وهناك بعض الجوانب التي توجب العلم بهذا الحديث، وضرورة حفظه ومعرفته، وأن نحفظه لأهلنا ولأبنائنا ونعلمه الناس:
أولاً: أن هذا الحديث اشتمل على مراتب الدين الثلاث: الإسلام، والإيمان، والإحسان، وكل مرتبة منها مذكور ومبين فيها أركانها جميعاً، ولهذا قال في آخره {
هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينك}، وكلمة الدين تشمل الإسلام والإيمان والإحسان، فديننا الذي أنزله الله تبارك وتعالى هو هذه المراتب الثلاث، ويشملها هذا الحديث جميعاً، بخلاف غيره من الأحاديث؛ فإنك قد لا تجد حديثاً شملها بهذا الترتيب، وإنما هناك أحاديث فيها نوع من التداخل، فتذكر بعضاً من أركان الإسلام مع بعض من أركان الإيمان.
ثانياً: أن هذا الحديث من آخر الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قبل وفاته بنحو ثمانين ليلة -كما ورد في بعض الروايات- أي: بعد عودته من حجة الوداع، قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم بمدة يسيرة وهذا مما يجعله شاملاً؛ لأن هناك أحاديث وردت فيها أركان الإيمان وأركان الإسلام، ولكن ليس فيها الأركان الخمسة للإسلام، أو ليس فيها الأركان الستة للإيمان؛ وذلك لأحد سببين: إما لأنها لم تكن قد فرضت كالحج مثلاً، فإن فرضه كان متأخراً، فهناك آيات وأحاديث تذكر الصلاة والصيام فقط ولا ذكر فيها للحج. وإما لأن المقام لم يكن مقام بيان لمراتب الدين جميعاً؛ بل كان لبيان بعض منها، فمثلاً: حديث وفد عبد القيس لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {
يا رسول الله! إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام فبم تأمرنا وبم تنهانا؟ قال: آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قال: أن تشهدوا أن لا إله إلا الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتدفعوا الخمس من المغنم} وله روايات أخرى صحيحة.
ففي هذا الحديث أن الإيمان خصه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض من أركان الإيمان، وبواجبات أخرى ليست مما ذكرت في حديث جبريل؛ لا من أركان الإيمان ولا من أركان الإسلام؛ إذاً اقتصار الحديث على المذكور أولاً مما يبين أن الحديث متقدم؛ لأنهم قالوا: (إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر)، وهذا يدل على أن هذا الحديث كان في وقت لم يكن الإسلام فيه قد عم
جزيرة العرب، أما في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانت
جزيرة العرب قد دخلت جميعاً في الإسلام ومنها مضر، فما جاء بعد ذلك فهو أوفى وأشمل.
ومثله حديث شعب الإيمان: {
الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة}، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الإيمان وبين شعبه، لكنه لم يفصل مراتب الدين الثلاث، ومن هنا نرى أن كل هذه الأحاديث لها فضلها وقيمتها، وهي بمجموعها تبين لنا حقيقة الإيمان ومعناه؛ لكن حديث جبريل عليه السلام يعتبر أعظمها وأبينها وأكثرها تفصيلاً.
ثالثاً: أن جبريل عليه السلام أتى بنفسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجلس بين يديه جلسة المتعلم أمام المعلم؛ وهذا دليل على أن الأمر مهم، فلو أن إنساناً علّم آخر وفهمه كل شيء، وتأكد من ذلك، إلا أنه يريد أن يراجع معه كل ما قد قيل ليسمع الآخرون الذين يريدون أن يتعلموا، أو يجب أن يعلموا مثلما علم هذا، فالمعلم سوف يسأل هذا التلميذ أو المبلّغ فيجمل ما قد علم ثم يفصله جميعاً ليسمع الآخرون الذين يجب عليهم أن يعلموا مثل ذلك، فجاء جبريل عليه السلام وهو المعلِّم الذي كان يعلم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الشرائع وهذه الأركان، وينزل بها منجمة حسب الحوادث، ثم في الأخير يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الهيئة الغريبة، وعندما يأتي إنسان غريب فإن ذلك أدعى إلى الانتباه والنظر، فالناس يتعجبون من هذا الغريب، لماذا جاء؟! وماذا يريد؟ ونحن لم نره من قبل ولا يعرفه منا أحد؟ وذلك لأن بيئة العرب في ذلك الزمن إذا جاء إنسان مسافر -ولاسيما وهم أهل الفراسة والذكاء- يعرفون من أي قبيلة هو؛ من شكله وكلامه، وهذا مظهره يدل على أنه ليس مسافراً؛ وليس من أهل
المدينة فهم معروفون، ومن العجيب أنه شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد.. كل واحد ينظر في الآخر.. الجميع مبهوتون من هذا الذي يسأل! لأنه إنسان خارج عن المعهود من حال العرب والأعراب، والزوار والوفود الذين يأتون إلى
المدينة ويسألون النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا السائل له حال تختلف كل الاختلاف عما هو معهود، ولهذا الصحابة رضوان الله تعالى عليهم تعجبوا منه؟! ثم عجبوا أكثر لما جلس جلسة السائل المتعلم المستفهم، ومع ذلك يسأله ويصدقه، قد يأتي وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله ليتعلم، لكن هذا يسأله ثم يقول: صدقت، هذا شيء عجيب! {
فعجبنا له يسأله ويصدقه} إذاً هذا ليس مقام المتعلم، وإنما هو مقام المعلم الذي يناقش من كان قد علمه، ويريد أن يعلم الآخرين، والنبي صلى الله عليه وسلم يبين المراد بقوله: {
أتاكم يعلمكم دينكم}، ولهذا حفظ الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ذلك الموقف كما رواه
عبد الله بن عمر عن أبيه
عمر رضي الله عنه.