يقول الماتن: [لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود]، يقول المصنف رحمه الله: [يعني بالعلم المفقود: علم القدر الذي طواه الله عز وجل عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، ويعني بالعلم الموجود: علم الشريعة أصولها وفروعها].
هذا هو العلم الذي يرسخ فيه العلماء، وهو العلم الموجود، وقد بلغه النبي صلى الله عليه وسلم بلاغاً كافياً كاملاً، ولم يخن صلى الله عليه وسلم الرسالة، وحاشاه من ذلك! وكذلك بلغه عنه أصحابه الكرام، ولم يخونوا الرسالة والأمانة من بعده صلى الله عليه وسلم، بل نقلوا ما بلغهم إياه كاملاً غير منقوص.
إذاً: هذا هو العلم الموجود الذي علمنا الله تبارك وتعالى إياه، وهو سبحانه وتعالى العليم الخبير بما ينبغي لنا أن نعلمه، وبما نستطيع أن نفهمه، فأطلعنا عليه، وطوى عنَّا علماً آخر استأثر به سبحانه وتعالى، وهو العلم المفقود، وهو ما استأثر الله به من علم الغيب، ومنه ما يتعلق بمسألة القدر، فإن الله لم يطلعنا عليها، قال عز وجل: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ))[آل عمران:179].وقال: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ))[الجن:26-27]، وهذا استثناء سيأتي إيضاحه إن شاء الله، والأصل أن ذلك العلم محجوب عن البشر.
فيجب على الناس حيال العلم الموجود أن يؤمنوا به ويتعلموه ويتفقهوا فيه ويعملوا به، وأما العلم المفقود فيجب الإيمان به والتسليم له، ولن يستطيع البشر غير ذلك، فلا يتكلفوا في معرفته؛ كما فعل بعض أهل الكلام وأهل التصوف حين تكلفوا في معرفته؛ فضاعوا وتاهوا، ولا أن يكفروا به كما فعل الفلاسفة وكثير من أهل الكلام؛ حين كفروا بما لم يحيطوا بعلمه؛ قال تعالى:((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ))[يونس:39]، وهذا حال الذين لا يؤمنون بالغيب، يكذبون بما جاء عن الله ورسوله لهذين السببين:
إما لأنهم لم يحيطوا بعلمه، وقالوا: كيف يقدر الله هذا الشيء، ثم يجازينا عليه؟! لا نستطيع فهم ذلك؛ فيكفرون به. وهذا تكذيب بما لم يحيطوا بعلمه، وليس عدم الإحاطة بالعلم دليلاً أو مبرراً بتكذيب الله ورسوله.
السبب الآخر وهو: ((وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ))[يونس:39] يقولون: كيف نؤمن بعذاب القبر ونحن لم نره؟ وإذا رأوه وآمنوا به لم يعد هذا من الإيمان بالغيب؛ لأنه أصبح مشهوداً، ولهذا لا تقبل توبة الكافر -أو التائب عموماً- إذا رأى الملائكة وقد جاءت لقبض روحه؛ لأنه رأى عياناً ما كان مطلوباً منه الإيمان غيباً.
ولذلك كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يعلمون الناس ويفقهونهم في العلم الموجود، وإذا سئلوا عن العلم المفقود الغيبي كانوا يقولون: الله أعلم! ويستشهدون بقوله تعالى: (( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ))[الأنبياء:23]، وقد سبق أن ذكرنا أحاديث تدل على هذا المعنى في باب القدر، ومنها حديث عمران بن حصين .