ويستشهد
الصوفية بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، يقولون: إن فيها دلالة على أن الولي أفضل من النبي، حيث إن موسى عليه السلام - وهو نبي - تعلم من الخضر -وهو ولي-.
ولا يخفى ما في هذا الاحتجاج بهذه القصة من الباطل مما قد كشف زيفه وبطلانه علماء الإسلام، وكل ذي بصيرة يعلم أمرين اثنين:
الأمر الأول: أن الخضر وموسى عليهما السلام نبيان، والنبي يتعلم من النبي، وخاصة أن الذي أمره بالذهاب إليه هو الله سبحانه وتعالى، ودلَّه على موضعه، وهيأه ليقابله، ولا يعني هذا أن الخضر أفضل من موسى بإطلاق؛ لأن الإنسان قد يتلقى العلم عن إنسان وهو أفضل منه، بدلالة نص الحديث الصحيح الذي ورد في قصة موسى والخضر، قال موسى للخضر: {
أنت على علم علمك الله إياه ليس عندي، وأنا على علم علمني الله إياه ليس عندك}، فكل منهما على جانب من العلم لم يعلمه اللهُ الآخر.
إذاً: هذا نبي وهذا نبي، لكن هذا لديه علم لم يؤته الله الآخر، ومن المعلوم أن موسى عليه السلام لم يبعث إلى الناس كافة، وإنما بعث إلى قومه فقط، أما محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله أرسله للناس كافة بشيراً ونذيراً، ورحمة للعالمين؛ للثقلين جميعاً، أما من قبله -ومنهم موسى عليه السلام- فإنما كان يبعث إلى قومه خاصة، وهذه هي إحدى خصائص النبي صلى الله عليه وسلم الخمس -أو الست- التي وردت في الأحاديث الصحيحة، وقد سبق أن شرحنا الأحاديث الواردة في ذلك في مبحث النبوة.
إذاً: ليس هناك نبي تلقى عن ولي، إنما نبي سأل نبياً أو تلقى وأخذ منه.
الأمر الثاني -وهو الأهم-: أن ما عمله الخضر عليه السلام وبيّنه له فيما بعد -مما لم يستطع عليه موسى عليه السلام صبراً- ليس مخالفاً للشريعة حتى نقول: إن هذا هو علم الحقيقة، وذاك علم الشريعة؛ فعلم الشريعة ما هو إلا ما يوحي به الله ويأمر به، فالشرع هو الأمر والنهي، ونحن و
الصوفية متفقون على ذلك، فإذا كان الخضر يقول: ((
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي))[الكهف:82]، إذاً هو نبي؛ لأنه فعل ذلك بأمر ووحي من الله، وهذا دليل على النبوة، وكذلك الخضر عمل بمقتضى الشريعة، والشريعة هي الأمر والنهي، ولو أخذنا القضايا الثلاث قضية قضية لعلمنا أنها كلها من الشريعة:
القضية الأولى: موسى عليه السلام أنكر خرق السفينة بناءً على الشريعة، حيث إن القاعدة الشرعية التي تمنع مثل ذلك هي: من أحسن إليك فأحسن إليه، والأصل فيك أن تحسن إلى كل مسلم، لكن من أحسن إليك صار واجباً ولازماً عليك أن تحسن إليه؛ فهؤلاء أصحاب السفينة أحسنوا إلى الخضر وموسى وغلامه، فليس جزاء ذلك الإحسان خرق السفينة، وموسى عليه السلام ثار -ونسي العهد- من أجل إقامة الشريعة؛ بناء على أنه ليس من الشرع أن يجازى المحسن بالإساءة، وعندما بين له الخضر عليه السلام لم يقل: لقد كنتُ خارجاً عن حكم الشريعة في هذا لأنني وليٌّ، إنما قال: فعلي ذلك إنما هو مما أوحى به الله إليَّ وأمرني به، فهو -إذاً- (حكم شرعي)، وقال الله تعالى عنه:((
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا))[الكهف:79]، فالخضر عنده علم أن وراءهم ملكاً (يأخذ كل سفينة صالحة غصباً) -كما ورد في قراءة مفسرة- ويجند فيها الجند لمحاربة دولة أخرى، ووقت الحرب بالذات لا تفكر الدول في أن هذا ملك للشعب أو لفلان، فكل من يصلح للخدمة العسكريةكما يسمى بـ(المجهود الجربي) أخذوه ولو غصباً- فجاء الجند لأخذ هذه السفينة، فلما ركبوا فيها وجدوها مخروقة فتركوها؛ خوفاً أن تتسبب في غرق الجنود، فكان خرق الخضر للسفينة إحساناً منه إليهم وليس إساءة، مع أن أصحاب السفينة لم يعلموا بما فعله الخضر..، وهذا من الشريعة أيضاً لا مخالفة لها.
القضية الثانية: قتل الغلام:
قال تعالى: ((
فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ))[الكهف:74]، وفي هذه القضية ثار موسى عليه السلام، وأنكر إنكاراً أشد من إنكاره في المرة الأولى؛ وذلك لأن هذا المنظر لا يستطيع أحد احتمال رؤيته، وهو من أكبر الكبائر؛ فهذا غلام بريء لم يبلغ سن الرشد -كما يظهر من كلمة غلام- يلعب مع الصبيان، ويقتل أمامه بدون ذنب! فلابد أن ينكر هذا المنكر، فقال موسى عليه السلام: ((
أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا))[الكهف:74]، لأن المؤمن لا يستطيع أن يصبر على هذا المنظر، فقتل النفس من أكبر الكبائر، ومرة ثانية يعيد له الخطاب: ((
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً))[الكهف:75]، لن تستطيع يا موسى! ليس لأني على الحقيقة وأنت على الشريعة، وإنما لأنك لا تعلم المصلحة التي تترتب على ذلك، وموسى عليه السلام كان سبب إنكاره على الخضر عليه السلام هو المبدأ الشرعي، مبدأ عصمة النفس -حتى ولو كان كافراً، إلا بأسباب شرعية تقتضي أن يقتل- فالظاهر لموسى عليه السلام أنه لا مبرر للقتل، واحتج عليه السلام بهذا الأصل الشرعي: ((
أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ))[الكهف:74]، فأجابه الخضر عليه السلام عند ذلك في نهاية الأمر بقوله: ((
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا *
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا))[الكهف:80-81]، فقد أوحى الله سبحانه وتعالى إلى الخضر بقتل الغلام لأنه كتب يوم كتب كافراً، ولو عاش وهو كافر وأبواه مؤمنان صالحان لأرهقهما طغياناً وكفراً، وإذا قتل فسوف يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحماً؛ ففعل ذلك.
وقد قال في الأخير: ((
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي))[الكهف:82]، إذاً هو معصوم، كأنه يقول: صدقت يا موسى! كلامك صحيح، والقاعدة الشرعية: أن النفس معصومة إلاَّ بأمرٍ شرعي، ولكن عندي -في هذا خاصة- أمر من الله -لا تعلمه- أن أقتل هذا الغلام، إذاً: عصمة دم الغلام انتفت، فصدق موسى واستسلم، وقال: ((
إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي))[الكهف:76]، يقول: لقد أخطأت عليك خطأً جسيماً، بأن تهجمت بهذا الشكل مرتين، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {
وددت أن موسى عليه السلام صبر حتى يقص الله تعالى علينا من خبرهما}.
القضية الثالثة: أهل القرية:
قال تعالى: ((
فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا))[الكهف:77]، أي: طلبوا منهم الطعام لأنهم كانوا جائعين وغرباء، وهم ضيوف كرام، ومع ذلك أبوا أن يضيفوهما، وكان قد اشتد الجوع بموسى عليه السلام، فاشتد عنده الغضب من هذه القرية اللئيمة التي لا تؤوي الغريب، ولا تكرم الضيف، ولا تعرف الحق للزائر، فبدلاً من أن يدعوه الخضر لطعام -لكونه تلميذاً له- يدعوه لنباء جدار على ما به من جوع وغضب على أهل القرية اللؤماء؛ قال الله تعالى: ((
فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ))[الكهف:77]، أي: ينهدم، فقال الخضر لموسى: تعال لنبني الجدار، وهم في حالة شديدة من الجوع والتعب، فقال موسى عليه السلام بأدب رفيع، من دون اعتراض، وكأنه رأى أنه قد تجاوز الحد في السابقتين، لكن مع ذلك هذا اعتراض: ((
قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا*
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ))[الكهف:77-78]، وموسى عليه السلام في هذه الحال اعترض من باب الشريعة، فإن من حق الضيف أن يكرم ويطعم، وإن لم يكن كذلك فمن حقه أن يعمل ويأخذ -على الأقل- الأجرة على ذلك، وهذا عمل شرعي، إذاً: موسى اعترض اعتراضاً من الناحية الشرعية، فرد عليه الخضر عليه السلام بأنه في هذه الحال أيضاً عمله مشروع، ولو كان موسى يعلم ما يعلمه الخضر لوافقه على عمله، ولنسي الجوع والتعب والنصب ولؤم أهل القرية؛ لأن هذا الجدار ملك لغلامين يتيمين، ونحن نحسن إليهما لا نحسن إلى اللؤماء من أهل القرية، ولو كان أبوهما حياً لأكرم الخضر وموسى؛ فقد كان صالحاً، ولو علم أهل القرية بكنز الغلامين اليتيمين لأخذوه، فقد بلغوا من اللؤم أنهم لا يكرمون الضيف، فكيف يحفظون لليتيم حقه؟!
فكان فعل الخضر واعتراض موسى عليهما السلام موافقاً للشرع، فلا هذا خالف الشريعة ولا ذاك أفتى بغير الشريعة، وكلاهما كان يتكلم عن العلم الذي هو الأمر والنهي والشرع.
وليس هنالك من فرق بين الشريعة والحقيقة، والتفريق بينهما لا أساس له من الصحة؛ بل الحقيقة في هذه الشريعة التي أرسل الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وكانت أيضاً شرائع الأنبياء من قبله كذلك.