المادة كاملة    
الإيمان بأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام أحد أركان الإيمان الستة، كما دل على ذلك حديث جبريل وغيره من الأحاديث والآيات، وهم أفضل ممن سواهم من البشر، ومن زعم غير ذلك فقد كفر، وما صح فيه الدليل بعينه منهم وجب الإيمان به معيناً، ويجب الإيمان بسائرهم إجمالاً، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضلهم وآخرهم، وأن الله أرسله للناس جميعاً.
  1. حقيقة الإيمان بالأنبياء

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [وأما الأنبياء والمرسلون، فعلينا الإيمان بمن سمى الله تعالى في كتابه من رسله، والإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلاً سواهم، وأنبياء لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله تعالى الذي أرسلهم.
    فعلينا الإيمان بهم جملةً ؛ لأنه لم يأتِ في عددهم نص، وقد قال تعالى: ((وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ))[النساء:164]. وقال تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ))[غافر:78].
    وعلينا الإيمان بأنهم بلّغوا جميع ما أرسلوا به على ما أمرهم الله به، وأنهم بينوه بياناً لا يسع أحداً ممن أرسلوا إليه جهله، ولا يحل له خلافه، قال تعالى: ((فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النحل:35]، وقال تعالى: ((فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النحل:82]، وقال تعالى: ((وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النور:54]، وقال تعالى: ((وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[التغابن:12] ]
    ا.هـ.
    الشرح:
    الإيمان بالنبيين هو الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى اصطفى من البشر رجالاً، وأرسلهم مبشرين ومنذرين، ((لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))[النساء:165]، والإيمان بهم أحد أركان الإيمان الستة، كما جاء في حديث جبريل المشهور، وفي آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد سبق بيان ذلك في قوله تعالى: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ))[البقرة:285]، وكما في قوله تعالى: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ))[البقرة:177] وقال في الآية الأخرى: ((وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا))[النساء:136] إلى آخر الآيات وحديث جبريل أشمل حديث في تفصيل أمور الإيمان والإسلام؛ فقد جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته بعد منصرفه من حجة الوداع، فبين أمور الإسلام والإيمان، ومن ذلك الإيمان بالنبيين؛ فمن لم يؤمن بالنبيين فليس بمؤمن، ولا يعد من جملة المؤمنين، بل هو كافر حتى يؤمن بالنبيين، إجمالاً وتفصيلاً على النحو الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى هنا.
    1. الإيمان المجمل بالأنبياء

      أما الإيمان بالنبيين على الإجمال، فنؤمن بأن الله تبارك وتعالى أرسل رسلاً، اختارهم واصطفاهم وبعثهم وأرسلهم إلى العالمين، ونعتقد ونؤمن بأن كل من أخبرنا الله به أو أخبرنا رسوله به صلى الله عليه وسلم أنه نبي أو رسول وصح ذلك عنه، فنحن مؤمنون ومصدقون به ((لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ))[البقرة:136].
    2. الإيمان المفصل بالأنبياء

      أما الإيمان بالأنبياء على التفصيل، فهو أن نعرف كل نبي بذاته وباسمه، ممن سماه الله تعالى، أو سماه النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر بعينه؛ فمن كان كذلك، فإننا نؤمن به باسمه وبعينه، وبما أرسله الله تعالى به، كما يذكر ربنا عز وجل، أو كما يذكر رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فنؤمن بهم على هذا النحو، وهذا الإيمان يجعل المسلم يعلم قيمة إيمانه، ويعتز بدينه، ويعرف أصالة وعراقة وقدم ركب الإيمان والتوحيد.
      فالرسل جميعاً -وأولهم آدم عليه السلام- كلهم دعوا إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، وكلهم جاهدوا في الله تبارك وتعالى كما أمر الله، وكلهم صبروا على ما أوذوا حتى أتاهم نصر الله سبحانه وتعالى، وكلهم قيل لهم ما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ((مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ))[فصلت:43]، ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ))[الأحقاف:35]،((كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ))[الذاريات:52]، ((وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ))[فاطر:4] فالله تعالى يخاطب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أنه إذا دعا إلى الله سبحانه وتعالى، فإنه لابد أن يواجه من المدعوين العناد والاستكبار والصدود والإعراض، ويقولون له: جئتنا بما لم يكن عليه الآباء والأجداد.. جئتنا بدعوة جديدة.. جئتنا ببهتان وباطل!! كل هذا يقوله الناس، فإذا كان كذلك ((فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ))[فاطر:4] قد قيل للأنبياء والرسل ما قيل لك، وكُذِّب الرسل كما كُذِّبت، فيجد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك متنفساً وراحة.
      ومن ذلك: أنه حين قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم في حنين، قال رجل من الأنصار: اعدل يا محمد! أو قال: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر} فيتأسى النبي صلى الله عليه وسلم بما جرى للرسل من قبله، وكذلك المؤمنون ودعاة الحق والهدى، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ يتأسون بما جرى للرسل، وهم أفضل خلق الله، فإن قالوا: ساحر أو شاعر أو مجنون أو كاهن، أو سخروا واستهزءوا به، أو قالوا: هو الأبتر، أو فعلوا ما فعلوا، فكم قتل من الأنبياء على يد المجرمين: قتل نبي الله يحيى بن زكريا من أجل داعرة زانية، وقتل كثير من الأنبياء على يد أقوامهم، وكان الله سبحانه وتعالى يبعث الرسل إلى بني إسرائيل ليقيموا فيهم التوراة فيقتلونهم؛ فالأنبياء قتل منهم من قتل، وكذب منهم من كُذب، وصد منهم من صد، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {ورأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد} فبعض الأنبياء لم يستجب له أحد، ولم يؤمن به أحد، فهي سنة وابتلاء مستمر، وقد قص الله تبارك وتعالى علينا من أنبائهم: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى))[يوسف:111] ليس افتراءً، بل هي حقائق ووقائع صدق، تقال للعبرة والاتعاظ في كل ما قصه الله تبارك وتعالى علينا.
      والأنبياء في دعوتهم إنما يدعون إلى الله وإلى عبادته وتوحيده، قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ))[الأنبياء:25] فكلهم يدعو إلى التوحيد، وتكون النتيجة المتكررة أن تؤمن فئة وهم قلة، ثم بعد ذلك يؤذون كما أوذي الرسل قبلهم، ويقال فيهم ما يقال في الرسل، ويتهمونهم بتهم شتى.
      وأما الأكثرية -ولاسيما الملأ والمستكبرين والمترفين وأكابر المجرمين- فإنهم يكفرون ويصدون ويكابرون ويعاندون، ثم تكون النتيجة بعد الصبر على الأذى، وحين يأتي أمر الله سبحانه وتعالى يكون النصر والتمكين للمؤمنين، ويكون الهلاك للكافرين، فهذه قاعدة عامة وسنة ثابتة.
      فقد بعث الله تبارك وتعالى نوحاً عليه السلام، بعد وقوع الانحراف الأول في بني آدم، وبعد أن عاشوا عشرة قرون على التوحيد والإسلام، ثم وقع فيهم الشرك بسبب تعظيم الصالحين، ثم جاء من بعد نوح عليه السلام نبي الله هود ونبي الله صالح، ثم كانت مرحلة جديدة ببعثة إبراهيم عليه السلام، وكل نبي جاء بعده فهو من ذريته كما قال تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ))[الحديد:26]، ثم بعث الله تعالى موسى عليه السلام وأغرق فرعون، ثم أنزلت التوراة وتلقاها موسى عليه السلام من ربه، بعد أن نجاه الله تعالى وقومه من فرعون وجنوده، ثم بعث في بني إسرائيل الرسل، وهم أكثر الأمم رسلاً، كما قص الله تعالى علينا في القرآن، وهؤلاء الأنبياء كانوا يدعون الناس ويحكمون بينهم بالتوراة: ((يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا))[المائدة:44]، فمنهم من أوذي ومنهم من قتل، ومنهم من لا نعلم خبره، ثم كان زكريا عليه السلام وابنه يحيى عليه السلام في زمن واحد، وكذلك المسيح بن مريم عليه السلام ظهر في ذلك الوقت وهو آخر أنبياء بني إسرائيل، ثم نقل الله تبارك وتعالى النبوة من نسل إسحاق إلى نسل إسماعيل، إلى العرب، فنقلت النبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، ((كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا))[سبأ:28] وقصته وسيرته وحاله مع قومه ومع أعداء الله تبارك وتعالى لا تخفى على أحد؛ فهي تفصيل لما أجمل من قصص الأنبياء السابقين، إلا أن الله سبحانه وتعالى أعلى دينه، وأظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ونصره، وكتب الذل والصغار على من خالف أمره صلى الله عليه وسلم، وسوف يتم الله تبارك وتعالى هذا الدين كما وعد بإذنه سبحانه، وسوف يظهره على العالمين ويبلغ به ما بلغ الليل والنهار، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله لكم، ثم تغزون فارس فيفتحها الله لكم، ثم تغزون الروم فيفتحها الله لكم، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله لكم} فهذه أمة منصورة والحمد لله ((وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))[الأعراف:128].. ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ))[الأنبياء:105] على القول بأن الأرض هي الدنيا، فيمكنِّ الله تعالى عباده فيها.
  2. وجوب الإيمان بالأنبياء جميعاً

     المرفق    
    يقول رحمه الله: [وأما الأنبياء والمرسلون، فعلينا الإيمان بمن سمى الله تعالى في كتابه من رسله، والإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلاً سواهم، وأنبياء لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله تعالى الذي أرسلهم]. إذاً: لدينا نوعان: النوع الأول: سماهم الله في كتابه. النوع الثاني: لم يسمهم الله سبحانه وتعالى. والذين سماهم الله تعالى في القرآن عددهم خمسة وعشرون على القول الراجح.
    1. الترتيب الزمني للأنبياء وذكر أماكنهم

      يذكر بعض العلماء الأنبياء بحسب وجودهم، وهذا فيه إشكال؛ لأنه قد يصعب ترتيبهم لما في بعضهم من الاختلاف، فمثلاً: بعضهم يقول: إن أولهم آدم، وهم متفقون على أن آدم هو أول الأنبياء، ثم بعد ذلك: نوح عليه السلام، فيأتي من يقول: إن إدريس هو الحفيد الخامس أو الرابع لآدم عليه السلام، وليس عندنا يقين في ذلك.
      ومن العلماء من يرى أن إدريس عليه السلام ما هو إلا نبي من أنبياء بني إسرائيل، أي: من ذرية إبراهيم عليه السلام.
      ونحن لا يهمنا إلا أن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى أرسل إدريس وسماه في القرآن، ونحن نؤمن بما ذكر الله عنه؛ حيث قال تعالى: ((وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا))[مريم:57] فلا يشترط ولا يلزم أن نذكرهم بحسب الترتيب، ولكن نستطيع أن نفهم من القرآن نوعاً من الترتيب الزمني لوجودهم بعد آدم وبعد نوح عليهما السلام، فإنه من المؤكد أن الله تعالى جعل أمة وقرناً بعد قرن قوم نوح، وهم قوم عاد: ((وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ))[الأعراف:69] فلا نعلم كم بينهم من زمن، فبعد نوح عليه السلام قص الله علينا خبر هود عليه السلام وأن الله أرسله إلى عاد، وكانت عاد في الأحقاف، وهناك من يزعم أنهم في بلاد الرافدين، كما قال تعالى: ((وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ))[الأحقاف:21].
      إذاً: ذكر الله تعالى زمانهم ومكانهم.. زمانهم من جهة أنهم من بعد قوم نوح، ومكانهم الأحقاف، وذكر رسولهم وهو هود عليه السلام.
      ثم جاء بعد عاد قوم آخرون وهم ثمود، ورسولهم صالح عليه السلام، وهنا يقول المؤرخون: إن هذه أمم بائدة، وكلها كانت قبل إبراهيم عليه السلام، فإذاً: عندنا من الرسل آدم ونوح وهود وصالح، ثم بعد ذلك جاء إدريس عليه السلام على أحد الأقوال، ثم بعث الله إبراهيم عليه السلام بعد أن باد من باد وفني من فني، وإبراهيم عليه السلام هو رسول أرسله الله تبارك وتعالى، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، فأول مولود له إسماعيل ثم إسحاق: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ))[إبراهيم:39] فكان لإبراهيم إسماعيل وإسحاق، وكان له ابن أخ وهو لوط، وكان في زمنه، قال تعالى: ((فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ))[العنكبوت:26] وذكر الله أصحاب مدين إذ قال لهم نبيهم الذي هو شعيب: ((وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ))[هود:89] أي: ما هم ببعيد منكم تاريخياً، يقول: فأنا أرسلت بعد لوط، فيكون شعيب عليه السلام قريباً من عهد إبراهيم، فلا يكون صحيحاً أن موسى عليه السلام لما توجه تلقاء مدين؛ قابل شعيباً، وأين إبراهيم من موسى على هذا القول؟ المدة بعيدة وقد يكون المراد بقول شعيب: ((وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ))[هود:89] أي: في المكان؛ لأن مدين شمال جزيرة العرب، وقرى قوم لوط سدوم وعمورية، فإذاً: أرضهم قريبة منهم، كما قال تعالى: ((وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ))[الصافات:137-138] ويكون المعنى: إنكم تعرفونهم وليسوا ببعيدين منكم، والله أعلم.
      فذكرنا هنا إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ولوطاً وشعيباً عليهم السلام، فهؤلاء خمسة، بالإضافة إلى الخمسة الذين سبق ذكرهم فيصير العدد عشرة، ثم بعد ذلك إسحاق الذي من نسله أكثر الأنبياء، حيث تفرع عنه الأسباط، يقول يوسف عليه السلام: ((إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ))[يوسف:4] الأسباط أحد عشر ولداً، ويوسف الثاني عشر.
      فهؤلاء اثنا عشر، وهؤلاء هم بنو إسرائيل (يعقوب عليه السلام).
      إذاً: نبدأ بيعقوب الأب، وبعده يوسف عليه السلام؛ لأنه أفضلهم، ثم بعد ذلك الأسباط، ولم يذكر الله تعالى لنا أسماءهم، وإنما ذهب يعقوب وأهله، وسكنوا مصر، ثم بعد ذلك تناسلوا وتكاثروا حتى بعث الله تبارك وتعالى منهم موسى عليه السلام، وبعث مع موسى هارون، فقد صاروا أربعة؛ يعقوب ويوسف وموسى وهارون فيكون عدد الأنبياء الذين ذكرناهم أربعة عشر رسولاً ونبياً، وبعد ذلك: جاءت رسل بني إسرائيل وهم كثير، كما قال الناظم:
      في تلك حجتنا منهم ثمانية             من بعد عشر ويبقى سبعة وهم
      ذكر الله تبارك وتعالى ثمانية عشر رسولاً في قوله تعالى: ((وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ))[الأنعام:83-86].
      ويبقى لدينا يونس عليه السلام، هل نستطيع أن نصفه بأنه من أنبياء بني إسرائيل؟ يحتمل، ولكن فيما يظهر أن يونس عليه السلام قبل ذلك، أو أنه في منطقة أخرى ؛ لأن الله تعالى بعثه إلى أهل العراق إلى الأشوريين، وهم أمة من الأمم القديمة التي كانت في بلاد الرافدين في نينوى وما حولها، فيبدو -والله أعلم- أنه قبل ذلك، ثم بعث الله أيوب عليه السلام، وبعد ذلك داود، وقد جعل الله تعالى لداود ابنه خليفة وهو سليمان عليه السلام، وجاء بعد ذلك: إلياس واليسع وذو الكفل، ثم يأتي الأنبياء الثلاثة المعروفون المشهورون من بني إسرائيل، وهم: زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، وثالثهم عيسى عليه السلام.
      بعد ذلك جاء خاتم الأنبياء والمرسلين وهو محمد صلى الله عليه وسلم، هؤلاء هم الذين قص الله تبارك وتعالى علينا في القران.
      وهناك من ورد ذكرهم في القرآن كـطالوت الذي كان قائداً للجيش الذي جاء ذكره في القرآن في قصة بني إسرائيل مع نبيهم: ((إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))[البقرة:246] أي: أنهم ذهبوا إلى النبي، وطلبوا منه -ولا يهمنا اسم هذا النبي؛ لأن الله لم يذكر تعالى اسمه- وقالوا: نريد ملكاً نقاتل معه، فالله تعالى اختار لهم طالوت ملكاً، فـطالوت كان هو القائد، وكان ضمن جيشه داود عليه السلام قبل أن يبعث رسولاً.
      والخضر ذكر الله تعالى قصته في القرآن ولم يذكر اسمه، لكن في الأحاديث الصحيحة ذكر أن اسمه الخضر.
      وممن ذكر في القرآن واختلف في نبوته منهم: ذو القرنين ولقمان وعزير وتبع.
      والمقصود أننا نؤمن بهؤلاء الخمسة والعشرين بأسمائهم، وأما من عداهم فيكفينا أن الله تبارك وتعالى قال: ((وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ))[النساء:164] فغيرهم كثير؛ يقول المصنف: [فعلينا الإيمان بهم جملة؛ لأنه لم يأت في عددهم نص] النوع الثاني: الذين لم تأت أسماؤهم، ولم نعلم عنهم شيئاً، وعلينا أن نؤمن بهم جملة؛ لأنه لم يرد في عددهم نص، فنؤمن بأن الله أرسل رسلاً.
      وهنا ونقف عند قول المصنف: (لم يأت نص) فهل فعلاً لم يأت نص أو لم يصح نص؟ الصحيح: أنه لم يرد نهائياً، لأن ما لم يصح لا اعتبار به.
    2. الأدلة المثبتة لعدد الأنبياء والرسل

      وقد جاء في حديث أبي ذر ذكر عدد الأنبياء؛ فقد سأل رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! كم الأنبياء؟ فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً. قال: كم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر} فالقول بأن الحديث صحيح يوجب الإيمان بمائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي، أما القول بضعفه فيلزم منه العمل بقول المصنف هنا: [فعلينا الإيمان بهم جملة]، وقد ورد ذكر عددهم في أحاديث أخرى وذلك بأنهم ثمانية آلاف، وهي أحاديث ضعيفة أيضاً، وهذه الأحاديث ذكرها ابن كثير رحمه الله في تفسيره، عند قوله تعالى: ((وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ))[النساء:164]. وذُكر أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى كان يرى صحة عددهم، كما نقل عنه شيخ الإسلام، فالإمام أحمد يرى صحة حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه، ومن العلماء من لا يراه، فعلى أية حال نحمل قول المصنف: [لأنه لم يأت في عددهم نص] بأن المراد لم يصح عنده ما ورد في ذلك، والحديث الوارد بأن عددهم ثمانية آلاف هو حديث ضعيف لا يقبل مطلقاً، لكن حديث أبي ذر هو الذي وجد من حَسَّنه بمجموع طرقه.
      قال تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ))[غافر:78].
      إذاً: فقد أخبر الله تعالى في صريح القرآن أن من الرسل من لم يقصص الله سبحانه وتعالى علينا أخبارهم، إذ القرآن ليس المقصود منه الاستيفاء، بل تجد فيه أن الآيات موجزة وأنها تأتي بمواضع العبرة والعظة، وتترك ما لا حاجة لذكره، وتذكر ما يحتاجه السياق، حتى إنك تجد قصة موسى أو غيره مجملة في موضع، ومفصلة في موضع آخر بحسب المقام والحال، وبحسب وقت الخطاب، إلى آخر ذلك من الاعتبارات الكثيرة، وأنزل الله تعالى سورة يوسف، وفيها تلك القصة الطويلة والعجيبة، ببلاغة لا نظير لها على الإطلاق، قصة لا تمل قراءتها ولا تكرارها، وتتداخل فيها مسائل الإيمان والتوحيد مع القصة، وليس فيها ما لا داعي لذكره، وما كان مهماً ويجدر ذكره؛ فقد ذكرته السورة على نفس النمط القرآني المعروف.
      فالله سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن كتاب هداية، فيذكر الله تعالى فيه ما يهم السامعين الذين أنزل عليهم، أما ما عدا ذلك من التفاصيل فلا تهمنا : ((تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ))[البقرة:134]، بل المهم العبرة، كما أخبر الله عن عاد بقوله: ((الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ))[الفجر:8]، فليس من المهم أن نعرف أن طول أحدهم عشرون ذراعاً أو ألف ذراع مثلاً، فهذا لم يأت فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة، أو من بعدهم، فهذه الأخبار لا مجال للرأي فيها، فهي أمور غيبية تحتاج إلى دليل صحيح، وأقل ما يقال فيها أنها تفصيلات لا يحتاج إليها، فالعبرة قائمة بما ذكر الله تعالى في القرآن، وبما فصل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في تفسير ذلك، أو بالزيادة عليه، كما نجد مثلاً في قصة الخضر وموسى عليها السلام فإن القرآن أجملها، والنبي صلى الله عليه وسلم في الروايات الصحيحة كما في صحيح البخاري وغيره فصَّل ما ورد في القرآن، وهذا يكفينا، والعبرة قائمة في ذلك، وما عداه لا يحتاج إليه، فمثلاً: ما اسم الرجل الصالح الذي وضع كنزه تحت الجدار؟ ومن هو الغلام الذي قتله الخضر؟ ومن أي صنف هو؟ ومن أي قبيلة؟ فالمهم هو حصول العبرة والعظة، وهذا هو المقصود من القصة في القرآن.
  3. وجوب الإيمان بأن الأنبياء بلّغوا رسالة ربهم

     المرفق    
    يقول المصنف: [وعلينا الإيمان بأنهم بلغوا جميع ما أرسلوا به على ما أمرهم الله به] بل جميع ما أرسلوا به وأوحي إليهم بلغوه، ولم يكتموا منه شيئاً ؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: [[ثلاث من حدثك بهن فقد كذب، من قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أوحى إليه ربه فقد كذب]] فلا يمكن أن يكتم النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله ما أوحى إليهم ربهم؛ لأنه يتنافى مع اختيار الله لهم بأن يكونوا رسلاً، ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها: [[لو كان محمد صلى الله عليه وسلم يكتم شيئاً من القرآن لكتم آية العتاب، قوله تعالى: ((وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ))[الأحزاب:37]]] فلا محمد صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الرسل يكتم شيئاً مما أنزل الله إليه وأمره بتبليغه، يقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ))[المائدة:67] فلا شيء يوجب على أيّ رسول ألا يبلغ دعوة الله سبحانه وتعالى، أو أن يكتمها؛ لأن هذا يتنافى مع كونه رسولاً مجتبى مصطفى مختاراً.
    فمن جملة ما نؤمن به أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بلغوا جميع ما أمر الله به، على الوجه الذي أمر الله تعالى به، فلم يكتموا شيئاً منه.
    وفي القول: بأنهم بلغوا ما أمرهم الله تعالى به تكذيب لقول الروافض؛ فإن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ))[المائدة:67] لكن الروافض يقولون: إن البلاغ في الآية هو النص بإمامة علي رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولذلك يقولون: العلم الباطن في الجفر والجامعة -وغير ذلك من الأكاذيب- أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغها، ومع ذلك فقد اختص بها أهل البيت.
    والمقصود أن نقول: إن الله تعالى اصطفى الرسل والأنبياء صلوات الله عليهم وأنزل عليهم الوحي وهم أكثر الناس أمانة، وأمرهم بالبلاغ، فمن المحال شرعاً وكذلك من المحال عقلاً أن يخونوا الأمانة؛ بل ذلك محال على أصحابهم؛ لأن أفضل الناس بعد الأنبياء هم أصحاب الرسل ولأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل فإن أفضل أصحاب نبي وحواريه هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فيستحيل أن يكتموا شيئاً مما أمرهم الله تعالى وأبلغهم به رسوله، فعندما تأتي الرافضة، وتقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد منصرفه من حجة الوداع في غدير خم، جمع الصحابة كلهم، وكانوا مائةً وعشرين ألفاً، فأخذ عليهم العهد: أن الخليفة من بعدي علي رضي الله عنه، وأن الله أوحى إليَّ هذا، وأمرني به، وأنه لا يقبل منكم الإيمان بي إلا بالإيمان بالوصي، وبعد أن مات صلى الله عليه وسلم فإذا بمائة وعشرين ألف صحابي يكتمون الحديث، ويتواطئون على خلافه، ويأتون بـأبي بكر ثم بـعمر ثم بـعثمان هل يعقل هذا؟! النتيجة أن هؤلاء ليسوا أهلاً لأن يصطفوا ويختاروا ويجتبوا، وأن يثني الله تعالى عليهم في القرآن بهذا الثناء، لا يمكن هذا! حتى أهل الفلسفة والمنطق وأصحاب العقليات يجعلون هذا من قسم المستحيل عقلاً، يعني: يستحيل أن فئة وأمة عظيمة من الناس كلها تتواطأ على أمر هو غير الحق، وهم بهذا العدد، فمن حيث العادة لا يمكن أن يقع مثل هذا الإجماع، بل لابد أن يتفرقوا، فاليهود تفرقوا، والنصارى تفرقوا، والبوذيون تفرقوا، كل هؤلاء منهم من يخون، ومنهم من لا يخون، لكن أن يكون هناك إطباق كلي على كتمان أمر حدث، فهذا لا يمكن أن يصدق.
    1. تبيين الأنبياء للوحي بياناً لا يسع أحداً جهله

      يقول المصنف: [وأنهم بينوه بياناً لا يسع أحداً ممن أرسلوا إليه جهله] أي: أنهم بينوا كل شيء كما أمرهم الله، على وجه لا يسع أحداً من قومهم أن يجهله، ممن سمع منهم، فقد بينوه بياناً شافياً كما قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ))[إبراهيم:4] أي: بلغتهم وذلك ليبين لهم ويقيم عليهم الحجة، ويحاجهم حتى لا يهلك من هلك إلا عن بينة، ولذلك اختص الله الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بأعظم البيان؛ فقد جاءوا من عند الله سبحانه وتعالى بالحجة القوية، والبرهان الجلي، والآيات والمعجزات التي لا يسع الخلق إلا التصديق بها، ولا يستطيعون أن يكذبوها أبداً، ومن رأى الأنبياء صلوات الله عليهم وسمع منهم، كان حاله كحال الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: والله ما هذا بوجه كذاب.
      فالمجرم ترى في وجهه الإجرام، وأهل البدعة تسمع البدعة في كلامهم، ومن أعطاه الله البصيرة والنور، فإنه حين يسمع البدعة يعلم أن هذه بدعة؛ وإن كان لا يستطيع أن يرد على صاحب البدعة، لكنه يعلم أنه مبتدع، وأن كلامه باطل، بخلاف غيره فقد يصدق هذا المبتدع ويتبعه، لكونه أعمى البصيرة.
      إن الله تعالى فطر النفوس على معرفة الحق وعلى قبوله، ولذلك فإنه لا يسع أحداً ممن رأى الرسل وشاهد آياتهم إلا أن يسلم ويستسلم ويصدق بها. وهذا الطفيل بن عمرو الدوسي قالت له قريش: ضع في أذنيك القطن حتى لا تسمع كلام من يسفه الأحلام ويسب الآلهة، وكان الطفيل سيد قومه وزعيم قبيلة عظيمة من العرب، قبيلة الحكماء الذين يحكمون في أسواق العرب بين الناس، فمعنى ذلك أنهم يسمعون من الأطراف والخصوم، ثم يحكمون بينهم، فقال: لماذا لا أستمع لهذا الرجل؛ فإن كان حقاً قبلته، وإن كان غير ذلك رددته؟!
      فلما سمع منه آمن ؛ لأن الحق واضح جلي، فلا يسع أحداً ممن سمع منهم صلوات الله وسلامه عليهم أن يجهله أو أن يرده؛ لأنهم أعطوا البلاغة الشافية، والحجج والبينة، وهذا من فَضْلِ الله سبحانه وتعالى ورحمته بعباده، حيث أيد الرسل بذلك، ليقطع دابر الشبهات والشكوك، ولتقام الحجة على الناس، فعندها لن يعاندهم إلا المكابر، كما قال الله سبحانه وتعالى على لسان فرعون: ((مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ))[غافر:29] ((وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى))[طه:79].
      فإذاً: هؤلاء المكابرون ليس عندهم حجة إلا المجادلة بالباطل، فإذا لم يصدق الناس باطلهم، فالجواب عندهم هو: السجن أو القتل أو الصلب في جذوع النخل كما فعل إمامهم فرعون، وذلك لأنهم لا يملكون الحجة والبرهان.
      يقول: [وأنهم بينوه بياناً لا يسع أحداً ممن أرسلوا إليه جهله، ولا يحل له خلافه] قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ))[النساء:64]
      هل يبعثهم الله إلينا لنأخذ أقوالهم ونعرضها على العقل، فما قَبِله العقل أخذناه وما لا يقبله رددناه؟!
      إذا كان التحاكم إلى مثل هذا، فما معنى أنه رسول؟! إن الله تعالى يقول: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ))[النساء:64] فطاعتهم حق واجب؛ لأنهم يبلغون عن الله سبحانه وتعالى، فلا يعذر أحد بجهله لوضوح الحجة، ولا يحل لأحد أن يخالفه، لوجوب الاتباع كما أمر الله سبحانه وتعالى.
    2. المقصود من قوله تعالى: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)

      قال المصنف: [قال تعالى: ((فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النحل:35]... وقال تعالى: ((فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النحل:82] ((وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النور:54] وقال تعالى:((وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[التغابن:12] ].
      إن المقصود من قوله تعالى: ((فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النحل:35] أنه ليس على الرسل أن يهدوا قومهم هداية التوفيق والإلهام، بل هداية البيان والإرشاد، فالله تعالى لم يرسل الرسل مع إلزامهم بأن يؤمن بهم كل من يدعونه، إذ لو كان الواجب على الرسول أن يؤمن به قومه، لكان في ذلك حرج شديد عليه، وإنما على الرسول البلاغ المبين؛ إن آمنوا فالله تعالى يتولى المؤمنين، وإن كفروا فالله تعالى حسبهم وهو يتولاهم.
      ((إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ))[الشورى:48] أي: وما عليك أنت إلا البلاغ.
      والجهاد هو من البلاغ، ونحن نجاهد لنبلغ دعوة الله، ولا نرغم أحداً على الإيمان بقلبه؛ لأننا لا نطلع على القلوب، فكيف نملك أن نكره الناس على الإيمان؟!
      قال تعالى: ((أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ))[يونس:99].
      وليس معناها ألا تجاهدهم بل معناها: أن من لم يرد الله له الإيمان ولم يكتبه في قلبه فمهما بذلت، ومهما حاولت، ومهما اجتهدت، فلن يؤمنوا، قال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ))[يونس:100].
      فهناك من كتب الله عليهم الضلالة: ((فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ))[النحل:36] فهؤلاء الذين حقت عليهم الضلالة هم كما وصفهم الله بقوله: ((وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا))[الأنعام:25] فقد قالوا: لو أنزل علينا كتاباً من السماء نقرؤه، وقالوا: افتح لنا باباً من السماء، ومع ذلك فلو فتح الباب وعرجوا فيه ورأوا الملائكة، فإنهم سيقولون: ((بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ))[الحجر:15] فلا فائدة؛ لأن النفوس غير مستعدة للإيمان، فقد كتبت عليها الضلالة، وقست فلا تلين.
      فمعنى قوله تعالى: ((وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النور:54] أي: أن الرسل جميعاً إنما أمروا بالبلاغ، وأن الله تعالى أعطاهم وسائل البلاغ في الآيات البينات، والحجج الظاهرات القطعيات، وأعطاهم الأسلوب المبين في الإفصاح عمَّا يريدون، يوصلونه إلى أقوامهم بأوجز وأبلغ وأبين عبارة، بحسب لسان أقوامهم.
      ثم بعد ذلك: إن آمنوا فذلك فضل الله تبارك وتعالى عليهم، وإن كفروا فذلك من خذلان الله تعالى لهم، فإنه وكَلَهم إلى أنفسهم فخابوا وخسروا، وهو الذي يتولى جزاءهم سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى لنبيه: ((لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ))[الغاشية:22] وإنما الله عز وجل هو الذي يحاسبهم.