قال الإمام الطحاوي: [ قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء ]
قال المصنف -رحمه الله- تعالى:
[ قال الله تعالى: ((هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِر))[ الحديد:3] وقال صلى الله عليه وسلم: { اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء } فقول الشيخ -رحمه الله-: [ قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء ] هو معنى اسمه: الأول والآخر.
والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطرة، فإن الموجودات لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته، قطعاً للتسلسل.
فإنّا نشاهد حدوث الحيوان، والنبات، والمعادن، وحوادث الجو، كالسحاب والمطر، وغير ذلك، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة، فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها، فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة، ثم وجدت، فعدمها ينفي وجودها، ووجودها ينفي امتناعها، وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال تعالى: ((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ))[الطور: 35].
يقول سبحانه: أحَدَثوا من غير محدثٍ أم هم أحدثوا أنفسهم؟
ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجوداً بنفسه بل إن حصل ما يوجده، وإلا كان معدوماً، وكل ما أمكن وجوده بدلاً عن عدمه، وعدمه بدلاً عن وجوده، فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له.
وإذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق، ما لا يوجد عندهم مثله، قال تعالى:((وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)) [الفرقان: 33].
ولا نقول: لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية، والأدلة الطويلة، فإن الخفاء والظهور من الأمور النسبية، فربما ظهر لبعض الناس ما خفي على غيره ويظهر للإنسان الواحد في حال ما خفي عليه في حالٍ أخرى.
وأيضاً فالمقدمات وإن كانت خفية، فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلى منها، وقد تفرح النفس بما علمته بالبحث والنظر ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة، ولا شك أن العلم بإثبات الصانع، ووجوب وجوده أمر ضروري فطري، وإن كان يحصل لبعض الناس من الشبه ما يخرجه إلى الطرق النظرية ] إهـ .
الشرح:
انتقل المصنف رحمه الله إلى شرح قول الإمام أبي جعفر الطحاوي -رحمه الله- تعالى: [ قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء ] والإمام أبي جعفر الطحاوي -رحمه الله- في هذه العقيدة يريد أن يرد على الطوائف الضالة، ويأتي بكلام مبسط وواضح يعتقده المسلمون ويفهمونه.
ويقول: [ قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء ] وهذا من المعاني الضرورية الفطرية عند الناس في حق الله -سبحانه وتعالى-،
إلا أن لفظ (القديم) إطلاقه على الله تعالى خطأ، وسيأتي هذا في آخر كلام المصنف وهو أنه لم يرد في أسماء الله تعالى القديم وورد بدل هذه العبارة في القرآن ما هو أجلى وأعظم وهو قول الله تبارك وتعالى: ((هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)) [الحديد:3] فهذا الإطلاق هو الأصح بل هو الواجب؛ لأنه هو الذي ورد في كتاب الله -سبحانه وتعالى- فهو أبلغ لأنه هو الدرجة العليا في الفصاحة والبلاغة.
وجاء تفسير ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدعاء قبل النوم { اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء }وهذا هو الذي يسميه المتكلمون قطع التسلسل في الأول وكذلك في الآخر، فهم يقولون: يمتنع أن يكون لله -سبحانه وتعالى- بداية كان قبلها عدماً , وكذلك يمتنع أن يكون له نهاية ويكون بعدها عدما، فقالوا إذاً نقول: التسلسل ممنوع في الأول وممنوع في الآخر، وهذا الكلام جاء في القرآن والسنة بأوفر بيان وأفضله، فقال الله سبحانه وتعالى: ((هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ))، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: { اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء } وهذا يغني عن كلام الفلاسفة والمناطقة والمتكلمين، لكن المصنف هنا يريد أن يثبت ذلك من واقع كلامهم.
فـ
الفلاسفة ينظرون إلى الوجود من حيث إنه ثلاثة أقسام: واجب الوجود أو ممتنع الوجود، أو ممكن الوجود، فيقولون: إن هذه الأقسام الثلاثة، تحوي كل متعلقات الوجود، فإن الأشياء إما واجبة الوجود لذاتها، وإما ممتنعة الوجود لذاتها، وإما ممكنة الوجود والعدم، وذكر المصنف: أن هذه المخلوقات المشاهدة لا شك أن لوجودها بداية بدليل أننا نراها وجدت قبل أن لم تكن موجودة، فنحن -مثلاً- جئنا والأرض موجودة لكننا نرى السحاب كيف يوجد، ونرى الشجرة كيف تنمو وتوجد، فكثير من الأشياء توجد بعد أن لم تكن موجودة، إذاً هذه الأشياء لا نقول ممتنعت الوجود لأنها موجودة، ولا نقول: إنها واجبة الوجود لأنها كانت من قبل في العدم، إذاً فهي من القسم الآخر وهو ممكن الوجود، وأنتم متفقون معنا أي: الفلاسفة والمتكلمون على أن ممكن الوجود يفتقر إلى واجب وجود أوجده.
إذاً فواجب الوجود هذا لا بد أن يكون أزلياً يعني: لا أول لوجوده، لأنه إذا كان لوجوده أول أصبح من جملة الموجودات الممكنات التي تحتمل الوجود والعدم، إذاً ثبت بالدليل العقلي من كلامكم ومن نظرياتكم أن الله -سبحانه وتعالى- لا أول لوجوده أو لا بداية له وهذا مثل ما قطعه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {
لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول: هذا خلق الله حتى يقول له: من خلق الله فإذا وجد ذلك فليستعذ بالله} ونحن نشاهد هذا الكلام لا ميزان له في العقل، هذا الشعور أو هذا الخاطر أو الهاجس لا وجود له ولا صحة له في نظر العقل السليم حتى عقول
الفلاسفة أنفسهم نجد -على كلامهم هذا- أن الممكنات أو المحدثات لا بد لها من محدث فهي مفتقرة إلى واجب الوجود، ولو قلنا: إن واجب الوجود مثلها مخلوق أو ممكن أو محدث لاحتاج إلى واجب يوجده وهكذا يتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، إذاً لا بد أن نقول هناك موجودات وجدت ولوجودها بداية، وهناك خالق مُوجِدٌ أوجدها ولا أول لوجوده ولا بداية له.
ولهذا يقول المصنف: إن الله سبحانه وتعالى قد ذكر ذلك في أوجز مما يقول هؤلاء ولم يذكر مصطلحاتهم لا الوجود ولا الإمكان وإنما قال سبحانه وتعالى: ((
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ )) [الطور:35].
قال بعض
السلف: "لما قُرأت علي هذه الآية أو لما سمعت هذه الآية كاد قلبي أن ينصدع" فكثير من الناس يمر عليها ولا يبالي، مع أنها على وجازتها شملت الرد على كل هذه الطوائف، وعلى كل هذه ضلالات
(( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ))[الطور:35] فأي ملحد أو أي إنسان ينكر وجود الله -سبحانه وتعالى- فإن هذا السؤال يوجه إليه بأسلوب القرآن لا بأساليب
الفلاسفة ولا
المتكلمين وإنما يقال له:
((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ))[الطور:35] هؤلاء البشر وهذه الأجرام وهذا الكون كله، هل خلق من غير خالق؟ لا يمكن ذلك، أم هو الخالق؟
أيضاً لا يمكن ذلك، إذاً النتيجة أنه مخلوق وأن الخالق هو الله -سبحانه وتعالى- فنقول: هذه الآية تدل على نفي أن يكون غير الله -سبحانه وتعالى- يشارك الله في أنه لا بداية لوجوده وأنه هو الأول، فالأول من أسمائه سبحانه تعالى، وهو بدلاً من قوله هنا قديم.
وسيأتي كلام المصنف في معنى القديم وإطلاقه على الله سبحانه وتعالى؛ لكن يريد المصنف أن يقول: الشاهد من مثل هذه الآية ومثل هذا الحديث أننا نعرف أن
المتكلمين ما يأتون به من طرق ومن مقدمات عقلية.
فالحق والصواب من هذه المقدمات قد جاء به الكتاب والسنة في أوجز عبارة وأبلغها فبدلاً من قولهم -وهو كلام غايته حق- إن هذا الموجود ممكن والممكن مفتقر إلى واجب وجود، والواجب الوجود لا أول له، فبدلاً من هذه المصطلحات جاء القرآن بما هو أوجز منه وأفضل .