الإنسان الذي يتكلم بلغة ويريد أن يتعلم لغة أخرى غير لغته، فإنه في أول الأمر يجد مشقة، ثم إذا كررها ورددها وتعلمها سهل عليه ذلك فلا يجد صعوبة، فكيف بالقرآن، وهو بلغة عربية، وإنما كان بحرف غير الحرف الذي يعرفه هذا الرجل.
    والقول الراجح والصحيح الذي تجتمع عنده الأقوال: أن المقصود بالسبعة الأحرف: سبع لهجات أو لغات من لغات العرب، وأن أفصح هذه اللغات هي لغة قريش ولا ريب في ذلك، ثم من يليها، حتى قال بعض العلماء: أفصح اللغات بعد قريش لغة بني سعد الذين استرضع عندهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم كنانة ثم هوازن، ثم آخر شيء لغة اليمن أو الأطراف، أي: بحسب القرب من قريش تكون الفصاحة أكثر. هذا على رأي بعض العلماء في تقدير أي اللغات أفصح، والقرآن الكريم جاء على أفصح اللغات مطلقاً، فأي كلمة منه أو لفظة في العرضة الأخيرة فهي على أفصح اللغات، بعد أن كان جائزاً في أول الأمر أن يقرأ الإنسان بلغته، لكن في العرضة الأخيرة التي عرض فيها جبريل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم مرتين في رمضان -وهو آخر رمضان من عمره- كانت القراءة الأخيرة بحرف قريش مع اختيار الأفصح للنبي صلى الله عليه وسلم من غير لغة قريش.
    وهذا يفيد أنه منذ نزول القرآن وحتى وقت العرضة الأخيرة بدأت الألسنة تتذلل به، وأصبح الناس يستطيعون أن يتعلموه لكثرة ما سمعوه وتردد عليهم، فلما كان زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وجمع القرآن من جريد النخل والعظام وغيرها، واللخاف، حيث كان القرآن مكتوباً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على جريد النخل، وذلك بأن تقطع منها الأوراق فيكون مثل الكتف تقريباً، وقد يكتب عليه سورة أو سورتان من قصار المفصل، وكذلك العظام كعظم الكتف وما شابهه كالجلود وغيرها، فجمعه أبو بكر رضي الله عنه الجمع الأول والناس يقرءون، وما يزال فيهم من يقرأ بغير لغة--ش، فلما كان عهد عثمان رضي الله عنه وجاءه حذيفة وقال له: [[أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم]] جمع القرآن على العرضة الأخيرة على حرف واحد هو حرف قريش.
    1. الرسم العثماني واختلاف أوجه القراءات

      وقد كتب الصحابة الكرام رضوان الله عليهم المصحف على رسم معين، وهو الرسم العثماني، وبقيت أوجه الاختلاف في القراءة بحسب هذا الرسم، وأصبح الرسم عمدة وحجة، حتى إن العلماء تكلموا فيما إذا قرئ بخلاف الرسم هل تعد تلك قراءة صحيحة أم لا؟ وغيرها من المسائل، والمقصود هو الرسم، فقد ذكر شيخ الإسلام في هذه الرسالة مثل قوله: ((وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ))[البقرة:74] أو (عَمَّا يَعْمَلُونَ) فهنا قراءتان، فما الذي يفعله الصحابة رضوان الله تعالى عليهم حيث كان المصحف غير منقوط ولا مشكول؟ فيمكن لأي أحد عنده نفس المصحف بنفس النسخة أن يقرأ بالوجهين، إذاًً هذا ليس فيه اختلاف؛ لأنك إذا قرأت (عما تعملون) أو (عما يعملون) فأنت تقرأ بما يوافق رسم المصحف، وإن كان الأصل في القراءة هو التلقي من فم المشايخ وكذلك الحفظ، ومع هذا الحفظ وهذا التلقي فقد كتب المصحف بوجه يوافق هذه القراءات.
      والصحابة رضوان الله عليهم من كمال علمهم وفقههم، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى وفضله عليهم وعلى هذه الأمة، أن جعلهم يختارون هذا الرسم لهذا المصحف؛ فأصبح يجمع بين عدة قراءات وهو رسم واحد، وهذا مما لا يمكن أن يكون في لغة غير لغة العرب؛ لأن أي لغة أخرى إنما يكتب الحرف الواحد بنصه؛ بل أحياناً الحرف الذي ينطق حرفاً واحداً يكتب ثلاثة أحرف في الكتابة، لكن في لغة العرب التمييز بين الحروف يكون في النقط وفي الشكل -الضمة والفتحة والكسرة- فلما رسم المصحف العثماني بغير نقط، وبغير تشكيل من حيث الفتحة أو الضمة أو الكسرة أصبح برسمه وبشكله هذا يقرأ على أوجه صحيحة ثابتة، مع أن الاعتماد ليس على مجرد ما كتب وإنما على التلقي والرواية، فكان يطابق بين هذه القراءة، وبين رسم المصحف، وهذه هي هداية من الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة، وإعجاز في حق أمة أمية مكنها الله من كتابة كتاب ربها عز وجل على وجه يجتمع عليه المسلمون -من جهة- فلا يختلفون، وهو الرسم العثماني الذي لا يجوز الخروج ولا العدول عنه، ومن جهة أخرى أن هذا الرسم يستوعب الأوجه الثابتة الصحيحة في القراءة، وهذا من أعظم الفضائل لـعثمان رضي الله عنه، حتى إن علياً رضي الله تعالى عنه غبطه على ذلك وقال: [[لو وليت ولم يجمع عثمان القرآن لجمعته]] وهذه شهادة من علي لـعثمان رضوان الله تعالى عليهم جميعاً.
    2. هل القراءات السبع هي الأحرف السبعة؟

      وهنا يطرح سؤال مهم: وهو هل القراءات السبع التي هي قراءة القراء السبعة الذين جمعهم ابن مجاهد، هل استوعبت المصحف العثماني كله بمعنى: هل القراءات السبع هي الحروف السبعة؟
      والجواب: أن القراءات السبع لم تستوعب المصحف العثماني، أي أن القراءات السبع ليست هي الحروف السبعة، ولهذا نجد أن الإمام أحمد رحمه الله مثلاً اختار قراءة من غير قراءات السبعة، فإن هناك القراءات العشر، وهي ما زادت على السبع، وهي أيضاً على رسم ذلك المصحف وموافقة له وقد ثبتت، فإذاً القراءات السبع لم تستوعب المصحف، فمن قرأ بقراءة ثابتة صحيحة وإن كانت من غير السبع فإنه لا ينكر ولا يعترض عليه، وجمع القراءات السبع إنما هو من اجتهاد ابن مجاهد رحمه الله، فإنه اختار سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار على نفس الرسم وعلى نفس الحرف.
    3. جمع الناس على حرف واحد ليس فيه ترك لواجب ولا فعل لمحظور

      ثم قال المصنف رحمه الله: [ولم يكن في ذلك ترك لواجب، ولا فعل لمحظور] أي أنه لم يكن فعل عثمان رضي الله تعالى عنه من اختيار حرف واحد، لا تركاً لواجب ولا فعلاً لمحظور، وإنما كان فيه من سعة، وقد يقال: إن فيه تضييقاً من سعة، أو أخذاً بشيء من الرخصة لما رخص الله تعالى فيه وترك ما عداها! فنقول: نعم، ولكن المصلحة في ذلك راجحة، والمفسدة التي دفعت أكبر وأعظم من مفسدة أن الناس قد يصعب عليهم الاجتماع على حرف واحد.
      ثم يقول: [إذ كانت قراءة القرآن على سبعة أحرف جائزة لا واجبة]، وهذا من أوجه أدلة أصحاب هذا القول وهم كما قال شيخ الإسلام أكثر السلف والمتقدمين من العلماء.
      وأما المتأخرون وبالذات أهل الكلام كـأبي بكر الباقلاني وغيره، فلهم رأي آخر لعله يأتي له ذكر إن شاء الله. ثم يقول: [رخصة من الله تعالى، وقد جعل الاختيار إليهم في أي حرف اختاروه]، فالله تعالى جعل الاختيار لهم، فلما اختاروا حرفاً واحداً أجمعوا عليه، دفعوا به فتنة الاختلاف والافتراق، وكتبوا المصحف بما يوافق هذا الحرف مع بقاء أوجه يحتملها الرسم، فبقي التيسير من جهة، وحصل الجمع من جهة أخرى.
    4. اختلاف مصاحف الصحابة في ترتيب السور

      ثم يقول المصنف رحمه الله: [كما أن ترتيب السور لم يكن واجباً عليهم منصوصاً] وهذا أحد الأقوال [ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب المصحف العثماني، وكذلك مصحف غيره].
      وقد سبق أن قلنا: إن الأصل عند الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في أخذ القرآن هو الحفظ، فهم أمة أمية كما قال صلى الله عليه وسلم: {إنا أمة أمية، لا نحسب ولا نكتب}، فالأصل فيهم الحفظ، وكان فيهم من يكتب، مع ملاحظة أن هناك فرقاً بين أن يكتب الإنسان مصحفاً لنفسه وبين أن يكتب مصحفاً للأمة، فما يكتبه لنفسه قد يقدم فيه ويؤخر، وقد يترك سورة لأنه لا يحفظها، وربما ترك أخرى لأنه يحفظها، بل ربما ترك سورة لأنه لم يحضرها أو لم تبلغه. وهذا يقودنا إلى مسألة أخرى وهي: هل كل الصحابة رضوان الله عليهم جمعوا القرآن حفظاً في صدورهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؟
      الجواب: لا؛ لأن أنس بن مالك رضي الله عنه ذكر في الحديث الصحيح في البخاري {أن الذين جمعوا القرآن أربعة، كلهم من الأنصار، وهم: زيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وأبو زيد، ومعاذ بن جبل}، وفي أحاديث أخرى جاء ذكر غيرهم كـأبي الدرداء وابن مسعود وعلي وعثمان وأبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، لكن الباقلاني يحاول أن يدفع هذا القول ويقول: لا يعقل أنه لا يحفظ القرآن من الصحابة إلا أربعة أو سبعة أو عشرة أو اثنا عشر صحابياً على أكثر الأقوال تقريباً.
      وكلام الباقلاني هذا هو كلام المتكلمين الذي يردون به على الزنادقة الذين يطعنون في ثبوت القرآن، وأنه نقل إلينا بالتواتر، فقد قالوا: ما دام أن القرآن لم يجمعه إلا اثنا عشر رجلاً، على أكثر الأقوال؛ فإنه لم يصل إلى حد التواتر، فقام المتكلمون من المعتزلة والأشاعرة -دفاعاً عن القرآن- برد الأحاديث التي جاءت محددة للذين حفظوا القرآن، وقالوا: هذا لا يعقل! مع عظم اهتمام الصحابة بالقرآن ألا يحفظه إلا نفر قليل.
      والجواب على هذا الإشكال أن يقال:
      أولاً: يجب أن يفرق بين الذين جمعوا القرآن كله وبين الذين يحفظون الآيات والسور، فلا يعني هذا أن كل آية من القرآن لم يجمعها إلا هؤلاء النفر، فمثلاً: سورة البقرة يحفظها من الصحابة مائة أو مائتا صحابي تقريباً، وسورة آل عمران يحفظها مائة أو مائتان، وليس هؤلاء الذين يحفظون آل عمران هم نفس أولئك الذين يحفظون البقرة، وقس على ذلك النساء والمائدة... إلخ. والنتيجة أن الأمة في مجموعها تحفظ القرآن في مجموعه، وإن كان الذين جمعوه كله عدداً قليلاً.
      ثانياً: أن الناس يوصفون بما اشتهروا به، فالذي جمع القرآن كله وحفظه هم المشهورون بالقراءة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مثل زيد وأبي بن كعب رضي الله عنهما، لأن هذا هو مجالهم ومنهم، فإذا ذكر القّراء أو القراءة أحيل عليهم، ولا يعني ذلك أن غيرهم لم يقاربهم في الفضل، ولكن المتخصص في هذا العلم والفن الذي أتقنه واشتهر به هم أولئك.
      فإذا نظرنا إلى هذا، لرأينا أن الأمة في مجموعها أجمعت على هذا المصحف العثماني وعلى هذا الحرف وعلى هذه القراءات، فإذاً يكون القرآن فعلاً قد نقل بالتواتر، ولا إشكال في ذلك، كما أن الصحابة لم يكتفوا بجمع المصحف مكتوباً، بل كان زيد رضي الله عنه ومن معه من الصحابة حريصين على أن يطابقوا ما في الصدور على المكتوب أيضاً ليتأكدوا منه، وهكذا فلم يقتصر عملهم على المحفوظ وحده ولا على المكتوب وحده، وإنما أخذوا المجموع المكتوب ثم طابقوه على المحفوظ في الصدور، فكان نتاج ذلك النسخة الكاملة للمصحف الإمام، وهذا مما يرد به على ما قد يثار من شبهات أعداء الله حول حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، وما أثاره الزنادقة في الماضي من المجوس واليهود والنصارى وممن لا يؤبه لهم، لو أن المعتزلة والأشعرية والمتكلمين عموماً لم يهتموا بهم ولم يردوا عليهم ما ضرنا ذلك في شيء، ولكن ظهرت زندقة معاصرة الآن مأخوذة عن المستشرقين قبحهم الله، فهم أخذوا يحاولون التشكيك والطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي ثبوت القرآن وفي عدالة الصحابة، لأن هذه الأسس إذا طعن فيها وسقطت؛ سقط ديننا ولم يبق من الإسلام شيء، فزعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس نبياً كما قال أسلافهم من قبل: أساطير الأولين اكتتبها أو وصمهم إياه بالجنون، وقال هؤلاء المستشرقون عن الوحي الذي كان ينزل عليه: إن هذه نوبات من الصرع وغير ذلك من الافتراءات الممجوجة، والتي حملهم عليها ما في قلوبهم من الحقد الدفين، وقالوا عن القرآن: إنه غير ثابت، وقالوا: إن عدالة الصحابة غير ثابتة؛ يريدون بذلك هدم الإسلام والقضاء عليه.
      فالمستشرقون اهتموا بنشر بعض الكتب للقراءات، ولهذا تجدون مما هو مطبوع وموجود من كتب القراءات أن أول من نشره هم بعض المستشرقين، وهذا ليس حرصاً منهم على القراءات ولكن لجهلهم؛ ولأن الله سبحانه وتعالى الذي قال: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ))[الحجر:9] يريد أن يفضحهم على الملأ بما تعمل أيديهم، فهم بأيديهم يجمعون القراءات ويقولون: إن القرآن مختلف وفيه تناقض، هذه قراءة فلان وهذه قراءة فلان، وهم لم يعلموا أنهم بهذا العمل يؤكدون أن هذا القرآن محفوظ، إذ كيف حفظت هذه القراءة إلى أبي، وهذا السند إلى علي، وهذه القراءة إلى عثمان أو إلى زيد، كما أنك إذا نظرت إلى حفاظ القرآن في شرق الدنيا وغربها، تجد منهم الرجل الأعجمي الذي يحفظ القرآن كاملاً بعدة قراءات، ولا يستطيع أن يفهم منك كلمة عربية، فعندما يحفظ القرآن في الصدور ويطابق على هذه القراءات المكتوبة يكون ذلك شاهداً على صدق هذا القرآن وعلى صحته، وعلى أن الله سبحانه وتعالى جمع بين حفظه وبين تيسيره : ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ))[القمر:17] ومن ذلك تيسير تلاوته وتيسير حفظه على الناس، حتى إن الأعجمي يحفظه بيسر ويستطيع قراءته بيسر، ولو أردت أن تعلمه اللغة العربية التي هي لغة القرآن لوجدت في ذلك مشقة.
      بالرجوع إلى مسألة اختلاف مصاحف الصحابة نقول: إن اختلاف مصاحف الصحابة رضوان الله عليهم في الترتيب لم يكن لأن القرآن مختلف فيه أو في ترتيبه، بل إن بعض العلماء أخذ من هذا الاختلاف أن الأمر فيه سعة، وقالوا: هذا دليل على أن القرآن إنما يجب ترتيبه بحسب الآيات في السورة الواحدة، أما ترتيب السور بعضها مع بعض فقد كان لهم فيه فسحة وسعة، لكن بعد أن رتبه الصحابة رضوان الله عليهم هذا الترتيب الموجود وكتبوا المصحف العثماني، فلا يجوز مخالفتهم؛ لأنهم إذا أجمعوا على شيء فلا يجوز مخالفتهم فيه، وإن قيل: إن ذلك سائغ أو جائز؛ فإن هذا يكون خرقاً للإجماع ومشاقة لهم واتباعاً لغير سبيل المؤمنين، ولهذا قال: [وأما ترتيب آيات السور فهو ترتيب منصوص عليه، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية بخلاف السور، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إن لم تجتمع على حرف واحد جمعهم الصحابة عليه، هذا قول جمهور السلف من العلماء والقراء. قاله ابن جرير وغيره] يعني أن هذا القول هو المشهور عن ابن جرير .
    5. انتفاء المشقة من أسباب جمع القرآن على حرف واحد

      قال المصنف رحمه الله: [ومنهم من يقول: إن الترخص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام] فيقول: إن من أسباب جمع القرآن على حرف واحد من قبل الصحابة لأن ذلك كان سائغاً وجائزاً ورخصة، فاختاروا حرفاً وأجمعوا عليه وليس في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور، ثم يجيب بجواب آخر فيقول: [ومنهم من يقول: إن الترخص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام، لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولاً] باعتبار اختلاف اللهجات وتنوع اللغات في أول الإسلام [فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة] واستساغوا حرف قريش، وأصبح من السهولة أن يتعلم الصغار القراءة على حرف قريش بحسب التلقين والتعليم، حتى وإن كان الأبوان أو القبيلة مثلاً من قيس أو من تميم أو حتى لو كان من العجم، فعلّم الابن الصغير حرف قريش فإنه يتقنه ويحفظه، فمثلاً في لغة اليمن النطق بالهمز دائماً على الوصل، فإنهم لا يقولون: (والأرض) وإنما يقولون: و(الارض) بلهجتهم، مع ذلك فإن الأبناء الذين يدرسون في المدارس قد استساغوا واستسهلوا النطق الصحيح: (والأرض).
      قال: [وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيراً عليهم وهو أوفق لهم؛ أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة] وهذا يتضمن جواباً ثالثاً، وهو أن يقال: إن الذي أجمعنا عليه هو ما تضمنته العرضة الأخيرة فيكون لدينا ثلاثة أوجه.
    6. حقيقة اشتمال المصحف العثماني على الأحرف السبعة

      ثم قال المصنف رحمه الله:
      [وذهب طوائف من الفقهاء وأهل الكلام إلى أن المصحف مشتمل على الأحرف السبعة؛ لأنه لا يجوز أن يهمل شيء من الأحرف السبعة. وقد اتفقوا على نقل المصحف العثماني، وترك ما سواه. وقد تقدمت الإشارة إلى الجواب، وهو: أن ذلك كان جائزاً لا واجباً، أو أنه صار منسوخاً].
      الشرح:
      يقول بعض الفقهاء وأهل الكلام أنه لا يمكن أن يهمل في المصحف شيء من الحروف السبعة وهي كلها صحيحة، والصحابة كانوا يقرءون بها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ويقرهم عليها ثم كيف يهمل ذلك؟ فللخروج من هذا الإشكال قال الفقهاء: إن رسم المصحف العثماني شامل للأحرف السبعة. وهذا مشكل في الواقع؛ لأن من المعلوم أن دلالة اليسر والسعة من كون المصحف العثماني على حرف واحد أكثر من كونه على سبعة أحرف.
    7. حكم قراءة القرآن بالمعنى

      قال المصنف رحمه الله:
      [وأما من قال عن ابن مسعود أنه كان يجوِّز القراءة بالمعنى؛ فقد كذب عليه، وإنما قال: [[قد نظرت إلى القراء، فرأيت قراءتهم متقاربة، وإنما هو كقول أحدهم: هلم، وأقبل، وتعال، فاقرؤوا كما علمتم]] أو كما قال].
      أي: لو أن واحداً قرأ قوله تعالى: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا))[الأنعام:151] قرأها (قل هلموا أتل ما حرم ربكم عليكم) فإن هذا لم يقله ابن مسعود .
      ثم قال المصنف: [وإنما قال: قد نظرت إلى القراء، فرأيت قراءتهم متقاربة] أي: ما يقرءونه وهو مأخوذ بالنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أحد الصحابة في عهد ابن مسعود رضي الله عنه كقراءة زيد وأبي ومعاذ وعلي وعثمان وأمثالهم يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[قد نظرت إلى القراء، فرأيت قراءتهم متقاربة]] وهذا يؤكد ما قاله العلماء من أنه لا يجوز أن يتجادل في القرآن ولا أن يختلف فيه، وإنما مرجع ذلك إلى الثبوت كما قلنا.
      ثم يقول: (كقول أحدكم: هلم وأقبل وتعال) فهو مثل التقارب في قول القائل: هلم وأقبل وتعال، فمعناها واحد، وكون المعنى واحداً ليس معناه جواز القراءة بالمعنى.
      وهنا تأتي مسألة أعظم من ذلك، وهي مسألة الأحرف والقراءات الشاذة -التي صحت سنداً ولكنها لم تتواتر-: هل تقرأ في القرآن وهل يقرأ بها في الصلاة؟ أم تلغى ولا يلتفت إليها مطلقاً؟
      الجواب: أما في الصلاة فيوجد من أجاز ذلك من أهل العلم في ذلك، لكن الصحيح أن القراءة بها لا تجوز؛ لأنه سيحصل الذي خاف منه حذيفة رضي الله عنه وقاله لـعثمان رضي الله عنه: [[أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم]].
      والعلماء قالوا: ليس معنى أنها لا تقرأ ولا تكتب بها المصاحف أنها ليست قرآناً، لكن إما أنها قرآن قبل العرضة الأخيرة فنسخت، وإما أنها من القرآن ولكن ليست بقوة المتواتر، وإنما يؤخذ القرآن متواتراً، فتكون فائدتها في التفسير وزيادة المعنى والإيضاح، ولذلك لما روى البخاري رحمه الله قراءة ابن مسعود : (والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى) فيأتي ملحد أو زنديق مبتدع يقول: إن هذه القراءة عند البخاري تناقض القرآن، وهذا الحديث يجب أن يشطب من الصحيح، فنقول له: هذا سند صحيح والقراءة صحيحة، ولا يدل على أنها هي المتواترة أو هي التي يتعبد بها، أو هي التي تكتب في المصحف، كل ما في الأمر أن هذه القراءة صحت، وليس كل ما صح يعد قرآناً، إلا إذا ثبت بالتواتر، ووافق رسم المصحف العثماني، وهذه القراءة ليست متواترة ولا هي موافقة للرسم العثماني، ولكنها وأمثالها من القراءات الثابتة سنداً، الغير متواترة تفيد في التفسير، فمثلاً قال تعالى: (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا) تفيد في التفسير.
      فالمقصود هو أنه على أي وجه تصورنا المسألة فالقرآن محفوظ، ولا يجوز للأمة أن تختلف وأن تتجادل في ثبوته، وهذا هو المقصود هنا في باب العقيدة، أما في أبواب القراءات والعبادات فالأمر واسع، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اختيار جدي أبي البركات" وشاركه فيه بعض العلماء فقالوا: إن كانت الصلاة فريضة لا يصلي إلا بما نقطع أنه قرآن، ولكن إن كانت نافلة جاز له أن يقرأ بما لا نقطع أنه قرآن إذاً فالمسألة واسعة.
      ثم يبين رحمه الله أنه مهما كان الأمر فالمسألة من مواضيع الاجتهاد. أي: أن مسألة الجهر بالبسملة ومسألة اختلاف القراءات، ومسألة القراءة الصحيحة التي لم تتواتر وما أشبهها هذه من مسائل الاجتهاد التي لا يسمى المخالف فيها كافراً ولا ضالاً ولا فاسقاً، وإنما ينظر إلى الأقوال ويستخرج منها الراجح والمرجوح، هذا كل ما في الأمر، فمثلاً: (بسم الله الرحمن الرحيم) هناك من العلماء من يقول: إنها آية من الفاتحة، ومن العلماء من يقول: إنها ليست بآية لا من الفاتحة ولا من غيرها من السور إلا ما جاء ضمن آية في سورة النمل فقط وهي قوله تعالى: ((إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))[النمل:30] وهذه ليس فيها خلاف، لكن الكلام في (بسم الله الرحمن الرحيم) التي توضع بين السور، وقال بعض العلماء: إن (بسم الله الرحمن الرحيم) آية مستقلة أنزلها الله تبارك وتعالى؛ ليفتتح بها كتابه، وليفصل بها بين السور، فيقول شيخ الإسلام : "وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة"، وتجتمع عليه إن شاء الله النصوص والقلوب، ولذلك فلا حرج -ما دام الأمر سائغاً- ولا تبديع فيه ولا تضليل ولا تفسيق ولا تكفير، ويجوز أن يجهر الإنسان بـ(بسم الله الرحمن الرحيم) فيعتبرها آية من الفاتحة أو أن يسر بها فلا يعدها آية منها، أو أن يقرأها بين السور، كما لو قرأ الإنسان مثلاً جزء عم أو تبارك في التراويح أو في غيرها فقرأ السور فله أن يجهر بالبسملة بها أو أن يسر بها، كل ذلك جائز، وبالنسبة للقراءة فإنهم يقولون: إنه يلزمنا أن نتقيد بالقراءة التي نقرأ بها كقراءة ورش مثلاً، فكل ما جاء عنه بقراءته للقرآن فإننا نتبعه وهذا خير ولا بأس.
      لكن الفقهاء الذين يتكلمون في كتب الفروع والأحكام قالوا: إن ذلك جائز، وتصبح المسألة بعد ذلك مسألة فقهية فرعية، ولكن الأصل في ذلك هو الجزم والقطع بأن القرآن محفوظ، وأنه لا يجوز الجدال فيه، ولا الاختلاف فيما يتعلق بثبوته، وإنما هي أمور علمية يسعى الإنسان إلى معرفة الحق فيها بسؤال أهل الذكر من أهل العلم وأهل الفن إذا التبس عليه منها شيء.
  2. مجادلة أهل القبلة بالتي هي أحسن

     المرفق    
    ثم قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [والله تعالى قد أمرنا أن لا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، فكيف بمناظرة أهل القبلة؟ فإن أهل القبلة من حيث الجملة خير من أهل الكتاب، فلا يجوز أن يناظر من لم يظلم منهم إلا بالتي هي أحسن، وليس إذا أخطأ يقال: إنه كافر، قبل أن تقام عليه الحجة التي حكم الرسول بكفر من تركها، والله تعالى قد عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، ولهذا ذم السلف أهل الأهواء، وذكروا أن آخر أمرهم السيف، وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان إن شاء الله تعالى عند قول الشيخ: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً والفرقة زيغاً وعذاباً)].
    الشرح:
    أي: أنها ستبحث في مباحث الإيمان التي ستأتي إن شاء الله وبيان متى يحكم على الإنسان بالكفر ومتى لا يحكم عليه، إلى آخر ذلك، والمقصود هنا ونحن نتكلم عن النهي عن الجدال أن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا ألا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، كما قال تعالى: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ))[العنكبوت:46] وفي آية أخرى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))[النحل:125] وكما أشرنا في أول المبحث أن المنهي عنه ليس الجدل نفسه، إنما المنهي عنه هو الجدل الباطل أو المذموم.. الجدل بغير الحق.. الجدل بغير دليل.. بغير علم.. بغير برهان.. الجدل فيما نهينا أن نتخاصم فيه، ولذلك قال المصنف سابقاً: "نهى صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع صاحبه من الحق" هذا بخلاف النصيحة، فلذلك هذا ليس من أساليب الدعوة الصحيحة أن تبتدئ أحداً بالجدال، بل حتى الجدال متى ما احتيج إليه وكان شرعياً ولابد منه فلابد له من ضوابط، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى لم يصف الحكمة بشيء في قوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) يقول ابن القيم رحمه الله: "الحكمة هي فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي". أي: وضع الشيء في موضعه كيفية وزماناً ومكاناً وأسلوباً.
    وقال الله بعد ذلك: (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) فوصف الموعظة بأنها حسنة، وهذا معنى معلوم ومعروف كمواعظ النبي صلى الله عليه وسلم ومواعظ العلماء، ثم قال: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ولم يقل: المجادلة الحسنة، بل قال: (بالتي هي أحسن). وهذه العبارة أدق في الشروط؛ لاحتمال أن الإنسان يخطئ، لما يدخل الجدال من الهوى ومن حظوظ النفس.
    ومما يلمس وللأسف هذه الأيام ما يفعله طلبة العلم عندما يرد بعضهم على بعض وهم يتناقشون في بعض المسائل التي لا تحتمل الرد، فيبلغون بالجدل مبلغاً غير محمود، بينما في الأصل لو قام أحدهم بالتنبيه على صاحب الكتاب أو الفتوى لربما فهمك وتراجع إن كان مخطئاً، لكن إذا نشر الرد واشتهر في الآفاق فإن صاحبه يصعب عليه أن يعترف بخطئه أمام الملأ، وهنا يكون المزلق، وذاك أيضاً يأخذه الغرور والإعجاب بأنه قد رد، وهذا من علامات أهل البدع، فتجده إذا علم مسألة يسارع فيخطئ العلماء فيها، حتى لو كان رأيه فيها مرجوحاً، فيسارع بتخطئة العلماء ويشهر ذلك وينشره، ومثل هذا يخشى عليه وعلى علمه، والجرأة على العلماء من سنة الخوارج قديماً كما تجرءوا على ابن عباس وعلي رضي الله عنهما وعلى غيرهما، والمقصود أن الله أمرنا تكون مناظرتنا لأهل الكتاب بالتي هي أحسن، فكيف بمناظرة أهل القبلة؟!
    1. شيخ الإسلام وأمانته في النقل وحسن مجادلته

      يقول المصنف: "فإن أهل القبلة من حيث الجملة خير من أهل الكتاب، فلا يجوز أن يناظر من لم يظلم منهم إلا بالتي هي أحسن" فالمجادلة أو المناظرة لا تكون مع أهل القبلة إلا بالتي هي أحسن حتى وإن أخطئوا، ومن العجب ما نجده في مناقشة علماء السلف وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه ما من فرقة ولا طائفة إلا وتعرض لها، إما أفاض وأكثر في ذلك حتى يكتب المجلدات، أو عرضاً في مواضع من كتبه، فترى الأمانة في النقل، حتى إن أكبر أعداء المنهج السلفي مثل الدكتور علي سالم النشار في كتابه نشأة الفكر الفلسفي وهو يتكلم عن التهم التي اتهم بها شيخ الإسلام وأنه كان من الكرامية وأنه كان مجسماً وأنه كذا، تجده عندما يتكلم عن بعض النسخ أو بعض الكتب يقول: هذا ما ذكره ابن تيمية وهو أمين في نقله. فإذا وقعت على كتاب لـشيخ الإسلام ابن تيمية ينقل فيه عن كتاب آخر -وهذا كثير عنده سواء في نقل الأحاديث أو غيره، ولكن قد ينقل ويطيل من كتب أهل البدع أو من كتب أهل السنة أحياناً- فتجد أنك تستطيع أن تقابل ما كتبه شيخ الإسلام إذا كانت النسخة واضحة وجيدة على نسخ أخرى معتمدة من الكتب التي نقل منها، وكأنها نسخة أخرى؛ لما فيها من الدقة والأمانة في النقل، بينما إذا أردت -مثلاً- أن تنقل عن أبي حامد الغزالي في الإحياء وهو الكتاب المشهور جداً عند الناس، تجده عندما ينقل عن أبي طالب المكي في قوت القلوب وعن المحاسبي وعن أمثالهما، تجد الاختلاف، لكن شيخ الإسلام تجد الأمانة والدقة في النقل، ثم بعد أن ينقل القول إن كان فيه وجه صواب، فإنه يأتي به ويفصل في المسألة تفصيلاً وافياً، ومن أعجب الأدلة في ذلك رده على الرافضي صاحب كتاب منهاج الكرامة، فتجد شيخ الإسلام في منهاج السنة يأتي بكلام الرافضي وشبهته ثم إن كان فيه وجه حق ذكره وأثبته، فلا ينكر قولاً مطلقاً، فقد يذكر الرافضي أشياء ثابتة وصحيحة في فضائل علي رضي الله عنه، فتجد شيخ الإسلام يثبت ما ثبت عنده من فضائل علي رضي الله تعالى عنه، إلا أنه يقابلها بما ثبت من فضائل أبي بكر ويبين الدلالة منها على أفضليته على علي رضي الله عنهما وهكذا.
      حتى إن الرافضي لما تعرض للكرامات قال: إن من فضائل علي رضي الله تعالى عنه أنه كان يخطب على منبر الكوفة وإذا بثعبان يأتي إلى المنبر ثم يكلمه ثم يفتيه وهذا من ملوك الجن، وكان علي يفتي الجن والإنس، قال: فهذا دليل على أنه أولى بالخلافة. وهنا يجيب شيخ الإسلام رحمة الله عليه ويقول: وهذا من غرائب استدلالات الرافضة، ومن الجهل بمقام علي رضي الله تعالى عنه، فمقام علي رضي الله عنه أعلى وأرفع من أن يستدل عليه بهذا، قال: فإن هذا يحصل لمن هو دون علي بكثير، فمن العلماء من يأتيهم الجن ويسألونهم فيجيبهم.
      ولو رأيتم كيف أن ابن حزم رحمه الله شن هجوماً شديداً على الأشاعرة وكفر علماءهم: الأشعري والباقلاني وأبا جعفر السمناني ؛ فيأتي شيخ الإسلام ابن تيمية الذي كان يرد على الأشاعرة كثيراً، وهم الذين آذوه وفعلوا به ما فعلوا، فيأتي فيقول: إن ابن حزم في أبواب الإيمان والقدر خير من المنتسبين إلى الأشعري، ولكنّ المنتسبين إلى الأشعري خير منه في باب الصفات، وهذا الواقع، فإن ابن حزم أنكر عليهم وكفرهم عندما قالوا: إن الإيمان هو مجرد ما في القلب من: التصديق والمعرفة؛ فقال ابن حزم : قال جهم وأبو الحسن الأشعري وفلان...) فـابن حزم وضعهم مع جهم دفعة واحدة على ما بينهم من فرق، ومع أن الفرق قد لا يؤثر كثيراً لكن لا ينبغي أن نجعلهم مع بعض.
      أما في باب الصفات فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية : إن ابن حزم في باب الصفات أقرب إلى القرامطة وإلى المتفلسفة، وكذلك الأشاعرة خير من ابن حزم في باب تفضيل الصحابة لأن الأشاعرة في التفضيل مثل أهل السنة، فأفضل الصحابة عندهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وأما ابن حزم فأفضل الصحابة عنده هم أمهات المؤمنين؛ لأنهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
      والمقصود من هذا ضرورة الإنصاف والعدل، وقد ذكر رحمه الله أن بعض أهل الأهواء لا يجدون من يعدل بينهم إلا أهل السنة والجماعة، حتى لو اختلف بعض أهل الأهواء مع بعضهم، فالذي يقدر على العدل بينهم أهل السنة، فهم أعدل الفرق مع الفرق، وهم أرحم الناس بالناس؛ لأنهم لا ينتقمون لأنفسهم، يجادلون ولكن بالتي هي أحسن، ويدفعون الشبهة بالحجة، ولكن من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومما صح عن السلف الصالح، فلا يتعصبون لرأي ولا لبشر.
    2. الرفق في التعامل والجدال مع طالبي الحق

      إن من كان طالباً للحق من أي فئة.. من أي فرقة.. من أي دين.. يجب أن يُرفق به حتى يتبين له الحق، -مثلاً- لما قدم عدي بن حاتم رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بسبب أسر أخته، قدم والصليب معلق على صدره؛ ليظهر تمسكه بدينه، فأكرمه النبي صلى الله عليه وسلم وأحسن وفادته، فلما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ))[التوبة:31] قال عدي : ما عبدناهم، قال: أليسوا يحلون لكم الحرام ويحرمون عليكم الحلال فتتبعوهم؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتكم إياهم} وهذا معروف عند النصارى إلى الآن، فالبابا في روما يحرم الطلاق، ويحرم الختان وهو مذكور في التوراة، ويحل الميتة وهي محرمة في التوراة.. إلخ فما كان من عدي بعد ذلك إلا أن أسلم وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم، قائلاً: {أمط عنك هذا الوثن} أي: الصليب. وهكذا ناظر النبي صلى الله عليه وسلم وفد نجران، كما أمره ربه سبحانه وتعالى في القرآن، حتى إن أحدهم أخذ ينشد ويرتجز وهو على ناقته:
      إليك تغدو قلقا وضينها            مخالفاً دين النصارى دينها
      فهذا الرجل: أسلم وآمن بالله سبحانه وتعالى لما عرف الحق، فطالب الحق كائناً من كان -ولو كان يهودياً أو نصرانياً أو شيوعياً- نترفق به ونحسن إليه، حتى نوضح له الحق، أما المعاند فالنبي صلى الله عليه وسلم هو نبي الرحمة ونبي الملحمة، ونحن أرحم الناس بالشعوب، فإذا عاندت وأبت وأصرت على محادة الله ورسوله، ولم تخضع لأحكام الله وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم أو احتقرت ذلك، ولم تحرم ما حرم، وتحل ما أحل بعد قيام الحجة؛ فإننا نؤدبها بالسيف، بأقسى ما يمكن من العقوبة، ولذلك قال المصنف رحمه الله: "وليس إذا أخطأ يقال: إنه كافر؛ قبل أن تقام عليه الحجة التي حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بكفر من تركها".