إن الله سبحانه وتعالى يعلم أفعال العباد جميعاً، فما يفعلونه يعلم أنهم يفعلونه، وما لا يفعلونه أو لم يفعلوه يعلم أنهم لم يفعلوه، هذا مجمل هذه المسألة، فهو سبحانه وتعالى يعلم أن فلاناً يستطيع الفعل، وقد طلب الله تعالى منه ذلك ويعلم أنه سيفعله، ولذلك يثيبه عليه. كما يعلم أن فلاناً مستطيع أن يفعل، وأن الله طلب منه تلك الطاعة ولكنه لن يفعلها، ولذلك يجازيه بالعذاب والعقوبة؛ لأنه لم يفعل ما بإمكانه واستطاعته أن يفعله مع أمر الله تعالى له أن يفعل.
لكن تقول المعتزلة الغلاة: إنه يلزم من هذا أن يكون العبد قادراً على تغيير علم الله، فالله تعالى يعلم أنه لن يفعل ولكن بقدرته على الفعل قد يفعل، فيغير علم الله -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وأول ما نرد به على هؤلاء قبل أن ندخل معهم في الرد العقلي، أو بيان خطئهم وضلالهم في هذه المسألة، نبين لهم ضلالهم في تقدير الله تعالى حق قدره.
فإن القائلين بهذا ما قدروا الله حق قدره، ولا عرفوا الله حق معرفته، ولا عظموا الله عز وجل؛ ولهذا فإن المسألة عندهم بهذا القدر من الهوان، وأنه يمكن أن يغير العبد علم الرب، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! وسبحانه عما يصفون إلا عباد الله المخلصين. وهؤلاء ليسوا من عباد الله المخلصين، ولهذا يصفون الله سبحانه وتعالى بما لا يليق، ولا يرجون له وقاراً، ولا يقدرونه تعالى حق قدره، ومن هنا افترضوا هذه الافتراضات الباطلة؛ فإن كون العبد يقدر على أن يفعل لا يعني أنه لابد أن يفعل، وهذا شيء معلوم.
ويمكننا أن نختصر المسألة فنقول: إن ما يفعله العباد فعلم الله تعالى به مطابق للواقع، أو إن ما يقع وما يفعله العباد مطابق لعلم الله سبحانه وتعالى، فما فعلوه فالله سبحانه وتعالى يعلم أنهم سيفعلونه، وما لم يفعلوه فالله سبحانه وتعالى يعلم أنهم لن يفعلوه، وليس هناك منافاة بين ما يقع وبين علمه سبحانه وتعالى.
ويرد عليهم المصنف رحمه الله بقوله: [هذه مغالطة؛ وذلك أن مجرد قدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم]، فمجرد أنه قادر على أن يفعل لا يعني أنه لابد أن يفعل، والله قد علم أنه لا يفعل، ويقول: [وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل]، ومن كان هذا ظنه يقال في مثله: هذه مغالطة، والحق لو أن العبد فعل فعلاً ما، لكان المعلوم عند الله وقوعه، وإن لم يفعل العبد فالمعلوم عند الله عدم وقوعه.
إذاً: فعلم الله تعالى مطابق للواقع، لكن نحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر، أمَّا قبل أن يفعل أحد شيئاً لا ندري بعلم الله عز وجل ولا نعلم الغيب؛ فمثلاً: إذا أذن المؤذن فذهب فلان وصلى، حينها علمنا أن الله سبحانه وتعالى علم ذلك، ولو لم يصل لعلمنا أن الله سبحانه وتعالى يعلم أنه لن يصلي؛ فنحن لا نعلم الغيب، ولكن من خلال ما يظهر؛ لأن ما يظهر في الواقع هو مطابق لعلمه سبحانه وتعالى، فيمتنع أن يقع شيء يلزم منه تغيير العلم؛ بل أي شيء وقع كان هو المعلوم، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغير العلم، بل هو قادر على فعل ما لم يقع لكنه لم يفعل، فالقدرة شيء والفعل شيء آخر، ولو وقع لكان الله قد علم أنه وقع لا أنه لم يقع. إذاً الواقع مطابق لعلمه تعالى، ولا إشكال في هذا والحمد لله إلا في عقولهم الضالة.