يقول المصنف: [فإن قيل: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة] يرد عليهم المُصنِّف بأنه يمكن أن يتأتى الندم والتوبة مع شهود القدر من جهة أخرى غير الجهة التي يزعم هَؤُلاءِ الصوفية، وذلك إذا شهد العبد عجز نفسه ونفوذ الأقدار فيه وكمال فقره إِلَى ربه وعدم استغنائه عن حفظه طرفة عين، كَانَ بالله في هذه الحال لا بنفسه، ووقوع الذنب منه لا يتأتي في هذه الحال البتة، فإن عليه من الله حصناً حصيناً، فبهِ يسمع وبه يبصر وبه يمشي، والعبد المؤمن يحقق ما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث جبريل لما سأله عن الإحسان قَالَ: {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك}.
فهذا الإِنسَان يعبد الله كأنه يراه ويعلم عجزه وضعفه وفقره، وأنه لو وكل إِلَى نفسه طرفة عين لهلك، وإن كانت طاعة منه فهي فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن كل معصية منه فهي من خذلان ربه له حيث وكله إِلَى نفسه فوقع في ذلك الذنب، فهذا هو الشهود الحقيقي للقدر، وفي هذه الحالة لا يتأتى الذنب من العبد، لا كما يزعمون هم يفعل جميع المعاصي والذنوب ويقول: أنا أشهد القدر، بل من يشهد حقيقة القدر هو من يفعل الطاعة ويقول: هذا من فضل الله وإرادته، ولو أنه في لحظة من اللحظات قال: هذا من نفسي، وهذا من فعلي، وأنا الذي اجتهدت في هذا لكان ذلك ذنباً، لأن الله هو الذي وفقك عَلَى أدائها، فأنت أطعت الله بأي جارحة بالعين -مثلاً- فمن الذي خلقها؟
وأطعمها وغذاها؟
وكذلك القلب من الذي خلقه؟
ومن الـذي ألقي فيه الهدى؟
ومن الذي عرفك بالله؟
إنه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إذاً: الفضل كله له عَزَّ وَجَلَّ، فإذا فعلت طاعة فله الفضل في ذلك، وإن فعلت معصية فمن نفسك لما أوكلت إليها، فهذا هو الشهود الحقيقي عكس ما يقولون، فلو أنهم يشهدون الأمر والنهي شهوداً حقيقياً لما أتت منهم الذنوب، ولكانوا من المقربين.