أما الرضا بالقدر عَلَى المصائب فله تفصيل. لأن الرضا بالدين معروف، لكن هناك أقدار قضاها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فإذا وقع القدر وكان مما لا يرضينا أو مما نكره، فالذي أُمِرَنا به هو الصبر، ولو أُمِرَنا بالرضا لكان في ذلك مشقة علينا.
لكن الذي أمرنا به فضلاً من الله تَعَالَى هو الصبر، فالكره: أمرٌ جبلي خلقي طبعي لا نستطيع أن نتخلص منه. لكن أن نسخط أو أن نقنط، فهذا مما لا يجوز: والعبد يستطيع أن يصبر، كما فعل ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما {رفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه فقال له سعد ما هذا يا رسول الله قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء}، فليس هناك أحد أكثر رضاً بالقدر من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أعلى منه منزلةً، وهل هذا الصبر منعه من أن تدمع عينه لما مات ابنه إبراهيم وقال: {إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا}.
فهذا هو حال المؤمن، وليس معنى ذلك أن يغير طبيعته كما فعل ذلك بعض المتصوفة عندما مات ابن له فحلق لحيته، وأخذ يضحك أمام النَّاس، ويقول: (أُرِاغَمَ نفسي وأرضى بقدر الله وقضاءه) فهذا عصى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وجعل من نفسه أمثولة؛ لأنه إِلَى ما قبل القرن العشرين كَانَ حلق اللحية مُثلة، عقوبة يُعاقب بها، فإذا أُريد أن يعاقب أحد حتى في الدول الكافرة تحلق لحيته.
وكانت بعض الأمم الممسوخة -كما كَانَ بعض المجوس- يفعلونه ومنهم الذين قدموا عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا مسخ للفطرة، ولهذا أنكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والشاهد أن هذا الصوفي لما فعل ذلك جعل نفسه مُثلة، وأضحك النَّاس عليه، وهو بزعمه يظن أنه يراغم النفس ويرضي الله؛ لأن ابنه قد مات، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل النَّاس يقول: {إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له} فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم النَّاس بالله وأتقاهم له، ومع ذلك حزن قلبه، ودمعت عينه، فنحن مأمورون بالصبر
.
أما الرضا فكما يقول شَيْخ الإِسْلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ: "أما الرضا فلم نؤمر به"، وما ورد من الأدلة يدل بعمومه عَلَى مدح من يرضى، والثناء عليه لا عَلَى وجوبه، ولهذا إذا كَانَ من باب الثناء والمدح فهو مندرج ضمن حالة الصبر، أي: أن يصبر العبد ويبلغ به الصبر أن يرضى بما قدر الله، دون أن يتعدى ذلك إِلَى مخالفة الفطرة، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يمكن أن يقال: إن أحداً قد فاقه أو يفوقه في ذلك المقام أبداً، فإذاً: لم يرد في الكتاب والسنة ما يوجب علينا أن نرضى بكل ما يقدره الله، بل الحال في ذلك تبعٌ للأمر والنهي.
يقول: [بل من المقضي ما يرضى به ومنه ما يسخط ويمقت] وهذه العبارات إِلَى نهاية قوله: [والتعمق والنظر] منقولة من مدارج السالكين، لكن في موضعٍ آخر (في الجزء الأول صفحة 256).
إذاً من المقضي ما يُرضى به، ومنه ما يُسخط ويُمقت لماذا؟ يقول: (كما لا يرضى به القاضي لأقضيته) أي أنه سبحانه القاضي الذي قضى بهذا القضاء لم يرضَ به.
وقد لعن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الكافرين ((أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)) [البقرة:159] وذمهم في مواضع كثيرة، والمؤمن في ذاته ليس ملعوناً، وليس مغضوباً عليه في ذاته، فقد يفعل من الأفعال ما هو ملعون أو مغضوب عليه، أو غير مرضي لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سواءً في الأفعال أو في الذوات أو في الأعيان منها ما يبغضه الله ولا يرضاه، ونحن إذاً لا يجوز لنا أن نرضى بكل شيء، هذا هو الجواب الأول.

والجواب الثاني: قال: [هُنا أمران: قضاء الله، وهو: فعلٌ قائم بذات الله، ومقضي وهو: المفعول المنفصل عنه] هذا الموضوع فيه دِقة، وقد اختلف أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مع الأشعرية، فالأشعريّة جبريّة جهميّة، لكنهم لم يقولوا: إن الإِنسَان كريشة في مهب الريح، ولم يستطيعوا أن يصرحوا بالجبر.