فهم أصحاب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، من الحديث السابق فهماً باطلاً لا يفهمه مسلم لديه عقل أو أدنى إيمان يخرج به عن حد الكفر، ففهموا أن الإِنسَان في هذه الحالة يكون هو الله -تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً- لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مستوٍ عَلَى العرش وفوق المخلوقات، وذاته عَزَّ وَجَلَّ لا تشبه الذوات، ولا تحل في الذوات، وأما العباد فهم عباد مخلوقون، وهم كثيرون في كل زمان ومكان، فكيف يتصور عاقل أن معنى الحديث أو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يكون الله عَزَّ وَجَلَّ هو سمعه أو بصره أو يده أو رجله بذاته -تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا- لا يمكن هذا، لكنهم أرادوا أن يلبسوا عَلَى العباد بدعوى أن هذا الحديث فيه حجة لهم.
ويذكر المُصنِّفُ هنا الرواية التي تبين تلك الرواية، وهي حالة أن العبد إذا تقرب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنوافل، بعد أداء ما افترض عليه من الفرائض، لأن الفرائض هي أعظم ما يتقرب به العبد، لقوله: {وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه}.
ولهذا كَانَ السلف الصالح -رضوان الله تَعَالَى عليهم، وهم أفضل القرون وهديهم خير الهدى؛ لأنه تبع لهدى المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانوا أحرص النَّاس عَلَى أداء الفرائض، ثُمَّ خلف من بعدهم خُلُوف توسعوا في النوافل وضيعوا بعض الفرائض، ثُمَّ وقع الخلل في الأمة الإسلامية حتى أصبحت تجد من يتمسك ببعض النوافل وربما ضيع أصل من أصول الدين، وهي العقيدة، ولو علم إنسان أنه لو قام الليل لنام عن صلاة الفجر، لوجب عليه أن ينام ويقوم لصلاة الفجر، لأنه سبحانه يقول: {ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه} والنوافل لها قيمتها {وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه}.
لكن الأمور يجب أن توضع حيثما وضعها الشرع، فالعبد الصالح إذا فعل ذلك فإنه يصبح في هذه الحالة حركاته وسكناته وخطراته كلها فيما يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن فعل فبعون الله وبتأييده، ولهذا انظروا إِلَى حال أولياء الله الصالحين والدعاة المصلحين الموفقين بتوفيق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كيف كانوا؟
كَانَ الواحد منهم يعظ النَّاس بكلمة أو بكلمات فيفتح الله تَعَالَى له القلوب -وليس الآذان فحسب- فتؤثر في الناس؛ لأن هذا الكلام بتوفيق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أصاب كبد الحقيقة، ووقع في المحز وفي المفصل وفي القلوب الغافلة، فاستيقظت وتفتحت، ويأتي إِلَى عدو من أعداء هذا الدين، فيرميه فتكون تلك الرمية الموفقة، سواءً رماه بسهم أو بسيف، أو رماه بردٍ أو حجة وبرهان علمي، بتوفيق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن هنا قال الله:
((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) [الأنفال:17].
وفي هذه الحالة يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يسدد عبده المؤمن ويوفقه، والعبد يفعل وله إرادة، ولا نقول كما قال المبطلون عياذاً بالله: إن الله هو الذي يفعل والعبد لا إرادة له -فضلاً عما هو أشد من ذلك- بل العبد يفعل وله إرادة، لكن بلغ من خشيته لله وشهوده لحق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، في اليقين في مرتبة الإحسان أن أصبحت كل أعماله وفق ما أراد الله، ووفق ما شرع، ولهذا فإن ربه عَزَّ وَجَلَّ، هو الذي يسدد رميته، ويوفق قوله، ويصوب عمله.