قال: [وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بـأبي شامة في كتاب الحوادث والبدع : حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً]، وهذه هي الجماعة.
فالجماعة اتباع الحق وإن كان أهله قليلاً والمخالف له كثيراً، قال: "لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ولا نظر إلى كثرة أهل البدع بعدهم" والجماعة في تعريف أهل السنة والجماعة (هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، والمتمسكون بآثارهم إلى يوم القيامة في جميع الأمصار قلوا أو كثروا)، فإذا أمرت أن تتبع الجماعة أو أن تكون من الجماعة أو تدعو إلى الجماعة، فهذه هي الجماعة في كل زمان ومكان، وقد تكون الجماعة رجلاً واحداً ما دام أنه على الكتاب والسنة، فلزوم المنهج الصحيح ومرافقة المنعم عليهم هو المعنى المراد عند الحديث عن الجماعة.
ويقصد بكلمة الجماعة معنيان: المعنى الأول: الشيء المجتمع عليه وهو السنة وأهلها، وبهذا المعنى يدخل الصحابة والتابعون وغيرهم ممن سار على نهجهم في سائر العصور، ولهذا عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاَّ واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: هي الجماعة} كما في إحدى الروايات.
إذاً: الفرقة الناجية : الصحابة والتابعون ومن سار على منهجهم إلى يوم الدين.
نجد في كتاب اللالكائي وابن بطة، والآجري، والطبري وغيرهم نجد قولهم: منهج الجماعة كذا.. قول الجماعة كذا.. وقول الخوارج كذا.. فجعلوا الفرق الإثنتين والسبعين مخالفة للجماعة وإن كانوا أكثر.
والمعنى الثاني: الجماعة التي نحن مأمورون بأن نلزمها عصبة الإيمان وركبه، إذا اجتمعوا على إمام أو على أمير للمؤمنين، وحينئذٍ تجب الطاعة، ويحرم الشذوذ ونكث البيعة، والمعنيان ينطبقان على ما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول، ولا سيما قبل الفتنة، فقد كان الناس في عهد أبي بكر وعمر -على المعنى الأول- على السنة والحق، لا يوجد بينهم فرق مبتدعة، وكانوا -على المعنى الثاني- مجتمعين على أمير المؤمنين، لم تفرقهم الفتنة كما وقع في عهد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إذ أصبح المسلمون فريقين يتحاربان، لكن في ذلك العهد مع وجود القتال بين المسلمين وقد أخبر عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان من المسلمين دعواهما واحدة} هل خرجوا عن الجماعة بالمعنى الأول؛ هم من الجماعة من أهل الحق والسنة وليسوا من فرق الضلال والبدعة.
فالأمة آنذاك خرجت عن الجماعة بالمعنى الثاني فلم تجتمع على إمام واحد وإنما اختلفت وتفرقت واقتتلت وما كان ينبغي لها ذلك لأن الخلاف والاقتتال من أسباب الهلاك.
وعلى ذلك فقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث... وذكر منها: والتارك لدينه المفارق للجماعة} فالجماعة معناها هنا: مفارقة الحق. فنأخذ هذا الحديث دليلاً على أن المرتكب لبدعة مكفرة -لاسيما إن اجتمعت عليها الطائفة- يجب أن يُقَاتل لدفع بدعته وشره وذلك بشروط تذكر في بابها إن شاء الله.
وكذلك المرتد يجب قتله ردة، أما من فارق السنة إلى البدعة فيهجر أو يعزر أو يقتل حسب بدعته كما سيأتي بإذن الله، وأما من خرج عن طاعة الإمام وهو على السنة فهؤلاء يقال عنهم: أهل البغي ولهذه الظاهرة أحكام نشرحها في باب الإمامة إن شاء الله.
ثم ينتقل ابن القيم إلى قصة فيقول: "قال عمرو بن ميمون الأودي : [[صحبت معاذاً بـ اليمن، فما فارقته حتى واريته في التراب بـالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ثم سمعته يوماً من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها، فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة قال: قلت: يا أصحاب محمد! ما أدري ما تحدثونا؟! فقال: وما ذاك! قال: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها، ثم تقول: صل الصلاة وحدك، وهي الفريضة، وصل مع الجماعة فهي نافلة، قال: يا عمرو بن ميمون ! قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري الجماعة؟ قلت: لا. قال: إن جمهور الجماعة: الذين فارقوا الجماعة. الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك]]، وفي طريق أخرى: [[فضرب على فخذي وقال: ويحك! إن جمهور الناس فارقوا الجماعة وإن الجماعة هي ما وافق طاعة الله عز وجل]] قال نعيم بن حماد : [[ يعني إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذٍ]]. ذكره البيهقي" انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.