جعل الله سبحانه وتعالى للإمامة في هذا الدين شرطين أساسيين، فقال تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ))[السجدة:24] فإذا أردت أن تكون داعية إلى الله حقاً فالزم هذين الشرطين (الصبر واليقين)، وكما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين)، فيقين بلا صبر ليس بيقين حقيقة، وكذلك صبر بلا يقين ليس بصبر حقيقة، فلابد منهما معاً، ولابد أن تكون واثقاً موقناً بوعد الله وحكمته وخبره سبحانه وتعالى، وفي نفس الوقت صابراً على ما تلقاه في هذا الطريق.
فبهذين الأمرين يكون الإنسان إماماً للمتقين ويكون دعاؤه: (( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ))[الفرقان:74] من هذا القبيل كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والسلف الصالح من الأئمة الذين أحيا الله تعالى بعلمهم وبإيمانهم أمماً وأجيالاً، فهؤلاء لزموا الصبر واليقين، وما منهم من أحد إلا وأُوذي وعذب وفتن، وعانى ما عانى حتى أظهره الله وأيده ونصره، فهذا المثال الذي يضربه لنا ابن القيم رحمه الله وينقله عنه المصنف إذ يقول: [كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن]، يريد أن يوضح أن العبد كلما كان يعلم ويوقن أن تلك الراحة والسعادة تعقب صبره على هذا الطريق، وإن كان فيه حيات وعقارب وحفر وظلمة ووحشة؛ كان أجدر بأن يصل بإذن الله سبحانه وتعالى، ولا عقبة بعد ذلك.
فهو سلك طريقاً فيه خوف ومشقة ولأواء لكنه مفض إلى أمن ورخاء، وهناك طريق مليء بالملذات والشهوات لكنه يفضي إلى خوف وسوء وعذاب!
فالعاقل ذو البصيرة ينظر إلى النهاية والعاقبة، ويتحمل ما يجده في سبيل الوصول إليها، أما ضعيف الإيمان والعزيمة والإرادة والهمة، فإنه يتراجع عند أول عقبة وأول حفرة، ويحرم من ذلك الخير والأمن، وهذه حكمة الله سبحانه وتعالى، وهكذا أراد الله أن يكون الطريق إلى رضوانه وجنته محفوفاً بالمكاره، بل إن حكمته تعالى أعظم من ذلك فقد اقتضت أن الحياة الدنيا جميعاً لابد أن يوجد فيها ما يستوجب الصبر، حتى الكافر والمجرم والزاني وشارب الخمر؛ لو لم يصبروا ويتحملوا الأذى والمشاق، لما نالوا ما يريدون ويتمنون، فكيف بمن يريد سلعة الله الغالية؟! تخور عزيمته وتضعف همته وهو لا زال في أول الطريق؟!!
يقول: [فهو محتاج إلى قوة صبر، وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق، ولم يتحمل مشقتها، ولا سيما إن عدم الرفيق، واستوحش من الوحدة] فالوحدة والوحشة والغربة من أعظم الأسباب التي يرجع بسببها السالك في أثناء الطريق قبل أن يصل، لكن إذا كان الإنسان بين إخوة صالحين فضلاء يعينونه على الحق مهما تقدم معهم في طريق الحق وساروا وتعمقوا في الخير؛ لا يفارقه الشعور والثقة والطمأنينة، أما مع الغربة والوحشة كمن كان غريباً عن بلده، فهذا من دواعي الضعف، وإن كان المفترض أن تكون عاملاً من عوامل القوة؛ لأنك إذا كنت غريباً وسننت سنة حسنة كانت أعظم أجراً.
إذاً: لابد من قوة صبر وقوة يقين، لا سيما إذا عزَّ الرفيق، وانعدم المعين، وكثر المعادي، وشعر الإنسان بالغربة، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: {فطوبى للغرباء} أمثال الصحابة السابقين الأولين، ومن يليهم من الصحابة ثم التابعين قبل أن يكثر المتمسكون بالدين؛ فأولئك أجرهم أكثر وأعظم، ولهذا قال الله تعالى: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا))[الحديد:10].
وطالب العلم الذي يعمل بما عمل قبل أن يعمل به الناس وقبل أن ينتشر؛ أجره أكبر ممن عمل بذلك العلم بعد انشاره وكثرة العاملين به.
وعلى العبد المؤمن مهما كانت الطريق مخوفة ألا يستوحشها من قلة الرفيق؛ لأنه يعلم أن الله سبحانه وتعالى معه، فلا يخاف من أحدٍ غيره، ولا يستوحش طريقاً سار فيها قبله الرسل والأنبياء، والصحابة والتابعون، وأهل الخير والصلاح، ولهذا كان الله سبحانه وتعالى يسلّي نبيه صلى الله عليه وسلم بقصص الأنبياء قبله؛ ليأخذ منها العبرة والعظة في الصبر، والتأسي بهم في صبرهم على تكذيب قومهم وإيذائهم لهم، وإخراجهم إياهم، حتى إن منهم من قتل، وذلك ليتأسى بهم صلى الله عليه وسلم، ويعلم أنه ليس وحده في هذا الطريق، والأمة تقتدي به وتتأسى به، ويعلم الفرد منهم أنه ليس وحده وإنما هو سائر عل طريق النبي صلى الله عليه وسلم -والأنبياء من قبله- والصحابة الكرام وأنه ليس فرداً وحيداً في هذه الطريق فيأنس ولا يستوحش، ولا تعيقه أشواك الطريق ووعورة المسلك، فأول الطريق مشقة وآخرها سعادة وعز وتمكين ثم جنة ونعيم-جعلنا الله من أهلها، السالكين إليها، الصابرين على لأواء السبيل إليها.
قال ابن القيم رحمه الله: " وجعل يقول: أين ذهب الناس؟ فلي بهم أسوة، وهذه حال أكثر الخلق وهي التي أهلكتهم".
والمقصود من الناس لا يشترط أن يكونوا فساقاً ضلالاً أهل جهل، فقد يكونوا ملتزمين.
هناك مزلق من مزالق الشيطان يواجه العبد الذي يمر في هذا الطريق، وهو أن الداعية المستقيم يرى بعض الملتزمين في حقل دعوته واقعين في المحرمات التي ينهى عنها، تاركين لبعض الواجبات التي يدعو إلى فعلها، فيأتيه الشيطان فيقول له: كل هؤلاء على باطل وأنت على حق ؟! أو تريد أن تخالف كل هؤلاء؟ فيخوفه بالأكثرية وبالكبراء والسادة والقدوة، فيقع المسكين في شباك إبليس اللعين، بينما الشيطان يأتي إلى الجميع بهذه المقولة فيسخر منهم جميعاً، قال ابن القيم رحمه الله: "وهي التي أهلكتهم" أي أتباع الكبراء والسادة والأكثرية.
ولهذا لما جلست رسل الشيطان عند رأس أبي طالب في مرض موته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطبه: {قل كلمةً أحاج لك بها عند الله}! وهم يخاطبونه: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فجاءه داعي الخير وداعي الكفر، فكان يقول في نفسه: كيف يكون عبد المطلب على ملة باطلة؟! وكذلك الآباء والأجداد بما لهم من المجد والمفاخر، كيف يكونون على ضلال وباطل؟! ولذلك كان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب . نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
ولذلك لا يقل أحد: أنا مع الجماعة، وإنما: أنا مع الحق، ومن هنا وفق المصنف في انتقاله من هذا الموضوع إلى موضوع الجماعة، فنقول: من هي الجماعة؟ وكيف يتمسك الإنسان بالجماعة؟