المادة كاملة    
في هذا الدرس حديث مهم عن القدر، مع ذكر نشأة القدرية، وحكمهم، وأقسام الناس يوم القيامة، كما تمّ التفريق بين الإرادة والمحبة، مع توضيح أنواع الإرادات، وإيراد مسألة: هل الأمر يستلزم الإرادة؟
  1. نشأة القدرية وحكمهم

     المرفق    
    موضوعنا هو عن إثبات الإرادة لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والفرق بين الإرادة والمشيئة، ومتعلق كل منهما، وأما موضوع الإيمان بالقدر بكامله وما يتعلق به؛ فإنه من المباحث التي تأتي -بإذن الله تعالى- في الثلث الأخير من هذا الكتاب، عند قول الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [وأصل القدر سر الله في خلقه لم يطلع عليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخِذلان وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان.
    فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله طوى علمه عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تَعَالَى في كتابه: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ))[الأنبياء:23]، فمن سأل لِمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كَانَ من الكافرين].
    أولاً: يحسن بنا أن نبدأ الحديث عن نشأة القدرية، وما حكمهم؟ ومن هم القدرية الموجودون اليوم؟
    حديث جبريل عَلَيْهِ السَّلام لما جَاءَ إِلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فأسند ركبتيه إِلَى ركبتيه، ووضع يديه عَلَى فخذيه، وسأل النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أركان الإسلام وأركان الإيمان، فَقَالَ له النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره}.
    فكان أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤمنون بالقدر، وأنه من ضمن العقيدة التي يجب أن يعتقدها كل مؤمن.
    ومن ذلك حديث علي قال: {كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة قال فقال رجل يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فقال من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة فقال اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثُمَّ قرأ قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى*وَصدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى))[الليل:5-10]
    }.
    فبين لهم النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا بد من العمل.
    وفي حديث صحيح آخر سأله الصحابة سؤالاً أصرح وأجلى من ذلك، {بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيما العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟} -أي: هذه الأعمال والطاعات والكدح في الدنيا أفي أمر قد جرت به الأقدار، وجفت به الأقلام، أم هو أمر جديد؟- فَقَالَ النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به الأقدار}، أي: أن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قد علمه وكتبه، ومع ذلك اعملوا؛ فإنكم لا تدرون الغيب المكنون ولا ما كتب لكم، فيجب علينا أن نعلم أن الله قد كتب كل شيء الطاعة والمعصية، وأما قبل ذلك، فإنبأيدينا حرية الاختيار، وعلم الغيب محجوب عنا، فعلينا أن نختار طريقة أهل الخير والطاعة والسعادة وأهل الحسنى، ونعمل بما أمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فإننا إن فعلنا الخير والطاعة أو فعلنا الشر؛ فإنه يطابق ما عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كوناً وقدراً وإرادةً؛ لأنه لا يخرج عن إرادة الله سبحانه شيء.
    قال تعالى: ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)) [الإِنسَان:3] فهو الذي يختار أن يكون من الشاكرين أو يكون من الكافرين بمحض إرادته واختياره، والله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إنما فضل بني آدم عَلَى المخلوقات في الأرض بهذه الإرادة وهذا الاختيار، وكذلك إذا عمل بالطاعة أكرمه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بالجزاء الأوفى، وهي الجنة ورؤيته -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وإن عمل بالمعصية عاقبه أعظم وأشد العقوبة وهي النار، بخلاف العجمي-الحيوان- يحشرها الله يَوْمَ القِيَامَةِ ويقتص لبعضها من بعض؛ حتى إنه يقتص للشاة الجلحاء -التي ليس لها قرون- من الشاة القرناء -ذات القرون- وبعد أن يفصل الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بينها يقول لها تَبَارَكَ وَتَعَالَى: كوني تراباً، وحينئذٍ يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً؛ لأنه في الدنيا اختار المعصية، فتمنى يَوْمَ القِيَامَةِ أن يكون حيواناً ليكون تراباً ولا يدخل النَّار.
    فالإِنسَان قد احتمل الأمانة وكلف بهذا الدين، وجعل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- له سبيل الاختيار، فبإمكانه أن يترقى في أعلى درجات المقربين، وبإمكانه أن يسفل إِلَى أحط درجات المبعدين المبغضين عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
    وأول ما ظهر التكذيب بالقدر في مكانيين: البصرة، ودمشق.
    والذي أظهره في البصرة هو معبد الجهني، وفي دمشق رجل يدعى غيلان الدمشقي.
    أما غيلان فإنه يبدو أنه أخذها عن أهل الكتاب -فإنه كَانَ في دمشق نصارى- ويقَالَ: إنه تتلمذ عَلَى يد أحد الرهبان يدعى يوحنا النصراني -وهذا في أيام بني أمية- وقال عنه الذهبي: ضال مسكين أخذ هذه البدعة -إنكار القدر- من يوحنا، وأما معبد الجهني فإنه كَانَ بـالبصرة، وكانت أول بلاد الإسلام ظهوراً للبدع؛ لأنها تقع في أقرب نقطة إِلَى الفرس وبلاد الهند، وهذه الدول لها فلسفات وأديان وعقائد موروثة، فلما اختطت البصرة وسكنها الْمُسْلِمُونَ من قبائل بني تميم وأشباهها -ممن تأخر دخولهم في الإسلام وبعضهم ارتد عن الإسلام بعد وفاة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عاد فيه، كَانَ فيها بعض أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم الذين أشاعوا فيها النور والخير؛ لكن مع ذلك فيها هَؤُلاءِ الذين أسلموا حديثاً من الفرس والهنود، ولديهم بقايا من موروثاتهم ومعتقداتهم.

    فظهرت في البصرة أول البدع، من ذلك بدعة الغلو في العبادة، والزهد إِلَى حد التصوف، وبدعة إنكار القدر، وفي أول صحيح مسلم أن رجلين من التابعين أتيا إِلَى ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما- وقالا له: إن قوماً عندنا بـالبصرة قد أظهروا إنكار القدر، فغضب ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ من ذلك غضباً شديداً، وقَالَ: بلغوهم أنني منهم براء، وأنهم مني براء، ثُمَّ ذكر الحديث عن أبيه عمربن الخطاب وهو حديث جبريل المعروف.
    وأما عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- فإنه لما بلغه قول من أنكر القدر -وكان قد كبر وكف بصره- قَالَ: قربوه مني فوالله لئن أمكنني الله منه لأدقن عنقه، ثُمَّ أَخبر أن هَؤُلاءِ مجوس مُشْرِكُونَ، وأنهم والله سينكرون الخير كما أنكروا الشر، يعني: كما أنكروا نسبة الشر إِلَى الله فسوف يأتي عليهم يوم ينكرون أيضاً الخير، فيكونون مجوساً، ويعلنون الشرك، كما أن إليات نساء دوس ستضطرب عَلَى ذي الخلصة، فكما سيقع الشرك في الألوهية والعبودية، فسوف يقع شرك هَؤُلاءِ في القدر، هكذا قال ابن عباس -رضي الله عنهما- فيما رواه اللالكائي.
    فالقول بالقدر ظهر في أواخر حياة الصحابة -وعبد الله بن عمر وابن عباس من صغار الصحابة-
    وقد ورد تسميتهم بمجوس هذه الأمة في عدة أحاديث مرفوعة، وكثير من العلماء يرجح أنها موقوفة عَلَى ابن عباس وغيره، وسيأتي تفصيله -إن شاء الله-..
    ثانياً: إنما سميت القدرية بهذا الاسم لأنهم نفوا القدر، فنُسبوا إِلَى الشيء الذي نفوه.
    وقد جَاءَ رجل من الأعراب فيه ذكاء وذهن وقاد إِلَى عمرو بن عبيد، وكان المعتزلة يعظمونه ويقولون: هذا يضرب به المثل في العبادة والزهد في الدنيا والتقشف والتقلل؛ لكنه كَانَ عَلَى عقيدة منحرفة لا تغني ولا تنفع صاحبها أبداً، مثل أحبار اليهود والنَّصارَى، يتعبدون ويخشعون ولكن لا ينفعهم ذلك، فالأعرابي -مسكين من أهل البصرة- سرقت ناقته فلم يجدها فاحتار، فَقَالُوا: اذهب إِلَى هذا الولي العابد الزاهد، واطلب منه أن يدعو الله ليرد لك ناقتك، فذهب إِلَى عمرو بن عبيد وشكا إليه الحال، وقَالَ: إن الناقة قد سرقت، وإني أرجو أن تدعوا الله أن يرد إلي الناقة، فرفع عمرو بن عبيد يديه وقَالَ: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقة هذا الأعرابي، اللهم فارددها عليه! فَقَالَ الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك!! ما دام أنه أراد أن لا تسرق فسرقت، فأخشى أن يريد أن ترجع فلا ترجع.
    فالفطرة السليمة عندما تكون حاضرة وحية في النفس، تعرف بالذكاء أن هذا المذهب مذهب باطل.
    فمذهب المعتزلة: أن الخير ينسب إِلَى الله، والشر يخلقه ويفعله العبد، والله تَعَالَى لم يرد وقوعه، وتطور هذا المذهب إِلَى أن صار مذهب عامة المعتزلة وفرقهم عَلَى اختلافها.
    سبق في موضوع التمثيل والتشبيه أن الشيعة كانوا مشبهة، ثُمَّ غَلب عليهم التعطيل لما دخلوا في مذهب الاعتزال واعتنقوه.
    وذكرنا السبب الذي جعل الشيعة يصبحون معتزلة وقدرية، فـالشيعة الزيدية والشيعة الغلاة الرافضة كلهم يجمعهم أنهم عَلَى مذهب الاعتزال في القدر.
    وشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رد عَلَى الشيعة بكتاب منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية لأن الذي سمى نفسه بـالمطهر ألف كتاب منهاج الكرامة وقَالَ: إن مذهبنا -مذهب القدرية- إنما أخذه عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء عن أبي هاشم أخي الحسن بن مُحَمَّد بن عَلَى بن أبي طالب الذي يسمى مُحَمَّد بن الحنفية، وهو ابن لـعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب، ولكن ليس من فاطمة-رضي الله عنهم أجمعين- وأمه من بني حنيفة.
    فمذهبنا في نفي القدر صحيح؛ لأن واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد تتلمذا على أبي هاشم، ولذلك رد عليهم شَيْخ الإِسْلام ابْن تَيْمِيَّةَ فقَالَ: هذا الكلام غير صحيح، فإن أبا هاشم لم يكن من المعتزلة، والمعروف عن مُحَمَّد بن الحنفية أنه لم يكن معتزلياً، ولو أن أحداً من ذريته أثرت عنه بدعة، لما كَانَ حجة في أن تتبع ويخالف ما كَانَ عليه النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه،
    لكن الشيعة اختلفوا سنداً لنفي القدر لا ينتهي إِلَى عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الذين هم أساس الاعتزال؛ لأنه لو قيل إنهم أخذوا القدر عن معبد وغيلان وعن تلاميذهم، لكان هذا عاراً ومسبةً، فجعلوا كل علومهم وأديانهم متلقاة عن آل النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك أتوا بهذا السند وَقَالُوا: أخذوا عن أبي هاشم بن مُحَمَّد بن عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب عن أبيه عن جده عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا كذب صراح؛ لأن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينكر القدر والعياذ بالله.
    وهناك فرقة أخرى تسمى القدرية؛ لأنها تثبت القدر إثباتاً مطلقاً، فيقولون: كل ما يفعله الإِنسَان فإن الله قد قدره عليه، والإِنسَان ليس له إرادة مطلقاً، فلا يختار الخير ولا الشر، وإنما هو كالريشة في مهب الريح، فهَؤُلاءِ يسمون القدرية للغلو في إثباته، لكن اسمهم المشهور هو الجهمية؛ لأن أول من قال بهذه المقالة في الإسلام هو الجهم بن صفوان.
    وأشهر ما يسمون به الجبرية، وأعظم ما يستدلون به حديث احتجاج آدم وموسى عليهما السلام، وهي فكرة قديمة موروثة أخذوا يتلمسون ويبحثون لها عن حجج واهية، أو متشابه من الكتاب والسنة يفهمونها فهماً خاطئاً ثُمَّ يدعون أنها بينات.
    فهاتان الفرقتان -الذين غلو في نفي القدر، والذين غلوا في إثبات القدر- يسميان القدرية؛ ولكن أحدهما: قدرية نفاة، والأخرى جبرية.
    ثالثاً: حكم القدرية:
    أما من ينفي علم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالأعمال قبل أن تقع سواء كانت أعمال الخير أو أعمال الشر ويقول: إن الله لا يعلمها حتى تقع؛ فإنه كافر خارج من الملة؛ لأنه نفى صفة من صفات الله -عَزَّ وَجَلَّ- ورد إثباتها في مواضع كثيرة من القُرْآن والسنة.

    فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عليم بكل شيء، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، فمن ظن أنه يعزب عن علم الله شيء من ذلك، وأن الله لا يعلمه فقد كفر.
    بل اللوح المحفوظ الذي ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كتب فيه مقادير كل شيء، كماجاء في الحديث الصحيح: {أول ما خلق الله القلم، فَقَالَ له: اكتب. فكتب مقادير كل شيء} وهذا كَانَ قبل أن يخلق الله السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ولذلك قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: ألستم عرباً تقرؤون؟! إنما يكون النسخ من كتاب، وهذا في قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ))[الجاثية:29] فالملائكة الذين يكتبون ما يعمله كل إنسان، يستنسخون من اللوح المحفوظ، فما يفعله الإِنسَان يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ ويعرض عليه، ويقال له: اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، فهذا مستنسخ من اللوح المحفوظ وهو مطابق لما سيفعله.
    ونجد أن أول ما خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آدم -عَلَيْهِ السَّلام- أخذ من صلبه ذريته، فكان كل منهم كالذر، وقال هَؤُلاءِ في الجنة ولا أبالي، وهَؤُلاءِ في النَّار ولا أبالي، كما سيأتينا -إن شاء الله تعالى- في شرح آية الميثاق((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)) [الأعراف:172].
    وكل واحد من بني آدم عندما يكون في رحم أمه، بعد أن يأتي عليه أربعون ليلة، أو اثنتان وأربعون ليلة، أو مائة وعشرون ليلة -على اختلاف الروايات، والأرجح -والله أعلم- أن رواية الثنتين والأربعين نص في ذلك- يأتيه ملك، فيؤمر بكتب أربع كلمات، وهذا هو القدر الشخصي للإنسان، والذي كتب لما خلق الله القلم هو القدر الكوني العام، ولما خلق الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- آدم كتب قدر البشرية جميعاً، فهذا التقدير مكتوب معلوم عند الله -سبحانه تعالى- عَلَى مستوى الكون كله، وعلى مستوى العالم الإِنسَاني، وعلى مستوى الفرد البشري يعلمه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويكتبه.
    وأما من قَالَ: إن الله يعلم ذلك، لكن لا نثبت أنه أراد ذلك؛ تنزيهاً له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عن إرادة الشر، فهَؤُلاءِ عَلَى بدعة خطيرة وضلالة كبيرة، ولكن لا يكفرون، وإنما تقام عليهم الحجة الدامغة، فلعلهم يرجعون ويهتدون، ونجادلهم بقضية العلم، ثُمَّ نثنّي عليها بآيات الإرادة، ونبين لهم معنى الإرادة وأنها نوعان.
    وأما الجهمية الذين قالوا: إن الإِنسَان لا إرادة له مطلقاً، وأنه كالريشة في مهب الريح، فإن هَؤُلاءِ يكفرون، وقد سبق الكلام في الجهمية ومن كفرهم من العلماء مثل: وكيع، وابن المبارك، والإمام أَحْمَد، وسفيان بن عيينة، وإسحاق بن راهويه -رضي الله عنهم أجمعين- وهي ليست من فرق الأمة الثلاث والسبعين.
    قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [ولا يكون إلا ما يريد].
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [هذا رد لقول القدرية والمعتزلة، فإنهم زعموا أن الله أراد الإيمان من النَّاس كلهم، والكافر أراد الكفر، وقولهم فاسد مردود لمخالفته الكتاب والسنة، والمعقول الصحيح، وهي مسألة القدر المشهورة، وسيأتي لها زيادة بيان -إن شاء الله تعالى-.
    وسُموا قدرية لإنكارهم القدر، وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر قدرية أيضاً، والتسمية عَلَى الطائفة الأولى أغلب.
    أما أهل السنة، فيقولون: إن الله وإن كَانَ أراد المعاصي قدراً، فهو لا يحبها ولا يرضاها، ولا يأمر بها، بل يبغضها، ويسخطها، ويكرهها، وينهى عنها، وهذا قول السلف قاطبة، فيقولون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولهذا اتفق الفقهاء عَلَى أن الحالف لو قَالَ: والله لأفعلن كذا إن شاء الله، لم يحنث إذا لم يفعله، وإن كَانَ واجباً أو مستحباً، ولو قَالَ: إن أحبّ الله، حنث إذا كَانَ واجباً أو مستحباً. والمحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان:
    إرادة قدرية كونية خلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية، فالإرادة الشرعية: هي المتضمنة للمحبة والرضى. والكونية: هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث.
    وهذا كقوله تعالى: ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَعَّدُ فِي السَّمَاءِ)) [الأنعام:125] وقوله تَعَالَى عن نوح عَلَيْهِ السَّلام: ((وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ))[هود:34] وقوله تعالى: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)) [البقرة:253] وأما الإرادة الدينية الشرعية الأمرية، فكقوله تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ))[البقرة:185] وقوله تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) [النساء:26] وقوله تعالى: ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً))[النساء:27، 28] وقوله تعالى: ((مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))[المائدة:6] وقوله تعالى: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)) [الأحزاب:33]، فهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قول النَّاس لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله، أي: لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به.
    وأما الإرادة الكونية، فهي الإرادة المذكورة في قول الْمُسْلِمِينَ: ما شاء الله كان، وما لم يشاء لم يكن. والفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل، وبين إرادته من غيره أن يفعل. فإذا أراد الفاعل أن يفعل فعلاً فهذه الإرادة المعلقة بفعله، وإذا أراد من غيره أن يفعل فعلاً، فهذه الإرادة لفعل الغير، وكلا النوعين معقول للناس، والأمر يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى، فالله تَعَالَى إذا أمر العباد بأمر، فقد يريد إعانة المأمور عَلَى ما أمر به، وقد لا يريد ذلك، وإن كَانَ مريداً منه فعله] ا.هـ

    الشرح:
    قول الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ: [ولا يكون إلا ما يريد] هذا رد عَلَى القدرية والمعتزلة؛ فإنهم زعموا أن الله أراد الإيمان من النَّاس كلهم، والكافر أراد الكفر.
    فغلبت إرادة الكافر إرادة الله -والعياذ بالله- عَلَى مقتضى كلامهم؛ ولهذا يقولون: إن الكافر يخلق فعل نفسه، وأما الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فلا يخلق فعل الكافر ولا معصية العاصي، ويقولون: ننزه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ونجله عن ذلك.

    وهذا مردود بالكتاب والسنة -كما بينا - وأما أهل السنة فيقولون: إن الله وإن كَانَ يريد المعاصي قدراً، فهو لا يحبها ولا يرضاها؛ لأن الإرادة الكونية أمر مقضي مكتوب قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وأما الإرادة الشرعية فإنها تأتي بعد ذلك في حق الإِنسَان، فمثلاً: لما بعث الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الأَنْبِيَاء أتى كل نبي يأمر قومه بما يريده الله شرعاً وأمراً من الإيمان به وتوحيده -جل شأنه- أو الكفر بالطاغوت والانتهاء عن المعاصي، فكل من يبلغه كلام الله يقتضي منه ذلك، وهو فعل مأمور أو ترك محظور، فإن هذه هي إرادة الله الشرعية، يريد منه شرعاً أن يصلي، ويريد منه شرعاً أن ينتهي عن الزنا أو الربا أو الخمر أو غير ذلك، أما الإرادة الكونية فأمرٌ قد أمضاه الله عَزَّ وَجَلَّ، وجفت به الأقلام، وجرت به المقادير، كما جَاءَ في الحديث.
    وأما احتجاج الْمُشْرِكِينَ بقدر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الأنعام: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ))[الأنعام:148-149] وقال الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في سورة النحل: ((وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النحل:35] وقال في سورة الزخرف: ((وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ))[الزخرف:20] وفي سورة يس: ((قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ))[يس:47].
    فالمهم هي هذه المواضع الثلاثة الأولى التي احتج بها المُشْرِكُونَ عَلَى شركهم بالقدر.
    فكان الرد عليهم من القُرْآن الذي فيه البيان الشافي والجواب الكافي لكل شبهة إِلَى أن تقوم الساعة، كما قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: " ما من شبهة إِلَى أن تقوم الساعة إلا وجوابها في القرآن".
    فأجاب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى الذين يحتجون بالقدر من الْمُشْرِكِينَ، أو من عصاة هذه الأمة، ويقولون: إن الله قد قدر علينا المعاصي!!
    أولاً قَالَ: ((كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا)) [الأنعام:148] وقال في سورة النحل: ((كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ))[النحل:33]
    فهذا الكلام قد قاله أمم من قبلهم -وهو الاحتجاج بالقدر- فكفار قريش قالوا: نَحْنُ نحتج عَلَى مُحَمَّد بأنه لو كَانَ الله لا يرضى أن نعبد هذه الأصنام فكيف شاء ذلك؟ فلو شاء الله ما أشركنا؛ لكن نَحْنُ نعبدها لأنه شاء ذلك، فَقَالَ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ((كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ))[الأنعام:148] ثُمَّ طالبهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالحجة، وذكر أنه قد بين جل شأنه الحجة، وأن حجته الأمرية الشرعية لا يمكن أن تتفق مع كونه رضي بذلك الشيء وأقره.
    فقَالَ: ((قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا))[الأنعام:148]، وقال جل شأنه: ((قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ))[الأنعام:149]، وقال جل شأنه: ((وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)) [الزمر:7] فلو أن المشيئة هي الرضا لهداكم أجمعين، فلو شاء لهداكم أجمعين، وخلقكم أمة واحدة مؤمنة، لكن من حكمة الله أن خلقكم فمنكم كافر، ومنكم مؤمن، وهذا فيه حكم عظيمة جداً منها: بعث الرسل، واصطفاء عباد الله المؤمنين، وإذلال الكافرين، وليكون الإِنسَان الذي كرمه الله تَعَالَى عَلَى جميع المخلوقات حر الإرادة، يختار هذا الطريق أو ضده، ومنها: أن يكون للجنة أهل، وللنار أهل.
    فالاحتجاج بالمشيئة والإرادة قد أجاب الله عنه في سورة النحل، فَقَالَ جل شأنه: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ))[النحل:36] فجعل الإِنسَان مختاراً وأقام الحجة عليه، فيا سُبْحانَ اللَّه! كيف تقولون: إن الله تَعَالَى راض عن شركنا، وأنه يريد لنا الشرك، وهو يقول: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) [النحل:36] ولو قيل كيف يهدي أناساً ويضل آخرين، قال الله: ((فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ))[النحل:36].
    ثُمَّ قال بعد ذلك ((إِنْ تَحْرِص عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ))[النحل:37].
    فالله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يوفق للهداية من شاء تفضلاً بعد أن تقوم الحجة، ويحجب هذه الهداية عمن شاء بعد أن تقوم عليه الحجة، فما كفر كافر إلا باختيار منه بعد قيام الحجة عليه من الأنبياء، وهو يتحمل عاقبة وجزاء هذا الاختيار، وما آمن مؤمن إلا بفضل من الله عَزَّ وَجَلَّ ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ))[يونس:100] فهذا فضل وتكرم من الله -عَزَّ وَجَلَّ-
    ومن كمال عدله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه أوجب عَلَى نفسه أن لا يعذبهم حتى يبعث فيهم رسولاً: ((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))[النساء:165].
  2. أنواع الناس يوم القيامة

     المرفق    
    والنَّاس يوم القيامة نوعان:
    أ-نوع لم يأتهم نذير:كمن عاش في جزيرة نائية؛ أو في مكان لم تبلغهم الدعوة قط، فعدل الله -عَزَّ وَجَلَّ- ورحمته وحكمته اقتضت أن لا يعذبهم حتى يقيم عليهم الحجة؛ لأنهم لم يأتهم نذير، فيختبرهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- يوم القيامة؛ فإن أطاعوه أدخلهم الجنة، وإن عصوه أدخلهم النار، عَلَى القول الراجح.

    2-نوع يقولونها افتراءً وكذباً، كما في الحديث الصحيح عندما يسأل الله قوم نوح ((وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ))[القصص:65] ماذا أجبتم نوح؟! هل جاءكم من نذير؟! لماذا أشركتم؟! فيجيب قوم نوح: ما جاءنا من نذير.
    فيقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: يا نوح ما صنعت بقومك؟ فَيَقُولُ: يا رب دعوتهم إِلَى ما أمرتني به. فيقول لقوم نوح: ما تقولون في قوله هذا فيقولون كذب، فيقول الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: يا نوح من يشهد لك؟ فيقول نوح: مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته، فيأتي رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته فيشهدون أن نوحاً قد بلّغ -ونحن والله نشهد أن نوحاً بلغ أمته- لأن كتاب الله بين أيدينا ينطق بذلك ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً))[البقرة:143] فنحن شهداء عَلَى الناس، ما من نبي تكذبه أمته يوم القيامة في البلاغ؛ إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ؛ لأن الله أخبرنا بذلك في كتابه -الذكر المحفوظ - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فاحتجاج الْمُشْرِكِينَ باطل ومردود بأعظم دليل وهو بعثة الرسل، فإن بعثة الرسل تبطل دعواهم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شاء لهم الكفر، أي: رضيه لهم.
    وكذلك كل من فجر أو بغى أو عصى من هذه الأمة فقَالَ: لا أصلي؛ لأن الله لم يشأ لي الهداية، يرد عليه بما رد الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أن الله لو شاء ذلك بمعنى: أنه رضيه له، فلماذا شرع الحلال والحرام؟! ولماذا بعث نبينا صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فحرم الزنا، وشرع عقوبة له، إما الجلد وإما الرجم، وشرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذه الأمور لماذا تكون؟!
    فلو أن الله رضي بالزنا -والعياذ بالله- فلماذا حرمه؟!.
    إذن. لا يرضاه، فإنه تَعَالَى وإن كَانَ كتبه أو شاءه إلا أنه يبغضه ويسخطه ولا يرضاه، بل توعد صاحبه بالنَّار والجزاء الأشد، فلماذا تختار ذلك بمحض مشيئتك وإرادتك؟!
    فأنت تعاقب عَلَى هذه المشيئة والإرادة، ولهذا فرق بين من جيء به مقيداً مغلولاً فأخذ مال إنسان أو قتل إنساناً دون أن يتعمد ذلك، وهو مقيد مغلول مقهور، وبين من يذهب إليها راضياً مطمئناً، فعندما يحتج هذا بأنه مجبور وأنه مقدر عليه؛ فكأنه يقول: أنا مكتَّف ومقيد ومرغم عَلَى أن أفعل هذا.
    وإنما قالت القدرية ذلك لجهلهم وسوء استدلالهم، كما في قصيدة شَيْخ الإِسْلامِ التائية في الاحتجاج بالقدر التي شرحها الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى يقول: إن قول هَؤُلاءِ النَّاس كقول الذئب هذه طبيعتي، فلو جَاءَ ذئب وهجم عَلَى مزرعتك، وعبث في الغنم، ثُمَّ قتلته، فقيل لك: أتقتله وهذه طبيعته وهو هكذا خُلق يأكل الغنم؟ فلا شك أنك لن تقبل هذا الكلام، فالله خلقه ليأكل الغنم وهذا قدر الله، لكن أيضاً قدر الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن أعطاني أيضاً من الإرادة ما أحفظ بها غنمي، فأنا أرد القدر بالقدر.
    فالواحد منهم لو أخذ الذئب غنمه لكان أشجع ما يكون حتى يقتله، وإذا ارتكب معاصي الله قَالَ: هذا قدر الله علينا، وهذه طبيعتنا، وكذا خلقنا.
    وهذه الشبهات تنشأ من مرض القلب، وليست مبنية عَلَى هدى، فلذلك قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ((قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا))[الأنعام:148].
  3. الفرق بين الإرادة والمحبة

     المرفق    
    هناك فرق بين المشيئة والمحبة، فالمشيئة غير المحبة فمثلاً الله أراد الكفر قضاءً وقدراً، وكتب أن هناك أناساً يكفرون؛ لأنه لا يقع إلا ما يريد الله، ولكنه -سبحانه- لا يحب الكفر ولا يرضى لعباده الكفر، والله لا يحب الكافرين، ولا يحب الفاسقين، ولا يحب الظالمين، فهناك فرق بين الرضا وبين المشيئة، ولذا ذكر المُصنِّفُ مثالاً فقهياً -حتى من كَانَ معتزلياً أو قدرياً فإنه يفتي به- وهو أنه لو حلف أو نذر رجل عَلَى شيء، ثُمَّ علقه بالمشيئة أو بالمحبة، فقَالَ: والله لأتصدقن بألف ريال -إن شاء الله- فهذا عند جميع المذاهب الأربعة حكمه أنه إن تصدق فله الأجر، وإن لم يتصدق فلا شيء عليه؛ لأنه قَالَ: إن شاء الله، يخير الإِنسَان في فعله أو عدمه؛ لأنه لا يدري هل يشاء الله أم لا يشاء؛ لأن ذلك في اللوح المحفوظ، والإِنسَان بحريته واختياره يفعل ما يشاء ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ))[الإِنسَان:30]، لكن لو قَالَ: والله لأتصدقن بألف ريال إن أحب الله، قال الفقهاء: يجب عليه أن يتصدق، فالله يحب المتصدقين، ويحب عطاء المساكين.
    فكونه شاء شيئاً لا يقتضي أنه يحبه، لكن كونه يحب شيئاً فمعناه أنه مأمور ومطلوبٌ شرعاً، إما وجوباً وإما استحباباً، فهذا هو الفرق: أن المشيئة لا تتضمن المحبة.
  4. أنواع الإرادات

     المرفق    
    والإرادة الواردة في القُرْآن والسنة نوعان:
    1. الإرادة الكونية القدرية

      وهي: أن ما أراده الله وقضاه كوناً وقدراً قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، جرت به المقادير وجفت به الأقلام، فلا ينسخه شيء، وهو في اللوح المحفوظ، ومن هذه الإرادة: أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أراد أن يوجد فرعون ويكون كافراً، ويكذب موسى ثُمَّ يغرق، وأن يكفر أبو لهب، وأن يكون من أهل النار، قال الله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً))[الفرقان:31]، وهذه الإرادة لا يخرج عنها شيء بإطلاق، فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد شاء وأراد وكتب وقضى، وقدر طاعة المطيع ومعصية العاصي، وكفر الكافر، وشرك المشرك، وبدعة المبتدع، والحياة والموت ((وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ))[الأنعام:59] حتى سقوط الحبة يابسة جافة في ظلام الليل لا يسمعها الإِنسَان وهو في جوارها؛ فإنها مكتوبة، حتى حركة الذر، وحركة أصغر الكائنات -الميكروبات أو الجراثيم- كل شيء مكتوب، فهذه الإرادة الكونية شاملة لجميع الموجودات والكائنات، ولذلك نقول: أراد الله كذا. أي: خلقة وقدره وشاء وقوعه.
    2. الإرادة الشرعية الأمرية

      هذه الإرادة الشرعية مثل إرادة الله منا أن نصلى ونزكي، وإرادته من قوم نوح أن يؤمنوا، ومن فرعون أن يؤمن، ومن أبي لهب أن يؤمن، فهنا شرع وطلب ذلك، والفرق -كما يذكر المُصنِّف -أن الإرادة الأولى فعل من الله -عَزَّ وَجَلَّ- هو كتبه وأمضاه وقدره، وأما الإرادة الثانية فهو فعل من العبد مطلوب منه أن يفعله، فالكونية (أراد) بمعنى: خلق وقدر، والشرعية (أراد) بمعنى: أمر ونهى، فهما إرادتان مختلفتان، فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))[القصص:56] ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ))[الأنعام:125] ويقول نوح لقومه: ((وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ))[هود:34] وقول الله عَزَّ وَجَلَّ: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ))[البقرة:253] وقوله عَزَّ وَجَلَّ:((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ))[البروج:16] وقوله تعالى: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ))[الأنبياء:23] فهذه الإرادة الكونية.
      وأما الإرادة الشرعية الأمرية فمثل قول الله سبحانه: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ))[البقرة:185] أي: شرع لكم ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً))[النساء:27] ويقول: ((يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ))[النساء:26] يقول: ((مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ))[المائدة:6] فلم يرد الله لنا شرعاً أن نقع في حرج، لكن قد نقع فيه قدراً كونياً.

      فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أراد كوناً وقدراً أن أبا لهب وفرعون لا يؤمنان، بل يكونان كافرين، وأراد منهما شرعاً وأمراً أن يؤمنا، وجاءت لهما البراهين والبينات من موسى عَلَيْهِ السَّلام ومُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكفر فرعون وأبو لهب بهذه الآيات وبهذا النور المبين، فاستحق كل منهما عذاب الله ولم تتحقق فيهما الإرادة الشرعية؛ لأنها من فعل العبد، فلا يلزم أن تتحقق ولا أن تقع، وإنما له الخيار أن يفعل فيدخل الجنة، أو أن يعصي فيدخل النار، فوقع من أبي لهب وفرعون اختيار الكفر، أما المؤمن كـأبِي بَكْرٍ وعُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- فإن الله تَعَالَى أراد لهم الهداية كوناً وقدراً وكتب عنده في اللوح المحفوظ أنهما يكونان مؤمنين قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فلما بعث الله نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلب منهما طلباً وشرعاً أن يؤمنا فآمنا، فتحققت فيهما إرادة الله الكونية التي لا يقع شيء إلا وفقها ومقتضاها، وتحققت الإرادة الشرعية التي هي محل اختيار العبد.
      فمن هنا نعرف الفرق بين الإرادتين، ويتبين لنا كيف نرد عَلَى شبهة هَؤُلاءِ القدرية: الذين يقولون إن الإرادة والمشيئة تستلزم المحبة.
      ولهذا يقول المُصنِّف رحمه الله تعالى: فهذه الإرادة -يعني: الإرادة الشرعية- هي المذكورة في مثل قول النَّاس لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله، يعني: لا يرضاه ولا يحبه الله، لكن لو قالها آخر بمعنى: ما قدره الله ولا كتبه، فهذا إما أن يكون منكراً للعلم فيكون كافراً، وإما أن يكون فقط ينكر نسبة الشر إِلَى الله فيكون ضالاً مبتدعاً، ففرق بين الحالتين، لكن عامة النَّاس يستخدمونها بمعنى: لا يحبه، وهو شيئ محرم؛ لأن الله ورسوله لا يريدان الحرام وهكذا ...
      وأما الإرادة الكونية فهي الإرادة المذكورة في قول الْمُسْلِمِينَ: ما شاء الله كَانَ وما لم يشأ لم يكن، يعني: ما أراد الله كَانَ وما لم يرد الله لم يكن، فتبين لنا الفرق بين نوعي من الإرادة.
      ثُمَّ قَالَ: والفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل، وبين إرادته من غيره أن يفعل، أي: بين إرادة الله عَزَّ وَجَلَّ أن يفعل الشيء سبحانه؛ فهو فعال لما يريد، وبين إرادته من غيره أن يفعل، فالأولى متعلقة بفعله، والأخرى متعلقة بفعل المأمور، ثُمَّ إن المأمور قد يعان عَلَى ما أمر، وقد لا يعان.
  5. هل الأمر مستلزم للإرادة

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [وتحقيق هذا مما يبين فصل النزاع في أمر الله تعالى: هل هو مستلزم لإرادته أم لا؟ فهو سبحانه أمر الخلق عَلَى ألسن رسله -عليهم السلام- بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم، ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله، فأراد سبحانه أن يخلق ذلك الفعل، ويجعله فاعلاً له، ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله، فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات غير جهة أمره للعبد عَلَى وجه البيان، لما هو مصلحة للعبد أو مفسدة، وهو سبحانه إذا أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان، كَانَ قد بين لهم ما ينفعهم ويصلحهم إذا فعلوه، ولا يلزم إذا أمرهم أن يعينهم، بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة من حيث هو فعل له؛ فإنه يخلق ما يخلق لحكمة، ولا يلزم إذا كَانَ الفعل المأمور به مصلحة للمأمور إذا فعله أن يكون مصلحة للآمر إذا فعله هو، أو جعل المأمور فاعلاً له، فأين جهة الخلق من جهة الأمر؟ فالواحد من النَّاس يأمر غيره وينهاه مريداً لنصحه ومبيناً لما ينفعه، وإن كَانَ مع ذلك لا يريد أن يعينه عَلَى ذلك الفعل، إذ ليس كل ما كَانَ مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه، يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه، بل قد تكون مصلحتي إرادة ما يضاده، فجهة أمره لغيره نصحاً غير جهة فعله لنفسه، وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين، فهو في حق الله أولى بالإمكان.
    والقدرية تضرب مثلاً بمن أمر غيره بأمره؛ فإنه لا بد أن يفعل ما يكون المأمور أقرب إِلَى فعله، كالبشر والطلاقة وتهيئة المساند والمقاعد، ونحو ذلك.
    فيقال لهم: هذا يكون عَلَى وجهين: أحدهما: أن تكون مصلحة الأمر تعود إِلَى الآمر، كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه، وأمر السيد عبده بما يصلح ملكه، وأمر الإِنسَان شركاءه بما يصلح الأمر المشترك بينهما، ونحو ذلك.
    الثاني: أن يكون الآمر يرى الإعانة للمأمور مصلحة له، كالأمر بالمعروف، وإذا أعان المأمور عَلَى البر والتقوى، فإنه قد علم أن الله يثيبه عَلَى إعانته عَلَى الطاعة، وأنه في عون العبد ما كَانَ العبد في عون أخيه. فأما إذا قدر أن الآمر إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور لا لنفع يعود عَلَى الآمر من فعل المأمور، كالناصح المشير، وقدر أنه إذا أعانه لم يكن ذلك مصلحة للآمر، وأن في حصول مصلحة المأمور مضرة عَلَى الآمر، مثل الذي جَاءَ من أقصى المدينة يسعى، وقال لموسى عَلَيْهِ السَّلام: ((إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ))[القصص:20] فهذا مصلحته في أن يأمر موسى عَلَيْهِ السَّلام بالخروج، لا في أن يعينه عَلَى ذلك، إذ لو أعانه لضره قومه، ومثل هذا كثير.
    وإذا قيل: إن الله أمر العباد بما يصلحهم، لم يلزم من ذلك أن يعينهم عَلَى ما أمرهم به، لا سيما وعند القدرية لا يقدر أن يعين أحداً عَلَى ما به يصير فاعلاً.
    وإذا عللت أفعاله بالحكمة، فهي ثابتة في نفس الأمر، وإن كنا نَحْنُ لا نعلمها، فلا يلزم إذا كَانَ في نفس الآمر له حكمة في الأمر أن يكون في الإعانة عَلَى فعل المأمور به حكمة، بل قد تكون الحكمة تقتضي أن لا يعينه عَلَى ذلك. فإنه إذا أمكن في المخلوقات أن يكون مقتضى الحكمة والمصلحة أن يأمر بأمر لمصلحة المأمور، وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر أن لا يعينه عَلَى ذلك، فإمكان ذلك في حق الرب أولى وأحرى.
    والمقصود: أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه عليه، فالخالق أولى بإمكان ذلك في حقه مع حكمته، فمن أمره وأعانه عَلَى فعل المأمور، كَانَ ذلك المأمور به قد تعلق به خلقه وأمره نشأةً وخلقاً ومحبةً، فكان مراداً بجهة الخلق ومراداً بجهة الأمر.
    ومن لم يعنه عَلَى فعل المأمور، كَانَ ذلك المأمور قد تعلق به أمره ولم يتعلق به خلقه، لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به، ولحصول الحكمة المقتضية لخلق ضده.
    وخلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر، فإن خلق المرض الذي يحصل به ذل العبد لربه ودعاؤه وتوبته، وتكفير خطاياه، ويرق به قلبه، ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان، يضاد خلق الصحة التي لا تحصل معها هذه المصالح، ولذلك كَانَ خلق ظلم الظالم الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض، يضاد خلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح، وإن كانت مصلحته هو في أن يعدل.
    وتفصيل حكمة الله في خلقه وأمره، يعجز عن معرفتها عقول البشر، والقدرية دخلوا في التعليل عَلَى طريقة فاسدة مثلوا الله فيها بخلقه، ولم يثبتوا حكمة تعود إليه] إهـ

    الشرح:
    وقد رد المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى القدرية: بأن الموضوع له جهتان:
    جهة خلقه وإرادته للشيء والأمر به.
    وجهة إعانته العبد عَلَى فعل ما أراده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إنما يعاقب العبد الكافر والعاصي بعد أن يبين له الحجة، وهو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد كتب عَلَى نفسه أن لا يعاقب أحداً إلا بعد أن يبين له الحق والحجة والصواب ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ))[التوبة:115] فضرب المثال بـفرعون وأبي لهب، جاءتهما الحجج من عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والبيان فكفرا به، فلا يلزم من إرادة الإيمان منهما أن يعينهما الله عَزَّ وَجَلَّ، وأن يوفقهما الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- للإيمان؛ لأن هناك حِكما ومصالح تفوت في عدم كفر فرعون وأبي لهب، بل في وجود الكافرين عموماً، فهذه الحكم تفوت وتنتفي لو أنه وفقهما للإيمان كما وفق أبا بكر وعُمَرَ، وإنما بيّن لهما وأراهما الحجة، ثُمَّ وفقهما الله عَزَّ وَجَلَّ وتفضل عليهم فاختارا الهدى، فهو أعان المؤمنين عَلَى هداهم ووفقهم وتفضل عليهم بالهداية، لكنه لم يمنع الكافرين حقاً لهم عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    وإنما أعذر إليهم وأقام الحجة عليهم، فقول القدرية هَؤُلاءِ: إن الآمر يلزمه أن يعين المأمور، كلام مردود، وهذا من تشبيههم لله -عَزَّ وَجَلَّ- بخلقه، مثلما قالوا: إن الإِنسَان إذا أمر أحداً بشيء فإنه لا بد أن يظهر عليه من البشر أو الطلاقة أو من واقع الحال ما يدل عَلَى أنه يعينه عليه، لذلك قالوا: إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يلزم عليه أن يعين الكافر ويوفقه للإيمان أو الطاعة.
    مع أن الخلق عندهم الأمر ينفك عن الإعانة، فقد لا يكون مصلحة للآمر أن يعينه، بل قد يكون خلاف ذلك، كالرجل الذي جَاءَ من أقصى المدينة يسعى فَقَالَ لموسى: ((إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ))[القصص:20].
    فمصلحته أن يأمر موسى عَلَيْهِ السَّلام بالخروج فقط، لكنه لو أعانه وأرشده وأخذ بيده، أو حمله عَلَى بعيره حتى يخرجه، لكانت هناك مضرة عَلَى هذا الرجل لو رآه فرعون وقومه؛ لكن هو مصلحته في أن يخبره ويبلغه، فَقَالَ له: إن بقيت ظفر بك قوم فرعون؛ فإنهم سوف يؤذونك ويقتلونك، وإذا خرجت فستسلم، فاخرج إني لك من الناصحين.