المادة كاملة    
تعتبر مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر من المسائل التي لا يترتب عليها اعتقاد أو عمل، ولكن المسألة قد تكلم فيها السلف لا مع تنقيص المفضول، أو الخوض فيما لا يعني من التفاصيل، وخير ما يقال فيها هو ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله: أن البشر أفضل باعتبار النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية، هذا مع أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الكائنات، والخلاف في المسألة طويل، والأدلة تكاد أن تكون متكافئة، ومطالعتها تدرب الباحث على الاستدلال والاستنباط والمناظرة.
  1. ذكر خلاف العلماء في المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [وقد تكلم الناس في المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر، وينسب إلى أهل السنة تفضيل صالحي البشر أو الأنبياء فقط على الملائكة، وإلى المعتزلة تفضيل الملائكة.
    وأتباع الأشعري على قولين: منهم من يفضل الأنبياء والأولياء، ومنهم من يقف ولا يقطع في ذلك قولاً. وحكي عن بعضهم ميلهم إلى تفضيل الملائكة. وحكي ذلك عن غيرهم من أهل السنة وبعض الصوفية، وقالت الشيعة: إن جميع الأئمة أفضل من جميع الملائكة.
    ومن الناس من فصل تفصيلاً آخر، ولم يقل أحد ممن له قول يؤثر: إن الملائكة أفضل من بعض الأنبياء دون بعض، وكنت ترددت في الكلام على هذه المسألة لقلة ثمرتها، وأنها قريب مما لا يعني و {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}.
    والشيخ رحمه الله لم يتعرض إلى هذه المسألة بنفي ولا إثبات، ولعله يكون قد ترك الكلام فيها قصداً، فإن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه وقف في الجواب عنها على ما ذكره في مآل الفتاوى، فإنه ذكر مسائل لم يقطع أبو حنيفة فيها بجواب، وعَدَّ منها التفضيل بين الملائكة والأنبياء، وهذا هو الحق، فإن الواجب علينا الإيمان بالملائكة والنبيين، وليس علينا أن نعتقد أي الفريقين أفضل؛ فإن هذا لو كان من الواجبات لبين لنا نصاً، وقد قال تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ))[المائدة:3]، ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا))[مريم:64] وفي الصحيح: {إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها} فالسكوت عن الكلام في هذه المسألة نفياً وإثباتاً -والحالة هذه- أولى.
    ولا يقال: إن هذه المسألة نظير غيرها من المسائل المستنبطة من الكتاب والسنة؛ لأن الأدلة هنا متكافئة على ما أشير إليه إن شاء الله تعالى.
    وحملني على بسط الكلام هنا: أن بعض الجاهلين يسيئون الأدب بقولهم: كان الملك خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم، أو إن بعض الملائكة خدام بني آدم. يعنون الملائكة الموكلين بالبشر، ونحو ذلك من الألفاظ المخالفة للشرع المجانبة للأدب.
    والتفضيل إذا كان على وجه التنقص أو الحمية والعصبية للجنس: لا شك في رده، وليس هذه المسألة نظير المفاضلة بين الأنبياء، فإن تلك قد وجد فيها نص، وهو قوله تعالى: ((تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ))[البقرة:253] وقوله تعالى: ((وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ))[الإسراء:55] وقد تقدم الكلام في ذلك عند قول الشيخ: (وسيد المرسلين) يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
    والمعتبر رجحان الدليل، ولا يهجر القول لأن بعض أهل الأهواء وافق عليه، بعد أن تكون المسألة مختلفاً فيها بين أهل السنة، وقد كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول أولاً بتفضيل الملائكة على البشر، ثم قال بعكسه، والظاهر أن القول بالتوقف أحد أقواله.
    والأدلة في هذه المسألة من الجانبين إنما تدل على الفضل لا على الأفضلية ولا نزاع في ذلك.
    وللشيخ تاج الدين الفزاري رحمه الله مصنف سماه (الإشارة في البشارة في تفضيل البشر على الملك )، قال في آخره: اعلم أن هذه المسألة من بدع علم الكلام التي لم يتكلم فيها الصدر الأول من الأمة، ولا من بعدهم من أعلام الأئمة، ولا يتوقف عليها أصل من أصول العقائد، ولا يتعلق بها من الأمور الدينية كثير من المقاصد. ولهذا خلا عنها طائفة من مصنفات هذا الشأن، وامتنع من الكلام فيها جماعة من الأعيان، وكل متكلم فيها من علماء الظاهر بعلمه، لم يخل كلامه عن ضعف واضطراب. انتهى.]
    اهـ.
    1. نقل فتوى موجزة لشيخ الإسلام في المفاضلة بين البشر والملائكة

      الشرح:
      هذه المسألة ليست من المسائل المهمة التي يترتب عليها عمل أو اعتقاد، أما وقد عرضها رحمه الله فلابد من فهمها، وقد رأيت أن عرضها يفيدنا من ناحية أخرى، وذلك بعد أن قرأت ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله حول هذه المسألة الذي لخص منه المصنف هذه العشر الصفحات تقريباً في الموضوع وهي: معرفة كيفية تناول الأدلة، واستنباط المسائل من الأحاديث وأقوال العلماء، وأخيراً: كيفية الترجيح، فهي ليست قضية اعتقادية أو علمية ذات أهمية، لكنها قضية تطبيقية لمنهج الاستدلال العلمي الصحيح، ونحن طلبة العلم أحوج ما نكون إلى هذا المنهج لأننا قد نستدل بالآية أو الحديث، وهو لا يدل على ما نريد الاستدلال عليه، أو أن غيرنا قد يستدل علينا بدليل فنوافقه، مع أنه في الحقيقة غير موجّه ولا يستدل به، ولا يثبت، وذلك لقلة بضاعتها مع نقص الخبرة والمراس على الاستنباط وكيف نقارع الحجة بالحجة مع البرهان العلمي.
      وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة مناقشة علمية جادة، ومقارنة رائعة عظيمة في مسألة كأن الأدلة فيها متكافئة، في مجموع الفتاوى في (ج:4 ص:343)؛ حيث أفتى شيخ الإسلام رحمه الله بفتوى موجزة، وثم بعد ذلك فصلها في فتوى أخرى طويلة، ولعل كلام المصنف هنا ملخص منها.
      أما الفتوى الموجزة فهي: "سئل شيخ الإسلام عن (صالحي بني آدم، والملائكة) أيهما أفضل؟!"
    2. تفضيل الملائكة باعتبار والبشر باعتبار آخر

      فأجاب: بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى -منزهين عما يلابسه بنو آدم- مستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر" فالملائكة يسبحون بالليل والنهار لا يفترون، وهم لا يسأمون ولا يملون من عبادة الله سبحانه وتعالى، فهم باعتبار الحال الواقع الآن أفضل من صالحي بني آدم.
      أما باعتبار النهاية فيقول: "وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة، فيصير صالحو البشر أكمل من حال الملائكة" لأن بني آدم إذا دخلوا الجنة فإنهم: {يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس} فيصبحون في تسبيح وعبادة مطلقة لا معصية فيها، ويخرجون عن الطور الإنساني المعروف من ارتكاب ما تمليه الشهوات من الموبقات، ويصبحون في حالة من العبادة كحال الملائكة، ولهم زيادة على ذلك أنهم في الحياة الدنيا كابدوا الشهوات، واتقوا الله سبحانه وتعالى، وعصوا إبليس، فلهم الآن حال وفيما بعد حال آخر، بينما الملائكة في حال واحد.
      قال ابن القيم: -(قال ابن القيم: ...) هذه الكلمة ألحقت بالفتوى ولم يقلها شيخ الإسلام- "وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل وتتفق أدلة الفريقين ويصالح كل منهم على حقه".
      هذا هو الجواب المجمل، والخلاصة النهائية لهذه المسألة.
  2. تفصيل ابن تيمية في المسألة

     المرفق    
    من المعلوم أن شيخ الإسلام رحمه الله يطيل النفس جداً في تقرير المسألة التي يتعرض لها، وهذه المسألة كتب فيها فتوى طويلة سنذكرها إن شاء الله، وقد بدأ (4/350) بقوله: "فصل في المسألة المشهورة بين الناس في التفضيل بين الملائكة والناس" وختمها رحمه الله (ص:392) بقوله: "هذا ما تيسر تعليقه وأنا عجلان في ضيق من الزمان، والله المستعان!" مع هذه المناقشة العلمية ومع طول النفس في عرض الأدلة يقول: "هذا ما تيسر تعليقه وأنا عجلان..." أي: لو أنه رحمه الله كان لديه الوقت وأراد التفصيل لأتى بالعجب العجاب، ولهذا أقول: لابد أن نقتدي بهؤلاء الأئمة ونتدبر كما تدبروا، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في الدين كما فقههم، ولن نكون مثلهم لكن نجتهد في أن نسير على آثارهم ونقتدي بأمثالهم، فإنهم لم يكن حالهم كحالنا: إذا علم الواحد منا مسألة أو حديثاً أو التقط كلمة من محاضرة، فكأنه قد علم كل شيء، ثم يذهب يحاجج ويجادل، وقد يوالي ويعادي ويهجر على هذه الكلمة، فلننظر -من خلال التأمل في الفتوى- كيف تعرض الأدلة وكيف تبسط!
    يقول: "الكلام إما أن يكون في التفضيل بين الجنس: الملك والبشر، أو بين صالحي الملك والبشر.
    أما الأول وهو أن يُقال: أيما أفضل: الملائكة أو البشر؟ فهذه كلمة تحتمل أربعة أنواع" أي أن التفضيل إما أن يكون بين جنس الملائكة وجنس البشر، أو بين الصالحين والصفوة من الملائكة والبشر، أما الأول وهو أن يقال: أيهما أفضل جنس الملائكة عموماً أو جنس البشر عموماً؟ فهذه الكلمة تحتمل أربعة أنواع من الأسئلة.
    1. بطلان القول بأفضيلة آحاد البشر على الملائكة

      يقول: "النوع الأول: أن يقال: هل كل واحد من آحاد الناس أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة؟ فهذا لا يقوله عاقل، فإن في الناس: الكفار والفجار والجاهلين والمستكبرين، والمؤمنين، وفيهم من هو مثل البهائم والأنعام السائمة، بل الأنعام أحسن حالاً من هؤلاء كما نطق بذلك القرآن في مواضع، مثل: ((إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ))[الأنفال:22] وقال تعالى: ((إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ))[الأنفال:55] وقال: ((وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ))[الأعراف:179] والدواب: جمع دابة، وهو كل ما دب في سماء وأرض من إنس وجن، وملك وبهيمة، ففي القرآن ما يدل على تفضيل البهائم على كثير من الناس في خمس آيات".
      إذاً: لا يمكن أن يقال: إن كل واحد من الناس أفضل من كل واحد من الملائكة وإلا لزم من ذلك أن تكون البهائم أفضل من الملائكة، وهذا لا يقوله عاقل.
    2. أوجه تفضيل البهائم على بعض بني آدم

      يقول: "وقد وضع ابن المرزبان كتاب: تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب "، وقد ذكر فيه أشياء لا يمكن أن تخطر على بال أحد، فقد ألف ابن المرزبان كتاباً أسماه: تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب، وما درى ابن مرزبان أنه سيأتي الروس والإنجليز والأمريكان -بالذات- فيفضلون الكلاب تفضيلاً قانونياً على الإنسان.. يموت الفرد فيوقف تركة ضخمة على أحد الكلاب، وتوضع له مقبرة خاصة، ومستشفيات ومصحات خاصة، والعالم من حولهم يموت جوعاً، ويكفي أن في نيويورك وحدها قرابة (40ألف) متشرد لا مأوى لهم ولا سكن، في حالة أحط من البهائم...
      يقول: "وقد جاء في ذلك من المأثور ما لا نستطيع إحصاءه، مثل ما في مسند أحمد : {رب مركوبة أكثر ذكراً من راكبها}. وفضل البهائم عليهم من وجوه:
      أحدها: أن البهيمة لا سبيل لها إلى كمال وصلاح أكثر مما تصنعه، والإنسان له سبيل لذلك، فإذا لم يبلغ صلاحه وكماله الذي خلق له؛ بان نقصه وخسرانه من هذا الوجه"، أي: أن البهيمة لها حدّ لا يمكن أن تتعداه.
      وهذا من الردود العلمية الواضحة على الداروينية وأشباهها القائلين بالمفاضلة بين الإنسان والحيوان، أو أن الإنسان كان حيواناً ثم تطور، وكما قال جوليان هكسلي : "يمكن أن ترتقي القطة أو الفأر أو الضفدع لتكون سيد المخلوقات محل الإنسان" هذا غير ممكن لأنه من المشاهد المعروف أن أذكى الحيوانات وأكثرها فطنة أو دهاءً كالثعلب أو الدب أو القرد لم يطور نفسه خلال القرون الطويلة على الإطلاق، فإن الثعلب مثلاً يحفر نفقاً ليسكن فيه مثلما كان يحفر أجداده من الثعالب، والقرد يسكن اليوم حيث يسكن أجداده قبل آلاف السنين، ولم يفكر في أي شيء تطويري أبداً؛ لأنه محدود عند حد معين لا يمكن أن يتعداه، أما الإنسان فأمر مقطوع به، الإنسان في أي زمان وفي أي مكان يفكر دائماً في أن يحسن ويطور أوضاعه، فتجده أول الأمر سكن في بيت مغلق، ثم بعد فترة وضع له نافذة، ثم يعلق فيه شيئاً، ثم يرسم جداره رسوماً حتى لو كان المسكن كهفاً، وكان يركب الدواب، ثم تطور فأصبح يركب السفينة، ثم تطور واخترع الطائرة، ثم هو الآن يغزو الفضاء.
      فالفرق بين الإنسان والحيوان كبير وأساسي!
      والمقصودون بالكلام السابق هم الذين لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون, نقول لهم: انظروا إلى الإنسان والحيوان في أي مكان، فالأخير له حد لا يتعداه.
      "وثانيها: أن البهائم لها أهواء وشهوات بحسب إحساسها وشعورها، ولم تؤت تمييزاً وفرقاناً بين ما ينفعها ويضرها، والإنسان قد أوتي ذلك، وهذا الذي يقال: الملائكة لهم عقول بلا شهوات، والبهائم لها شهوات بلا عقول، والإنسان له شهوات وعقل، فمن غلب عقله شهوته فهو أفضل من الملائكة أو مثل الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه.
      وثالثها: أن هؤلاء لهم العقاب والنكال والخزي على ما يأتونه من الأعمال الخبيثة" أي: أن بني آدم إذا انحطوا وتركوا أمر الله فهم شر من البهائم، لأنهم يعاقبون، فلهم الخزي والعار والعقوبة، والبهائم غير مؤاخذة ولو أخطأت أو سرقت؛ لأنها بهائم.
      قال: "فهذا يقتل، وهذا يعاقب، وهذا يعذب ويحبس. هذا في العقوبات المشروعة. وأما العقوبات المقدرة فقوم أغرقوا، وقوم أهلكوا بأنواع العذاب، وقوم ابتلوا بالملوك الجائرة: تحريقاً وتغريقاً، وتمثيلاً وخنقاً، وعمى، والبهائم في أمان من ذلك" حتى من الابتلاءات الكونية القدرية؛ فيبتلى الناس بملوك الجور وحكام الظلم من أمثال: عبد الناصر، وشاوسكو، غورباتشوف . فهذه عقوبات من الله سبحانه وتعالى يسلطها على الشعوب إذا عصته.
      إن هذه العقوبات الربانية متكررة لكل عاص، ويظن بعض الناس أن الداء والمصيبة في هؤلاء فقط، وأنهم لو ذهبوا أو تغير النظام لصلحت الأمور، وليس كذلك، فسيأتي بعدهم من هو مثلهم حتى نتوب إلى الله، وقد قال الحسن البصري رحمه الله للقراء لما سألوه عن الخروج على الحجاج : [[لا يا أهل البصرة ! إن الحجاج عذاب من الله سلطه عليكم بذنوبكم، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم وأرجلكم، بل توبوا إليه واستغفروه وتضرعوا إليه، فإن الله يقول: ((وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ))[المؤمنون:76]]] أي: تضرعوا إلى الله وتوبوا إليه يرفع ذلك عنكم، لأن الأمة الفاسقة يسلط الله عليها الظلمة، كما قال تعالى: ((فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ))[الزخرف:54].
      "والبهائم في أمان من ذلك.
      ورابعها: أن لفسقة الجن والإنس في الآخرة من الأهوال والنار والعذاب والأغلال وغير ذلك ما أمنت منه البهائم"، ولهذا إذا قيل للبهائم يوم القيامة: كوني تراباً، تمنى الكافر أن يقال له معها: كن تراباً.
      ويوم يود الظالمين لو انهم            على دربنا ضرب من الحشـرات
      قال: "وخامسها: أن البهائم جميعها مؤمنة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مسبحة بحمده، قانتة له": ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ))[الإسراء:44] "وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنه ليس على وجه الأرض شيء إلا ويعلم أني رسول الله، إلا فسقة الجن والإنس!}" وفي حديث آخر: {إنه ما من يوم تشرق شمسه إلا وكل شيء يسبح الله تبارك وتعالى، إلا المردة من الجن والأغبياء من بني آدم} فكل يوم تطلع فيه الشمس فإنه يسبح الله كل شيء إلا مردة الشياطين الذين لا خير يرجى فيهم، والأغبياء من بني آدم، كمن يسهرون على المحرمات إلى قبيل الفجر ثم ينامون إلى قبيل الظهر، أو إلى ما بعد ذلك، وسموا أغبياء؛ لأن البهائم والطيور قامت وسبحت، وكل ما تحرك ودب في الكون يذكر الله، أما هم فأغبياء نيام، وإن كان بعضهم يدعي أنه صاحب عقل أو فكر.
      إذاً: هذه هي المسألة الأولى التي يقال: هل كل فرد من بني آدم أفضل من كل فرد من الملائكة؟!
    3. القول بأفضلية جنس البشر على جنس الملائكة

      "النوع الثاني: أن يقال: مجموع الناس أفضل من مجموع الملائكة من غير توزيع الأفراد" فهذا الاحتمال العقلي الثاني، ومعناه ألا ننظر إلى الأفراد مطلقاً بل نقول: مجموع الناس من مؤمن وكافر أفضل من مجموع الملائكة.
      قال: "وهذا على القول بتفضيل صالحي البشر على الملائكة فيه نظر، لا علم لي بحقيقته" ويبدو لي أن هنا نقصاً أو خطأ مطبعياً، لكن المعنى واضح العبارة، يقول: "فإنا نفضل مجموع القرن الثاني على القرن الثالث، مع علمنا أن كثيراً من أهل القرن الثالث أفضل من كثير من أهل القرن الثاني" أي: القرن الثاني لا شك أنه أفضل؛ لأنهم خير الناس بعد القرن الأول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم} لكن هذا لا يعني أن كل أحد من القرن الثاني أفضل من كل أحد من القرن الثاني، بل لا نشك أن بعض أهل القرن الثالث أفضل من بعض أهل القرن الثالث، كالإمام أحمد والإمام الشافعي، فقد كانا أفضل من بعض العلماء الفضلاء في القرن الذي قبلهم.
    4. مقابلة الفاضل من البشر بالفاضل من الملائكة

      قال: "النوع الثالث: أنا إذا قابلنا الفاضل بالفاضل، والذي يلي الفاضل بمن يليه من الجنس الآخر، فأي القبيلين أفضل" يعني: إذا قلنا: نقابل فاضل الملائكة بفاضل بني آدم، ثم نقابل الذي يليه في الفضل من الملائكة بالذي يليه في الفضل من البشر، فكيف يكون التفضيل؟ يقول: "فهذا مع القول بتفضيل صالحي البشر يقال: لا شك أن المفضولين من الملائكة أفضل من كثير من البشر"، أي: حتى مع القول بأن فاضلي البشر أفضل من فاضلي الملائكة، يبقى أن مفضولي الملائكة أفضل بكثير من مفضولي البشر، فحينما نأخذ الصفوة من البشر يبقى الحثالة بما فيهم الفساق والعصاة، بينما إذا أخذنا الصفوة من الملائكة يبقى عباد مكرمون مطهرون. يقول: "وفاضل البشر أفضل من فاضليهم، لكن التفاوت الذي بين فاضل الطائفتين أكثر، والتفاوت بين مفضولهم هذا غير معلوم، والله أعلم بخلقه". إذاً: المفضولون من بني آدم كثيرون ومتنوعون ومختلفون، لكن في الجملة مفضول الملائكة أفضل.
    5. المفاضلة بالنظر إلى حقيقة الملك والبشر

      قال: "النوع الرابع: أن يقال: حقيقة الملك والطبيعة الملكية أفضل أم حقيقة البشر والطبيعة البشرية" فننظر إلى المسألة من حيث الحقيقة أو الماهية كما يسميها أهل المنطق، وهل الملك في حقيقته وطبيعته أفضل أم البشر؟ بغـض النظر عن آحاده وأفـراده.
      يقول: "وهذا كما أنا نعلم أن حقيقة الحي إذ هو حي أفضل من الميت"، أي: من حيث الحقيقة العامة، "وحقيقة القوة والعلم من حيث هي كذلك أفضل من حقيقة الضعف والجهل" أي: القوة أفضل من الضعف، والعلم أفضل من الجهل، "وحقيقة الذكر أفضل من حقيقة الأنثى، وحقيقة الفرس أفضل من حقيقة الحمار، وكان في نوع المفضول" لعل الصواب: وإن كان في نوع المفضول "ما هو خير من كثير من أعيان النوع الفاضل" أي: فذلك لا يعني أن الأفراد لا يتباينون، "كالحمار والفأرة والفرس الزمِن" والصواب الحمار الفاره، أي: كأن تشتري حماراً فارهاً نشيطاً خير من أن تشتري فرساً زمِناً عليلاً، ففي هذه الآحاد كان الحمار الفاره هو الأفضل، لكن من حيث الحقيقة فإن الناس كلهم متفقون على أن حقيقة الفرس أفضل.
      مثال آخر: قال: "والمرأة الصالحة مع الرجل الفاجر" فمن حيث الحقيقة فإن حقيقة الذكر أفضل من حقيقة الأنثى، لكن إذا فاضلنا امرأة صالحة تقية مؤمنة عفيفة، ورجلاً فاجراً خبيثاً سكيراً عربيداً. فلا أحد يفضل هذا الرجل على تلك المرأة، والحاصل أن العبرة ليست بالأفراد.
    6. وجه انحصار القسمة في أربعة أنواع في المفاضلة بين الملائكة والبشر

      يقول: "والوجه في انحصار القسمة في هذه الأنواع -فإن كثيراً من الكلمات المهمة تقع الفتيا فيها مختلفة والرأي مشتبهاً لفقد التمييز والتفضيل- أن كل شيء إما أن نقيده من جهة الخصوص أو العموم أو الإطلاق" هذه قاعدة عظيمة، وهي: أن كثيراً من الكلمات تقع الفتيا فيها مختلفة والرأي مشتبهاً، لفقد التمييز والتفضيل، أي بسبب أن المفتي أطلق الكلام ولم يفصل، ولهذا نجد كثيراً من الناس يتحدث في قضايا ويظن أنه قد أتى بغاية العلم، فإذا سئل عن التفصيل فقيل له: ماذا تعني بهذا؟ توقف وقال: لا أدري أن فيها تفصيلاً، فلذلك لابد أن يفقه الإنسان ما كان فيه تفصيل ويتناول كل مسألة بحسبها. قال: "فإذا قلت: بشر وملك، إما أن تريد هذا البشر الواحد فيكون خاصاً، أو جميع جنس البشر فيكون عاماً، أو تريد البشر مطلقاً مجرداً عن قيد العموم والخصوص، والقليل والكثير. والنوع الأول في التفضيل عموماً وخصوصاً، والثاني عموماً، والثالث خصوصاً، والرابع في الحقيقة المطلقة المجردة" أي: هذه الأقسام الأربعة النوع الأول منها في التفضيل عموماً وخصوصاً، والثاني في التفضيل العام، والثالث في التفضيل الخاص، والرابع في الحقيقة المطلقة المجردة أي: الماهية، بغض النظر عن الذوات والأعيان. يقول: "فنقول حينئذٍ: المسألة على هذا الوجه لست أعلم فيها مقالة سابقة مفسرة، وربما ناظر بعض الناس على تفضيل الملك، وبعضهم على تفضيل البشر، وربما اشتبهت هذه المسألة بمسألة التفضيل بين الصالح وغيره" أي: مسألتان، مسألة المفاضلة العامة، ومسألة المفاضلة بين صالحي البشر والملائكة. "لكن الذي سنح لي -والله أعلم بالصواب- أن حقيقة الملك أكمل وأرفع، وحقيقة الإنسان أسهل وأجمع. وتفسير ذلك: أننا إذا اعتبرنا الحقيقتين وصفاتهما النفسية والتبعية اللازمة الغالبة: الحياة والعلم والقدرة في اللذات والشهوات، وجدنا أولاً: خلق الملك أعظم صورة، ومحله أرفع، وحياته أشد، وعلمه أكثر، وقواه أشد، وطهارته ونزاهته أتم، ونيل مطالبه أيسر وأتم، وهو عن المنافي والمضاد أبعد، لكن تجد هذه الصفات للإنسان -بحسب حقيقته- منها أوفر حظ ونصيب من الحياة والخلق والعلم والقدرة والطهارة وغير ذلك، وله أشياء ليست للملك من إدراكه دقيق الأشياء حساً وعقلاً، وتمتعه بما يدركه ببدنه وقلبه، وهو يأكل ويشرب وينكح، ويتمنى ويتغذى ويتفكر، إلى غير ذلك من الأحوال التي لا يشاركه فيها الملك"، أي أن الحقيقة البشرية أكثر سعة وتنوعاً، والحقيقة الملكية كأنها محصورة في طهارة وفضل وعبادة محدودة، لكن الإنسان حقيقته أعم من ذلك بكثير، فهو يتزوج ويعمل ويتعبد، فهو يشارك الملائكة في صفات، وينفرد عنهم بصفات كثيرة جداً، وبعضها فضائل وكمالات لا توجد في الملك. يقول: "لكن حظ الملك من القدر المشترك بينهما أكثر، وما اشتركا فيه من الأمور أفضل بكثير مما اختص به الإنسان". فترجع المقارنة إلى أن الصفات المشتركة الملكية أكمل، لكن الإنسان أوسع فيما عدا ذلك مما لم يشتركا فيه.
  3. ذكر ابن تيمية الخلاف في المفاضلة بين الملائكة والبشر

     المرفق    
    إلى أن قال: "وقد ذكر جماعة من المنتسبين إلى السنة أن الأنبياء وصالح البشر أفضل من الملائكة"، وقد ذكر المصنف رحمه الله هنا أن هذا القول ينسب إلى أهل السنة، وذلك حين قال: "وينسب إلى أهل السنة تفضيل صالحي البشر أو الأنبياء فقط على الملائكة".
    وقال ابن تيمية: "وذهبت المعتزلة إلى تفضيل الملائكة على البشر، وأتباع الأشعري على قولين: منهم من يفضل الأنبياء والأولياء، ومنهم من يقف ولا يقطع فيهما بشيء"، والمصنف هنا يقول عن هؤلاء: "ومنهم من يقف ولا يقطع في ذلك قولاً".
    ويقول ابن تيمية: "وحكي عن بعض متأخريهم أنه مال إلى قول المعتزلة "، والمصنف يقول: "وحكي عن بعضهم ميلهم إلى تفضيل الملائكة، وحكي ذلك عن غيرهم من أهل السنة وبعض الصوفية" يقول شيخ الإسلام "وربما حكي ذلك عن بعض من يدعي السنة ويواليها" وعبارة شيخ الإسلام أدق لأن عبارة المصنف توحي بأن كلمة أهل السنة تشمل هذه الطوائف جميعاً، وشيخ الإسلام عبر عنهم بلفظ: (بعض من يدعي السنة ويواليها)؛ لأنه ليس كل من ادعى السنة ووالاها فهو من أهلها حقيقة.
    يقول: "وذكر لي عن بعض من تكلم في أعمال القلوب أنه قال: أما الملائكة المدبرون للسماوات والأرض وما بينهما والموكلون ببني آدم، فهؤلاء أفضل من هؤلاء الملائكة. وأما الكروبيون الذين يرتفعون عن ذلك، فلا أحد أفضل منهم" جعل الملائكة نوعين: الملائكة المدبرين، أي: الذين يدبرون هذا الكون بإذن الله تعالى والملائكة الكروبيين: وهم المقربون في الملأ الأعلى مثل حملة العرش. فهذا القائل جعل بني آدم الصالحين أفضل من الملائكة المدبرين، وأما الكروبيون فلا أحد يفضل عليهم.
    يقول: "وربما خص بعضهم نبينا صلى الله عليه وسلم، واستثناؤه من عموم البشر، إما تفضيلاً على جميع أعيان الملائكة أو على المدبرين منهم أمر العالم"، أي أن بعض الناس خص النبي صلى الله عليه وسلم، فجعله أفضل من جميع الملائكة فرداً فرداً ومنهم الكروبيون.
    يقول شيخ الإسلام: "هذا ما بلغني من كلمات الآخرين في هذه المسألة"، فقول ينسب لـأهل السنة وقول للمعتزلة، وقولان للأشاعرة، وبعض أقوال تحكى عن الصوفية أو بعض من يدعي السنة ويواليها.
    1. سبب خوض شيخ الإسلام في مسألة التفضيل بين البشر والملائكة

      يقول: "وكنت أحسب أن القول فيها محدث، حتى رأيتها أثرية سلفية صحابية، فانبعثت الهمة إلى تحقيق القول فيها، فقلنا حينئذ بما قاله السلف " ولو كانت المسألة محدثة لأعرض شيخ الإسلام عنها، لكن قد تكلم فيها السلف، وهم لا يتكلمون إلا فيما فيه خير وفضل ويستحق أن يتكلم فيه، وإلا أعرضوا عن الكلام فيه، ونِعم ما قال! وهي قاعدة: فالمسألة إذا لم تجد للسلف فيها قولاً فاعلم أنها محدثة، ثم إذا نظرت ما قاله العلماء فيها، فإن قال أحد منهم قولاً فخذ به، ولا تغل في مسألة فتجعلها مسألة موالاة ومعاداة.
      وقد جاء في كلام المصنف قوله: "وللشيخ تاج الدين الفزاري رحمه الله مصنف سماه: (الإشارة في البشارة في تفضيل البشر على الملك، قال في آخره: "اعلم أن هذه المسألة من بدع علم الكلام التي لم يتكلم فيها الصدر الأول من الأمة، ولا من بعدهم من أعلام الأئمة، ولا يتوقف عليها أصل من أصول العقائد، ولا يتعلق بها من الأمور الدينية كثير من المقاصد، ولهذا خلا عنها طائفة من مصنفات هذا الشأن، وامتنع من الكلام فيها جماعة من الأعيان، وكل متكلم فيها من علماء الظاهر بعلمه، لم يخل كلامه عن ضعف واضطراب". انتهى والله الموفق للصواب" وهذا الكلام مخالف لما قرره شيخ الإسلام، والصحيح أن القول بأن هذه المسألة من بدع الكلام -بإطلاق- غير صحيح، فهي (أثرية سلفية صحابية)، ونقول: إن كان الشيخ الفزاري يقصد التوسع في تفصيلاتها حتى يخوض أهلها في الكلام المذموم فنعم، أما أصل المسألة فلا.
    2. دليل تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الكائنات

      ويبرهن شيخ الإسلام رحمه الله على أنها أثرية سلفية، أي: مأثورة في كتب السلف والأثر فيقول: "فروى أبو يعلى الموصلي في كتاب التفسير المشهور له عن عبد الله بن سلام -وكان عالماً بالكتاب الأول والكتاب الثاني، إذ كان كتابياً، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بحسن الخاتمة، ووصية معاذ عند موته؛ وأنه أحد العلماء الأربعة الذين يبتغى العلم عندهم... قال: [[ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم. -الحديث عنه- قلت: ولا جبرائيل ولا ميكائيل؟ قال: يا ابن أخي! أو تدري ما جبرائيل وميكائيل؟! إنما جبريل وميكائيل خلق مسخر مثل الشمس والقمر، وما خلق الله تعالى خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم]]" قال الشيخ الأرنؤوط : "أخرجه الحاكم في المستدرك (4/568) وصححه، ووافقه الذهبي وهو كما قالا". هذا الأثر ذكر ابن كثير قريباً منه في تفسيره لقوله تعالى: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا))[الإسراء:70] وأشار إلى الخلاف في هذه المسألة، وكذلك ذكر ابن كثير حديثاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص ولفظه: {ما أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم؟ ...} الحديث، قال: وهو منكر جداً أو غريب جداً.
      يقول شيخ الإسلام : "وروى عبد الله في التفسير وغيره عن معمر عن زيد بن أسلم أنه قال: {قالت الملائكة: يا ربنا! جعلت لبني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون، فاجعل لنا الآخرة! قال: وعزتي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له: كن فكان}".
    3. الكلام على حديث ابن عمرو

      وقد ذكر المصنف حديث ابن عمرو الذي ذكره شيخ الإسلام بلفظ مقارب فقال: "ومنه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الملائكة قالت: يا ربنا! أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون، ونحن نسبح بحمدك، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة. قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان}" أخرجه الطبراني ولم يذكر فيه لفظ: (وعزتي) وقد ذكرها ابن كثير في تفسيره .
      والمعنى أن الملائكة تطلب من الله أن يجعل طبائعهم كالبشر ليكون لهم مثلهم من النعيم في الآخرة.
      قال: "وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل في كتاب السنة وذكره ابن كثير رحمه الله في التفسير" ... وفيه : {وينامون ويستريحون، قال الله تعالى: لا. فأعادوا القول ثلاث مرات، كل ذلك يقول: لا}".
      يقول المصنف عن حديثي عبد الله بن عمرو : "والشأن في ثبوتهما، فإن في سندهما مقالاً وفي متنهما شيئاً" ولكن شيخ الإسلام يصحح سند الحديث كما في بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة وأهل الإلحاد (ص:224)، تحقيق الدكتور موسى الدويش قال: "وثبت بالإسناد الذي على شرط الصحيح عن عبد الله بن عمرو أن الملائكة قالت: {يا ربنا! قد جعلت لبني آدم ...} الحديث فجعل إسناده على شرط الصحيح، وفي تحقيق الأرنؤوط للكتاب (ص:305) رقم (352) قال: "ضعيف كما أشار إليه المصنف، وأما تعقب الشيخ أحمد شاكر عليه بقوله: هكذا أعل الشارح الحديث إسناداً ومتناً وما أصاب في ذلك السداد؛ إذ قصَّر في تخريجه. أما رواية الطبراني فإنها ضعيفة حقاً بل غاية في الضعف، فقد نقلها ابن كثير في التفسير (5/206) بإسنادها من المعجم الكبير، ونقلها الهيثمي في مجمع الزوائد (1/82) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي، وهو كذاب متروك. وفي إسناد الأوسط طلحة بن زيد، وهو كذاب أيضاً، فهذان إسنادان لا تعبأ بهما. قلت" وهذا الذي ذكره الأرنؤوط هنا مأخوذ من كلام الشيخ الألباني "ولكن الحديث رواه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على المريسي (ص:34) بإسناد صحيح مطولاً: عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهذا الإسناد لا مغمز فيه، وقد أشار إليه الحافظ ابن كثير في التاريخ (1/55) مختصراً، من رواية عثمان بن سعيد، وأشار إلى صحته.
      وأما رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل، فإنها من زياداته في كتاب السنة الذي رواه عن أبيه (ص:148 من الطبعة السلفية بـمكة فقال عبد الله : حدثني الهيثم بن خارجة، حدثنا عثمان بن علاق، وهو عثمان بن حصن بن علاق " وكتب في المطبوعة: محصن! خطأ. سمعت عروة بن رويم يقول: أخبرني الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ... فهذا إسناد ظاهره الصحة أيضاً، وإن لم أستطع الجزم بذلك؛ لأن عروة بن رويم لم يصرح فيه بأن الأنصاري الذي حدثه به صحابي، فجهالة الصحابي لا تضر، وهو يروي عن أنس بن مالك الأنصاري، فإن يكنه يكن الإسناد صحيحاً. وهذا محتمل جداً، وإن كنت لا أقطع به.. فإن الحديث ذكره ابن كثير في التفسير (5/206 - 207) نقلاً عن ابن عساكر، بإسناده إلى عثمان بن علاق : سمعت عروة بن رويم اللخمي، حدثني أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ...، فهذا قد يرجح أن الأنصاري في رواية عبد الله بن أحمد هو: أنس بن مالك الأنصاري، ولكن إسناد ابن عساكر لم يتبين لي صحته من ضعفه.
      وأياً ما كان فرواية عبد الله بن أحمد ورواية ابن عساكر تصلحان للاستشهاد، وتؤيدان صحة حديث عبد الله بن عمرو بإسناد الدارمي .
      أما إعلاله من جهة المتن والمعنى فإنه غير جيد ولا مقبول؛ فإن الملائكة لم يعترضوا بهذا على ربهم، ولم يتبرموا بأحوالهم، وإنما سألوا ربهم، وهم عباد مطيعون، يرضون بما أمرهم الرب تبارك وتعالى إذا لم يستجب دعاءهم. ومثال ذلك الآيات في خلق آدم في أول سورة البقرة: ((أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ))[البقرة:30] قلت: فلا ترى فيه ما ينهض على تصحيح الحديث، وإليك البيان بإيجاز".
      الشيخ الألباني ينقل كلام الشيخ أحمد شاكر : " 1- أما قوله في طريق الدارمي : وهذا إسناد صحيح لا مغمز فيه، وقد أشار الحافظ ابن كثير إلى صحته. ففيه نظر لأمرين:
      الأول: أننا لا نسلم بصحته مع وجود عبد الله بن صالح في طريقه، فإنه وإن كان البخاري أخرج له في صحيحه، فهو متكلم فيه من قبل حفظه، ولا يتسع هذا التعليق للإفاضة في ذكر أقوال الأئمة فيه، فحسبنا ما ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمته من التقريب، وهو إنما يذكر فيه عادة خلاصة أقوال الأئمة فيمن يترجمه، قال: صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة" قال -أي: أن شيخ الإسلام رحمه الله لما قال "بإسناد على شرط الصحيح" فذلك لأن عبد الله بن صالح من رواة الصحيح" فهو من رواة البخاري، لكن عبد الله بن صالح فيه كلام، لم يرو له البخاري على إطلاقه؛ لأنه ثَبْتٌ في كتابه لكن له أوهام.
      "الثاني: أننا لا نسلم أيضاً أن ابن كثير أشار إلى صحة الحديث، وذلك أن غاية ما قال فيه: (وهو أصح) وهذا القول لا يفيد تصحيحاً مطلقاً للحديث، بل تصحيحاً نسبياً، وهو لا ينافي ضعفه كما في قول الترمذي في كثير من الأحاديث: وهو أصح شيء في الباب. فهذا لا يؤخذ منه صحة الحديث كما هو مقرر في (المصطلح) فكذلك قول الحافظ ابن كثير هنا، والله أعلم.
      حديث عبد الله بن أحمد بسنده عن الأنصاري فلا شك في عدالة رواته باستثناء الأنصاري، وإنما البحث في كون الأنصاري إنما هو أنس بن مالك رضي الله عنه؛ لأنه إن كان هو فالحديث متصل الإسناد صحيح كما قال الشيخ أحمد شاكر، لكن استئناسه على ذلك برواية ابن عساكر التي نقلها عن تفسير ابن كثير، مما لا يصلح له؛ لأن ابن عساكر أورده (15/66/1-2) من طريق محمد بن أيوب بن الحسن الصيدلاني، وفي ترجمته ساق الحديث، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ودونه جماعة لم أجد من ترجمهم، فمثل هذا الإسناد الواهي لا يترجح كون الأنصاري هو أنس، على أنني قد وقفت له في ابن عساكر على طريق أخرى ضعيفة أيضاً سُمي فيها الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري، أخرجه (9/407/2) من طريق هشام بن عمار : نا عبد ربه بن صالح القرشي قال: سمعت عروة بن رويم يحدث عن جابر بن عبد الله الأنصاري مرفوعاً به. والقرشي هذا لم أجد له ترجمة، وهشام بن عمار وإن أخرج له البخاري فهو متكلم فيه أيضاً، قال الحافظ في التقريب : صدوق مقرئ، كبر فصار يتلقن. وجملة القول: أن حديث ابن رويم هذا ضعيف لجهالة الأنصاري واضطراب الروايتين الأخيرتين في تعيينه، فأولاهما تقول: إنه أنس، والأخرى تقول: إنه جابر، ولا يصلح عندي تقويته بحديث عبد الله بن صالح لاحتمال أنه مما أدخل عليه، قال ابن حبان : كان في نفسه صدوقاً، وإنما وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له، كان بينه وبينه عداوة، كان يضع الحديث على شيخ أبي صالح ويكتبه بخط يشبه خط عبد الله، ويرميه في داره بين كتبـه، فيتوهم عبد الله أنه خطه فيحدث به!.
      هذا ويحتمل أن يكون أصل الحديث من الإسرائيليات التي كان يحدث بها بعض الذين أسلموا من أهل الكتاب، ثم أخطأ بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما صنعوا بقصة هاروت وماروت. والله أعلم".اهـ
      على كل حال: كلام شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا السند على شرط الصحيح، وكون الصحابي أنساً أو جابراً ليس إشكالاً، فالمراد أن يكون صحابياً كائناً من كان، وإن كانت رواية ابن عساكر ضعيفة أو اختلف في تحديد الصحابي، فهذا أمر يسير، والحديث صحيح متصل إسناده كما ذكر الشيخ الألباني، فعلى ذلك يصح لنا أن نقول: إن هذا الحديث صحيح.