المادة كاملة    
لقد أمرنا الله تعالى بالإيمان بالقرآن، والتسليم لما جاء به، واعتقاد كماله، وأخبر أنه لو كان من عند غير الله لوجد الناس فيه اختلافاً كثيراً؛ فالخوض فيه بالمعارضة وعدم التسليم لما جاء به منهي عنه؛ لأنه مناف للإيمان به، بل وسبب للزيغ والضلال، وما انحرف من انحرف وضل من ضل إلا لمجادلتهم في القرآن، وعدم تسليمهم لما جاء به، ومعارضتهم له بأهوائهم وآرائهم.
  1. الجدال والاختلاف في القرآن

     المرفق    
    قال الطحاوي رحمه الله:
    [ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو كلام الله تعالى، لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين]
    قال المصنف رحمه الله:
    [فقوله: "ولا نجادل في القرآن" يحتمل أنه أراد: أنا لا نقول فيه كما قال أهل الزيغ واختلفوا، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، بل نقول: إنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين... إلى آخر كلامه.
    ]. اهـ
    1. ذم الخوض في القرآن والاختلاف فيه

      المراء والجدال في كتاب الله ودينه -بل حتى فيما دون ذلك- هو مما نهينا عنه، وليس هو من عقيدة أهل السنة والجماعة، ولا من شأنهم، ولا من صفاتهم، وإنما الذي عليه أهل السنة هو المجادلة بالتي هي أحسن، أما ما كان في دين الله واضحاً ومعلوماً لدينا، فلا نجادل فيه أهل البدع ولا نماريهم، بل ننصح العامة بألا يجادلوهم، ونقول لهم: هذا كلام الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن قبلتموه فأنتم مؤمنون، وإن رفضتموه فأنتم منحرفون.
      وقد قال يزيد بن هارون رضي الله عنه -وهو من الأئمة الثقات-: [[نحن أخذنا علمنا عن التابعين، عن الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم عمن أخذوا؟!]] أي: نحن أخذنا ديننا وعقيدتنا بالتلقي عن التابعين، والتابعون عن الصحابة، والصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
      أما أهل البدع فعمن أخذوا عقيدتهم؟ وما هو سندهم؟! لا تجد أهل الزيغ والضلال إلا ويكون مرجعهم: أقوال أفلاطون و أرسطو وأقوال الصابئة واليهود الذين مرجعهم إلى عقولهم.
      فقوله: "ولا نجادل في القرآن" يظهر لنا أنه يقصد ما قاله أهل البدع: من أن القرآن مخلوق، ولدينا قرينة من كلامه رحمه الله، وهي قوله: "ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين" إذاً: يقصد بذلك أننا لا نقول: إن القرآن مخلوق، ولا نماري فيه كما مارى فيه أهل البدع الذين ذكرهم الله بقوله: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ))[آل عمران:7] وهي الفرق والطوائف التي تدعي الإيمان بالقرآن وتجادل فيه، وهي زائغة ضالة عن هداه، وعن الحق الذي نزل به.
    2. ذكر أقوال أهل الضلال في القرآن

      ومذاهب وأقوال أهل الضلال في القرآن كثيرة:
      الأول: أن كلام الله فيض من المعاني يفيض على النفوس، وهو قول الفلاسفة وأشباههم، يقول أفلاطون : يفيض من العقل الفعال أو العقل الأول، وهذا موجود في كلام بعض الصوفية، ويرد أحياناً في كلام أبي حامد الغزالي رحمه الله.
      والثاني: أنه مخلوق، وهذا قول المعتزلة .
      الثالث: أنه معنى واحد قائم بالذات، وهو قول الكلابية والأشعرية، ومن وافقهم في ذلك.
      الرابع: قول من قال: إنه قديم النوع والآحاد، أي: حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل.
      الخامس: أنه حروف وأصوات؛ ولكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، أي: تحول من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي؛ وهو قول الكرامية .
      السادس: أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته، وهو قول ابن ملكا، والرازي أيضاً يميل إليه أحياناً، كما في كتابه المطالب العالية .
      السابع: أن كلامه يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره، وهو قول الماتريدية .
      الثامن: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات، وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات، وهذا قول بعض الأشعرية كـأبي المعالي ومن اتبعه.
      وهذه الأقوال قد سبق شرحها، ولا يهمنا منها إلا أن نعلم أنها على باطل، وأنها خاضت في القرآن بغير حق، وأنها جادلت فيه ومارت، وخرجت عما شرعه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وثبت في الأحاديث الصحيحة من تفسيره صلى الله عليه وسلم لما جاء في القرآن، من أن الله تعالى كان وما يزال متكلماً، يتكلم متى شاء بما شاء، وأن القرآن كلام الله تعالى على الحقيقة، منه بدأ وإليه يعود، وأنه نزل به جبريل الروح الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم نقله إلينا عن جبريل، عن ربه عز وجل كاملاً غير منقوص.
      وقوله: "وهو كلام الله تعالى، لا يساويه شيء من كلام المخلوقين" فكما أنه سبحانه وتعالى لا يشبهه شيء من المخلوقين: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11] فكذلك ليس كمثله شيء في صفاته سبحانه وتعالى؛ كلامه وسمعه وبصره وحياته وقيوميته وإرادته ورحمته وكل صفاته.
      ثم قال: "ولا نقول بخلقه" نص على هذه المسألة؛ لأن أشهر الفرق: من قال بخلقه، وما عداها من الأقوال فهي أقل منها ذكراً، وإن كان بعضها أشد كفراً، كقول الفلاسفة وأمثالهم.
      لكن المعتزلة ومن تبعهم من الكلابية والأشعرية يوافقوننا على أن قول الفلاسفة كفر، ولكنهم يدعون أن ما هم عليه هو الحق، ومن هنا جاء التلبيس على الأمة.
      ولا تزال هذه الاعتقادات الباطلة إلى اليوم؛ فـالروافض الشيعة الإثني عشرية على كثرتهم، والخوارج الإباضية؛ هم إلى اليوم يرون أن القرآن مخلوق على ما تقوله المعتزلة نصاً وحرفاً.
      وأما الأشعرية فيفرقون بين الكلام النفسي والكلام اللفظي؛ فيقولون: إن الكلام النفسي غير مخلوق، وأما هذا فهو مخلوق، وهذا من التناقضات أو التلفيقات التي يريدون أن يوفقوا فيها بين الوحي والعقل بزعمهم، فهم لم يتبعوا السنة المحضة، ولم يتبعوا الاعتزال المحض، بل خلطوا بين القولين، وولدوا بينهما قولاً ثالثاً هو خطأ عند الطرفين المختلفين اللذين تنازعا في زمن الإمام أحمد رحمه الله؛ حيث تنازع الإمام أحمد رحمه الله مع المأمون والمعتصم وابن أبي دؤاد، فهؤلاء يقولون: مخلوق، وهو يقول: غير مخلوق، ثم تولد القول الثالث بعد ذلك وأُحدث على يد ابن كلاب وأمثاله، وانتشر وظهر.
    3. قول أهل السنة والجماعة في كلام الله

      ومذهب أهل السنة في هذه المسألة كما تقدم من كلام المصنف: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يُسمع، وهذا قول أهل السنة ولا بأس أن نشرحه.
      قولهم: (لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء)، فهو: ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ))[هود:107].
      (وهو يتكلم به بصوت يسمع) هذا رد على من قال: إن الكلام هو الكلام النفسي، فإن الله تعالى لما كلم موسى عليه السلام كلمه بصوت سمعه موسى، وعندما ينادي يوم القيامة، كما جاء في الحديث الصحيح: {فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب} وهذا من اختصاص كلام الله وصوت الله تعالى، وأما غيره فلا يتحقق فيه هذا.
      وهنا عبارة قد تشكل، وهي قول البعض: (وإن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً) معنى قديم: لا أول له، أي: أنه أزلي، والكرامية تقول: إنه تعالى لم يكن متكلماً ثم تكلم، وهو معنى قولهم: (إنه تحول من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي) وقولهم هذا مخالف لقول أهل السنة؛ فـأهل السنة يعتقدون أن الله تعالى متصف بصفات الكمال أزلاً، وهو الأول والآخر، فهو يتكلم، ونوع الكلام قديم ليس له أول، أما آحاده فلا، ويدل على هذا كلام المصنف السابق: (وإن لم يكن الصوت المعين قديماً) يعني: أن الكلام الذي تكلم الله به مع موسى عليه السلام -مثلاً- لا نقول: إنه كلام أزلي قديم، إنما تكلم به الله بعد أن لم يكن قد تكلم به، والكلام الذي يتكلم به يوم القيامة، فإنه يتكلم به بعد أن لم يكن قد تكلم به، وفي هذا رد على من زعم أنها حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وأن كلام الله قديم النوع وقديم الآحاد.
      والحق الذي عليه أهل السنة أن النوع قديم أما الآحاد فمتجددة.
      والقديم هو بمعنى اسمه الأول، وإن كان الأولى أن نقول: صفات أزلية، أو لا أول لها، ولكن بعض علماء أهل السنة يستخدمون كلمة (قديم)، ومنهم المصنف ابن أبي العز رحمه الله؛ لأنها اشتهرت عند العلماء بمعنى الأول؛ لا بمعنى ما يقابل الجديد، ولا بمعنى أنه متقدم على غيره.
    4. الرد على الأشاعرة في مسألة الكلام

      الأقوال التي ينبغي أن تعلم هي ثلاثة أقوال:
      الأول: قول أهل السنة، وقد عرفناه.
      الثاني: قول المعتزلة وهو معروف، وهو قول الشيعة الزيدية، والإثني عشرية والخوارج وأمثالهم وهو أنه مخلوق، فكما أن الله خلق الشجرة، وخلق آدم، وخلق عيسى وخلقنا، فكذلك خلق الكلام.
      الثالث: وهو قول الكلابية والأشعرية، وهو التفريق بين الكلام النفسي والكلام اللفظي، فهم يقولون: إن الكلام في الحقيقة هو الكلام النفسي، أي: الذي في النفس، ويستشهدون على ذلك بأدلة، منها قوله تعالى: ((وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ))[المجادلة:8] وقول عمر : [[زورت في نفسي كلاماً...]] وغيرها، ويقولون: هذا هو الكلام، وأما ما يعبر به اللسان -أي النطق- فهو إما تعبير عن الكلام النفسي، أو حكاية عنه، أو تمثيل للكلام النفسي، ويستدلون بهذا البيت الذي قاله الأخطل النصراني :
      إن الكلام لفي الفؤاد وإنما            جعل اللسان على الفؤاد دليلا
      فيقولون: إن الكلام هو الكلام النفسي.
      وهذا البيت قد نازعهم العلماء في الاستدلال به من وجوه كثيرة:
      الأول: من حيث لفظه؛ فإن المشهور أنه:
      إن البيان لفي الفؤاد وإنما            جعل اللسان على الفؤاد دليلا
      بمعنى أن البيان في القلب والكلام في اللسان، فالكلام يعبر عما في القلب، وهذا معلوم عند العقلاء جميعاً... وهذا على تقدير ثبوت هذا البيت.
      الثاني: أن يقال: عجباً لكم أيها الأشعرية ! بيت مفرد مشكوك في نسبته وألفاظه، لشاعر نصراني -وهو الأخطل - تجعلونه عمدة لكم وتردون به كتاب الله، والأحاديث المتواترة الصحيحة، وإجماع السلف الصالح جيلاً بعد جيل، فقد ذكر الإمام اللالكائي رحمه الله طبقات أهل العلم طبقة عن طبقة، من الصحابة إلى التابعين وتابعيهم في الأمصار المختلفة، وكلهم يقولون: كلام الله غير مخلوق، وينكرون على من قال: إنه مخلوق، ومنهم من يقول عن ذلك القائل: كافر، ومنهم من يقول: ضال، وكما يقول ابن القيم : لو أخذنا من شعراء النصارى أي شيء، فلن نأخذ منهم ما يتعلق بموضوع الكلام بالذات؛ لأنهم يقولون: إن عيسى الكلمة، فاللبس والشبهة عند النصارى هي في مسألة الكلمة، وهي في معنى الكلام، فلا يؤخذ منهم هذا المعنى.
      فهذا هو الاحتمال الأول الذي ذكره المصنف رحمه الله في شرحه لقول الطحاوي: [ولا نجادل في القرآن] وأما الاحتمال الثاني فقد ذكره المصنف بقوله: [ويحتمل أنه أراد: أنا لا نجادل في القراءة الثابتة] وهذا موضوع لا علاقة له بمسائل العقيدة.
      وقد يحتمل كلام الطحاوي معنى ثالثاً، ولعله أولى، وهو عدم ضرب القرآن بعضه ببعض؛ لأن ذلك ينافي الإيمان بأنه حق كله، وأنه يصدق بعضه بعضاً، وأنه حوى الكمال، وقد تحدى الله به العالمين، فقال: ((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا))[الإسراء:88].
      وهذا النوع هو من أخطر أنواع الجدال، وهو يتنافى مع الإيمان بالقرآن حقيقة، ومع الإيمان بالله تعالى والاستسلام له كما أمر سبحانه وتعالى، ومن خطورة هذا الاتجاه أننا نعاني منه في هذه الأيام، ويقوم هذا المنهج البدعي على ضرب كلام الله بعضه ببعض، ومحاكمة كتاب الله إلى الأهواء والعقول والشهوات، ويرد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بناءً على الأهواء والآراء، والشبهات والشهوات.
  2. ذكر بعض أسباب ضلال الفرق الضالة

     المرفق    
    1. عدم فهم النصوص الشرعية سبب من أسباب الضلال

      قد تعرض الشاطبي رحمه الله في كتابه القيم الاعتصام إلى تعريف البدعة، وأنواعها، وأحكامها، ومناهج أهل البدع في الاستدلال، وأسباب ضلال أهل البدع، وله كلام في غاية الجودة ومنه قوله (2/801) "الباب العاشر: في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه سبل أهل الابتداع، فضلت عن الهدى بعد البيان".
      قال: "إن الله عز وجل أنزل القرآن عربياً لا عجمة فيه، بمعنى أنه جارٍ في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب؛ قال الله تعالى: ((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا))[الزخرف:3]، وقال تعالى: ((قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ))[الزمر:28]، وقال تعالى: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ))[الشعراء:193-195] وكان المنزل عليه القرآن عربياً أفصح من نطق بالضاد، وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وكان الذين بعث فيهم عرباً أيضاً، فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم.
      فليس فيه شيء من الألفاظ والمعاني إلا وهو جارٍ على ما اعتادوه، ولم يداخله شيء، بل نفى عنه أن يكون فيه شيء أعجمي، فقال تعالى: ((وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ))[النحل:103]، وقال تعالى في موضع آخر: ((وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ))[فصلت:44]..." إلى آخر كلامه.
      ومسألة وجود ألفاظ في القرآن أصلها أعجمي ليس من مقصودنا؛ مع أنه لو وجدت فيه كلمات أصولها أعجمية، فإن الكلمة إذا عربت واستخدمها العرب صارت عربية، كما أنه يوجد الآن في كثير من لغات العالم كلمات عربية قد صارت من ضمن كلامهم؛ لأنهم عجموها؛ وهي كلمات كثيرة؛ لاسيما في اللغات القريبة؛ مثل الحبشية، والتركية، والهندية والإيطالية، والفارسية، وهي في الفارسية أكثر، وهذه قاعدة وأصل من أصول الفهم.
      ومن أسباب ضلال الفرق: العجمة وعدم فهم القرآن، والأمثلة على ذلك كثيرة، فهم إما أنهم لا يفهمون القرآن، وإما أنهم يستخدمون الكلمة في غير موضعها، فمثلاً يقول الله تعالى: ((قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ))[المؤمنون:88] وكلمة الملكوت وردت في القرآن في أكثر من موضع، فيقول: أبو حامد الغزالي العالم عالمان: عالم الدنيا، وعالم الملكوت، وأحياناً يقول: عالم الملكوت، وعالم الجبروت والعالم المشهود، وعالم الملائكة وعالم العقول العشرة، فالملكوت عندهم عالم آخر وليس هذا هو معنى الملكوت الوارد في القرآن.
    2. أمثلة لما عليه أهل الضلال من عدم فهم القرآن

      ذكر الشاطبي رحمه الله أمثلة لكلام الذين ضلوا في الشريعة بسبب عدم فهم القرآن، قال: "أحدها: قول جابر الجعفي في قوله تعالى: ((فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي))[يوسف:80] أن تأويل هذه الآية لم يجئ بعد، وكذب؛ فإنه أراد بذلك مذهب الرافضة ؛ فإنها تقول: إن علياً في السحاب، فلا يخرج مع من خرج من ولده، حتى ينادي علي من السماء: اخرجوا مع فلان؛ فهذا معنى قوله تعالى: (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي) الآية عند جابر؛ حسبما فسره سفيان من قوله: لم يجئ بعد. قال سفيان : وكذب، بل هذه الآية كانت في إخوة يوسف".
      قال: "ومن كان ذا عقل، فلا يرتاب في أن سياق القرآن دال على ما قاله سفيان، وأن ما قاله جابر لا ينساق".
      ثم ذكر الإمام الشاطبي مثالاً آخر، فقال: "والثالث: قول من زعم أن المحرم من الخنزير إنما هو اللحم، وأما الشحم فحلال، لأن القرآن إنما حرم اللحم دون الشحم، قال: ولو عرف أن اللحم يطلق على الشحم أيضاً -بخلاف الشحم فإنه لا يطلق على اللحم- لم يقل ما قال".
      يستدل هذا الجاهل بقول الله تعالى: ((قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ))[الأنعام:145]، فيقول: إن الله حرم لحم الخنزير في هذه الآية، فبأي دليل تحرمون الشحم؟! وهذا من جهله، والعجمة من أسباب ذلك؛ لأنه في لغة العرب أن اللحم يطلق على اللحم والشحم، فإذا قلت: أريد أن أشتري لحم بقر، كان معناه واضحاً، وهو أنك تريد أن تشتري لحم بقر لا لحم سمك ولا لحم غنم، وليس مقصودك أنك تريد لحماً بدون عظام ولا شحم.
    3. الصحابة والتابعون هم المرجع في فهم النصوص

      لما كان القرآن عربياً ونزل على أفصح العرب صلوات الله وسلامه عليه، فتلقاه أفصح الناس بعده، وهم الصحابة الكرام، فلا يجوز لنا العدول عن فهمهم للقرآن؛ لا بجدال ولا بمراء؛ لأنه إن كان تفسيره بالقرآن، فهم أفهم منا للقرآن، وإن كان تفسيره بالسنة، فالسنة إنما نقلت عن طريقهم، وإن كان تفسير القرآن يفسر بكلام الصحابة والتابعين، فهم الصحابة والتابعون، وإن كان بكلام العرب فهم أفصح العرب وأعلمهم باللغة؛ فانحصرت طرق تفسير القرآن جميعاً في فهمهم، فنفهمه كما فهموه.
      يقول الشاطبي : "وإذا ثبت هذا، صح منه أن القرآن في نفسه لا اختلاف فيه" أي: لا يوجد فيه تناقض، قال تعالى: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا))[النساء:82] ثم يقول: "ثم نبني على هذا معنى آخر، وهو أنه لما تبين تنزهه عن الاختلاف، صح أن يكون حكماً بين جميع المختلفين؛ لأنه إنما يقرر معنى هو الحق، والحق لا يختلف في نفسه؛ فكل اختلاف صدر من مكلف، فالقرآن هو المهيمن عليه".
      أي: لا نجادل في القرآن ولا نضرب بعضه ببعض؛ لأن القرآن هو الذي يحسم الجدل، ويقطع النزاع؛ فلا نجعله هو مادة للنزاع والجدل.
      وهذا فرق كبير جداً بين أهل البدع وأهل السنة ؛ فأهل البدع جعلوا القرآن نفسه موضع جدل؛ فمن يحكم بينهم إن كان القرآن هو موضع الجدل بذاته؟! وأما أهل السنة فجعلوا القرآن حكماً يفصل بين الخلق فيما يتنازعون فيه.
  3. وجوب اعتقاد كمال الشريعة وأنه لا تضاد فيها

     المرفق    
    قال الشاطبي: "قال الله تعالى: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا))[النساء:59] فهذه الآية وما أشبهها صريحة في الرد إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة نبيه؛ لأن السنة بيان الكتاب، وهو دليل على أن الحق فيه واضح، وأن البيان فيه شاف، لا شيء بعده يقوم مقامه.
    وهكذا فعل الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة، ردوها إلى الكتاب والسنة، وقضاياهم شاهدة بهذا المعنى، لا يجهلها من زاول الفقه؛ فلا فائدة في جلبها إلى هذا الموضع لشهرتها؛ فهو إذاً مما كان عليه الصحابة، فإذا تقرر هذا فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة أمران:
    أحدهما: أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النقصان، ويعتبرها اعتباراً كلياً في العبادات والعادات، ولا يخرج عنها ألبتة؛ لأن الخروج عنها تيهٌ وضلالٌ ورمي في عماية؛ كيف وقد ثبت كمالها وتمامها؟! فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق، والمنحرف عن الجادة إلى بنيَّات الطريق.
    والثاني: أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن، ولا بين الأخبار النبوية، ولا بين أحدهما مع الآخر".
    1. مبتدعة العصر يردون السنن بدعوى معارضة القرآن

      وهذا الذي ذكره هو ما لا يريد أهل البدع المعاصرة أن يؤمنوا به، فقد ردوا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما من الصحيفة التي أخرجها علي رضي الله عنه، لما زعمت الروافض أن النبي صلى الله عليه وسلم اختصه بشيء من العلم، قال علي رضي الله عنه: {والذي خلق الحبة، وبرأ النسمة، لم يخصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة، وأخرجها، وإذا فيها: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر}. وقالوا: هذا يعارض القرآن؛ لأن في القرآن: ((وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ))[المائدة:45] والكافر نفس، والمسلم نفس، فالحديث يعارض القرآن، فنحن نرده؛ لأن كتاب الله هو المقدم.
      فيجعلون ذلك من باب الغيرة على كتاب الله.
      فهذه القاعدة التي أصلها الشاطبي رحمه الله في التأدب مع كتاب الله ترد عليهم، وهي: (أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن، ولا بين الأخبار النبوية، ولا بين أحدهما مع الآخر).
      ثم يقول الشاطبي: "بل الجميع جارٍ على مهيع واحد -يعني على منهج واحد- ومنتظم إلى معنى واحد؛ فإذا أدّاه بادي الرأي إلى ظاهر اختلاف، فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الاختلاف".
      ورحمة الله على الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ؛ فإنه ألف كتاباً نفيساً في هذا المعنى سماه: دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب .
      يقول الشاطبي رحمه الله: "فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الاختلاف؛ لأن الله قد شهد له أنه لا اختلاف فيه؛ فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع، أو المسلِّم من غير اعتراض؛ فإن كان الموضع مما يتعلق به حكم عملي، فليلتمس المخرج حتى يقف على الحق اليقين" أي: إن كان في أمور الاعتقاد فإننا نسلم من غير اعتراض، مثل ما مر معنا في حقيقة أرواح الشهداء وأرواح الأنبياء وأنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى يصلي في قبره، وأنه صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء في بيت المقدس، ثم قابلهم في السماء؛ فنسلم بهذا ونصدقه، ولا نجادل في أمور الغيب.
      أما في المسائل العملية، فيقول رحمه الله: "فإن كان الموضع مما يتعلق به حكم عملي؛ فليلتمس المخرج حتى يقف على الحق اليقين، أو يبقى باحثاً إلى الموت، ولا عليه من ذلك". يعني: لو بقيت تبحث عن مسألة إلى أن تموت ولم يتبين لك وجه الحق الراجح فيها، فليس عليك شيء؛ لأنك تلقى الله وأنت طالب حق.
    2. وجوب التسليم المطلق بكمال الشريعة

      يقول: "فإذا اتضح له المغزى، وتبينت له الواضحة فلابد (له) من أن يجعلها حاكمة في كل ما يعرض له من النظر فيها..." إلى أن قال: "فأما الأمر الأول: فهو الذي أغفله المبتدعون، فدخل عليهم بسبب ذلك الاستدراك على الشرع".
      ويعني بالأمر الأول النظر إلى الشريعة بعين الكمال لا بعين النقص، وهذا النوع أغفله من زادوا في الشريعة أو نقصوا منها؛ ظانين أن حسن النية يشفع لهم؛ مثل من ابتدعوا المولد؛ فإنهم يقولون: المولد أمر حسن؛ فإننا إنما نذكر الله ونقرأ سيرة رسوله صلى الله عليه وسلم نشراً لذكر الله وحباً في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      وهذه المقتضيات التي يذكرونها كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأي شيء توفرت دواعيه ومقتضياته ولم يعملوه -من غير أن يمنعهم منه مانع- ففعله بدعة.
      ثم يقول رحمه الله: "وإليه مال كل من كان يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال له ذلك، ويحذر ما في الكذب عليه من الوعيد؛ فيقول: لم أكذب عليه، وإنما كذبت له!". وأوضح الأمثلة على ذلك ما وضع في فضائل السور سورة سورة؛ فلما أنكر على واضع ذلك، قال: ما كذبت عليه وإنما كذبت له، حتى يهتم الناس بقراءة القرآن.
      وما عمل هؤلاء ما عملوا إلا لأنهم يظنون أن الشريعة ناقصة في جانب الترغيب، أو جانب الترهيب، أو جانب المحبة لله ولرسوله وللمؤمنين، أو أي جانب من الجوانب، هذا هو الخلل الأول.
      قال الشاطبي رحمه الله: "وحكي عن محمد بن سعيد المعروف بـالأردني أنه قال: إذا كان الكلام حسناً لم أر بأساً أن أجعل له إسناداً، فلذلك كان يحدث بالموضوعات، وقد قتل في الزندقة وصلب".
    3. وجوب اعتقاد أنه لا تضاد بين نصوص الوحي

      ثم يذكر الشاطبي رحمه الله الأمر الثاني الذي على الناظر في الشريعة أن ينتبه له، لأنه من أسباب الضلال والابتداع، وهذا هو المهم لدينا؛ لأننا نبحث في موضوع النهي عن المجادلة في القرآن، فيقول عنه: "وأما الأمر الثاني: فإن قوماً أغفلوه أيضاً، ولم يمعنوا النظر حتى اختلف عليهم الفهم في القرآن والسنة؛ فأحالوا بالاختلاف عليها تحسيناً للظنّ بالنظر الأول، وهذا هو الذي عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حال الخوارج ؛ حيث قال: {يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم} فوصفهم بعدم الفهم للقرآن، وعند ذلك خرجوا عن أهل الإسلام؛ إذ قالوا: لا حكم إلا لله، وقد حكم الرجال في دين الله -يعنون علياً رضي الله عنه- حتى بين لهم حبر القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما معنى قوله تعالى: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ))[الأنعام:57] على وجه أذعن بسببه منهم ألفان، أو من رجع منهم إلى الحق، وتمادى الباقون على ما كانوا عليه؛ اعتماداً -والله أعلم- على قول من قال منهم: لا تناظروه ولا تخاصموه؛ فإنه من الذين قال الله فيهم: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ))[الزخرف:58]".
      قالت الخوارج: إن ابن عباس هذا هو من قريش، والله تعالى ذكر في القرآن عنهم أنهم قوم خصمون، فقال: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ))[الزخرف:58] قالوا: هذا وصف لقريش، وعبد الله بن عباس من قريش.
      وما درى هؤلاء الخوارج أن الذين أنزل فيهم قول الله تعالى: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ))[الزخرف:58] هم الذين خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم بشأن عيسى بن مريم عليه السلام، وقالوا: ((أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ))[الزخرف:58].
      فاستدلوا بذلك على بطلان كلام ابن عباس، وهو قد استدل عليهم من القرآن والسنة بأن قولهم باطل.
    4. ذكر أمثلة على ضرب النصوص ببعضها وبيان موضع الخلل في فهمها

      ثم قال الشاطبي رحمه الله: "فتأملوا -رحمكم الله- كيف كان فهمهم في القرآن، ثم لم يزل هذا الإشكال يعتري أقواماً حتى اختلفت عليهم الآيات والأحاديث، وتدافعت على أفهامهم، فجعجعوا به قبل إمعان النظر. ولنذكر من ذلك عشرة أمثلة:" وهذه من الأمثلة التي سألها نافع بن الأزرق وغيره لـابن عباس قال: "أحدها: قول من قال: إن قوله تعالى: ((وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ))[الصافات:27] يتناقض مع قوله تعالى: ((فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ))[المؤمنون:101].
      والثاني: قول من قال في قوله تعالى: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ))[الرحمن:39] مضاد لقوله : ((وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ))[العنكبوت:13] وقوله تعالى: ((وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))[النحل:93].
      والثالث: قول من قال في قوله تعالى: ((قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ))[فصلت:9] إلى قوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ* فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْن))[فصلت:11-12]: إن هذا صريح في أن الأرض مخلوقة قبل السماء، وفي الآية الأخرى: ((أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا))[النازعات:27-30]، فصرح بأن الأرض مخلوقة بعد السماء.
      ومن هذه الأسئلة ما أورده نافع بن الأزرق أو غيره على ابن عباس رضي الله عنهما، فخرَّج البخاري في المعلقات عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لـابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ، وهي قوله تعالى: ((فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ))[المؤمنون:101]، ((وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ))[الصافات:27] وقوله: ((وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا))[النساء:42]، ((والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ))[الأنعام:23] فقد كتموا في هذه الآية... وقال: ((وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا))[النساء:96]، ((عَزِيزًا حَكِيمًا))[النساء:56]، ((سَمِيعًا بَصِيرًا))[النساء:58] فكأنه كان ثم مضى!
      فقال -يعني- ابن عباس : ((فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ)): في النفخة الأولى: ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ))[الزمر:68] فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الأخرى: (أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ).
      وأما قوله: (مَا كُنَّا مُشْرِكِين) مع قوله: (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)، فإن الله عز وجل يغفر لأهل الإخلاص ذنبهم -يعني: يغفر الله للموحدين-، وقال المشركون: -يعني: حين يرون ذلك- تعالوا نقل: لم نكن مشركين! فيختم على أفواههم؛ فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرفوا أن الله لا يُكتم حديثاً".
      يعني: تشهد عليهم جوارحهم وجلودهم، حتى أنهم ينكرون على جلودهم: ((وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا))[فصلت:21]، لأنهم يريدون أن يكتموا هذا الشيء: ((قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ))[فصلت:21].
      قال ابن عباس: "وعنده: ((يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ))[النساء:42].
      وقوله عز وجل: ((خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ)) .. ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ))[البقرة:29] آخرين، ثم دحا الأرض، ودحوها: أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله: ((دحاها))، وقوله تعالى: ((خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ))[فصلت:9] فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السماوات في يومين.
      ((وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا))[النساء:96] سمى نفسه بذلك، وذلك قوله -أي: لم يزل كذلك- فإن الله عز وجل لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلاّ من عند الله".
      أي: كله كلام الله، والله تعالى لا يمكن أن يقع في كلامه اختلاف ولا تناقض.
      ثم قال الشاطبي رحمه الله: "والخامس: قول من قال -فيما جاء في الحديث: إن رجلاً قال: يا رسول الله! نشدتك الله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه، وكان أفقه منه، فقال: صدق؛ اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي في أن أتكلم ... ثم أتى بالحديث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: أما الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك هذا جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأة هذا الرجم...} إلى آخر الحديث -: هو مخالف لكتاب الله؛ لأنه قد قال: {لأقضين بينكما بكتاب الله}؛ حسبما سأله السائل، ثم قضى بالرجم والتغريب، وليس لهما ذكر في كتاب الله.
      والجواب: إن الذي أوجب الإشكال في المسألة اللفظ المشترك في (كتاب الله)" أي: أنهم ظنوا أن معنى {لأقضين بينكما بكتاب الله} أي: بالقرآن منطوقاً، وليس الأمر كذلك، قال: بل كل ما كان من حكم الله أو فرض الله فهو كتابه، "فكما يطلق على القرآن يطلق على ما كتب الله تعالى عنده مما هو حكمه وفرضه على العباد، كان مسطوراً في القرآن أولاً، كما قال: ((كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ))[النساء:24] أي: حكم الله فرضه، وكل ما جاء في القرآن من قوله: ((كتاب الله عليكم)) فمعناه فرضه وحكم به، ولا يلزم أن يوجد هذا الحكم في القرآن.
      والسادس: قول من زعم أن قوله تعالى في الإماء: ((فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ))[النساء:25] لا يعقل مع ما جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ورجمتِ الأئمة بعده؛ لأنه يقتضي أن الرجم يتنصف، وهذا غير معقول، فكيف يكون نصفه على الإماء؟ ذهاباً منهم إلى أن المحصنات هن ذوات الأزواج، وليس كذلك، بل المحصنات هنا المراد بهن الحرائر".
      فالإشكال كان بسبب العجمة وعدم الفهم لمعنى المحصنة؛ فإن لها معنيين، الأول: بمعنى المتزوجة، وهذه هي التي ترجم إذا زنت، والثاني: بمعنى الحرة خلاف الأمة، وهذا هو المقصود هنا؛ فإذا زنت الأمة، فعليها نصف ما على الحرة، وبهذا يزول الإشكال.
      وبقي إشكال آخر من جهة الرجم؛ فنقول: قد قال بعض العلماء: أن النصف يتعلق بالجلد وحده أو بالحبس، وللعلماء والمفسرين أوجه أخرى في الجمع، وقد تكون صحيحة.
      والمقصود الاتفاق على ألاّ تضارب ولا تضاد في كتاب الله، فلا نضرب بعضه ببعض، ولا نضرب السنة بالقرآن، ولا نضرب القرآن بها.