المادة كاملة    
إن مذهب أهل السنة والجماعة فيه اليسر والسماحة، ومن ذلك أنهم لا يضيقون على عوام المسلمين فيكفرونهم كالخوارج، أو يرمونهم بالنصب أو التجسيم والتشبيه كالرافضة ومؤولة الصفات، وإنما يعدونهم من عوام أهل السنة ما لم يتلبسوا بشيء من البدع، ويحكمون بالإسلام لمن أتى بالأعمال الظاهرة المتعلقة به دون السؤال عن الباطن.
  1. معنى تسمية أهل القبلة مسلمين

     المرفق    
    قال الطحاوي رحمه الله:
    [ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين].
    قال المصنف رحمه الله:
    [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صلى صلاتنا، واستقبل قِبْلَتَنَا، وأكل ذبيحتا، فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا} ويشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى أن الإسلام والإيمان واحد، وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب ما لم يستحله.
    والمراد بقوله: [أهل قبلتنا] من يدعي الإسلام، ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل الأهواء، أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيأتي الكلام على هذين المعنيين عند قول الشيخ: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله] وعند قوله: [والإسلام والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء].
    ]. اهـ
    الشرح:
    يقول الطحاوي رحمه الله: [ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين].
    إن موضوع الأسماء والأحكام من أهم أبواب الإيمان؛ لأن كل طائفة تسمي الآخرين بحسب معتقدها، فـالخوارج يسمون عامة المسلمين كفاراً، ويسمون دارهم دار كفر، وهكذا نجد الرافضة يسمون المسلمين: نواصب، وقد يسمونهم كفاراً لأنهم كفروا وارتدوا تبعاً للصحابة الذين كفروا -بزعمهم-؛ لأنهم لم يعقدوا الخلافة لـعلي رضي الله تعالى عنه، وكذلك المعتزلة يسمونهم أهل الشرك كما يفعل الخوارج ؛ لأن مذهبهم متقارب مع مذهب الخوارج، ويسمونهم أهل التجسيم أو أهل التشبيه، وكذلك الذين يؤولون الصفات يسمون السلف الصالح والمسلمين عامة بـالمشبهة، أو الحشوية، أو المجسمة ... إلى غير ذلك من الألقاب وهكذا، فـالطحاوي وابن أبي العز يريدان أن يقولا: ماذا يسمى أهل القبلة عند أهل السنة ؟!
    وماذا يسمى غيرهم أيضاً؟!
    1. عوام المسلمين من أهل السنة

      المهم عندنا هنا هو تسمية العامة من الناس الذين اختلفت فيهم الفرق والطوائف، فنحن أهل السنة والجماعة -والحمد لله- نعتقد أن عامة المسلمين هم من أهل السنة إلا إذا تلبسوا بشيء من البدع واعتقدوها؛ فلو أن إنساناً أسلم اليوم في أمريكا، أو في اليابان فنعتبره من أهل السنة، وأيضاً المسلمون الفلاحون في أندونيسيا أو في غرب أفريقيا، أو في أي مكان، من أي طائفة نعتبر هؤلاء من أهل السنة ؛ لأن السنة هي حقيقة الإسلام وهي الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
    2. أصحاب الأهواء والفرق من أهل القبلة

      أهل القبلة يدخل فيهم أصحاب الأهواء والفرق، أي: نحن نسميهم مسلمين، ثم نصفهم بما هم عليه، فلا نخرجهم من الملة وإن كانوا من أهل البدع والأهواء والكبائر، إلا من اعتقد أو ابتدع بدعة مغلظة كفرية يخرج بسببها عن الإسلام، فهذا له حكم آخر ؛ ولكن المقصود أن المسلمين من أهل القبلة لهم اسم الإسلام أو اسم الإيمان، ولا نسلب عنهم اسم الإيمان أو الإسلام ولا نخرجهم من الدين ؛ إلا من أتى منهم بمكفر يخرج به من الملة؛ لذلك المصنف رحمه الله شرح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا} هذا الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله عن أنس رضي الله تعالى عنه هو حجة في هذا الباب، ودليل لـأهل السنة والجماعة في تسمية أهل القبلة مسلمين، وفي إعطائهم حقوق الإسلام، وأن لا ينزع منهم هذا الحق، ولا تنزع منهم العصمة إلا بحق الإسلام أيضاً، لا بمجرد الهوى والتشهي.
      يقول المصنف: "ويشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى أن الإسلام والإيمان واحد" وحديث أنس رضي الله تعالى عنه ذكر أولاً: {من صلّى صلاتنا} ولهذا يقول الطحاوي: [ونسمي أهل قبلتنا] والكلام في أهل القبلة المصلين، حتى الأشعري رحمه الله لما صنف كتابه في اختلاف الفرق، سماه: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، وعلى هذا فمن لم يصل فليس بمسلم، ولا يسمى من أهل القبلة، فديننا يعلق الأحكام على الأمور الظاهرة الجلية، وأوضح هذه الشعائر الظاهرة بعد الشهادتين هي الصلاة، فإن الشهادتين كثير من يتلفظ بها، ويدعي الإسلام، ولو كان منافقاً؛ لكن الصلاة مفرق ومعلم واضح يعرف بها المسلم من الكافر، ولهذا قال: [ونسمي أهل قبلتنا].
      إذاً: أهل القبلة المقصود بهم أهل الصلاة، والذين لا يصلون خارجون عن هذه الأحكام؛ لأنهم ليسوا من أهل الإسلام.
      قال: {واستقبل قبلتنا} وهذا زيادة في الإيضاح: بأن المستقبل لقبلتنا قد فارق الملل والقبلات الأخرى، كما ذكر الله سبحانه وتعالى في آيات القبلة.. ((سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا))[البقرة:142] فقد شكك اليهود في دين الله بسبب ترك المسلمين للقبلة الأولى التي كانوا عليها، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل هذا معلماً واضحاً جلياً قائماً على أننا فارقنا تلك الأمم وفارقنا أهل الكتاب في كفرهم ؛ فلسنا متبعين لقبلتهم، وليسوا متبعين لقبلتنا، فنحن على قبلة وهم على قبلة أخرى، ونحن على دين وهم على دين آخر، فالذي يكون به الإنسان مسلماً هو أن يصلي الصلاة الشرعية المعروفة، والتي من شروطها: استقبال هذه القبلة التي لا يستقبلها المشركون؛ لأن الكفار إما أنهم لا يصلون، وهؤلاء كفرهم معلوم، وإما أنهم لا يستقبلون قبلتنا، فمن صلى إلى غير قبلتنا من اليهود أو النصارى أو المشركين فهذا لا صلاة له.
    3. من أكل ذبيحة قوم فقد أقرهم على دينهم

      قال: وأكل ذبيحتنا، أي: من يعتقد أننا على الحق فإنه سيأكل ذبيحتنا، ومن يعتقد أننا على الكفر ولسنا على الإيمان فإنه لا يأكل ذبيحتنا؛ لأن العادة أن الناس لا يأكلون الذبيحة إلا إذا كانوا يعرفون دين صاحبها، ولهذا نجد أننا معاشر المسلمين لا نأكل ذبائح المشركين، أما أهل الكتاب فقد استثناهم الله سبحانه وتعالى حيث قال: ((وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ))[المائدة:5] على تفصيل سيأتي.
      والمقصود أن الذبيحة تعد معياراً؛ فإذا أكلت ذبيحة أحد فأنت قد وافقته إن كان من أهل القبلة، وأقررته على ما هو عليه من الدين إن كان من غيرهم -مثل أهل الكتاب- لأن الله تعالى استثناهم.
      وبمعنى آخر نقول: إذا حرمت ذبيحة أحد من الناس فمعنى ذلك أنك تكفره أو تطعن في دينه، فإذاً قوله: {من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا} فيه دلالة على أن من أكل ذبائح الصحابة الكرام فقد دان بدينهم واعتقد بصحته، ولو ترفع أحدٌ عن أكل ذبائحهم فمعنى ذلك أنه مخالف لهم في الدين، ولا يعتقد صدقهم، ولا صحة إيمانهم.
      وهناك رواية أخرى ذكرها الإمام البخاري رحمه الله بعد هذه الرواية، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله } وفي الرواية الأولى قال: {وأكل ذبيحتنا} والروايتان توضح إحداهما الأخرى، فقوله: ذبحوا ذبيحتنا أي: ذبحوا على طريقتنا وديننا في الذبح، بأن يكون الذبح عبادة وتقرباً إلى الله تعالى، وأن يذكر اسم الله عليه؛ فمن ذبح لغير الله فليس منا، ومن ذبح وذكر عليه غير اسم الله كأن يقول: للات والعزى، أو للمسيح، أو لو قال: للشيخ عبد القادر أو البدوي؛ فيشمله الحكم السابق.
      إذاً قوله: ذبحوا ذبيحتنا أي: ذبحوا كما يذبح المسلمون، فيذبحون تقرباً إلى الله، وأي ذبيحة فإنهم يذكرون اسم الله عليها.
    4. متى يستحق المرء أن يُمنح أحكام المسلمين

      أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: {فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا} فهل معنى المسلم هنا: الشهادة له بالإيمان، أم إعطاؤه أحكام المسلمين؟
      المقصود هنا: إعطاؤه أحكام المسلمين ولذلك وضحها فيما بعد فقال: له ما لنا وعليه ما علينا أي: من الحقوق والواجبات، فنحن نعده مسلماً، ولا نمنعه من أي حق من حقوق المسلمين، لا نمنعه من مساجد الله تعالى أن يأتي ويصلي فيها، ولا نمنعه من الفيء ولا من قسمه من بيت المال، ولا نمنعه من السلام، ومن إجابة دعوته، بل يعامل في جميع الأحكام على أنه من المسلمين، فلا يجوز ظلمه ولا سبه، ولا قتله، ولو قتله أحد -وإن كان القاتل فاضلاً- فإنه يُقتل به، وفي الرواية الأخرى قال: فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها فلا يحل أخذ مال امرئ مسلم ولا سفك دمه إلا بحقه، إذا أقر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقام الصلاة، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا.
  2. قول بعض العلماء بغرابة حديث (أمرت أن أقاتل الناس) والرد على ذلك

     المرفق    
    نأتي إلى الرواية المعروفة كما قلنا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهي قوله: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى} وقد ختمت رواية أنس ورواية عبد الله بن عمر، بالعبارة نفسها لكن في رواية عبد الله بن عمر -المتفق عليها- ذكر الشهادتين والصلاة والزكاة ولم يذكر فيها الذبح، وليس هناك اختلاف؛ لأن الإمام البخاري رحمه الله ترجم للباب الذي ذكر فيه حديث عبد الله بن عمر في أول كتاب الإيمان بعنوان: باب: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ))[التوبة:5].
    أما رواية أنس فقد ذكرها البخاري رحمه الله في آخر الكتاب في أبواب الصلاة؛ ليبين أهمية استقبال القبلة، وابن حجر رحمه الله عندما جاء لشرح حديث أنس أحال إلى ما قاله في حديث عبد الله بن عمر، وإذا رجعنا إلى هذا الحديث نجد فيه كلاماً طويلاً في موضوع أحكام المسلمين، من ذلك أن بعض العلماء قالوا: الحديث غريب -ولن نتحدث الآن عن وجه غرابته- وإن رواه الشيخان فإنه يطعن فيه لغرابته، مستدلين بالنقاش الذي جرى بين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في مسألة مانعي الزكاة، عندما قال عمر لـأبي بكر: [[كيف تقاتل الناس وهم يشهدون أن لا إله إلا الله؟ ]] فاحتج عليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال: [[ألم يقل: إلا بحقها؟]] قالوا: فلو كان الحديث محفوظاً لاحتج به أبو بكر رضي الله تعالى عنه، لأن أبا بكر في هذا الموضع أحوج ما يكون إلى أن يحتج به إذ فيه التصريح بلفظ: (ويؤتوا الزكاة) مع الصلاة ومع الشهادتين، فلماذا يلجأ إلى قوله: (ألم يقل: إلا بحقها؟) وهذا منه استدلال بالنص، بينما قوله: [[والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة]] استدلال بالفهم والاستنباط، فقالوا: لماذا يلجأ إلى ذلك وعنده حديث ابن عمر وفيه التصريح بالزكاة؟
    والجواب أن نقول:
    أولاً: لا يعني ذلك القدح في الحديث أو أن الصحابة لم يعلموا به، لكن الصديق رضي الله تعالى عنه عندما قال: (إلا بحقها) هذا من باب الاستدلال على الخصم بجزء من كلامه، فهو من أقوى أنواع الأدلة؛ فلما قال له عمر: (كيف تقاتل الناس وهم يشهدون أن لا إله إلا الله؟) فرد عليه بتتمة الحديث بقوله: (إلا بحقها)، بمعنى أن إيتاء الزكاة من حقها، فهو إلزام للخصم بشيء مما ذكر أو مما هو معلوم لديه، وإن لم يصرح بلفظه.
    ثانياً: أن قول الصديق رضي الله تعالى عنه: [[والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة]] استنباط من الآية والحديث، فكأن الأمر معلوم، وكأنه بهذا قد ذكر الصحابة الكرام بهذا الحديث وبالآيتين من سورة التوبة: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ))[التوبة:5]، والأخرى: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ))[التوبة:11] لكن المتعلق بالموضوع هو: (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) أي: لا تقاتلوهم، فمن لم يفعل فإننا نقاتله، وهذا فما ذكر بالنسبة لهذا الحديث.
  3. من فوائد حديث: (أمرت أن أقاتل الناس)

     المرفق    
    1. معاملة الناس بالظاهر وترك سرائرهم لله

      قال الحافظ رحمه الله تعالى عند شرحه لحديث ابن عمر : "فيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة، والحكم بما يقتضيه الظاهر" وهذا هو الأصل في ديننا أننا نقبل الأعمال الظاهرة، ونحكم على الإنسان بها، حتى وإن كان لدينا ظن راجح بأن مظهر هذا العمل أو فاعله لم يفعله عن إيمان وحقيقة، ونستشهد على ذلك بما وقع لـأسامة حين ظن أن الرجل عندما قال: لا إله إلا الله أنه قالها خوفاً من السيف وليس عن إيمان ويقين، فقتله أسامة فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يقول: {أقتلته بعد أن قالها؟ فما تصنع بلا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! إنما قالها متعوذا بها من السيف} فالقرينة واضحة والظن راجح أو غالب أن الرجل لما رأى السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ لعلمه أن المسلمين يكفون عمن يتلفظ بها، ومع ذلك أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على أسامة أشد الإنكار ؛ حتى قال أسامة : {تمنيت أني أسلمت حينئذ} وبقي أسامة رضي الله تعالى عنه خائفاً من هذا الحديث، حتى إنه لم يشارك في قتال بين المسلمين أبداً، حتى إن علياً كان بينه وبين أسامة محبة وأخوة، وكان أسامة يقول: [[والله! لقد علم أنه لو كان في شدق الأسد لوددت أني معه]] أي: يعلم أن من محبتنا له أنه لو كان في شدق الأسد، أي: في أي مصيبة وفي أي كرب فأنا معه، إلا في هذا، فبعد ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأسامة في تلك الحادثة، كيف يستطيع أن يرفع سيفه في وجه مسلم؟!!
      فإذاً: نحن نجري الأحكام على ظاهرها، كما فهم ذلك الصحابي.
      وننبه هنا إلى أن حديثنا عمن أظهر الشهادتين، أما من نقض شهادة أن لا إله إلا الله فهذا شيء آخر.
    2. الاكتفاء في الحكم على المرء بما يظهر من قوله وفعله

      ثم قال الحافظ رحمه الله: "وفيه -أي الحديث- الاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم، خلافاً لمن أوجب تعلم الأدلة" وفي هذا رد على أهل الكلام الذين يقولون: يجب على الإنسان كي يكون مسلماً أن يقول ولو مرة واحدة في عمره: هذا العالم حادث، والحادث لابد له من محدث، إذاً: الله موجود، ولكن نقول:
      أولاً: الفطرة موجودة في الإنسان وهو لا يزال طفلاً، ففي فطرته أن لكل شيء من هذه المخلوقات خالقاً وصانعاً، فإذا قلت له: الله هو خالق هذه المخلوقات ؛ فيبقى في شعوره أن الله سبحانه وتعالى هو أقوى من كل أحد، وأكبر وأعظم من كل أحد؛ بل كل الأسباب تنتهي إليه: ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى))[النجم:42] فمهما قلت من أسباب، وأنها أسباب، وللأسباب أسباب، فكلها تنتهي إلى الله سبحانه، فالفطرة موجودة، والنظر الفطري موجود، فالإنسان إذا رأى الكون وتفكّر فيه: ((وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ))[الذاريات:21]، ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ))[فصلت:53] إذا رأى ذلك يقول: لا إله إلا الله، فينطق بفطرته بالإيمان.
      فهذا غاغارين لما أرسلوه إلى الفضاء لأول مرة، نسي أنه شيوعي، وأن الحزب يراقبه في الأرض! نسي كل شيء وقال: لابد أن لهذا الكون خالقاً، فالفطرة تنطق وتزيل الغشاوات التي تغشى عليها، إذاً المقصود بالاكتفاء هنا: أي: الاكتفاء بأن يظهر ما يدل على صدق إيمانه واعتقاده لنحكم له بالإيمان، ومن آمن إيماناً صادقاً فإنه سبحانه وتعالى يقبل إيمانه وإن لم يأت على طريقة المتكلمين، ورحمة الله تعالى أوسع من أن يحجر الناس على أن لا يؤمنوا إلا على طريقة العلاف أو النظام أو أمثالهما من المبتدعين.
    3. لا يكفر أهل البدع الذين يقرون بالتوحيد

      ثم يقول الحافظ ابن حجر : "ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع، المقرين بالتوحيد، الملتزمين للشرائع".
      يقصد أننا لا نكفر أصحاب المعاصي بمعاصيهم، ومعلوم أن من شرب الخمر أو زنى أو سرق فـأهل السنة يقولون: لا يكفر بذلك، لكن أشد من ذلك في الذنب وأكبر منه في العصيان أهل البدع والأهواء، فما داموا على التوحيد، وملتزمين للشرائع، فإننا لا نكفرهم، وهذا الذي أشار إليه المصنف كما سنعرض له إن شاء الله.
    4. قبول توبة الكافر دون تفصيل

      ثم قال الحافظ رحمه الله: "وقبول توبة الكافر من كفره من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن" وهذا يعني أن الكفار الأصليين إذا تابوا عن الكفر حكم لهم بالإسلام من خلال الظاهر، وهذا رد على من يشترط شرطاً خاصاً في نوع معين من الكفار.
      حيث قال بعض العلماء: إذا كان يهودياً وأسلم نقول له: لا نقبل إسلامك حتى تشهد بأن عزيراً ليس هو ابن الله، وأن تشهد أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
      وبعضهم يقول: بل نكتفي بأن ينطق الشهادة ثم يقول: وكفرت بما دون ذلك، للحديث {من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله}، لكن نقول: ليس هذا أيضاً شرطاً؛ لأن الكفر بما يعبد من دون الله تتضمنه شهادة أن لا إله إلا الله، فأول شيء في الشهادة النفي (لا إله)، أي: لا معبود بحق -أبداً- إلا الله، فنفى أولاً ألوهية كل ما عدا الله، ثم قال (إلا الله).
      فالأصل أن نشرح له معنى لا إله إلا الله، فإن ظهر لنا بعد حين أو من خلال كلامه أو أثناء تعليمه الإسلام أنه لا يفهم وضع عيسى على الحقيقة، فعندنا نشرح له ذلك، لكن ما دام أنه قال: أنا أريد الإسلام، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فنقبل منه على ظاهره ولا نشترط غير ذلك، ولا نقول: قل: ظاهراً وباطناً؛ لأن هذا الشرط أيضاً لا يثبت إيماناً؛ فلو كان منافقاً فإنه سيقول ذلك مع أن باطنه خلاف ذلك، فالباطن لا يعلم حقيقته إلا الله، فالمهم هو أن نحكم على الناس بالظاهر.
      وهنا يذكر قصة عمر رضي الله تعالى عنه التي رواها وقد روى اللالكائي مقولة عمر التي كتب بها إلى بعض قادة المسلمين مثبتاً فيها أنه لو حاصر المسلمون أهل حصن من الحصون، وكان أهل ذلك الحصن لا يعرفون لغة العرب، وهم لا يدرون ماذا يريد المسلمون منهم حتى يدخلوا في دينهم، فقال عمر : [[ لو أن رجلاً أخرج يده من الحصن، ورفع يده إلى السماء، فقد حرم دمه وماله]] لأن هذا الفعل فيه قرينة أو دلالة أو إشارة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فنكف عنهم، فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً، ولم يبعثه جابياً ولا سفاحاً، والمسلمون لا يريدون القتال لمجرد أنهم يحبون الدماء، وإنما يريدون الهداية للناس.
  4. العلاقة بين الإسلام والإيمان

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:[ويشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى أن الإسلام والإيمان واحد] والظاهر أننا لا نستطيع أن نلزم الإمام الطحاوي رحمه الله بأنه يقصد بهذه العبارة أن الإسلام والإيمان واحد، فقد قال رحمه الله: [ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين] فكلامه هنا بتسميتهم (مسلمين مؤمنين)؛ قد يحتمل أنه بمعنى واحد، أي: غير كافرين، فكلمة (مؤمنين) هنا: تأكيد لكلمة مسلمين، ويحتمل أنه يعني: إن كان من مرتبة أهل الإسلام سميناه مسلماً، وإن كان من مرتبة أهل الإيمان سميناه مؤمناً، إذاً: فلا نستطيع أن نلزمه بذلك.
    وقد فرّق الله تعالى بين الإسلام والإيمان كما في قوله تعالى: ((قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا))[الحجرات:14] وفي حديث جبريل قال: (أخبرني عن الإسلام) .. ثم قال: (أخبرني عن الإيمان) ففرق بينهما.
    وسيأتي تفصيل العلاقة بين الإسلام والإيمان.
  5. استحلال الذنب قيد في الحكم على صاحبه بالكفر

     المرفق    
    قال: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله] وقوله: (بذنب) الصواب أن نقول: بذنب دون الكفر؛ لأن الخوارج والمعتزلة يكفرون بالذنوب، فنقول: المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب مطلق الذنب ما لم يستحله، فإن استحله كفر للاستحلال لا للذنب.
    قال المصنف: [والمراد بقوله: (أهل قبلتنا) من يدعي الإسلام] فأهل القبلة من يدعي الإسلام، وقد تكون الدعوى صحيحة وقد تكون باطلة، قال: "ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل الأهواء، أو من أهل المعاصي؛ فهو يعد مسلماً ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وهنا يجب التنبيه إلى أن الإمام الطحاوي يقول: [ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين]، والمصنف قال: [ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم]، فجعل الكفر منحصراً في التكذيب، وهو شبيه بقول المرجئة الذين يجعلون الإيمان هو التصديق، والكفر هو التكذيب، أما أهل السنة فنواقض الإسلام كثيرة عندهم، ولهذا فإن أدق وأصح عبارة أن نقول: إن من يدعي الإسلام ويستقبل القبلة، وإن كان من أهل الأهواء والمعاصي فهو مسلم، ما لم يأتِ بناقض من نواقض الإسلام أو لم يرتد عن دينه؛ لأن كلمة (الردة) أعم من أن يكون قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً، مثل الأقوال التي إذا قالها الإنسان ارتد وخرج من الدين وإن لم يعتقد التكذيب، مثل سب الله أو سب الدين والسخرية به أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال المنافقون: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أكذب ألسنة، ولا أرغب بطوناً، ولا أجبن عند اللقاء، هم لم يستهزئوا بالدين حقيقة لكنهم استهزءوا بالقراء، وهذا استهزاء مجمل، ومع ذلك قال الله تعالى في حقهم: ((قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ))[التوبة:65]، والأفعال أيضاً منها كفر بالله: كأن يذبح لغير الله أو يهين كتاب الله، أو يطوف حول قبر ويدعو صاحبه مع أنه لم يكذب بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لكنه فعل فعلاً يخرجه عن الإيمان والملة.
    وفي الحديث أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: {وحسابهم على الله} قال الحافظ رحمه الله وغيره: (على) تدل على الإيجاب، وليس هذا بصحيح.
    وقد أجاب العلماء على هذا، فقالوا: إن معنى هذا مثل معنى: ((مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ))[الأنعام:52] أي: ليس إليك حسابهم ؛ فيكون المعنى: أن الله هو الذي يتكفل بهم وأن حسابهم إليه، وليس فيه معنى الوجوب.