المادة كاملة    
لقد بشرت الكتب السابقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فتارة تذكره باسمه أو وصفه، أو تصف أصحابه، أو أمته، أو بلده أو دينه؛ وهذا تصديق لما ذكره القرآن من أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم مكتوب عند أهل الكتاب في التوراة والإنجيل، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله في كتابه: (الجواب الصحيح) شيئاً من تلك البشارات.
  1. كتب أهل الكتاب تشهد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم

     المرفق    
    سوف نورد إن شاء الله تعالى بعض الشهادات التي في كتب أهل الكتاب -مما لم يحرف- في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق رسالته، ولعل قائلاً يقول: وما حاجتنا إلى ذلك؟ فنقول: ليست الحاجة إليه لنؤمن نحن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فنحن والحمد لله في غنىً عن ذلك، وإن كان ذلك قد يقوي الإيمان؛ ولكن حاجتنا إليه من جهة أنهم هم يؤمنون بهذه النصوص، وهي موجودة في كتبهم إلى اليوم، ولن نأتي بجديد؛ لأن ذلك قد ذكره الله سبحانه وتعالى في القرآن في مواضع كثيرة: ((أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ))[الشعراء:197]... ((وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ))[الأحقاف:10].
    وما ذكره الله سبحانه وتعالى من أوصاف الذين يهتدون من النصارى عندما يرون صدق هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ومطابقة ما يقول وما يدعو إليه لما عندهم في التوراة: ((تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ))[المائدة:83]... ((وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا))[الإسراء:109] وغير ذلك؛ فهو دليل قرآني، وحجة واردة في كتاب الله سبحانه وتعالى، وما يأتي هنا يبين ذلك ويؤكده؛ كما سوف نعرض إن شاء الله من الآيات.
    1. ذكر براعة شيخ الإسلام في رد الباطل وإيضاح الحق

      وقد جمع شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه الجواب الصحيح كثيراً من البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكتابه هذا كتاب أصيل؛ وفي التعرف عليه فائدة لنا جميعاً؛ إذ أن من مشكلاتنا وأخطائنا -نحن الشباب والدعاة في هذا العصر- أننا لا نرجع إلى الكتب الأصيلة، والقليل منا من يرجع إليها ويأخذ منها.
      وهناك أمر آخر: وهو أن كثيراً من الناس بهروا وذهلوا من مناظرات الشيخ أحمد ديدات على سبيل المثال، ولا شك أنها باهرة ورائعة، ولست هنا بصدد تقييمها ولكن هناك ما هو أعظم من ذلك وأولى، وأصوب وأدق وأقدم، وهو ما كتبه شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب الصحيح، ففيه كلام أوسع أفقاً وأرحب مجالاً، ويقرر فيه حقائق عجيبة جداً غير مسألة إقامة الحجة عليهم، ولو أن أي حبر قرأه لما وسعه إلا أن يسلم أو يلجم؛ لأن فيه حقائق علمية قوية قاطعة.
      وحين يعرض المسألة يعرضها بأوجه كثيرة وكأنه محايد كل المحايدة، ثم يأخذ الأدلة واحداً واحداً، حتى يقرر الحق الذي تشهد له العقول السليمة والفطر القويمة. فقد كان رجلاً عجيباً في تقرير الأدلة والرد على الخصوم.
      ومعلوم من ديننا أنه لا يبيح صنع التماثيل، ولا تعظيم الأشخاص والغلو فيهم فوق ما يستحقون؛ لكنني أقول من واقع القراءة في فكر الغربيين ومعرفتي بهم على محدوديتها: لو كان شيخ الإسلام هذا أوروبياً، لصنعوا له تمثالاً في كل ميدان، ولجعلوا اسمه على كل شارع؛ لأنه يأتي بأشياء مذهلة، ويستوعب كل القضايا؛ حتى إنه ذكر قضية الترجمة واختلاف الأناجيل من حيث اللغات.
      وهذا الكتاب ليس مختصاً فقط بالرد على النصارى، بل يرد على اليهود وعلى الفلاسفة، ويقرر حقائق عجيبة من القرآن الكريم والسنة المطهرة، في شرف هذه الأمة وفضلها، وفضل نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، وما خصها الله تبارك وتعالى به من الكرامة، وما ميزها به، وغير ذلك من الأمور، حتى في القضايا الفقهية والأصولية، والقراءات والترجمات، ومسائل الولاء والبراء، وأحكام كثيرة جداً لا أستطيع أن آتي بتفاصيلها، وسيرى القارئ طرفاً منها إن شاء الله.
    2. شهادة الكتب المتقدمة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من دلائل نبوته

      قال شيخ الإسلام : "ومما ينبغي أن يعرف ما قد نبهنا عليه غير مرة؛ أن شهادة الكتب المتقدمة لمحمد صلى الله عليه وسلم -إما شهادتها بنبوته، وإما شهادتها بمثل ما أخبر به- هو من الآيات البينات على نبوته ونبوة من قبله، وهو حجة على أهل الكتاب، وعلى غير أهل الكتاب من أصناف المشركين والملحدين، كما قد ذكر الله هذا النوع من الآيات في غير ما موضع من كتابه، كما في قوله تعالى: ((أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ))[الشعراء:197]، وقوله: ((فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ))[يونس:94]، وقوله: ((قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ))[الرعد:43]، وقوله: ((وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ))[الأنعام:114]، وقوله: ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ))[البقرة:146]، وقوله: ((وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ))[المائدة:83-84]، وقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا))[الإسراء:107-109]، وذلك مثل قوله في التوراة ماقد ترجم بالعربية: (جاء الله من طور سينا ".
      هذه هي العبارة الأولى، ومن دقته رحمه الله أنه يأتي بها من عدة ترجمات حسب النسخ، وهذه العبارة موجودة في التوراة إلى اليوم، وقد وجدتها في الطبعة التي عندي، وهي طبعة بيروت عام (1977م) وكل الطبعات الحديثة تقريباً سواء.
  2. البشارة التوراتية بخروج النبوة من مكة (فاران)

     المرفق    
    قال: "وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية: (جاء الله من طور سينا)، وبعضهم يقول في الترجمة: (تجلى الله من طور سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران).
    فعندنا ثلاثة أمور تتعلق بالله سبحانه وتعالى؛ الأول: أنه تجلى أو جاء من الطور، والثاني: أنه أشرق من ساعير، والثالث: أنه استعلن -أي: ظهر وأعلن كما في الترجمة الأخرى عندهم- من جبال فاران. هذا نص عبارة التوراة، وهذا النص موجود إلى اليوم يقرؤه اليهود والنصارى بجميع طوائفهم وفرقهم.
    ثم قال شيخ الإسلام: "قال كثير من العلماء واللفظ لـأبي محمد بن قتيبة: ليس بهذا خفاء على من تدبره ولا غموض؛ لأن مجيء الله من طور سينا إنزاله التوراة على موسى من طور سينا، كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا، وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح من ساعير -أرض الخليل- بقرية تدعى ناصرة، وباسمها يسمى من اتبعه: نصارى.
    وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران: إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وجبال فاران هي جبال مكة ".
    يبين الإمام ابن قتيبة رحمه الله أنه لا أحد يشك في هذا؛ فالمسلمون واليهود والنصارى متفقون على أن الله سبحانه وتعالى كلم موسى عليه السلام عند الطور، وأن معنى إشراقه من ساعير: هو إنزاله الإنجيل على عيسى عليه السلام، وذكر أن ساعير هي بلدة قريبة من بيت لحم حيث ولد المسيح عليه السلام، أو القرية المسماة الناصرة، وعلى أرجح الأقوال يسمى النصارى بذلك نسبةً إلى الناصرة، وهي بلدة معروفة إلى الآن في فلسطين، وسيأتي كلام شيخ الإسلام عليها، وسيوضح هذا المعنى أكثر.
    فاليهود والنصارى والمسلمون كلهم مسلِّمون بالأولى وهي: إنزال التوراة.
    أما الثانية، وهي إنزال الإنجيل فيسلم بها النصارى ولا يسلم بها اليهود، ونحن نسلِّم بها، فاتفقنا نحن والنصارى عليها، ونحن نلزم اليهود بالتسليم برسالة عيسى عليه السلام؛ لأن هذا نص التوراة وهو كتابهم، والنصارى يوافقوننا على ذلك.
    وأما الثالثة: فقد وجدنا أن النصارى الذين هم معنا في الثانية على اليهود يقولون: لا نؤمن بها.. وهنا تأتي قضية إلزامهم بذلك، مع أن ما يلزم به اليهود من مقتضى نص التوراة يلزم به النصارى ضمناً؛ لأنهم يؤمنون بنفس التوراة.
    1. إثبات أن جبال فاران هي مكة وما حولها

      قال شيخ الإسلام : "وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة، فإن ادعوا أنها غير مكة، فليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم".
      فلا خلاف عند أي عاقل ومتأمل منصف أن جبال فاران هي جبال مكة، فإن قال أحد منهم غير ذلك فهذا من تحريفهم؛ لأنهم كذبوا على الله، ونسبوا إلى المسيح أنه الله أو أنه ابن الله، فليس غريباً عليهم أن يحرفوا معنى فاران بشيء آخر، وشيخ الإسلام رحمه الله سيلزمهم بأنه لا يمكن أن تكون فاران إلا مكة ؛ لأنه لم يظهر أحد -لا في بني إسرائيل ولا في بني إسماعيل- مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
      ثم قال شيخ الإسلام : "قلنا: أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟! وقلنا: دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران ".
      القضية الأولى أن نقول: إن الله ذكر في التوراة أنه سبحانه وتعالى قال لإبراهيم: اذهب وأسكن هاجر وابنها إسماعيل في برية فاران، والقصة موجودة بكاملها، مع ذكر نبع الماء من تحت أقدام إسماعيل، بما يشبه إلى حد كبير ما في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وشيخ الإسلام رحمه الله سيؤكد ذلك، ولكن هذا كلام ابن قتيبة، والنص الذي ذكره شيخ الإسلام وابن قتيبة موجود إلى اليوم في التوراة.
      والقضية الثانية: من أين استعلن الرب إذا لم يكن من مكة، ولم يظهر كتاب أو رسول من غيرها؟!
      قال شيخ الإسلام : "وقلنا: دلونا على الموضع الذي استعلن منه واسمه فاران، والنبي الذي أنزل عليه كتاباً بعد المسيح؛ أوليس (استعلن) و (علن) وهما بمعنى واحد؟ وهو ما ظهر وانكشف. فهل تعلمون ديناً ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فُشُوَّه؟!
      وقال أبو هاشم بن ظفر: ساعير جبل بـالشام، منه ظهرت نبوة المسيح. قلت: وبجانب بيت لحم القرية التي ولد فيها المسيح، قرية تسمى إلى اليوم ساعير، ولها جبال تسمى ساعير .
      وفي التوراة: أن نسل العيص كانوا سكاناً بـساعير، وأمر الله موسى ألا يؤذيهم، وعلى هذا فيكون ذكر الجبال الثلاثة حقاً، جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه، ومنه كان نزول أول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وحوله من الجبال جبال كثيرة، حتى قد قيل: إن بـمكة اثني عشر ألف جبل، وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم، وفيه كان ابتداء نزول القرآن، والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران، ولا يمكن أحداً أن يدعي أنه -بعد المسيح- نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي".
      يقول شيخ الإسلام : فاران إلى الآن تطلق على جبال مكة وبالذات جبل حراء، فهذه الجبال التي يقال: إنها اثنا عشر ألف جبل، و (75%) من مباني مكة مبنية على الجبال؛ فهي من أكثر مدن العالم صعوبة في التضاريس، فالجبال فيها كثيرة جداً، فتكون فاران إما اسم المنطقة كلها، أو اسم لجبل حراء .
      وأمر آخر: وهو أن البرية -وهي الصحراء- الممتدة ما بين الطور إلى مكة، هي برية فاران ؛ فسواءٌ قلنا: إن فاران هو الجبل، أو قلنا: إن فاران هي البرية، فلا يستطيع أحد أن يدعي أن نبياً أرسل بها أو أن كتاباً أنزل فيها، إلا أن يكون ذلك النبي هو محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يكون ذلك الكتاب هو القرآن الكريم.
      قال شيخ الإسلام : "فعلم أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني، فذكر إنزال التوراة، ثم الإنجيل، ثم القرآن، وهذه الكتب نور الله وهداه".
      يقصد أن الترتيب في البشارة بين المواضع الثلاثة موافق لترتيب نزول الوحي على موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وذلك أن الله أول ما أوحى إلى موسى عليه السلام، ثم إلى عيسى عليه السلام، ثم إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
    2. دقة الكلمات الإلهية في البشارة بخروج النبي صلى الله عليه وسلم من جبال فاران

      ثم نأتي إلى قضية أخرى وهي من لفتات شيخ الإسلام -رحمه الله- الذكية، وهي في مسألة الظهور أو التجلي ثم الإشراق ثم الاستعلان، فلها معنى ولها مغزى، من جهة أن الوحي هو نور الله، قال تعالى ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا))[الشورى:52].. ((قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ))[المائدة:15]، والكتب السماوية كلها نور: ((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ))[المائدة:44]، فالوحي هو النور، فذكر أنه يبدأ النور أولاً من مكان، ثم يشرق من مكان، ثم يستعلن من مكان، وهذا يتناسب مع الواقع، وفيه شهادة عظمى لهذه الأمة.
      قال شيخ الإسلام : "وقال في الأول: جاء أو ظهر، وفي الثاني: أشرق، وفي الثالث: استعلن، وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر، أو ما هو أظهر من ذلك، ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس، زاد به النور والهدى، وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء، ولهذا قال: (واستعلن من جبال فاران )، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين، كما يظهر نور الشمس إذا استعلت في مشارق الأرض ومغاربها، ولهذا سماه الله سِرَاجًا مُنِيرًا، وسمى الشمس: سِرَاجًا وَهَّاجًا".
      فهذه العبارة من شيخ الإسلام تتناسب مع الحقيقة التاريخية، وفيها أمور: الأمر الأول أن أول ما أوحى الله إلى موسى، ثم عيسى، ثم محمد صلى الله عليه وسلم.
      الأمر الثاني: أن موسى عليه السلام كان بداية النور، ثم جاء عيسى عليه السلام فكان الإنجيل إشراقاً؛ لأنه أضاف إلى التوراة وزاد فيها، فهو مكمل للتوراة وليس مبطلاً لها، فزاد نور التوراة بنور الإنجيل، كما أن الشمس حين تشرق فإن النور يزداد؛ ولكن أعظم ما يكون النور إذا ارتفعت في السماء من الضحى فما فوق، حين تعم العالم بالنور، وهذا هو الذي حصل لمحمد عليه الصلاة والسلام.
      الأمر الثالث: أن الله سبحانه وتعالى وصف نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه: (سراج منير)، ووصف الشمس بأنها: (سراج وهاج).
      قال شيخ الإسلام : "والخلق يحتاجون إلى السراج المنير، أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج؛ فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت، بل قد يتضررون به في بعض الأوقات، وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت، وفي كل مكان، ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية.
      وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {زويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها}".
      يذكر شيخ الإسلام أن حاجة الناس إلى السراج المنير أشد منها إلى السراج الوهاج، والسراج الوهاج هو الشمس؛ فالشمس تفيد الناس في وقت دون وقت؛ لأنها قد تضر في بعض الأوقات بحرارتها، أما السراج المنير فإنه خير لا ضرر فيه، فوصف محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم مما وصفت به الشمس.
      ثم قال شيخ الإسلام: "وهذه الأماكن الثلاثة أقسم الله بها في القرآن في قوله تعالى: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ))[التين:1-8]، فأقسم بالتين والزيتون، وهي الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك، ومنها بعث المسيح، وأنزل عليه فيها الإنجيل، وأقسم بـطور سينا، وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى، وناداه من واديه الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأقسم بالبلد الأمين، وهي مكة، البلد الذي أسكن فيه إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه، وهو الذي جعله الله حرماً آمناً، ويتخطف الناس من حولهم، وجعله آمناً خلقاً وأمراً، قدراً وشرعاً، فإن إبراهيم حرمه ودعا لأهله، فقال: ((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ))[إبراهيم:37]".
      ومعنى (جعله آمناً خلقاً وأمراً، قدراً وشرعاً): أنه شرعاً لم يحل لأحد، وإنما أحل للنبي صلى الله عليه وسلم ساعةً من نهار، كما بين ذلك، وأما كونه آمناً قدراً فمعناه: قدّر تقديراً كونياً أن يكون هذا البيت محرماً معظماً.
      والمقصود: أن الله تعالى أقسم بقوله: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ))[التين:1-2] ثم قال: ((وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ))[التين:3]، فقدم ذكر التين والزيتون على طور سينين، ولعل ذلك لأن التين والزيتون يعني بلاد الشام، وهي غير مختصةٍ بعيسى عليه السلام، فقد بعث فيها قبله إبراهيم ولوطاً عليهما السلام وغيرهما من الرسل، وإن كان عيسى عليه السلام هو آخرهم، وهو الذي أشرق به الوحي كما سبق أن أوضحنا، أما الطور فمعلوم أنه خاص بموسى عليه السلام، فمع أن موسى عليه السلام آياته أعظم من آيات عيسى عليه السلام، ومع أن التوراة أعظم من الإنجيل، ولكن بلاد الشام -التين والزيتون- شارك المسيح فيها غيره من الرسل، فهي بلاد معظم الأنبياء ولذلك قدمت على الطور.. والله أعلم.
      ثم قال شيخ الإسلام : "فقوله تعالى: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ))[التين:1-3] إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة، التي ظهر فيها نوره وهداه، وأنزل فيها كتبه الثلاثة: التوراة، والإنجيل، والقرآن؛ كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله: (جاء الله من طور سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران ). ولما كان ما في التوراة خبراً عنها أخبر بها على ترتيبها الزماني، فقدم الأسبق فالأسبق، وأما القرآن فإنه أقسم بها تعظيماً لشأنها، وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وآياته وكتبه ورسله فأقسم بها على وجه التدريج، درجة بعد درجة، فختمها بأعلى الدرجات؛ فأقسم أولاً بالتين والزيتون، ثم بـطور سينا، ثم بـمكة ؛ لأن أشرف الكتب الثلاثة: القرآن، ثم التوراة، ثم الإنجيل، وكذلك الأنبياء، فأقسم بها على وجه التدريج؛ كما في قوله: ((وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا))[الذاريات:1-4].
    3. قصة سيدنا إسماعيل وأمه هاجر ودلالتها على كون فاران هي مكة

      قال شيخ الإسلام : "وما ذكر ابن قتيبة وغيره من علماء المسلمين من تربية إسماعيل في بَرِّيَّة فاران، فهكذا هو في التوراة، قال فيها: (وغدا إبراهيم فأخذ الغلام، وأخذ خبزاً وسقاءً من ماء، ودفعه إلى هاجر، وحمله عليها، وقال لها: اذهبي! فانطلقت هاجر، فضلت في بَرِّيَّة سَبْع، ونفد الماء الذي كان معها، فطرحت الغلام تحت شجرة، وجلست في مقابلته على مقدار رمية سهم؛ لئلا تبصر الغلام حين يموت، ورفعت صوتها بالبكاء، وسمع الله صوت الغلام؛ فدعا مَلَكُ الله هاجر وقال لها: مالك يا هاجر؟ لا تخشي؛ فإن الله قد سمع صوت الغلام حيث هو، فقومي فاحملي الغلام وشدي يديك به؛ فإني جاعله لأمةٍ عظيمة)".
      معنى ذلك: أن هاجر ابتعدت ورفعت صوتها؛ لأنها لا تريد أن تراه حين يموت من العطش، فجاء ملك الرب، وقال: لا تخافي، إن الله تعالى سيجعله أمّةً عظيمة، وفي بعض النسخ: (أمّةً عظيمةً جداً جداً). أي: أنه لن يموت الآن، بل سيكبر ويتزوج ويكون له نسل، ونسله سيكون أمة عظيمة جداً جداً.
      قال شيخ الإسلام : "وفتح الله عينها فبصرت بئر ماء، فسقت الغلام وملأت سقاءها، وكان الله مع الغلام، فربي وسكن في بَرِّيَّة فاران ".
      نحن نقطع بأن هذا الغلام هو إسماعيل، وهذا لا نقاش فيه لا عند اليهود ولا النصارى ولا المسلمين، ولا يحتمل أبداً أن يكون غير إسماعيل، فنحن نلزمهم بهذه الأشياء القطعية التي يسلِّم بها كل نصراني وكل يهودي في الدنيا.
      قال شيخ الإسلام : "فهذا خبر الله في التوراة: أن إسماعيل ربي وسكن في برية فاران، بعد أن كاد يموت من العطش، وأن الله سقاه من بئر ماء، وقد علم بالتواتر واتفاق الأمم أن إسماعيل ربي بـمكة، وهو وأبوه إبراهيم بنيا البيت، فعلم أن أرض مكة من فاران ".
      يذكر شيخ الإسلام أن قصة إسماعيل وأمه هاجر تدل دلالة صريحة على أن أرض فاران هي مكة ؛ لأن جميع الأمم تقطع أن إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام بنيا هذا البيت، وأنه بني في مكة، فإذا كان إسماعيل قد تربى وسكن وعاش وتزوج في برية فاران، فإن فاران هي مكة قطعاً، حيث نشأ هذا الغلام، وحيث عين زمزم موجودة إلى اليوم.
  3. البشارة بجعل إسماعيل أمة عظيمة جداً جداً

     المرفق    
    قال شيخ الإسلام: "وهذه البشارة التي في التوراة لـهاجر بإسماعيل، وقول الله: "إني جاعله لأمة عظيمة ومعظمة جداً جداً، وإن هاجر فتحت عينها، فرأت بئر ماء، فدنت منها، ثم ملأت المزادة، وشربت وسقت الصبي، وكان الله معها ومع الصبي حتى تربى، وكان مسكنه في برية فاران"...
    وفي موضع آخر قال عن إسماعيل: (إنه يجعل يده فوق أيدي الجميع)، ومعلوم باتفاق الأمم والنقل المتواتر أن إسماعيل تربى بأرض مكة، فعلم أنها فاران، وأنه هو وإبراهيم بنيا البيت الحرام الذي ما زال محجوجاً من عهد إبراهيم، تحجه العرب وغير العرب من الأنبياء وغيرهم، كما حج إليه موسى بن عمران، ويونس بن متّى، كما في الصحيح من رواية ابن عباس: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بواد بين مكة والمدينة، فقال: أي وادٍ هذا؟ قالوا: هذا وادي الأزرق، فقال: كأني أنظر إلى موسى صلى الله عليه وسلم هابطاً من الثنية، واضعاً إصبعيه في أذنيه، له جؤار إلى الله عز وجل بالتلبية، ماراً بهذا الوادي. قال: ثم سرنا حتى أتينا على ثنية، فقال: أي ثنية هذه؟ فقالوا: هوشي، فقال: كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء، عليه جبة صوف، خطام ناقته ليف خلبة، ماراً بهذا الوادي ملبياً}. وفي رواية: {أما موسى فرجل آدم جعد على جبل أحمر مخطوم بخلبة ليف}.
    ولما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أوجب حجه على كل أحد، فحجت إليه الأمم من مشارق الأرض ومغاربها، والبئر الذي شرب منها إسماعيل وأمه، هي بئر زمزم".
    وقد رويت قصة هاجر وظهور ماء زمزم، ومجيء إبراهيم عليه السلام، وسؤاله امرأة إسماعيل، في صحيح مسلم، والحديث طويل، وخلاصته: أن إسماعيل عليه السلام تزوج من جرهم، وتربى معهم، وأتقن لغتهم، فأصبح عربي اللسان، ثم جعل الله العربية الفصحى هي ما فتق الله به لسان إسماعيل عليه السلام؛ فإنه هذبها.
    وعلى كلٍ فالمقصود هو أن الله سبحانه وتعالى جعل نسل إسماعيل الذي كان في تلك البرِّيَّة في فاران أي: في مكة معظماً جداً جداً، هذا كما في التوراة، وهذا هو الشاهد.
    1. التعظيم في البشارة دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

      قال شيخ الإسلام : "والله تعالى قال في إسماعيل: (إني جاعله لأمة عظيمة ومعظمة جداً جداً)، وهذا التعظيم المؤكد بـ(جداً جداً) يقتضي أن يكون تعظيماً مبالغاً، فلو قدر أن البيت الذي بناه لا يحج إليه أحد، وأن ذريته ليس منهم نبي، كما يقوله كثير من أهل الكتاب، لم يكن هناك تعظيم مبالغ بـ(جداً جداً)، إذ أكثر ما في ذلك أن يكون له ذرية".
      نقول لليهود والنصارى: أنتم تقرءون التوراة، وفيها أن هذا البيت معظم جداً جداً، فأين التعظيم إن لم يكن هذا هو البيت الذي تحج إليه الأمم كما هو مشاهد الآن؟! فإذا قلتم: إن هذا الحج باطل، وإن دين المسلمين باطل، وقد سلمتم أن فاران هي مكة، وأن إسماعيل عاش فيها، وأنه بنى هذا البيت؛ فنقول: هذا تناقض وإلا فما معنى: جداً جداً؟! والمشاهد أن هذا البيت معظم؛ حيث يأتي الناس من كل مكان فيعظمونه.
      وكذلك هذه الأمة عظمت جداً جداً، وهل عرف التاريخ أمة ملأت التاريخ أكثر من بني إسماعيل عليه السلام من العرب؟! حيث انتشرت حتى ملأت الآفاق بسبب هذا الدين، فانطلقت من فاران حتى وصلت إلى قرب باريس غرباً، ووصلت إلى أطراف الصين شرقاً، بل إن الإسلام دخل بلاد الروس، وكان الروس والهنود والصينيون يدفعون الجزية للمسلمين، ومنطقة الشرق -أعني: بلاد ما وراء النهر، ومن دون النهر إلى بلاد الشام- كلها مسلمة إلى اليوم والحمد لله.
      ثم قال شيخ الإسلام : "ومجرد كون الرجل له نسل وعقب لا يعظم به، إلا إذا كان في الذرية مؤمنون مطيعون لله".
      ذكر ذلك شيخ الإسلام لأن اليهود لا يجعلون أمته عظيمة جداً جداً، فنقول: إن الله عز وجل حين يثني على أمة ويعظمها لا يكون ذلك بسبب كثرتها، بل لإيمانها وعبادتها له، وإلا فإن الكثرة العددية هي لأرباب الكفر والضلال؛ كما في أول التوراة عن يأجوج ومأجوج أن عددهم كثير، وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى لآدم: {يا آدم أخرج بعث النار من ذريتك... من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين}، فالكثرة ليس لها اعتبار، وإنما تمدح ذرية شخص من الناس ويعظمون لكونهم على الإيمان.
    2. دلالة جعله أمة عظيمة على أنها هذه الأمة

      ثم قال شيخ الإسلام : "وكذلك قوله: (جاعله لأمة عظيمة) إن كانت تلك الأمة كافرة لم تكن عظيمة، بل كان يكون أباً لأمة كافرة، فعلم أن هذه الأمة العظيمة كانوا مؤمنين، وهؤلاء يحجون البيت، فعلم أن حج البيت مما يحبه الله ويأمر به، وليس في أهل الكتاب إلا المسلمون، فعلم أنهم الذين فعلوا ما يحبه الله ويرضاه".
      قوله: (ليس في أهل الكتاب إلا المسلمون) أي ليس فيمن أنزل الله تعالى عليهم الكتاب من يحج البيت إلا المسلمون، ويبدو لي أن في هذه العبارة خللاً، ولكن المقصود واضح، وهو أنه ليس في أهل الكتب المنزلة من يحج البيت ويعظمه إلا المسلمون، ومعلوم أن اليهود والنصارى لا يحجون البيت الحرام ولا يعظمونه، مع أنهم يعظمون بيت المقدس؛ ولكن البيت المعظم جداً جداً والذي بناه إسماعيل لا يحجه إلا المسلمون، فإذاً هم الأمة المعظمة جداً جداً.
      ثم قال شيخ الإسلام : "وأنهم وسلفهم الذين كانوا يحجون البيت أمة أثنى الله عليها وشرفها، وأن إسماعيل عظمه الله جداً جداً، بما جعل في ذريته من الإيمان والنبوة، وهذا هو كما امتن الله على نوح وإبراهيم بقوله: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ))[الحديد:26]، وقال في الخليل: ((وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ))[العنكبوت:27]، ولما قال في نوح: ((وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ))[الصافات:77] كان في ذريته أهل الإيمان كلهم، فعلم بذلك أن إسماعيل وذريته معظمون عند الله ممدوحون، وأن إسماعيل معظم جداً جداً، كما عظم الله نوحاً وإبراهيم، وإن كان إبراهيم أفضل من إسماعيل.
      لكن المقصود أن هذا التعظيم له ولذريته، إنما يكون إذا كانت ذريته معظمة على دين حق، وهؤلاء يحجون إلى هذا البيت، ولا يحج إليه بعد مجيء محمد صلى الله عليه وسلم غيرهم؛ قال تعالى: ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ))[آل عمران:85]، قالت اليهود أو بعض أهل الكتاب: فنحن مسلمون".
      هذه الآيات التي في سورة آل عمران نزلت في مناظرة وفد نجران وما أثير من الجدال، فتأتي الآيات في هذه السورة تبين وترد على ما يدعيه أهل الكتاب.
      فقال بعدها شيخ الإسلام: "قال الله تعالى: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا))[آل عمران:97]، فقالوا: لا نحج، فقال: ((وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ))[آل عمران:97]".
      فمن أنكر الحج فهو كافر، إذاً فاليهود والنصارى ومن كان مشاركاً لهم في هذا ليسوا مسلمين.
      ثم قال شيخ الإسلام : "وأيضاً فهذا التعظيم المبالغ فيه، الذي صار به ولد إسماعيل فوق الناس، لم يظهر إلا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أنها حق مبشر به. ومثل هذا بشارة أخرى بمحمد صلى الله عليه وسلم...".
      فقد ذكر سابقاً بشارتين: الأولى: قوله: (جاء الرب -أو تجلى الرب- من طور سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من فاران)، والثانية: أنه أسكنه في برية فاران، وقال: سأجعله أمة عظيمة جداً.
  4. بشارة شمعون تصف محمداً وأمته بكثرة التسبيح

     المرفق    
    ثم يذكر شيخ الإسلام بشارة ثالثة فيقول: "ومثل هذا بشارة أخرى بمحمد صلى الله عليه وسلم، من كلام شمعون بما رضوه من ترجمتهم، وهو: (جاء الله بالبينات من جبال فاران، وامتلأت السماوات و الأرض من تسبيحه وتسبيح أمته) فهذا تصريح بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جاء بالنبوة من جبال فاران، وامتلأت السماوات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته". وهذا كما نرى في عرفات كيف ترتفع أصوات الحجاج بذكر الله.
    قال شيخ الإسلام: "ولم يخرج أحد قط، وامتلأت السماوات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته، مما يسمى فاران، سوى محمد صلى الله عليه وسلم".
    فهل خرج أحد عندنا أو عندكم يا أهل الكتاب مما يسمى فاران، وارتفع التسبيح بصوته وصوت أمته غير محمد صلى الله عليه وسلم؟ ولا يمكن لأهل الكتاب أن يجدوا جواباً على هذا، وهذا يدل على أن المبشر به هو محمد صلى الله عليه وسلم.
    ثم قال شيخ الإسلام: "فإن المسيح لم يكن بأرض فاران ألبتة، وموسى إنما كُلِّم من الطور، والطور ليس من أرض فاران، وإن كانت البرية التي بين الطور وأرض الحجاز من فاران، فلم ينزل الله فيها التوراة".
  5. بشارة حبقوق تسمي النبي (أحمد) وتصف أتباعه بركوب الخيل والبحر

     المرفق    
    ثم قال شيخ الإسلام: "وبشارات التوراة قد تقدمت بـجبل الطور، وبشارة الإنجيل بـجبل ساعير . ومثل هذا ما نقل عن نبوة حبقوق أنه قال: جاء الله من (التيمن)، وظهر القدس على جبال فاران، وامتلأت الأرض من تحميد (أحمد)، وملك بيمينه رقاب الأمم، وأنارت الأرض بنوره، وحملت خيله في البحر".
    قوله: (وحملت خيله في البحر). أما المسيح عليه السلام، فمعلوم قطعاً أنه لم يجاهد، وإنما رفعه الله سبحانه وتعالى إليه وهو ما يزال في طور الدعوة، ولم تكن له أمة يجاهد بها.
    وأما موسى عليه السلام، فإنه لما خرج من مصر، وأمره الله أن يقاتل العمالقة، وفعل قومه ما فعلوا وقالوا: ((فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا))[المائدة:24]، حصل لهم التيه أربعين سنة، ثم بعد ذلك دخل غلامه بعد وفاته عليه السلام إلى القدس، ولم يعلم لهم جهاد في البحر؛ ولكن الأمة التي جاهدت في البحر هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي حملت خيله في البحر.
    وهذا أمر عجيب جداً! فإن البحر لم تعرفه العرب في حياتها، وكان ما لا يمكن أن يغامر به الإنسان العربي هو أن يركب البحر، ولكن لما جاء الإسلام وفرض الجهاد، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضل المجاهدين في البحر، فجعل لشهيد البحر من الأجر ضعف أجر شهيد البر؛ استطاع المسلمون في سنوات معدودة أن يبنوا أكبر الأساطيل التي تبحر من مصر إلى القسطنطينية، وإلى الأندلس، أما الأساطيل التجارية فحدث ولا حرج، فقد جابت العالم كله.
    وذكر الخيل إشارة إلى مثل ما في قصة عقبة بن نافع العجيبة، حين خاض بفرسه البحر، وقال: والله لو أعلم أن خلفك أرضاً تبلغها الخيل لخضتك بفرسي حتى أبلغها، وكذلك العلاء بن الحضرمي؛ فالمقصود أن خيلهم خاضت البحر في سبيل الله، وقد فتحت قبرص في حياة الصحابة، وكانت أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها معهم.
  6. ذكر التوراة تبشير هاجر بإسماعيل ومسكنه

     المرفق    
    ثم قال شيخ الإسلام: "ومن ذلك ما في التوراة التي بأيديهم في السفر الأول منها، وهي خمسة أسفار، في الفصل التاسع في قصة هاجر، لما فارقت سارة وخاطبها الملك، فقال: يا هاجر! من أين أقبلت؟ وإلى أين تريدين؟ فلما شرحت له الحال قال: ارجعي فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون -أي نسلك- وها أنت تحبلين وتلدين ابناً تسمينه إسماعيل؛ لأن الله قد سمع تذللك وخضوعك، وولدك يكون وحي للناس، وتكون يده فوق الجميع، ويد الكل به، ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوته".
    بشرها الملك بأنه سيكون لك ابن تسمينه إسماعيل، فإن الله سمع دعاءك وتضرعك، وسوف تكون يده على الجميع، وسوف يكون فوق الجميع، وسوف يكون مسكنه على تخوم إخوته، يعني: المرتفعات.
    1. بيان أن المبشر به بنو إسماعيل لا بنو إسحاق وأن المقصود محمد صلى الله عليه وسلم

      ثم قال شيخ الإسلام : "قال المستخرجون لهذه البشارة: معلوم أن يد بني إسماعيل قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن فوق أيدي بني إسحاق، بل كان في بني إسحاق النبوة والكتاب".
      فقبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كان بنو إسحاق هم أصحاب الكتاب؛ لأن معهم الكتاب وفيهم النبوة، أما العرب بنو إسماعيل، فإنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكادون يذكرون، بل فشت فيهم عبادة الأصنام، فأي تعظيم لهم وهم في هذه الحالة؟ وشيخ الإسلام يريد أن يصل إلى أن كل الذي ورد في الثناء والمدح والأفضلية إنما ينصب إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
      يقول شيخ الإسلام : "وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب، فلم يكن لبني إسماعيل فوقهم يد، ثم خرجوا منها لما بعث موسى، وكانوا مع موسى أعز أهل الأرض، لم يكن لأحد عليهم يد، ثم مع يوشع بعده، إلى زمن داود وملك سليمان الذي لم يؤت أحد مثله، وسلط عليهم بعد ذلك بختنصر ".
      المقصود: أن بني إسحاق كان لهم العلو، فلما أحضرهم يوسف وجاءوا إليه من البدو، كان المستعلي هو يوسف عليه السلام، وظل بنو إسرائيل في مصر، حتى خرجوا منها في عهد موسى، ثم بعد وفاته ومجيء يوشع وهزيمة العمالقة كانوا أيضاً هم الأعلين، ثم جاء داود ثم سليمان وهم كذلك، فالشاهد من هذا: أن الاستعلاء كان في بني إسحاق، وأما بنو إسماعيل فلم يكن لهم استعلاء في كل هذه المراحل، وما استعلوا إلا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
      ثم قال شيخ الإسلام : "فلم يكن لبني إسماعيل عليهم أمر، ثم بعث المسيح، وخرب بيت المقدس الخراب الثاني".
      بعد أن رفع الله المسيح عليه السلام إليه، خرّب بيت المقدس الخراب الثاني؛ لأنه خرب أول مرة على يد بختنصر، وأما المرة الثانية فهو على يد تيطس القائد الروماني سنة (70) ميلادية.
      ثم قال شيخ الإسلام : "حيث أفسدوا في الأرض مرتين، ومن حينئذٍ زال ملكهم، وقطَّعهم الله في الأرض أمماً".
      وذلك كما قال تعالى: ((وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا))[الأعراف:168]، لكن وجودهم الآن هل هو الوجود الثاني أم أن هذا لاعتبار آخر؟ بمعنى أنهم لا يمثلون بني إسحاق، فالله أعلم، وهذا من علم الغيب، وما كان لـشيخ الإسلام ولا لغيره أن يعلم الغيب. والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المسلمين سيقاتلون اليهود في آخر الزمان، وقد يكون المقصود بذلك هؤلاء المجتمعين في فلسطين، وقد يكون ذلك في زمن آخر، وتنتهي دولتهم هذه بطريقة أخرى.. فهذا كله من أخبار الغيب.
      ثم قال شيخ الإسلام : "وكانوا تحت حكم الروم والفرس والقبط، ولم يكن للعرب عليهم حكم أكثر من غيرهم، فلم يكن لولد إسماعيل سلطان على أحد من الأمم، لا أهل الكتاب ولا الأميين، فلم يكن يد ولد إسماعيل فوق الجميع، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، الذي دعا به إبراهيم وإسماعيل حيث قالا: ((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[البقرة:129]، فلما بُعث صارت يد ولد إسماعيل فوق الجميع، فلم يكن في الأرض سلطان أعز من سلطانهم، وقهروا فارس والروم وغيرهم من الأمم، وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والمشركين والصابئين، فظهر بذلك تحقيق قوله في التوراة: (وتكون يده فوق الجميع، ويد الكل به)، وهذا أمر مستمر إلى آخر الدهر".
    2. بيان أن البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لا بملكه

      يقول: "فإن قيل: هذه بشارة بملكه وظهوره؛ قيل: الملك ملكان: ملك ليس فيه دعوى نبوة".
      أي: أنهم يقولون:هذا ليس بنبيّ، والقرآن ليس حقاً، فهو إنما بُشر بأن يكون له ملك و ظهور فقط، لكن لا يقتضي ذلك أن ما جاء به هو الحق، وأنه نبوة.
      ثم قال شيخ الإسلام : "قيل: الملك ملكان؛ ملك ليس فيه دعوى نبوة، وهذا لم يكن لبني إسماعيل على الجميع".
      وهذا وإن حصل لبني إسماعيل، لكنه لم يحصل لهم أن ملكوا جميع الأمم كما هو المطلوب.
      ثم قال شيخ الإسلام : "وملك صدر عن دعوى نبوة، فإن كان مدعي النبوة كاذباً: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ))[الأنعام:93]، فهذا من أشر الناس وأكذبهم وأظلمهم وأفجرهم، وملكه شر من ملك الظالم الذي لم يدع نبوة كـبختنصر وسنحاريب".
      يعني: أن ملك من يدعي النبوة وهو كاذب شر وأظلم وأفجر من الملك الذي لم يقترن بدعوى النبوة مهما كان ظالماً، فالروم والفرس وغيرهم من الأمم الظالمة المستبدة أخف وأهون جرماً من ملك من يدعي النبوة، ويتسلط على الناس باسم النبوة وهو كاذب.
      قال ابن تيمية : "ومعلوم أن الإخبار بهذا لا يكون بشارة".
      أي: لا يمكن أن يكون هذا بشارة لـهاجر، بأنه سيكون من ذريتك من يدعي النبوة، ويفعل هذا الافتراء وهذا الجرم العظيم، ويظلم الناس.
      وقد تقدم في موضوع النبوات: أن من الأدلة الواقعية على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى يظهره ويمكن له رقاب الأمم، ومع ذلك فملكه ظاهر وشأنه ظاهر، ولا يليق بالله سبحانه وتعالى أن يديم الكذب والظلم، وعليه فلا يوجد كذب في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
      وفي العصر الحديث كما يقال: أطول فترة دامت لحاكم كانت هي فترة ستالين أو فرنكو أو تيتو، ثم بعد ذلك أحرقت تماثيلهم، وهاهم يلعنـون ليل نهار، فلا يمكن أن يستمر الكذب، وهذا من حكمة الله.
      أما من استمر معظماً عند أتباعه فلا يمكن أن يكون ما جاء به إلا حقاً، مع أن الأدلة -والحمد لله- كثيرة جداً؛ فحكمة الله تقتضي نفي أن يكون كاذباً دجالاً، بل تقتضي أن يكون صادقاً مرسلاً من عند الله.
      قال ابن تيمية : "ومعلوم أن الإخبار بهذا لا يكون بشارة، ولا تفرح هاجر وإبراهيم بهذا، كما لو قيل: يكون جباراً طاغياً يقهر الناس على طاعته ويقتلهم، ويسبي حريمهم، ويأخذ أموالهم بالباطل، فإن الإخبار بهذا لا يكون بشارة، ولا يسر المخبر بذلك".
      أي: واليهود والنصارى يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه كاذب ومفترٍ، وأمته أمة سفاكة للدماء، فنقول: سبحان الله!! كتابكم أنتم يبشر به، فهل يعقل أن الله سبحانه وتعالى يبشر إبراهيم ويبشر هاجر بأنه سيكون من ذريتكما بطاش سفاك سفاح يقتل العالم!! أهذه بشارة يفرح بها؟! فلو قيل لأي واحد منهم: ولدك سيكون سفاحاً مجرماً، فهل سيفرح؟ وهل تكون هذه بشارة؟! فهم مسلمون لنا بالبشارة؛ ولكنهم ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نلزمهم بذلك.
      قال ابن تيمية : "وإنما تكون بشارة تسره إذا كان ذلك يعدل، وكان علوه محموداً لا إثم فيه، وذلك من مدعي النبوة لا يكون إلا وهو صادق لا كاذب".