لو نظرنا إلى حال الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم لوجدنا أن هممهم كانت أعلى وأعظم من هذه الدنيا، ولهذا ضحوا بكل شيء في ذات الله سبحانه وتعالى.
وورد في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعرض نفسه على القبائل ليناصروه، فمن القبائل من رده كثقيف، ومنهم من قبله بشرط وهم بنو تميم؛ اشترطوا عليه أن يكون لهم الأمر من بعده، فحدود غايتهم وهمتهم حطام الحياة الدنيا، وهذا خلل في الهمة والعزيمة.
لكن لما جاء الأنصار في بيعة العقبة وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استوثق لنفسه منهم، قالوا: {فما لنا يا رسول الله؟ قال: لكم الجنة، قالوا: ربح البيع..! لا نقيل ولا نستقيل} فهناك كانت همتهم ومرادهم التي تجاوزت مقاييس الحياة الدنيا فكان منهم من قتل في سبيل الوفاء بهذه البيعة، وأما من لم يقتل فقد كان يشعر أنه ضعف عن نيل الجنة، وهكذا كانت مبايعة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد وعلى النصرة، كما بايعوه أيضاً تحت الشجرة، وهم مع هذا -وفي كل غزوة- يؤكدون ذلك العهد إما بالقول أو بالعمل؛ فأثبتوا بذلك أنهم أقوى الناس عزيمة وإرادة، وأعلاهم همة.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد أكثر من دخل في الإسلام حديثاً؛ ثبت هؤلاء الصحابة الكرام ولم تضعف هممهم وعزائمهم؛ بل جاهدوهم حتى أعادوهم إلى الإسلام، ثم حاربوا الفرس والروم حتى فتح الله تعالى على أيديهم البلاد الواسعة، فعزيمتهم لم تنقطع ولم تنفسخ، لكن ضعف الهمم وانفساخ العزائم طرأ على من بعدهم كحال كثير من الخلق؛ فجدير بالإنسان أن يوطن نفسه على أن تكون همته عالية وغايته عظيمة، وعلى أن لا تنفسخ همته مهما كان الحال، ولا شك أن هذا من ابتلاء الله سبحانه وتعالى لعباده، وله في ذلك حكمة، إذ لو أن كل من عزم على شيء أنفذه وأتمه لما تفاضل المؤمنون في درجات الإيمان ومنازل التقوى، ولكن هذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى لعباده؛ ليظهر الصادق من غيره، ويمحص قلوبهم، وليتخذ منهم شهداء، ويرفع بعضهم فوق بعض درجات، فالإنسان يجب عليه أن يوطن نفسه على الصبر، وأن يستمر على قوة الصبر واليقين والعزم إلى آخر الطريق، وقول المصنف: "وقد يمرض القلب.." إلى آخر قول الحسن البصري هي من كلام ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان من صفحة (68-70) من الجزء الأول، مع حذف بعض الآثار.
قال ابن القيم رحمه الله: "لضعف علمه وبصيرته وصبره..." إلخ؛ فأما ضعف العلم والبصيرة؛ فلأن الإنسان إذا كان يسير في طريق وهو مستيقن وعالم حق العلم أن نهاية هذا الطريق هي الأمن والرخاء والسلامة، فإنه لا يبالي بما يعترضه من المشاق والمصاعب، وكذلك المؤمن، كل من يعلم -علم اليقين وحق اليقين- أن مصيره إن صبر واستقام على أمر الله إلى الجنة، ورضوان الله؛ لا يبالي في سبيل ذلك بما يلقاه من محن، وما يعترضه من العقبات، بل كل ما جاءه عقبة، أو فتنة أو محنة، ازداد إيماناً مثلما فعل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في غزوة الأحزاب كما قال تعالى: (( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ))[الأحزاب:22].
هذا حال الصحابة؛ ثبتوا في وقت الفتنة والمحنة بخلاف المنافقين الذين كانوا يتسللون لواذاً ويودون أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنباء المعركة وذهبت ظنونهم كل مذهب وظنوا بالله ظن السوء.
والصحابة لم يزدهم هذا الابتلاء العظيم إلا ثباتاً وإيماناً وتسليماً ويقولون: (( هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ))[الأحزاب:22] أي: هذه الغربة وهذا البلاء والامتحان هو ما كنا نتوقعه وصدق الله ورسوله. كحال الشاب المؤمن التقي إذا اهتدى وتمسك وسار على أمر الله، فأخذ الناس يؤذونه ويتهمونه؛ فيقول: صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، هذا الذي كنت أتوقع، فقد كان الناس يثنون علي وقت غفلتي ولما اهتديث ذموني وآذوني. وهذا هو طريق الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد قيل لهم مثل هذا وأشد، وأوذوا أشد الأذى، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا، فعلي كذلك أن أصبر، ويحتمل كل ذلك لعلمه بأن الابتلاء سنة ماضية، وأن منهجه الذي يسير عليه هو المنهج الحق، وهذا هو الواجب في مثل هذه الابتلاءات والفتن.
فالعلم والبصيرة إذا وُجِدَا لم يكن هناك ضعف ولا انقطاع في الطريق، بخلاف ما إذا فقدا؛ فإنه إن أصيب ببلاء من أذى الناس شك في أمره، واستوحش من الطريق الذي سلكه؛ فيظفر به الشيطان بعد ذلك لضعف علمه وبصيرته، وكذلك لضعف صبره؛ إذ ليس كل أحد يصبر على هذا الأمر.