المادة كاملة    
أولو العزم من الرسل طائفة اختصهم الله بمنزلة عظيمة لعظيم شأنهم، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي ويتأسى بهم في صبرهم، وإن المتأمل في سيرتهم وما لاقى كل واحد منهم في سبيل دعوته من المتاعب والمشاق؛ ليدرك سر تفضيلهم على غيرهم من الأنبياء، ولا شك أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم من أولي العزم، بل هو أفضلهم! فيجب الإيمان به وتصديقه واتباع ما جاء به جملة وتفصيلاً.
  1. المراد بأولي العزم من الرسل

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [وأما أولو العزم من الرسل، فقد قيل فيهم أقوال: أحسنها ما نقله البغوي وغيره عن ابن عباس وقتادة أنهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم.
    قال: وهم المذكورون في قوله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ))[الأحزاب:7]. وفي قوله تعالى: ((شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ))[الشورى:13].
    وأما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فتصديقه واتباع ما جاء به من الشرائع إجمالاً وتفصيلاً]
    اهـ.
    الشرح:
    يقول رحمه الله: [وأما أولو العزم من الرسل، فقد قيل فيهم أقوال] بعد أن بين المصنف رحمه الله حكم وقيمة وأهمية الإيمان بالرسل جميعاً، وما يتضمنه ذلك من أمور؛ كالإيمان بأنهم بلغوا وبينوا... إلى آخر ما ذكر رحمه الله، أخذ في بيان من هم أولو العزم من الرسل؛ لأن العلماء رحمهم الله اختلفوا في ذلك، وقد ذكر أولو العزم في القرآن في قوله تعالى: ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ))[الأحقاف:35] فهذا أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يتأسى ويقتدي بأولي العزم من الرسل في الصبر وعدم الاستعجال: (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ))[الأحقاف:35].
    وقد اختلف العلماء في المراد بأولي العزم من الرسل على قولين، كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى:
    القول الأول: أنهم طائفة من الرسل اختصوا بهذا الوصف، وهم الخمسة المذكورون في آيتين: الأولى في سورة الأحزاب، والأخرى في سورة الشورى.
    والقول الآخر: أنهم جميع الرسل، فكل الرسل على هذا القول هم أولو عزم، والله تبارك وتعالى أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بالرسل في الصبر، وكلهم ذوو صبر وذوو عزم، فمعنى قوله تعالى: ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ))[الأحقاف:35] عند القائلين بهذا القول: أن الله تعالى أرسل الرسل وهم كلهم أولو عزم، وأولو صبر، وأمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا، فكلهم قد أوذي في الله، وكلهم كُذَّب، كما قال تعالى: ((وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ))[فاطر:4] وقال في سورة الأنعام: ((فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا))[الأنعام:34] فيوجه الله نبيه بقوله: ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ))[الأحقاف:35]، و(من) إما أن تأتي لبيان الجنس أو للتبعيض، فإن حملت على أنها بيانية -أي لبيان الجنس- فيكون كأنه قال: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ الرسل الذين هم أولو عزم؛ فهي بيانية؛ لأنها بينت المراد من أولي العزم، وأنهم الرسل عامة.
    وعلى القول الأول تكون (من) تبعيضية، والتبعيض واضح: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وكأن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أن الرسل منهم أولو عزم، ومنهم من ليسوا بأولي عزم، وأنه مأمور أن يقتدي بأولي العزم منهم فيصبر كما صبروا، وقد وقع الخلاف بعد ذلك في تعيينهم، فـابن كثير رحمه الله يقول: إن أشهر الأقوال -وهو الذي ذكره المصنف هنا- أنهم الذين نص الله تبارك وتعالى عليهم".
    لكن قال ابن كثير رحمه الله: "وقد يحتمل أن يكون المراد بأولي العزم جميع الرسل، فتكون (من) في قوله (من الرسل) لبيان الجنس".
    لكننا نستطيع أن نرجح القول الأول، لقوله تعالى: ((فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ))[القلم:48]؛ فإن الله أمره في قوله تعالى: ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ))[الأحقاف:35] أن يقتدي بهم في الصبر، وأمره في قوله تعالى: ((فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ))[القلم:48] أن يصبر وألا يكون مثل يونس عليه السلام، ولهذا جاء في الحديث: {لا تفضلوني على يونس} وقد تقدم بيانه في موضوع النبوات، فنقول: إن الله سبحانه وتعالى الذي أمره أن يصبر كما صبر أولو العزم، أمره في آيةٍ أخرى أن يصبر وألا يكون مثل واحد منهم، فانتفى العموم بذلك الواحد؛ لأن العموم ينتفي بوجود أفراد من الرسل ليسوا ممن أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتأسى بهم في الصبر، فتبين أن صاحب الحوت يونس عليه السلام ليس من أولي العـزم.
    وهناك ما هو أصرح من ذلك؛ وهو أن في كتاب الله آية تدل على أن نبياً من الأنبياء لم يكن له عزم، وهي قوله تعالى: ((وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا))[طه:115] فآدم عليه السلام لم يكن له عزم، فليس هو من أولي العزم، بدليل أنه أكل من الشجرة، ويونس عليه السلام ليس منهم بدليل أنه أبق إلى الفلك المشحون، ولم يصبر كما أمره الله، وكما أمر جميع الرسل أن يصبروا.
    والمسألة محتملة على أية حال، ويكفي أن نقول: إنه قد تبين أن بعض الأنبياء والرسل ليسوا من أولي العزم، ولم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في الصبر، بل نهي أن يكون مثلهم؛ لأنهم لم يصبروا، فهذا دليل على أن أولي العزم هم طائفة خاصة من الأنبياء والرسل.
    وقد ذكرهم المصنف رحمه الله بقوله: [ما نقله البغوي وغيره عن ابن عباس وقتادة أنهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم، قال: وهم المذكورون في قوله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ))[الأحزاب:7]، وفي قوله تعالى: ((شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ))[الشورى:13]].
    وهنا يلفت ابن كثير رحمه الله نظرنا إلى شيء من الترتيب في الآيتين فيقول: في الآية السابقة التي في الأحزاب: بدأ بالخاتم لشرفه صلوات الله وسلامه عليه، ثم رتبهم بحسب وجودهم.
    ومعنى هذا الكلام أنه ذكر الطرفين والوسط، الفاتح والخاتم ومن بينهما على الترتيب، وذلك في الآية الأولى: ((وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ))[الأحزاب:7] هؤلاء الثلاثة هم من بين الفاتح والخاتم، وقد ذكروا على الترتيب، ثم يقول: وفي الآية الأخرى بدأ بالفاتح صلوات الله وسلامه عليه، فقال تعالى: ((شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ))[الشورى:13].
    ففي الآية الأولى بدأ بقوله: (ومنك) يعني: بدأ بالخاتم صلوات الله وسلامه عليه، ثم ذكر البقية على الترتيب، وأما في الآية الثانية: ((مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ))[الشورى:13] فبدأ بنوح، ثم ذكر النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه، ثم ذكر الثلاثة على الترتيب.
    فهؤلاء الخمسة نريد أن نكتشف سر اختصاصهم من الأنبياء والرسل وكونهم أولي العزم.
    هناك من يقول: إن آدم ليس من أولي العزم، لأنه نبي وليس برسول، ونحن حين ذكرنا الرسل عددنا منهم نوحاً وآدم، فلا دخل لمسألة الفرق بين النبي والرسول في هذا الموضع، ولكن الذي يهمنا هو موضوع الاقتداء بهم فيبقى اللفظ على عمومه، فيجعل الأنبياء والرسل جميعاً في الآية، ويبقى أن آدم ويونس عليهما السلام، ليسا من أولي العزم.
  2. أسباب تفضيل أولي العزم الخمسة على غيرهم

     المرفق    
    على أية حال نقول: نستطيع أن نتلمس السر في كون هؤلاء الخمسة هم أولي العزم من واقع حياتهم ودعوتهم، وما بذلوا لله سبحانه وتعالى، وما صبروا وعانوا ولقوا في ذات الله، وهذا يرجح اختصاصهم بهذا التشريف، ولو تأملنا لوجدنا أنهم يفضلون غيرهم من الرسل الكرام لشدة وهول ما لاقوا وعانوا.
    1. نوح عليه السلام

      نوح عليه السلام دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، أي: تسعمائة وخمسين سنة وهو يدعو قومه؛ هذا من حيث المدة؛ أما من حيث الوسائل فقد دعا قومه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، ثم تحمل الاستهزاء حينما كان يصنع الفلك، ((وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ))[هود:38]، وتحمل المجادلة الطويلة: ((قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا))[هود:32] فهم يشكون أنهم قد تعبوا من جداله، فكيف يكون تعبه، وهو وحده تقريباً؟! فالمؤمنون الذين معه قلة: ((وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ))[هود:40] والكثرة الكاثرة على الشرك، فإذا كانوا هم قد تعبوا، وقالوا: (قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) فنوح عليه السلام أولى أن يكون قد تعب من جدالهم ودعوتهم.
      وطال به الأمد، ونوّع أساليب الدعوة، وفي الأخير تعب وهو يصنع السفينة، ثم تعب وهو يقود السفينة، فحياته جهاد وتعب وتضحية، ثم يرى ابنه وهو يغرق مع القوم الكافرين، كل هذا مما تحمله نوح عليه السلام في ذات الله عز وجل.
      وقد جاء نوح عليه السلام إليهم وهم قد انحرفوا عن التوحيد، ووقع فيهم الشرك، ومع هذا كانت لهم تأويلات في شركهم هذا كعادة المشركين في كل زمان ومكان، وهذا مما يسبب طول الجدال؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً كانوا قوماً صالحين، ويقصدون بالتقرب إليهم أن يقربوهم إلى الله، وأن يتوسطوا بهم إلى الله.. إلى غير ذلك، فالمعركة إذا كانت مع أناس يظنون أنهم على الحق، وأن ما عملوه هو الصواب، فهي أشق على الداعية من مواجهة قوم يعرفون أنهم على ضلال، وإن كابروا وعاندوا، لكن الأمد يطول مع من يتوهم ويظن أنه على الحق، فعانى نوح عليه السلام مع قومه أشد المعاناة، حتى نصره الله سبحانه وتعالى وأهلك القوم الكافرين.
    2. إبراهيم عليه السلام

      ولقد لقي إبراهيم عليه السلام -في تبليغ دعوة الله- ما لقي، ومن الذي لقي ما لقي إبراهيم عليه السلام؟! حين وقف في وجه ذلك الجبار وناظره، وهو الطاغوت الذي تكبر على عباد الله وادعى أنه يحيي ويميت، فمن يجرؤ أن يقف أمامه ويكلمه؟!
      لقد كان موقفاً عسيراً ولا سيما وإبراهيم عليه السلام رجل أعزل، وليس معه أمة تناصره؛ لكنه يقف أمام هذا الطاغوت الذي قال: ((أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ))[البقرة:258] فيفحمه عليه السلام بقوله: ((فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ))[البقرة:258].
      ثم ما لقيه في دعوته عليه السلام لقومه، وما لقيه من أبيه.
      ولقد بلغ من عزمه وغيرته وقوة إيمانه وحرصه على التوحيد أنه جعل الأصنام جذاذاً، فحطمها بيده وكسرها، وتحمل مسئولية ذلك لما ناظره قومه.. حتى إنهم أوقدوا النار العظيمة وألقوه فيها، فأمرها الله سبحانه وتعالى أن تكون عليه برداً وسلاماً، ثم ما لقي بعد ذلك عندما ذهب إلى مصر من ملك مصر، وقد كاد أن يأخذ منه زوجته.
      وقد كان في العراق، ثم انتقل إلى الشام ودخل إلى مصر، ثم جاء إلى مكة يدعو إلى الله وإلى توحيد الله، كل ذلك بأمر الله، فجاء إلى هذه الأرض المقفرة الموحشة، وترك هاجر وابنه إسماعيل في هذا المكان المقفر وذهب، امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى، ثم عاد إلى مكة فأمره الله أن يبني فيها بيته الحرام، ففعل ذلك امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى، كل هذه الأمور لا يفعلها ولا يقوم بها، إلا من كان حقاً ذا عزم.
    3. موسى عليه السلام

      أما موسى عليه السلام فإنه كما قال للنبي عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج: {إني قد عالجت من أمر بني إسرائيل ما لم تعالج} فقد أرسله الله سبحانه وتعالى إلى فرعون، الذي ما تحـدث الله تبارك وتعالى عن طاغوت كما تحدث عنه، وكانت الحضارة الفرعونية -كما تسمى- قد وصلت في بعض الفنون والعلوم إلى ما تعجز عنه قمة الحضارة العلمية في الغرب اليوم، ولقد كان هذا الجبار مستخفاً بقومه، وكان قومه كلهم جنوداً له وكانوا يصدقونه فيما يقول، يريهم الحق باطلاً والباطل حقاً، فيستجيبون له.
      ويأمر الله نبيه موسى عليه السلام: ((اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى))[طه:24].
      فمن يتحمل أن يقف ويواجه هذا المجرم الطاغوت الذي حشر الناس جميعاً وقال لهم: ((أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى))[النازعات:24] وقال: ((مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي))[القصص:38]؟! تعالى الله عما يزعمه الفراعنة في كل زمان ومكان وما يقولون علواً كبيراً.
      فهو إذن مدعٍ للألوهية والربوبية؛ ويأتي موسى عليه السلام إليه، ويأمره أن يكون عبداً لله، ويدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، فمع هذا الكبر والجبروت وادعاء الألوهية، يدعى إلى أن يكون عبداً لله وتابعاً لموسى عليه السلام، وفرعون لا يحتمل هذا أبداً.
      أما من جاء من الرسل إلى قوم ليجدد لهم دينهم -كما كان أنبياء بني إسرائيل الذين أُرسلوا إلى قومهم وهم مؤمنون بالتوراة- فهو أسهل مهمة من موسى عليه السلام.
      أما موسى فقد جاء إلى هذا الطاغوت المتجبر المتكبر وليس مع موسى إلا أخوه هارون عليهما السلام، ومعهما بنو إسرائيل، وهؤلاء كما قال فرعون: (شرذمة قليلون) لا يؤبه بهم، ومع ذلك يريده موسى أن ينزل من هذه الكبرياء وهذه العظمة المصطنعة ليكون عبداً لله سبحانه وتعالى، وتابعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قابله بما قابله به من العناد، ثم جمع له السحرة، وهذا شيء عظيم وموقف مخيف، فخاف موسى عليه السلام لما رأى كثرتهم ورأى حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.. إنها مواقف عظيمة تزلزل القلوب وتشيب الرءوس، ومع ذلك ثبته الله سبحانه وتعالى، فثبت وانتصر عليهم، ثم يؤمر أن يخرج هو وقومه فيدركهم فرعون وجنوده.. كيف يكون حالهم وقد أدركهم هذا العدو الطاغية الجبار وأمامهم البحر؟! فماذا يصنعون؟! ومع ذلك لما قال قومه: ((إِنَّا لَمُدْرَكُونَ))[الشعراء:61] قال: ((كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ))[الشعراء:62] وهذه أيضاً لا يقولها إلا من كان واثقاً ذا عزم وذا إيمان قوي وذا صبر واستعداد لأن يكون أهلاً لمواجهة هؤلاء، ثم يهيئ الله سبحانه وتعالى له ذلك، وتنتهي تلك الأيام السود التي عاشها بنو إسرائيل في مصر، وينجيهم الله تبارك وتعالى ويُغْرِق الكافرين.
      ثم تبدأ صفحة جديدة من الامتحان والابتلاء لموسى عليه السلام مع تلك الأمة العصية العنيدة المراوغة المخاتلة، فيلقى موسى عليه السلام منهم أشد ما لقي فكم عُذب..! وكم أوذي من قومه..! لم يصبه عذاب السجن ولا الأذى الذي يتسلط به الطواغيت على المؤمنين، ولكنه لاقى عنتاً شديداً وإيذاءً -ذكره الله في القرآن- من الأتباع الذين لا ينضبطون ولا يفهمون ولا يفكرون ولا يتبعون الحق رغم وضوحه، بل هم في مجادلة ومخاتلة وعناء ومماحكة، فأتعبوه عليه السلام.
      وحين قال لهم: ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم وقد وعدكم بالنصر، قالوا: ((فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا))[المائدة:24] فإذا فتحتها أنت وربك فسوف نأتي نحن وندخلها..!
      هذه هي أمة العناد، وهكذا طبع الله تعالى قلوب هذه الأمة الغضبية إلا من آمن منهم.
      وحين ذهب موسى عليه السلام لملاقاة ربه إذا بهم يعبدون العجل من دون الله ويقول لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى.. فيصدقونه على ذلك، ويعصون نبي الله...!
      يروى أن علياً رضي الله تعالى عنه قال له أحد اليهود: ما إن وضعتم رسولكم -يعني الرسول صلى الله عليه وسلم- في قبره حتى قلتم: منا أمير ومنكم أمير -يعني: المهاجرين والأنصار- أي فكيف يكون هذا الدين حقاً وأنتم اختلفتم على الفور؟! فقال: [[وأنتم ما جفت أقدامكم من البحر حتى قلتم: ((اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ))[الأعراف:138]]].
      فحينما وجد بنو إسرائيل أولئك الجهال من أهل البادية في سيناء يعبدون الأصنام قالوا: ((اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ))[الأعراف:138] فأين الإيمان وأين التوحيد؟!
      ففي كل مرحلة تجدون كيف جاهد عليه السلام في سبيل الدعوة إلى الله حتى توفاه الله إليه.
      فهو فعلاً من أولي العزم.
    4. عيسى عليه السلام

      كذلك عيسى عليه السلام بعث إلى بني إسرائيل: ((وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ))[آل عمران:49] وممن أتعبه وأرهقه عليه السلام أولئك الأحبار والكهنة من بني إسرائيل، بعثه الله تعالى إليهم مصدقاً لما بين يديه من التوراة يدعوهم إلى أن يتمسكوا بالتوراة، ولم يكن ناقضاً لدينهم؛ بل جاء مكملاً له -كما تنص عبارات الإنجيل- وقد جاء ليضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فهو قد جاء بالتخفيف والتيسير؛ ولكن عبيد الدنيا وعباد المال رفضوا ذلك، ولهذا نجد أن دعوة المسيح عليه السلام أكثر ما تتوجه إلى ترك التعلق بالدنيا وترك التشبث بها؛ لأن هذا هو معبود اليهود، فهو يدعوهم إلى الزهد وإلى الإيمان بالآخرة وإلى التفكر فيها، وإلى العمل لما بعد الموت، ومع ذلك واجه الحرب من جهتين: من هؤلاء المجرمين اليهود الذين قالوا فيه وفي أمه أشنع ما يقال، فقد قالوا: إنه ابن زنا، فهذه المقالة مقالة سوء وفاحشة تصدر من قومه تجاهه.
      وأما الذين آمنوا به فقد اختلفوا فيه؛ فبعضهم يزعم أنه إله، وهو مع ذلك يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، ويقول (كما في كتبهم): أنا ابن الإنسان -وهي موجودة في الإنجيل إلى الآن- ليبين لهم أنه ليس إلهاً ولا ابناً لله -تعالى الله عما يصفون- فغلا فيه هؤلاء، وازدراه أولئك، فهؤلاء كفروا بما قذفوه به، وأولئك كفروا بما غلوا فيه، وهكذا لقي ما لقي عليه السلام، حتى إنهم أرادوا أن يقتلوه، فذهب زعماء اليهود إلى الحاكم الروماني، وأطمعوه في أن يصلب المسيح وأن يقتله، ولكن الله تعالى رفعه إليه وألقى شبهه على التلميذ الخائن: ((وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ))[النساء:157].
      وإذا نزل عليه السلام في آخر الزمان، فإنه سيلاقي كثيراً من المحن أيضاً؛ فإنه سيلاقي الدجال ومن ذا الذي يستطيع أن يواجه الدجال ؟! وإن كان الله سبحانه وتعالى يسلط عيسى عليه السلام عليه فيذوب الدجال أمامه.. كما قال صلى الله عليه وسلم: {يذوب كما يذوب الملح في الماء} حتى إنه لو لم يدركه فيقتله لذاب حتى يموت، لكن يدركه عليه السلام بـباب لد فيقتله، ثم يجاهد النصارى الذين هم أقوى أمم الأرض وأكثرها عتاداً، فيقاتلهم، ويضع الجزية، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير.
      وهذا شيء لا يقوم به إلا من كان ذا عزم وصبر.
      وبعد ذلك يحاصر عليه السلام هو والمؤمنون معه من قبل يأجوج و مأجوج في الطور، حتى يكادوا أن يهلكوا، لكنهم يضرعون إلى الله سبحانه وتعالى فينصرهم الله تعالى ويهلك المجرمين... إلى آخر ما هو مفصل في ذلك، فكل حياته دعوة وجهاد وصبر وعزم.
    5. محمد صلى الله عليه وسلم

      أما محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، فقد لاقى أيضاً أشد المعاناة، ولا يشك ولا يماري أحد في أنه من أولي العزم، وأنه أول من يوصف بذلك، فهو عليه الصلاة والسلام الذي دعا البرية كلها إلى الله، ولم يبعثه الله إلى قوم بأعيانهم، بل إلى الناس جميعاً، ولقي في الله ما لقي من أذى قومه ومن تكذيبهم.
      ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه جرد السيف للجهاد، وكان صلى الله عليه وسلم يخرج مع المؤمنين في وسط المعركة؛ في بدر وفي أحد وفي حنين وفي تبوك وفي فتح مكة، وكان يقود الجيش بنفسه صلوات الله وسلامه عليه، ما عدا السرايا، وكان يجاهد المنافقين كما أمره الله تعالى بجهادهم، ولقي منهم ما لقي من التهم والافتراءات حتى إنهم قذفوا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وبرأها الله.
      وما كتبه أهل السير يوضح لنا كيف حوصر -صلوات الله وسلامه عليه- في الشعب، وكيف كذبه قومه، وكيف رده أهل الطائف ورجموه، وكيف ردته القبائل في الموسم، حين كان يعرض نفسه عليهم ويدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى... حتى قدم الأنصار وبايعوه وآمنوا به.
      ثم لاقى من اليهود ومن المنافقين ومن ضعاف الإيمان ما لاقى..!
      وربى أصحابه على الإيمان، فكل من آمن به صلوات الله وسلامه عليه لم يتلق الدين كلمات تحفظ فحسب؛ وإنما تربى على ذلك، وزكاه النبي بهذا الدين.
      فالأعرابي الذي كان قبل الإسلام جلفاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وكان يأكل الميتة ويعبد الصنم ويدفن البنت، بعد أن تزكى بالتزكية المحمدية ورباه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، إذا به ينقلب شخصاً آخر.
      وإذ بأولئك الذين كانوا في شر حال يصبحون أعلام الدنيا وسادات الحكمة وسادات العلم وسادات العقل في العالم كله، وإذ بالكلمات التي يقولونها كأنها عبارات من النور للإنسانية في جميع العصور.
      وهذا لا يتأتى إلا بتعب وبشدة وبمشقة.
      فكل أنواع المشقات عانى منها النبي صلى الله عليه وسلم.
      لقد جاهد في الله حق جهاده، وبلغ الذروة والقمة في كل مجال من مجالات حياته؛ حتى إنه كان يعاني من شدة نزول القرآن ما يعاني: ((إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا))[المزمل:5].
      فكل ذلك تحمله صلوات الله وسلامه عليه، مع قيامه بحق ربه تعالى في عبادته، ومع قيامه بحق زوجاته -وهن كثر- ومع قيامه بحق القرابة وحق الجار؛ فلم يفرط في شيء من ذلك.
      فكل الحقوق قام بها صلوات الله وسلامه عليه جميعاً خير قيام وأفضله، وبعضها مما لا يتحمله أي أحد.
      وكان صلوات الله وسلامه عليه في مرضه يوعك كما يوعك الرجلان، أي: أن الحمى كانت تصيبه ضعف ما تصيب أي رجل من الناس، وتحمل هذا كله، وهو في ميزانه صلوات الله وسلامه عليه.
      وليس مقصودنا تفصيل حياة هؤلاء الخمسة، وإنما المقصود أن نبين شيئاً مجملاً عن هؤلاء الرسل الخمسة الكرام أولي العزم، وذلك لما لاقوا وصبروا وتحملوا.
  3. مقتضيات الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم

     المرفق    
    قال: [وأما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فتصديقه واتباع ما جاء به من الشرائع إجمالاً وتفصيلاً].
    ونحن نعلم العبارة المحفوظة والمشهورة في معنى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عندما نقول: أنَّ الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والشهادة له بالرسالة يتضمن (تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع وأمر).
    فالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم أساسه: هو أن نؤمن بأنه رسول الله، كما يقول كل مسلم: أشهد أن محمداً رسول الله، ونردد ذلك في أذاننا وفي عبادتنا.
    ومعنى هذا: أننا نبدأ من منطلق أنه رسول الله؛ فالله رب العالمين أرسل هذا الرسول إلى الخلق كافة وأمرهم أن يتبعوه، فأول شيء يجب أن نعلمه هو أنه رسول من عند الله، فليس هو بإله صلوات الله وسلامه عليه، وإنما هو رسول من الله، وكونه رسولاً يقتضي تلقائياً أن يطاع: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ))[النساء:64] فلا يمكن أن يطاع المرسِل إلا باتباع الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
    ومن شهد للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه (رجل عظيم، وعبقري فذ، وسياسي ذكي، وقائد محنك، ومصلح اجتماعي، وبطل من الأبطال) لا يكون مسلماً؛ إلا مع الإقرار بأنه رسول رب العالمين إلى الناس ليعبدوا الله كما شرع وجمع الإذعان له والانقياد لحكمه؛ فمن لم يذعن لحكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس بمسلم وإن ادعى الإسلام.
    فلا عبرة بإسلام الاشتراكيين والقوميين والبعثيين؛ لأنهم لم يذعنوا لله ولم يشهدوا حقاً بأن محمداً رسول الله.
    ولا شك عندنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختصه الله بصفات ليست في أي بشر، وهذه الصفات إنما هي ليلقى إليه الوحي، ويؤهل لأن يكون رسولاً لله.
    أما أن ننظر إلى هذه الصفات فقط -وهي وسيلة للقيام بحق الرسالة- وننسى الرسالة التي هي الهدف الأسمى، والتي يجب أن نؤمن بها، ولا نكون مسلمين إلا إذا أقررنا بالإيمان بها، فهذا خطأ وباطل.
    ولذلك كل من زعم أو ادعى أنه آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلابد أن نتبين ونعلم معنى إيمانه وحقيقته؛ إذ ليس كل من عظمه صلى الله عليه وسلم أو أثنى عليه أو مدحه يكون بذلك مؤمناً؛ فغلاة الصوفية وغلاة الفلاسفة -حتى أن من ينتسب منهم إلى الإسلام؛ مثل الفارابي والكندي وابن رشد وغيرهم؛ يقولون: إن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم هي أفضل الشرائع جميعاً؛ فقد عرضنا ما تقوله الأديان جميعاً على العقل وعلى الحكمة التي جاء بها المعلم الأول أرسطو والحكماء من أمثاله، فوجدنا كل الأديان ساقطة أو مختلة إلا شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: هذه شريعة ما طرق العالم شريعة أفضل منها، فلذلك هي صنو الحكمة ورضيعتها.
    وقد ألف ابن رشد كتاباً سماه: فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، وكأنه يشير بذلك إلى أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم عظيمة جداً؛ لأنها مثل ما قاله أرسطو تماماً، فهي تختلف عن كل الأديان: اليهودية والنصرانية ؛ لكنها تتفق -كما رأوا هم- بتأويلات وتعسفات مع ما قاله أرسطو .
    فهل هؤلاء يعدون مؤمنين إذا كان معيارهم في الحكم عليها مقدار موافقتها لـأرسطو ؟!
    إنهم بذلك جعلوا أرسطو هو الإله أو هو الرسول، وما عداه فيقاس به، فلهذا يقولون: إن الشريعة والفلسفة -أو الحكمة- نظيرتان أو رضيعتان أو وصيفتان، وليس من الداعي لأهل الشريعة أن يواجهوا أهل الحكمة، ولا لأهل الحكمة أن يواجهوا أهل الشريعة، فهؤلاء على حق وهؤلاء على حق.
    إن هؤلاء ليسوا بمسلمين ولا مؤمنين؛ حتى يذعنوا لله وحده ويتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، ومن جملة ما يتبعونه فيه أن يتبرءوا من كل ما يخالف دينه، ومن ذلك ما قاله أرسطو وأشياعه.
    أما غلاة الصوفية فقد ذكروا أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم هي والحقيقة التي يدعونها سواء، وأن العالم ما جاءه دين مثل دين محمد صلى الله عليه وسلم، فـالحلاج مثلاً يصرح بذلك ويقول: كل الأديان طرق تؤدي إلى الله، وكلها مقبولة، فلا ينكر أحد على أحد، ما دام الكل مقبولاً.
    وهذه القاعدة التي أصلناها وقررنا من خلالها كفر من لم يذعن لشرع يعرفها من نوَّر الله تعالى بصيرته، وقرأ كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ومع ذلك فإن هذه الدعوى -التي نطق بها الحلاج- لا نزال نسمعها في عصرنا؛ فهناك من يقول: إن اليهود والنصارى والصابئين مسلمون مؤمنون مقبولون عند الله ولا يحق لنا نحن المسلمين أن ندعي أننا وحدنا فقط المسلمون المؤمنون، وأن الجنة لنا وحدنا.
    إن هذا الفكر الإلحادي الحديث يتفق مع ما قاله الفلاسفة وغلاة الصوفية الذين قالوا: كل ما هو دين فهو مقبول، وأصحابه عند الله كالمؤمنين.
    وأسوأ من ذلك أن يُبَرَّأ الإسلام من المعايب ومن النقص، بدليل أنه وافق العقائد القديمة؛ فبعض الناس يظن هذا من الدفاع عن الإسلام، كما في قصيدة أحمد شوقي المشهورة والتي قال فيها:
    ناديت بالتوحيد وهو عقيدة            نادى بها سقراط والقدماء
    يعني: أنك جئت بالتوحيد؛ كما جاء سقراط أيضاً بالتوحيد ونادى به وقال به.
    الاشتراكيون أنت إمامهم            لولا دعاوى القوم والغلواء
    أي أن محمداً صلى الله عليه وسلم يستحق أن يعظم وأن يحترم، ولا ينبغي أن يتكلم فيه؛ لأن ما جاء به موافق لما قاله سقراط ولما قاله الاشتراكيون.
    إن هذه المعاني بدهية عندنا؛ لكنها غائبة عن إحساس وشعور كثير من الناس؛ فكثير من الكتاب والزعماء والأدباء والصحفيين يتكلمون عن الإسلام كأي دين، ويتكلمون عن محمد صلى الله عليه وسلم كأي رجل، ويتكلمون عن القرآن كأي كتاب، والمؤدب منهم من يقول: إن هذا كتاب عظيم، وقد يستشهد به أحياناً، ومن يقول: إن هذا الرسول عظيم، وقد يذكر أقواله أحياناً.
    1. تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر

      والإيمان به صلى الله عليه وسلم لابد لتحقيقه من اجتماع عدة أمور:
      أولها: (تصديقه فيما أخبر)؛ أي: بما أخبرنا به صلى الله عليه وسلم كقوله: {إذا كان الثلث الأخير من الليل فإن الله ينزل إلى السماء الدنيا}.
      فإذا قال بعض الناس: كيف ينزل؟! هذا فيه تجسيم وانتقال وتحرك، ويلزم منه كذا وكذا، فهو لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم على الحقيقة.
      يقول بعضهم: إذا جاءنا الحديث، وكان خبر آحاد، لم نأخذ به في العقيدة؛ فإن كان متواتراً، عرضناه على العقل وعلى القواطع والأدلة العقلية، فإن وافقها وإلا رُدّ..!
      لو أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ماذا تقول يا محمد؟ ما دينك؟ إلام تدعو؟ قال: أدعو إلى عبادة الله وصلة الأرحام وترك عبادة الأصنام؛ فلما عرف الدين قال: سوف أرجع إلى قومي وأشاورهم في ذلك؛ فإنه لا يكون مسلماً بمجرد المعرفة بصحة وصدق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير متابعة؛ يط كما فعل بنو تميم حين قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى أكثم بن صيفي فقال لهم: ليتكم سبقتم إليه..!
      وهناك ممن يدعي الإسلام ويقول: نعرض ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات أو في الإيمان أو في غيرهما على كلام أرسطو وأفلاطون؛ فإن وافق كلامهم قبلناه، وإلا لم نقبله. فهل شهد أحد من هؤلاء بأن محمداً رسول الله؟ أين الشهادة بالنبي وأنتم تعارضونه بعقولكم أو بآرائكم؟!
      وهناك من يرد كثيراً من أحاديث الأحكام ويقول: نحن على المذهب الفلاني! فيقال له: هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: أنا حنفي أو أنا شافعي، وأتبع ما قاله أئمة المذهب.. مع أن الأئمة الأربعة قالوا كلهم -على تفاوت في العبارة واختلاف في اللفظ ولكن المعنى واحد- قالوا: ما خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليضرب به عرض الحائط ولا قيمة له.
      وهذا المقلد يقول: لا. هذه تخالف العقل، وهذه تخالف القياس.
      ابن أبي ذئب رحمه الله ورضي عنه.. يقول الإمام أحمد فيه: كان أقول وأجرأ في الحق من مالك ؛ فالإمام أحمد يزكي ابن أبي ذئب، بأنه أجرأ وأقوى في الحق من مالك، وهو الذي رفض الوقوف للمهدي فقالوا له: لمَ لمْ تقم وهو في المسجد؟ قال: (إنما يقوم الناس لرب العالمين). قيل له: إن مالكاً ينكر حديث الخيار ولا يرى خيار المجلس، فقال: يستتاب مالك..!
      هذا هو حال السلف الصالح .
    2. طاعته صلى الله عليه وسلم فيما أمر والكف عمّا نهى عنه

      ومن لوازم الإيمان به صلى الله عليه وسلم: (طاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع وأمر).
      ولـابن القيم رحمه الله كلام عظيم في كتاب مدارج السالكين في مقام الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد ذكر ما أمر الله تعالى به من ذلك، كما في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))[الحجرات:1] وذلك ألا يقدم بين يدي كلامه وبين يدي سنته صلوات الله وسلامه عليه أي قول، وإن كان لشيخ أو عالم أو مفتٍ، وإن كان لملك أو زعيم، وإن كان يدل عليه القياس أو الرأي أو الاجتهاد.. فهذا من الأدب معه صلى الله عليه وسلم.
      ومن التقديم بين يديه: أن يقول القائل: قال رسول الله، فيقول الآخر: ولكن قال فلان: كذا...!
      سئل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه عن مسألة، فقال الشافعي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها كذا، فقال له السائل: فما تقول أنت؟ فقال الشافعي: "أتراني في كنيسة؟! أترى عليَّ زناراً؟! أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: ما رأيك أنت؟! سبحان الله! وهل لنا من رأي؟! ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ))[الأحزاب:36]" وبعض يتخيرون من أمر الله ما يشاءون، ويتخيرون من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحبون، ويقولون: أعجبنا من سنته صلى الله عليه وسلم ما يتعلق بالعشرة الزوجية، لكن لم يعجبنا من سنته صلى الله عليه وسلم المظهر أو اللباس، فنأخذ هذا ونترك هذا..! فهذا الاعتراض لا يمكن أن يجتمع هو والإسلام أبداً؛ بل لا بد من التسليم: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))[النساء:65].
      قال ابن القيم رحمه الله في معنى هذا الآية: "التحكيم في مقام الإسلام"، فلا يكون مسلماً من لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم.
      "وانتفاء الحرج في مقام الإيمان"، لأن المؤمن لا يكون في حرج من أمر الله أبداً.
      "والتسليم المطلق في مقام الإحسان"، كـالصديق حين قيل له: يا أبا بكر ! إن صاحبك قد أخبر أنه قد أسري به إلى بيت المقدس؛ فقال: [[إن كان قال فقد صدق]]..
      هذا هو التسليم المطلق، ودون ذلك من لم يُسَلِّم بإطلاق، لكن ليس في قلبه حرج من أمر الله ورسوله، ودون ذلك من يحكم الله ورسوله، ويحكم دين الله في كل أمر، لكن قد يجد في نفسه حرجاً منه، ويجد غضاضة ومشقة منه، وهذا يوجد عند كثير من الناس.
      أما من لم يحكم دين الله، ولم يحكم أمر الله ورسوله أصلاً، فهذا ليس بمُسْلم؛ بل غاية ما فيه أنه يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض.