قال المصنف عن الأصل الثالث: [أنه يتضمن أنه أخبر بذلك وأظهره قبل وجود المخلوقات إخباراً مفصلاً، فيقتضي أنه يمكن أن يُعْلِمَ العبادَ الأمور قبل وجودها علماً مفصلاً] أي: أن مما يدل عليه أصل الإيمان بالقدر أنه سبحانه وتعالى أخبر بذلك، وأظهره قبل وجود المخلوقات، وأطلع العباد على بعضه لا كله، فلا أحد أبداً يطلع على علم الله الكلي، لكنه عز وجل يطلع بعض العباد على ما يشاء كما قال تعالى: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ))[الجن:27] وحتى غير الرسل، فقد يطلع الله سبحانه وتعالى بعض خلقه، قال تعالى: ((وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ))[البقرة:255] ومما يشاء الله أن يطلع عليه العباد كافرهم ومؤمنهم (الرؤيا)، وقد سبق أن قلنا: إن رؤيا الكفار قد تقع وتكون حقيقة، ومثل ذلك في القرآن -في سورة يوسف- رؤيا الملك على القول بأنه غير مسلم؛ وقد ورد عن مجاهد رحمه الله أنه كان مسلماً، لكن الذي يظهر أنه حتى وإن كان مسلماً فربما أنه لم يسلم إلا بعد أن دعاه يوسف عليه السلام إلى الإسلام والله أعلم.. بل حتى فرعون، لما جعل الناس شيعاً وبالذات بني إسرائيل، قال تعالى: ((إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ))[القصص:4] وهم بنو إسرائيل، كان ((يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ))[القصص:4]، فلماذا كان يقتل الذكور دون الإناث؟
الذي يظهر أن ذلك كان بسبب رؤيا رآها، وقال بعضهم: أخبره منجمون، لكن الأقرب أنها رؤيا رآها؛ أن غلاماً يولد من بني إسرائيل، يكون زوال ملكه على يديه، أو نحواً من ذلك، ومثل هذا قد وقع.
والأمثلة على ذلك كثيرة، فهو عز وجل يطلع بعض عباده بالرؤيا، أو بالإخبار أو الوحي بشيء من الغيب، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عباده، كما أخبر عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأمور عجيبة غريبة ما كان أحد يصدقها ولا تخطر له على بال؛ منها أن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو النبي الأمي، الذي كان مستضعفاً في مكة، ثم فر بدينه إلى المدينة وهو لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، ولا كان مؤرخاً يتوقع سقوط أمم وقيام أخرى.. كيف يقول صلى الله عليه وسلم قول الصادق الجازم المتيقن: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده! لتنفقن كنوزهما في سبيل الله !}؟ من يستطيع أن يقول: إنه قال هذا لأنه مؤرخ أو مفكر، أو حكيم ينظر في أحوال الأمم؟ ويستنتج أنها سوف تسقط، وأن خزائنها ستنفق في سبيل الله، وأن هذه الأمة المستضعفة سيورثها الله تعالى الأرض، وتتمكن من هاتين المملكتين الكبيرتين التي ما كان العرب يعلمون إلا القليل عنها، أما التفكير في أن يزيلوها أو يحكموها، فقد كان بالنسبة لهم أبعد من المحال، وتحقق ذلك كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه، وما أكثر ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال الذي هو (شر غائب ينتظر) فقد وصفه وصفاً دقيقاً فإذا خرج عرفه كل من علم وصف النبي صلى الله عليه وسلم له؛ حتى وإن اتبع الدجال.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمور مستقبلة كثيرة فمنها ما وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم ومنها ما سيقع كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه.. وهذا من إطلاع الله تعالى له.
وهذا دليل على أن هذا الأمر مقدر مكتوب موجود من قبل، فيقول رحمه الله: [أنه يتضمن أنه أخبر بذلك، وأظهره قبل وجود المخلوقات إخباراً مفصلاً، فيقتضي أنه يمكن أن يعلم العباد بالأمور قبل وجودها علماً مفصلاً، فيدل ذلك بطريق التنبيه على أن الخالق أولى بهذا العلم؛ فإنه إذا كان يعلم عباده بذلك، فكيف لا يعلمه هو؟] سبحانه وتعالى ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ))[الملك:14] فالله سبحانه وتعالى يعلم الغيب كله.. دقيقه وجليله، فإذا أعلم بعض خلقه بأمور ووقعت كما أعلمهم كان هذا دليلاً على أن هذا مطابق لعلمه سبحانه وتعالى، ولهذا ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف في إثبات القدر قال: [[ألا تقرءون قوله تعالى: ((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))[الجاثية:29] ولا يكون النسخ إلا عن أصل]].
فنحن نعمل والملائكة كل يوم تكتب ما نعمل، كما أمرها الله سبحانه وتعالى، لكن العرضة الأخيرة عندما يعرض على الإنسان عمله تؤخذ من اللوح المحفوظ، ففي كتاب الملك إذا أذنب العبد ثم استغفر منه، فإنه يمحى عنه الذنب، أو أنه لم يكتبه الملك ينتظر أن يستغفر، أو انتظره فلم يستغفر فكتب، فإذا كان العبد يعمل الصالحات، وربما يذنب ويعصي ثم يتوب، ثم ارتد -عياذاً بالله- فعندها يتحول ديوانه تحولاً كلياً، فالوضع الذي استقر عليه في النهاية هو ما في أم الكتاب، وعند الحساب تأتي الملائكة بالنسخة المطابقة لما في اللوح المحفوظ، ولهذا تقول الملائكة: ((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))[الجاثية:29] وفهم بعض السلف من الآية أنهم لم يكونوا يكتبون أعمالهم، وإنما يستنسخون ما في اللوح المحفوظ، والنسخ إنما يكون عن أصل، وذلك عندما يطلعهم الله تعالى على ديوان كل إنسان، فينقل كما هو؛ لأنه لم يخرج عمله وسعيه عما فيه، فإذا كان عز وجل يُعلِم عباده بذلك، فكيف لا يعلمه هو تبارك وتعالى؟!