المادة كاملة    
إن المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر مسألة متكافئة الأدلة، ويصعب الترجيح فيها لأحد القولين، وفي ثنايا مناقشة الأدلة فوائد عظيمة ودرر نفيسة ومناظرة ممتعة؛ تفيد في الدربة على المناظرة وكيفية الاستدلال والاستنباط، ومعرفة فهم سلفنا وعلمائنا للأدلة وطريقة إعمالها.
  1. أدلة تفضيل الأنبياء على الملائكة والاعتراض عليها

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [فمما استدل به على تفضيل الأنبياء على الملائكة: أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم؛ وذلك دليل على تفضيله عليهم، ولذلك امتنع إبليس واستكبر وقال: ((أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ))[الإسراء:62] قال الآخرون: إن سجود الملائكة كان امتثالاً لأمر ربهم، وعبادة وانقياداً وطاعة له، وتكريماً لآدم وتعظيماً، ولا يلزم من ذلك الأفضلية، كما لم يلزم من سجود يعقوب لابنه يوسف عليهما السلام تفضيل ابنه عليه، ولا تفضيل الكعبة على بني آدم بسجودهم إليها امتثالاً لأمر ربهم.
    وأما امتناع إبليس، فإنه عارض النص برأيه وقياسه الفاسد بأنه خير منه، وهذه المقدمة الصغرى، والكبرى محذوفة، تقديرها: والفاضل لا يسجد للمفضول! وكلتا المقدمتين فاسدة:
    أما الأولى: فإن التراب يفوق النار في أكثر صفاته، ولهذا خان إبليس عنصره، فأبى واستكبر، فإن من صفات النار طلب العلو والخفة والطيش والرعونة، وإفساد ما تصل إليه ومحقه وإهلاكه وإحراقه، ونفع آدم عنصره في التوبة والاستكانة، والانقياد والاستسلام لأمر الله، والاعتراف وطلب المغفرة، فإن من صفات التراب الثبات والسكون والرصانة، والتواضع والخضوع والخشوع والتذلل، وما دنا منه ينبت ويزكو، وينمي ويبارك فيه، ضد النار.
    وأما المقدمة الثانية: -وهي: أن الفاضل لا يسجد للمفضول- فباطلة، فإن السجود طاعة لله، وامتثال لأمره، ولو أمر الله عباده أن يسجدوا لحجر، لوجب عليهم الامتثال والمبادرة، ولا يدل ذلك على أن المسجود له أفضل من الساجد، وإن كان فيه تكريمه وتعظيمه، وإنما يدل على فضله، قالوا: وقد يكون قوله: ((هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ))[الإسراء:62]، بعد طرده لامتناعه عن السجود له، لا قبله، فينتفي الاستدلال به.
    ومنه: أن الملائكة لهم عقول وليست لهم شهوات، والأنبياء لهم عقول وشهوات، فلما نهوا أنفسهم عن الهوى، ومنعوها عما تميل إليه الطباع، كانوا بذلك أفضل.
    قال الآخرون: يجوز أن يقع من الملائكة من مداومة الطاعة، وتحمل العبادة، وترك الونى والفتور فيها، ما يفي بتجنب الأنبياء شهواتهم، مع طول مدة عبادة الملائكة.
    ومنه: أن الله جعل الملائكة رسلاً إلى الأنبياء، وسفراء بينه وبينهم، وهذا الكلام قد اعتد به من قال: إن الملائكة أفضل، واستدلالهم به أقوى، فإن الأنبياء المرسلين، إن ثبت تفضيلهم على المرسل إليهم بالرسالة، ثبت تفضيل الرسل من الملائكة إليهم عليهم، فإن الرسول الملكي يكون رسولاً إلى الرسول البشري.
    ومنه: قوله تعالى: ((وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا))[البقرة:31]، الآيات. قال الآخرون: وهذا دليل على الفضل، لا على التفضيل، وآدم والملائكة لا يعلمون إلا ما علمهم الله، وليس الخضر أفضل من موسى، بكونه علم ما لم يعلمه موسى، وقد سافر موسى وفتاه في طلب العلم إلى الخضر، وتزودا لذلك، وطلب موسى منه العلم صريحاً، وقال له الخضر: إنك على علم من علم الله، إلى آخر كلامه. ولا الهدهد أفضل من سليمان عليه السلام، بكونه أحاط بما لم يحط به سليمان -عليه السلام- علماً.
    ومنه: قوله تعالى: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ))[ص:75].
    قال الآخرون: هذا دليل الفضل لا الأفضلية، وإلا لزم تفضيله على محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قلتم: هو من ذريته، فمن ذريته البر والفاجر، بل يوم القيامة إذا قيل لآدم: {ابعث من ذريتك بعثاً إلى النار}، {يبعث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحداً إلى الجنة}. فما بال هذا التفضيل سرى إلى هذا الواحد من الألف فقط؟!
    ومنه: قول عبد الله بن سلام رضي الله عنه: [[ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم..]] الحديث، فالشأن في ثبوته، وإن صح عنه فالشأن في ثبوته في نفسه، فإنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليات.
    ومنه: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الملائكة قالت: يا ربنا! أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها، ويشربون ويلبسون، ونحن نسبح بحمدك، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا، فاجعل لنا الآخرة؟ قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان} أخرجه الطبراني . وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل عن عروة بن رويم، أنه قال: أخبرني الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الملائكة قالوا...}، الحديث، وفيه: {وينامون ويستريحون، فقال الله تعالى: لا. فأعادوا القول ثلاث مرات، كل ذلك يقول: لا.}. والشأن في ثبوتهما، فإن في سنديهما مقالاً، وفي متنهما شيئاً، فكيف يظن بالملائكة الاعتراض على الله مرات عديدة؟ وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم ((لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ))[الأنبياء:27] وهل يظن بهم أنهم متبرمون بأحوالهم، متشوفون إلى ما سواها من شهوات بني آدم؟ والنوم أخو الموت، فكيف يغبطونهم به؟ وكيف يظن بهم أنهم يغبطونهم باللهو، وهو من الباطل؟ قالوا: بل الأمر بالعكس، فإن إبليس إنما وسوس إلى آدم ودلاه بغرور، إذ أطمعه في أن يكون ملكاً بقوله: ((مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ))[الأعراف:20].
    فدل أن أفضلية الملك أمر معلوم مستقر في الفطرة، يشهد لذلك قوله تعالى، حكاية عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند رؤية يوسف: ((وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ))[يوسف:31]. وقال تعالى: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ))[الأنعام:50].
    قال الأولون: إن هذا إنما كان لما هو مركوز في النفوس: أن الملائكة خلق جميل عظيم، مقتدر على الأفعال الهائلة، خصوصاً العرب، فإن الملائكة كانوا في نفوسهم من العظمة بحيث قالوا: إن الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً]
    اهـ.
    1. سجود الملائكة لآدم

      شرع المصنف في ذكر أدلة المفضلين للأنبياء أو صالحي بني آدم على الملائكة فقال: "فمما استدل به على تفضيل الأنبياء على الملائكة: أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم وذلك دليل على تفضيله عليهم" قالوا: إذا كان الله قد أمر الملائكة بالسجود لآدم، فإن الأنبياء وصالحي البشر أفضل من الملائكة.
      قال: "ولذلك امتنع إبليس واستكبر وقال: ((أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ))[الإسراء:62] وامتناع إبليس واستكباره يدل على أن الله كرم آدم عليه، وإبليس كان مأموراً بالسجود في جملة الملائكة، وإن كان هو من الجن كما صرح الله بذلك في كتابه. المقصود: أن الاستدلال يتوجه إذا قلنا: إن إبليس أُمر بالسجود مع الملائكة، لكنه أبى واستكبر وقال: ((أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ))[الإسراء:62] فالتكريم حاصل لآدم والصالحين من ذريته على الملائكة، هذه وجهة نظر القائلين بهذا القول.
    2. رد المخالفين على دليل تفضيل الأنبياء على الملائكة

      أجاب المخالفون على المستدلين بسجود الملائكة لآدم في تفضيل الأنبياء على الملائكة فقالوا: "إن سجود الملائكة كان امتثالاً لأمر ربهم" ولأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولا يقتضي ذلك التفضيل؛ لأنهم إنما سجدوا امتثالاً وانقياداً وطاعة له سبحانه، وتكريماً لآدم وتعظيماً، وإظهاراً لما فيه من الفضل، كما ذكرنا في القاعدة السابقة، أن الأدلة من الجانبين، إنما تدل على الفضل لا على الأفضلية، ولا شك أن للملائكة وصالحي بني آدم فضلاً عظيماً، لكن الإشكال هو: هل يدل هذا على أن صالحي البشر أفضل من الملائكة أو العكس؟!
      قالوا: إذاً! لا يلزم من سجود الملائكة لآدم أن يكون آدم أفضل، وإنما يدل على أن له فضلاً، فالله يريد أن يظهر فضل آدم، فأمر الملائكة بالسجود له، فسجدت انقياداً له وطاعة، لا إقراراً بأنه خير وأفضل، ولم يرد ذلك من كلام الملائكة، لكن جاء على لسان إبليس أنه خير من آدم.
      يقول: "كما لم يلزم من سجود يعقوب لابنه يوسف عليهما السلام: تفضيل ابنه عليه" أي: كما في قوله تعالى: ((وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا))[يوسف:100].
      فدلت الآية على أن يعقوب والد يوسف وإخوته سجدوا له، ومعلوم -وبلاشك- أن أباه أفضل منه، فذلك لا يستلزم أن يكون المسجود له أفضل من الساجد، بل ربما سجد الفاضل للمفضول، والمفضول للفاضل.
      وقالوا أيضاً: "لا تفضيل الكعبة على بني آدم بسجودهم إليها امتثالاً لأمر ربهم" هكذا أطلق المصنف العبارة، يعني: من جملة رد قول المستدلين بتفضيل الأنبياء على الملائكة أن سجود الملائكة لآدم لا يلزم منه الأفضلية؛ لأنه لا يلزم تفضيل الكعبة على الأنبياء وصالحي بني آدم، ومع ذلك فبنو آدم أمروا أن يسجدوا إليها.
  2. كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على السجود لغير الله وما يتعلق به

     المرفق    
    نبه شيخ الإسلام رحمه الله على مسألة مهمة وهي: الفرق بين السجود لشيء والسجود إلى شيء، أي: فموضوع الكعبة حقيقة لا مدخل له هنا، بغض النظر عن أرجح القولين، لكن لا يرد الاستدلال بمسألة السجود إلى الكعبة واستقبال الكعبة، كما أنه رحمه الله فصل في هذه المسألة المهمة، وهي السجود لغير الله وحكمه، وهذه من الشبه مثل أن يقال: سجدت الملائكة لآدم، وسجد يعقوب ليوسف، إذاً السجود لغير الله لا يكون شركاً، ويطلق القول هكذا، فلابد من تجلية الموضوع، وقد جلاه رحمه الله، ونحن نعرض له عرضاً؛ لأنه مجرد استطراد لا يمس أصل الموضوع، يقول (ج:4 ص:358): "وكذلك قصة سجود الملائكة كلهم أجمعين لآدم، ولعن الممتنع من السجود له، وهذا تشريف وتكريم له.
    وقد قال بعض الأغبياء: إن السجود إنما كان لله، وجعل آدم قبلة لهم يسجدون إليه كما يسجد إلى الكعبة، وليس في هذا تفضيل له عليهم، كما أن السجود إلى الكعبة ليس فيه تفضيل للكعبة على المؤمن عند الله؛ بل حرمة المؤمن عند الله أفضل من حرمتها، وقالوا: السجود لغير الله محرم بل كفر".
    1. الفرق بين السجود للشيء والسجود إليه

      قال: "والجواب: أن السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه بإجماع من يسمع قوله، ويدل على ذلك وجوه" فكل من يعتد بقوله يعلم أن سجود الملائكة لآدم كان بأمر الله، وهذا شبيه بما قاله المصنف هنا: "لو أن الله أمر عباده أن يسجدوا لحجر لوجب عليهم الامتثال والمبادرة" فكلنا خلق الله وعباد الله، ومطيعون لأمر الله، فلو أمرنا أن نسجد لأي شيء لسجدنا له، لا لأن هذا معبود يستحق العبادة، ولكن لأن المعبود تعالى أمرنا بذلك، فلما أمرنا أن نُقبل الحجر الأسود قبلناه، ولو أمرنا -فرضاً- أن نسجد له لسجدنا، فنحن عبيد لله تعالى.
      قال: "أحدها: قوله لآدم ولم يقل: إلى آدم، وكل حرف له معنى، ومن التمييز في اللسان أن يقال: سجدت له، وسجدت إليه. كما قال تعالى: ((لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ))[فصلت:37] وقال: ((وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))[الرعد:15] وأجمع المسلمون على أن السجود لغير الله محرم" ومحرم كلمة مجملة تشمل الشرك وغيره، والمقصود أنه محرم وغير وارد في هذه الشريعة والحمد لله، قال: "وأما الكعبة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس، ثم صلّى إلى الكعبة، وكان يصلي إلى عنزة ولا يقال: لعنزة، وإلى عمود وشجرة ولا يقال: لعمود، ولا لشجرة، والساجد للشيء يخضع له بقلبه، ويخشع له بفؤاده"، ومن شروط العبودية أو أركانها: الخضوع، والذل، والخوف، وهذا لابد من تحقيقه، ولهذا لو أن أحداً سجد لأحد مكرهاً، لما قلنا: إنه عبده، إنما العابد هو من يقدم القربة باختياره، مع خضوعه وتذلُله ومحبته ورجائه للمعبود.
      يقول: "وأما الساجد إليه" -إذا كان متعدياً بإلى- "فإنما يولي وجهه وبدنه إليه ظاهراً، كما يولي وجهه إلى بعض النواحي إذا أمّه، كما قال تعالى: ((فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ))[البقرة:144]" أي: استقبلوه واجعلوه أمامكم، ولم يقل أحد: إننا نسجد للكعبة أو للمسجد الحرام.
      يقول: "والثاني: أن آدم لو كان قبلة.." لأن أولئك يريدون أن يفروا من الشرك، لكن ليس كل من طلب الحق أصابه، قالوا: لا يمكن أن الله يأمر الملائكة أن تسجد لمخلوق السجود لا يكون إلا لله، وإنما جعل آدم قبلة يسجدون إليها، فيقول شيخ الإسلام : "إن آدم لو كان قبلة لم يمتنع إبليس من السجود" أي: هو مجرد قبلة واستقبال أي شيء لا يقتضي تفضيله ولا تكريمه.
      قال: "أو يزعم أنه خير منه، فإن القبلة قد تكون أحجاراً" ولا ريب أن ابن آدم المصلي أفضل من الأحجار.
      إذاً: المسألة ليست مجرد قبلة.
      يقول: "وليس في ذلك تفضيل لها على المصلين إليها، وقد يصلي الرجل إلى عنزة وبعير، وإلى رجل، ولا يتوهم أنه مفضل بذلك فمن أي شيء فر الشيطان؟! هذا هو العجب العجيب!!" هل فر الشيطان من القبلة؟! أم فر من كونه يسجد لهذا المخلوق الذي يرى أن الله قد كرمه وفضله عليه؟!
      قال: "والثالث: أنه لو جعل آدم قبلة في سجدة واحدة، لكانت القبلة وبيت المقدس أفضل منه بآلاف كثيرة" لأن السجود والصلاة إليهما كثير جداً، وآدم إنما سُجد له مرة واحدة، فتكون هذه الأبنية أفضل من آدم بآلاف كثيرة.
    2. السجود لغير الله جائز إذا أمر به الله ولا يكون حينئذ شركاً

      إلى أن قال: "وأما قولهم: لا يجوز السجود لغير الله فيقال لهم: إن قيلت هذه الكلمة على الجملة، فهي كلمة عامة تنفي بعمومها جواز السجود لآدم، وقد دل دليل خاص على أنهم سجدوا له، والعام لا يعارض ما قابله من الخاص" نعم. السجود لا يكون إلا لله، وأمر الله الملائكة أن تسجد لآدم، دليل خاص استثنى هذا السجود من العموم، ويبقى العموم على إطلاقه، ولا معارضة بين العموم وبين الدليل الخاص، فالخاص فيما دل عليه، والعام يبقى على إطلاقه في غير ذلك.
      "وثانيها: أن السجود لغير الله حرام علينا وعلى الملائكة، أما الأول فلا دليل، وأما الثاني: فما الحجة فيه؟" فهل الله حرم السجود لغيره مطلقاً، أم علينا، أم على الملائكة؟! إن قالوا: حرمه علينا فلا دليل فيه للمفاضلة بين الملائكة وبين بني آدم، وإن قالوا: الثاني. فما الحجة وقد أمر الله به؟
      ولهذا قال: "وثالثها: أنه حرام أمر الله به، أو حرام لم يأمر به، الثاني حق ولا شك فيه، وأما الأول: فكيف يمكن أن يحرم بعد أن أمر الله تعالى به؟" ما أمر الله به لم يعد حراماً بل جائز.
      "ورابعها: أبو يوسف وإخوته خروا له سجداً، ويقال: كانت تحيتهم فكيف يقال: إن السجود حرام مطلقاً؟ -إلى أن قال :- وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، لعظم حقه عليها} ومعلوم أنه لم يقل: لو كنت آمراً أحداً أن يعبد أحداً" أي: فلا يمكن أن يأذن الرسول لأحد بأن يعبد غير الله؛ لأن الرسل دعوتهم واحدة وهي: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ))[الأعراف:59].. ((أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ))[هود:2]... ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ))[الأنبياء:25] أي: وحّدوني، ولهذا قالت بعض الأمم: ((لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا))[الأعراف:70].
    3. الفرق في العمل بين حركة البدن وعمل القلب

      "وسابعها: وفيه التفسير" أي: يجمل ما تقدم، ومعناه: نفرق بين حركة البدن وبين أعمال القلب، وهذه قاعدة عظيمة؛ لأن عمل القلب هو الأصل في كل شيء، ومدار الأمور على عمل القلب، حتى الطاعات فيما بينها تتفاوت بتفاوت أعمال القلوب، فيصلي المصلي بجوار المصلي وبينهما مثلما بين السماء والأرض؛ لأن هذا صلّى بقلب خاشع، والآخر أقل خشوعاً منه أو أنه صلى بلا خشوع -مع أن الحركات واحدة- وكل منهما يقرأ القرآن، ولكن يوجد فرق بين هذا وذاك في التدبر والخضوع والخشوع، وإن كانوا في القراءة سواء.
      يقول: "أما الخضوع والقنوت بالقلوب والاعتراف بالربوبية والعبودية فهذا لا يكون على الإطلاق إلا لله سبحانه وتعالى وحده، وهو في غيره ممتنع باطل، وأما السجود فشريعة من الشرائع" أي: مجرد السجود لا بنية التعبد والقنوت والخضوع فشريعة من الشرائع أي: حكم عملي، وتُطلق الشريعة مقابل العقيدة، بمعنى: الفروع العملية مقابل الأمور الاعتقادية، فالقنوت والخضوع والعبودية تكون لله وحده في جميع الأمم، وعلى لسان جميع الرسل، وفي جميع العصور، أما السجود -الفعل- من غير خضوع وقنوت، فهذه شريعة من الشرائع فهو حكم أو أمر عملي، قد يكون في ذلك الوقت والزمان.
      يقول: "إذا أمرنا الله تعالى أن نسجد له" يعني اختصاصاً "ولو أمرنا أن نسجد لأحد -من خلقه- غيره لسجدنا لذلك الغير طاعة الله عز وجل" ولكنه لا يأذن لنا أن نعبد غيره أو نقنت لغيره.
      يقول: "إذ أحب أن نعظم من سجدنا له" أي: لو أحب الله أن نعظم من سجدنا، وأمرنا به لسجدنا وامتثلنا.
      "ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب ألبتة فعله فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له، وقربة يتقربون بها إليه وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم" وليس عبودية ولا تألهاً ولا تقرباً إليه.
      "وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام، ألا ترى أن يوسف لو سجد لأبويه -تحية- لم يكره له؟!
      ولم يأتِ أن آدم سجد للملائكة، بل لم يؤمر آدم وبنوه بالسجود إلا لله رب العالمين" فيعقوب عليه السلام سجد ليوسف على أنه يجوز ليوسف رد التحية بالسجود لأبويه وهذا جائز في شرعهم، وأما الملائكة، فما شرع الله ولا أمر بني آدم أن يسجدوا للملائكة، وإنما أمر الملائكة بأن تسجد لآدم تشريفاً وتكريماً له، فكل موضع بحسبه، والآمر هو الله، وحيث ما أمر امتثلنا.
      قال: "بل لم يؤمر آدم وبنوه بالسجود إلا لله رب العالمين، ولعل ذلك -والله أعلم بحقائق الأمور- لأنهم أشرف الأنواع، وهم صالحو بني آدم، فليس فوقهم أحد يحسن السجود له إلا لله رب العالمين" كأن هذا إشارة من شيخ الإسلام إلى تفضيل آدم وصالحي ذريته على الملائكة، وإن كان هو يقول: هذا بحسب النهاية والمآل لا بحسب الحال، فالجنس الإنساني أفضل الأجناس باعتبار المآل، والصالحون من بني آدم ليس فوقهم من يحسن أن يسجدوا له، أو يحق لهم أن يسجدوا له، بل لا يسجدون إلا لله رب العالمين.
      قال: "وهم أكفاء بعضهم لبعض، فليس لبعضهم مزية بقدر ما يصلح له السجود، ومن سواهم فقد سجد لهم من الملائكة للأب الأقوم، ومن البهائم للابن الأكرم" فالأب الأقوم آدم، والابن الأكرم إشارة إلى ما جاء في السير، من أن بعض الدواب سجدت للنبي صلى الله عليه وسلم.
      قال: "وأما قولهم: لم يسبق لآدم ما يوجب الإكرام له بالسجود، فلغو من القول، هذى به بعض من اعتزل الجماعة" يعني بذلك من خالف أهل السنة والجماعة "فإن نعم الله تعالى وأياديه وآلائه على عباده ليست بسبب منهم، ولو كانت بسبب منهم فهو المنعم بذلك السبب" إلى أن قال: "وهو أيضاً باطل على قاعدتهم لا حاجة لنا إلى بيانه هاهنا...".
  3. حسد إبليس وامتناعه عن السجود لآدم

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله: "وأما امتناع إبليس، فإنه عارض النص برأيه، وقياسه الفاسد بأنه خير منه" أي: امتناع إبليس، بقوله: ((أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ))[الإسراء:62] فسببه أنه عارض النص برأيه وبقياسه الفاسد، بقوله: أنا خير منه! فإبليس ظن أن القضية قضية خيرية فقال: لا أسجد له فيكون خيراً مني؟! وهذا لا يلزم، فالله لم يقل: كرمته عليك وفضلته فاسجد له، وإنما أنت عبد مأمور والله أمرك فافعل، لكن إبليس لم يأخذ الموضوع من جانب الألوهية والانقياد والطاعة، وأخذها كما هو شأن أصحاب الحسد والاستكبار من زاوية الأفضلية، فعارض النص بالقياس، فكل من عارض شرع الله تجده يدافع عن نفسه بأي دليل، يقول: هذا دليل عقلي واضح على ما أذهب إليه. فكل من رد أمر الله أو حكمه أو سنة رسوله فإنه مقتد بالشيطان؛ لأن ما عارض النص فهو باطلٌ قطعاً وإن ظن أصحابه أنه من أفضل المعقول فبأي شيء يعارضه؟ يعارضه بالقياس ظناً منه أن المسألة واضحة بالعقل، ويقول: كيف أفعل وهذا واضح بالعقل؟
    فيقول: "وهذه المقدمة الصغرى" هذا ما يسمونه: علم المنطق على طريقة اليونان، (المقدمة الصغرى، ثم المقدمة الكبرى، ثم النتيجة، فالمقدمة الصغرى أنه قال: أنا خير منه، وامتنع عن السجود، وأما المقدمة الكبرى: فهي معلومة بالفطرة، واللسان العربي المبين لا يحتاج إلى المقدمة الكبرى، ورحم الله الشافعي حيث قال: [[ما فسد الناس واختلفوا إلا عندما اتبعوا لأن منطق أرسطو وتركوا منطق العرب] رواه ابن رجب في فضل علم السلف على علم الخلف منطق أرسطو فيه تكلف وتعقيد وجفاف، ومنطق العرب فيه سهولة -الفطرة العربية- كما جاء في القرآن: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ))[الأعراف:12]، أي: فكيف أسجد له؟! وكما قال: ((أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا))[الإسراء:61].
    والمقدمة الكبرى: الفاضل لا يسجد للمفضول، وهذه بدهية معروفة، كما لو قلتُ: أعط فلاناً دينه، فتقول: ليس له عليّ دين، فهذا كلام عربي واضح على طريقتهم، أي فبما أنه ليس عليّ دين، فلا يجب أن أدفع إليه شيئاً، فالنتيجة واحدة، فلا داعي لهذا التكلف وهذا التطويل، فالله تعالى أراح العرب منه، وهو واضح في لغة العرب، حتى أفعال الكون في اللغة العربية ليس بالضرورة الإتيان بها، كما في اللغات الأعجمية، فنحن نقول: محمد مجتهد، ونكتفي، لكن في اللغات الأخرى لابد من فعل الكون فتقول: محمد يكون مجتهداً، أما في لغة العرب فيأتي المسند والمسند إليه.
    يقول المصنف: "المقدمة الكبرى محذوفة تقديرها: والفاضل لا يسجد للمفضول"، ثم بدأ يبطل كلا المقدمتين، على تقدير وجود الأخرى كما يزعم المناطقة، قال: "أما الأولى: فإن التراب يفوق النار" ونحن لا نسلم لإبليس أن عنصره يفوق عنصر آدم وخير منه، أي: أصله.
    يقول: ".. في أكثر صفاته، ولهذا خان إبليس عنصره، فأبى واستكبر" أي: أتاه الإباء والاستكبار من جهة عنصره لفساده، وهو أنه دائماً يستكبر ويعلو ويرتفع، يقول: "فإن من صفات النار طلب العلو والخفة والطيش والرعونة" ومن صفاتها أنها ترتفع وتلتهم أي شيء، وليس من صفاتها الأناة والتواضع والسكون، وهذا شيء مشاهد معروف، ولهذا نهينا أن ننام وفي البيت سراج مشتعل، فهي رعناء حمقاء طائشة، ليس لها ثبات ولا سكون.
    ومن طبيعة النار ما ذكره المصنف بقوله: "وإفساد ما تصل إليه ومحقه وإهلاكه وإحراقه" فلذلك عنصر إبليس محقه وأفسده، قال: "ونفع آدم عنصره في التوبة والاستكانة، والانقياد والاستسلام لأمر الله، والاعتراف وطلب المغفرة، فإن من صفات التراب: الثبات والسكون والرصانة، والتواضع والخضوع والخشوع والتذلل، وما دنا منه ينبت ويزكو، وينمي ويبارك فيه، ضد النار" التراب ساكن ثابت، وما قرب منه يكون فيه الزكاء والنماء والبركة: ((وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا))[فصلت:10] إذاً هذا العنصر -عنصر آدم- خير، ففيه الاستكانة والخضوع، ونفعه عنصره عندما قال: ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ))[الأعراف:23] فآدم عندما عصى تاب وأناب إلى الله، و{التائب من الذنب كمن لا ذنب له}، فعفا الله عنه وتقبل توبته، وأما إبليس فإنه أبى واستكبر، وبعد المعصية -بدلاً من أن يتوب- أخذ يتفلسف ويبرر المعصية، كما قال فيه بعض الشعراء:
    تاه على آدم في سجدة            فصار قواداً لذريته
    وذلك عندما قال: كيف أسجد له؟ فاستكبر أن يسجد لآدم وهو نبي، فكانت النتيجة أن أصبح خادماً لعصاة بني آدم في أقبح ذنب وهو الزنا الذي تستقذره النفوس والطباع.
    قال: "وأما المقدمة الثانية -وهي: أن الفاضل لا يسجد للمفضول- فباطلة؛ فإن السجود طاعة لله وامتثال لأمره، ولو أمر الله عباده أن يسجدوا لحجر، لوجب عليهم الامتثال والمبادرة، ولا يدل ذلك على أن المسجود له أفضل من الساجد، وإن كان فيه تكريمه وتعظيمه، وإنما يدل على فضله، قالوا: وقد يكون قوله: (( هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ))[الإسراء:62] بعد طرده لامتناعه عن السجود له، لا قبله، فينتفي الاستدلال به" لماذا ينتفي الاستدلال به إن كان بعد طرده؟ لأن المطرود الملعون لا كرامة له. فهذا وجه من الأوجه التي يجيب بها أولئك، والظاهر أن القول بعد الطرد؛ لأنه قال: ((لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً))[الإسراء:62] وهذا بعد ما رفض الامتثال لأمر الله بالسجود، وطلب من الله أن ينظره إلى يوم البعث، فتوعد بأن يحتنك ذرية آدم، وأن يغويهم، إلا القليل الشاكر منهم المستقيم على أمر الله تعالى، وعلى أية حال: سواء كان قبله أو بعده؛ فليس فيه ما يدل على التفضيل.
  4. الاستدلال للمفاضلة بين الأنبياء والملائكة بأدلة غير ما تقدم

     المرفق    
    1. الاستدلال على تفضيل الأنبياء على الملائكة بكبحهم للشهوات

      قال المصنف رحمه الله: "ومنه: أن الملائكة لهم عقول وليست لهم شهوات، والأنبياء لهم عقول وشهوات، فلما نهوا أنفسهم عن الهوى، ومنعوها عما تميل إليه الطباع، كانوا بذلك أفضل". أي: أن من اتقى الله وأطاعه، مع أن داعي المعصية قائم فيه، فهو أفضل ممن اتقى وأطاع واستقام وليس هناك داع يدعوه إلى ذلك، فمثلاً: رجل عنين أو مريض لا شهوة له في النساء مطلقاً، ورجل آخر عنده الشهوة متوقدة، ومع ذلك كلاهما أطاع الله واتقاه ولم يعصه، فالذي وجد فيه داعي المعصية والشهوة ومع ذلك لم يعص الله أفضل من ذاك، إذ أن الآخر ربما لو أعطي الشهوة فقد يقع في المعصية، وذلك وارد، فيكون الأقدر أفضل. وكذلك الأنبياء لما نهوا أنفسهم عن الهوى، ومنعوها عما تميل إليه الطباع؛ كانوا بذلك أفضل.
    2. الجواب على الاستدلال بكبح الأنبياء لشهواتهم وتفضيل الملائكة بإرسالهم إلى الرسل

      قال المصنف رحمه الله: "وقال الآخرون: يجوز أن يقع من الملائكة من مداومة الطاعة، وتحمل العبادة، وترك الونى والفتور فيها ما يفي بتجنب الأنبياء شهواتهم" يعني به: ما يوازيه ويزيد عليه "مع طول مدة عبادة الملائكة"، ومداومتها على الطاعة، وإتقانها للعبادة، فلا يعتريها النقص أو الخلل أو الدخل، بخلاف بني آدم فقد يضعف، وقد ينسى، وقد يقصر، والعمر محدود، بينما الملائكة طاعتها دائمة؛ كأنهم أجابوا على القول بتفضيل الأنبياء على الملائكة. قال: "ومنه أن الله جعل الملائكة رسلاً إلى الأنبياء، وسفراء بينه وبينهم" وهذا يدل على تفضيل الأنبياء؛ لأن الله تعالى جعل الملائكة رسلاً إليهم، إذاً هم أفضل. قال: "وهذا الكلام قد اعتل به من قال: إن الملائكة أفضل واستدلالهم به أقوى، فإن الأنبياء المرسلين إن ثبت تفضيلهم على المرسل إليهم بالرسالة ثبت تفضيل الرسل من الملائكة إليهم عليهم؛ فإن الرسول الملكي يكون رسولاً إلى الرسول البشري" إذا قلنا: إنه أفضل من المرسل إليه، ومعلوم لدينا أن الرسل أفضل من أممهم وأقوامهم، فيكون الرسول الملكي أفضل من الرسول البشري، لأنه لا دليل لمن يفضل الأنبياء على الملائكة، بل الدليل كأنه توجه لمن يفضل الملائكة على الأنبياء.
    3. الاستدلال لتفضيل الأنبياء بتعليم الله آدم الأسماء كلها والجواب عليه

      "ومنه قوله تعالى: ((وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا))[البقرة:31] الآيات. قال الآخرون: وهذا دليل على الفضل، لا على التفضيل، وآدم والملائكة لا يعلمون إلا ما علمهم الله"، أي: أن الله فضل آدم على الملائكة بأن علمه الأسماء كلها، ولهذا قال: ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ))[البقرة:30] عندما اعترضوا على أمر أظهر الله لهم الحكمة وهي: أنه لما علم آدم الأسماء كلها عرضهم على الملائكة فلم يعلموها؛ لأن الله لم يعلمهم إياها، وعلمها آدم، فآدم في هذه الحال فُضّلَ على الملائكة فهو أفضل، هذا دليل من يقول بتفضيله.
      وقال الآخرون: هذا دليل على الفضل لا على التفضيل؛ لأن الملائكة لهم فضل ومزية، وآدم له فضل ومزية من المزايا، وهي: أنه علم ما لم تعلمه الملائكة، ولكن أيضاً بالمقابل فإن الملائكة تعلم ما لم يعلمه آدم.
      قال: "وليس الخضر أفضل من موسى" عند المسلمين، أما عند غلاة الصوفية والخارجين والمارقين عن الدين، فإنهم يقولون بخلاف ذلك، قالوا: إن الخضر ولي، وليتهم قالوا: نبي؛ لأن الولي عندهم أفضل من النبي، كما يقول شاعرهم:
      مقام النبوة في برزخ            فويق الرسول ودون الولي
      فعكسوها فجعلوا الولي ثم النبي ثم الرسول.
      قال: "وليس الخضر أفضل من موسى، بكونه علم ما لم يعلمه موسى" لأنه عندما قابله قال: أنت يا موسى على علم من الله علمك إياه لا أعلمه، وأنا على علم من الله علمني إياه لا تعلمه، لأنه لا ريب أن التوراة أفضل كتاب كان حينئذ، ولا ريب أن موسى أعلم بالتوراة من الخضر، لكن الخضر أعلم بما أطلعه الله عليه من مستقبل الأمور والمغيبات، وما أدرى موسى أن هذا الغلام إذا كبر سيرهق أبويه طغياناً وكفراً، وما أدرى موسى أن هذه السفينة إذا رآها الملك ووجدها صالحة أخذها غصباً، وإن كانت غير ذلك ردها إلى المساكين، وما أدرى موسى أن تحت هذا الجدار كنزاً، وأنه لرجل صالح، مات وترك ولدين؟! والخضر أيضاً لا يعرف ما في التوراة، وهي كتاب الله العظيم، الذي أنزله، وفصل فيه أحكام كل شيء.
      قال: "وقد سافر موسى وفتاه في طلب العلم إلى الخضر" وهذا دليل عظيم كما ذكر العلماء على فضل العلم وطلب العلم، وأنه قد يرحل الفاضل إلى المفضول، فمثلاً الإمام أحمد لا شك في فضله وإمامته، وأنه لم يكن في زمانه من هو أحفظ للسنة منه، ومع ذلك فإنه ذهب إلى عبد الرزاق في اليمن، وهذا في طلب العلم.
      قال: "وتزودا لذلك، وطلب موسى منه العلم صريحاً" طلب منه أن يعلمه مما علم رشداً، وأقر له بأنه أعلم منه، قال: :وقال له الخضر: إنك على علم من علم الله...".
      وجاء بدليل آخر: "ولا الهدهد أفضل من سليمان، بكونه أحاط بما لم يحط به سليمان علماً" أعطاه الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وعلم منطق الطير، فقال هذا الطير لموسى: بأسلوب التحدي: ((أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ))[النمل:22] أنت تتوعدني بالمعاقبة لن تستطيع؛ لأنني أتيت بشيء أنت لا تعرفه، ولم يبلغه علمك، فالنتيجة تظهر لنا بأن مع الهدهد علماً، قال: وجدت أمةً عظيمة تشرك بالله ووجدت امرأة تملكهم، وأنت يا رسول الله! تدعو إلى التوحيد ولا تعرف عنهم شيئاً، فلما تبين ذلك لسليمان وأحضر العرش صدق، فكان لدى الهدهد زيادة علم لم يعلمه سليمان، ولا أحد يقول: إن الهدهد أفضل من سليمان، ولكن من باب تنزيل الحجة، فكذلك كون آدم عليه السلام أطلعه الله على الأسماء، فهذا لا يعني أنه أفضل من الملائكة، ولكن ذلك يدل على الفضل لا على التفضيل، وهو كما في قصة موسى والخضر عليهما السلام.
    4. الاستدلال بخلق الله لآدم بيديه على تفضيل الأنبياء والجواب عليه

      قال: "ومنه قوله تعالى: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ))[ص:75].
      قال الآخرون: هذا دليل الفضل لا الأفضلية" قال المفضلون لآدم: إن الله قال لإبليس: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ))[ص:75] أي لهذا المفضل المكرم، الذي من تكريمي إياه خلقته بيدي، فقال الآخرون: هذا دليل على الفضل، ولا يدل على أنه أفضل المخلوقات، قال: "وإلا لزم تفضيله على محمد صلى الله عليه وسلم" قالوا: إن كون آدم خلقه الله بيديه يلزم منه أن يكون أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يخلقه بيديه، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم ولد من أم وأب كسائر الناس، وهذا مقطوع به شرعاً وعقلاً، قال: "فإن قلتم: هو من ذريته، فمن ذريته البر والفاجر، بل يوم القيامة إذا قيل لآدم: {ابعث بعثاً إلى النار ... يبعث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحداً إلى الجنة} فما بال هذا التفضيل سرى إلى هذا الواحد من الألف فقط؟!" يقولون: إنه صلى الله عليه وسلم من جملة الذرية، وما دام أن من الجملة تسعمائة وتسعة وتسعين في النار، فما سرى إلى الواحد لا يمكن أن يتعدى إلى المجموع.
      قال: "ومنه قول عبد الله بن سلام : [[ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم]] الحديث، فالشأن في ثبوته -وإن صح عنه فالشأن في ثبوته في نفسه- فإنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليات" وقد تقدم شرح هذا الحديث، والحديث الذي بعده في درس سابق، وحديث عبد الله بن عمرو، وفيه رد الله اعتراض الملائكة، فقال: {وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان} وقلنا: إن شيخ الإسلام رحمه الله قال في رسالته بغية المرتاد : قد ثبت بالإسناد الذي على شرط الصحيح عن عبد الله بن عمرو وساق الحديث، وأيضاً أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة وذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى.
      قال المصنف: "والشأن في ثبوتهما فإن في سنديهما مقالاً، وفي متنهما شيئاً" أما السند فالراجح أنه صحيح، وأما المتن فقال عنه: "فكيف يظن بالملائكة الاعتراض على الله مرات عديدة؟ وقد أخبر الله عنهم أنهم: ((لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ))[الأنبياء:27] وهل يظن بهم أنهم متبرمون بأحوالهم، متشوفون إلى ما سواها من شهوات بني آدم؟ والنوم أخو الموت، فكيف يغبطونهم به؟ وكيف يظن بهم أنهم يغبطونهم باللهو، وهو من الباطل؟ قالوا: بل الأمر بالعكس، فإن إبليس إنما وسوس إلى آدم ودلاه بغرور إذ أطمعه في أن يكون ملكاً" وهذا مما يدل على تفضيل الملائكة .. لكن على أية حال، إذا صح فيها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا مجال لغيره أن يناقش أو يتكلم، وهذه الاعتراضات يكون لها شيء من الوجاهة، لكن لا تعارض النص، لأنه إذا قيل: كيف للملائكة الاعتراض على الله مرات عديدة؟ قلنا: يترجونه ويتوسلون إليه ولا يمنع التكرار أنهم ((عِبَادٌ مُكْرَمُونَ))[الأنبياء:26] * ((لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ))[الأنبياء:27]، ولا يتنافى مع ذلك، فإنه لما أخبرهم أنه سوف يخلق آدم قالوا: ((أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ..))[البقرة:30] فاعترضوا.
      وأما الشهوات فإنهم لا يتشوفون إليها، ولا يظن بهم ذلك، لكن المطلب له وجهاته وقد يغبطونهم، وقد يقولون: إنك تعطيهم هذا، ونحن لم تعطنا، فلا يوجد مانع يمنع ذلك عقلاً.
  5. الاستدلال على تفضيل الملائكة بتشوف الأنبياء إلى منازلهم والجواب عليه

     المرفق    
    قال: الذين يفضلون الملائكة إن إبليس إنما وسوس إلى آدم وغره بالأكل من الشجرة "بقوله: ((مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ))[الأعراف:20]" إذاً: أنت يا آدم وأنتِ ياحواء أقل من الملائكة، وما نهاكما عن الشجرة إلا بسبب ذلك -هذه نصيحة إبليس على أية حال- ولو أكلتما لترقيتما، ولأصبحتما ملكين، والله يريد لكما أن تبقيا هكذا، ولهذا قالا: إذاً! نأكل حتى نكون ملكين ونكون من الخالدين. وهذا دليل لهم على تفضيل الملائكة، ولهذا طمعا أن يأكلا منها ليكونا مثل الملائكة.
    قال: "فدل أن أفضلية الملك أمر معلوم مستقر في الفطرة" أي: أن الملائكة أفضل من الإنسان، وهذا شيء مستقر في فطرة الإنسان، وأتى بشاهد على هذا فقال: "يشهد لذلك قوله تعالى حكاية عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند رؤية يوسف: (( وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ))[يوسف:31]" الدليل واضح في أنهن فضلن الملك، وذلك عندما رأين جمال يوسف عليه السلام؛ لأن هذا المظهر مستغرب عند الناس، ومعلوم أن الناس لهم قدر معين من الجمال، لكن هذا فاق ما عليه الناس وارتقى إلى جمال الملائكة، ووجه الدليل أنه إذا ارتفع النوع الإنساني إلى جنس أعلى شبهوه بالملائكة. حينها قالوا: الملائكة أفضل، مع أن هذا معلوم ومركوز في الفطرة.
    قال: "قال الأولون: إن هذا إنما كان لما هو مركوز في الفطر ومستقر في النفوس؛ أن الملائكة خلق جميل عظيم، مقتدر على الأفعال الهائلة"، أما بالنسبة لإبليس فهي منه نصيحة كاذبة، وهي غرور وخداع، وكون آدم انساق لهذه النصيحة الكاذبة من هذا الضال المضل، لا يعني إقراراه بأفضلية الملائكة عليه.
    وأما النسوة فأردن بذلك رفع مستوى التعبير عن عظم الدهشة. ولا شك أن يوسف قد فضله الله بهذه الأخلاق والمكارم، وغيرها من الخصال الحميدة، لكن النسوة كان باعثهن ودافعهن النظرة البهيمية الشهوانية، ولهذا ما خطر ببالهن أنه نبي أو ابن نبي، فلو كان -على اعتبار كرامته وقدره ونبوته- أقل مما هو عليه بكثير فهو يستحق أن يحب وأن يُقّدر. هذه نظرة من ينظر نظرة إنسانية، أو محبة إيمانية، لكن المحبة الشهوانية ولو كان المنظور إليه من أفسق خلق الله، ولو كان ممن ليس له أصل ولا حسب ولا نسب، لكن له بهذه الصورة الجميلة الفائقة لقلن عنه ما قالنه عن يوسف عليه السلام، إذاً فقول النسوة عنه: ((مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ))[يوسف:31] جاء من قبيل المبالغة، فليس في كلامهن عبرة؛ وذلك للخلل الواقع في نظرتهن.
    والعرب -والناس عادة- يعبرون بما يكون مألوفاً من تفضيل الملائكة، يعني: كأنه في الذهن أن الملائكة أفضل، ولا يعني وجود هذا الأمر واستقراره في الأذهان أنهم أفضل من كل الوجوه، وإنما هو أمر جبلت عليه النفوس؛ لأن الناس دائماً في تشبيهاتهم يشبهون الشيء المعهود بالشيء الغائب البعيد، كما قال أبو عبيدة لما قالوا في قول الله تعالى: ((طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ))[الصافات:65]: وهل عرفت العرب رءوس الشياطين؟ فكيف يقول: طلعها كأنه رءوس الشياطين؟ فأجاب قائلاً: هذا مما تستبشعه العرب كما في قول امرئ القيس:
    أيقتلني والمشرفي في مضاجعي            ومسنونة زرق كأنياب أغوال
    والمشرفي: السيف، ومسنونة: الرمح الطويل.
    وهل رأت العرب أنياب الغول؟ لم تره. لكن هي عندهم مستبشعة مهولة، فشبهوا بها الرمح الطويل الحاد المخيف الذي ينفذ إلى الصدور، فيشبهونه بأمر مستبشع وإن لم ير؛ لكن الهلع في النفس قائم، فمجرد أن تذكر ناب الغول يحصل الخوف.
    قوله: "خصوصاً العرب! فإن الملائكة كانوا في نفوسهم من العظمة بحيث قالوا: إن الملائكة بنات الله -تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً-" يعني لما شرفت عندهم الملائكة قالوا: إنها بنات الله؛ لأنهم تخيلوا وتوهموا فيها أنها أعظم وأشرف وأكمل.