المادة كاملة    
تكلم هذا الدرس عن أهمية (لا إله إلا الله) مع بيان أركانها وشروطها، ثم انتقل إلى توضيح ارتباط أعمال القلوب بها، مع ذكر بعض المفاهيم الخاطئة حول هذه الكلمة، وبيان معناها الصحيح من جهة المعنى والإعراب، وبعد ذلك جاء الرد على إشكال بعض النحويين حول إعراب هذه الكلمة، وفي الأخير تمّ شرح معنى (القديم)، وتوضيح هل هو اسم من أسماء الله، أو مجرد إخبار عن الله، مع شرح مختصر لقول الطحاوي: "لا يفنى ولا يبيد".
  1. أهمية معنى لا إله إلا الله

     المرفق    
    قال الإمام الطحاوي -رحمه الله- تعالى: [ ولا إله غيره ]
    قال المصنف -رحمه الله-:
    [ هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلها كما تقدم ذكره، وإثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والإثبات المقتضي للحصر، فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال، ولهذا - والله أعلم - لما قال تعالى:((وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)) [البقرة:163] قال بعده: ((لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ))[البقرة:163] فإنه قد يخطر ببال أحدٍ خاطر شيطاني: هب أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره، فقال تعالى:((لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)).
    وقد اعترض صاحب " المنتخب " على النحويين في تقدير الخبر في " لا إله إلا هو " فقالوا: تقديره: لا إله في الوجود إلا الله، فقال: يكون ذلك نفياً لوجود الإله ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره، والإعراض عن هذا الإضمار أولى .
    وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في " ري الظمآن " فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب فإن " إله " في موضع مبتدأ على قول سيبويه وعند غيره اسم "لا" وعلى التقديرين، فلا بد من خبر للمبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد.
    وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفياً للماهية، فليس بشيء، لأن نفي الماهية هو نفي الوجود، لا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين "لا ماهية" و"لا وجود" . وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهيةً عاريةً من الوجود . و"إلا الله" مرفوع، بدلاً من "لا إله" لا يكون خبراً لـ"لا" ولا للمبتدأ، وذكر الدليل على ذلك، وليس المراد هنا ذكر الإعراب، بل المراد دفع الإشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة، وهو فاسد ؛ فإن قولهم: " في الوجود " ليس تقييداً، لأن العدم ليس بشيء، قال تعالى: ((وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً))[مريم:9] . ولا يقال: ليس قوله: "غيره" كقوله: "إلا الله" لأن "غيراً" تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد "إلا" فيكون التقدير للخبر فيهما واحداً، فلهذا ذكرت هذا الإشكال وجوابه هنا] إهـ .

    الشرح:
    هنا المبحث ذو شقين، الشق الأول يتعلق بمعنى لا إله إلا الله وبأهميتها، والشق الآخر يتعلق بإعرابها وما أثاره بعضهم حول إعراب "لا إله إلا الله"، ونحن كما ذكر المصنف -رحمه الله- لا يهمنا الإعراب والخلاف فيه، أو الخلاف في التقدير، وإنما الذي يهمنا هو معرفة حقيقة لا إله إلا الله، لكن مع ذلك لا بد أن نشرح هذا الكلام بقدر ما نستطيع من التبسيط والتقريب إن شاء الله.
    أهمية معنى ( لا إله إلا الله ).
    يقول المصنف -رحمه الله-: [هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل]، أي: كلمة الشهادة، فكلمة لا إله إلا الله هي الشهادة لله -سبحانه وتعالى- بالوحدانية أي أن يكون الله تعالى هو وحده المعبود دون ما سواه من المعبودات والآلهة، هذا هو ما جاءت به جميع الرسل ودعت إليه أقوامهم.
    وقوم لوط عليه السلام هم الأمة الوحيدة التي كانت دعوتها إلى ترك الفاحشة، وإلى التقوى والإيمان بالله -سبحانه وتعالى- ولكن مرد ذلك إلى أن هؤلاء القوم كانوا موحدين، لكنهم كانوا يرتكبون الفاحشة، وإلا فعموم قوله تعالى: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) [النحل:36] يدخل فيه قوم لوط وغيرهم فإن التوحيد يدعى إليه الموحد أيضاً، لكن قد يأتي نبي كما هو الحال في لوط عليه السلام، أو يأتي أي داعية من الدعاة إلى ناس من أهل التوحيد يرتكبون منكراً ظاهراً، فيكون همّ دعوته هو القضاء على هذا المنكر وإن كان أقل من الشرك.

    ومع ذلك لا ينبغي لأي داعية أن يُغفل جانب الألوهية والدعوة إلى تصحيح أنه لا معبود إلا الله -سبحانه وتعالى- وأنه لا يجوز صرف أي نوع من أنواع العبادة، من الدعاء أو الرجاء أو الخوف أو النذر أو الرغبة أو الرهبة أو المحبة أو الخشوع أو الذبح أو نحو ذلك من أنواع العبادات لغير الله تعالى؛ بل تصرف كل هذه العبادات لله وحده، وكذلك الطاعة والتسليم والانقياد في التحليل والتحريم واتباع الأمر لا يكون ذلك إلا لله -سبحانه وتعالى- وحده، فالمراد أن هذا هو ما دعى إليه الأنبياء، فكل نبي جاء إلى قومه وقال لهم: اعبدوا لله ما لكم من إله غيره، وجميع الأنبياء قالوا ذلك، وإن كان بعضهم أو بعض الدعاة قد يدعو ويجعل محور دعوته أمراً غير ذلك إذا كان التوحيد متحققاً، ولكن بعض لوازمه غير متحققة كالمجتمع الذي تفشوا فيه المنكرات وتنتشر فيه الرذيلة، مع وجود القدر المطلوب من التوحيد، ومع ذلك فإن هذا من مقتضيات التوحيد ومن لوازمه وهو الانقياد لأمر الله سبحانه وتعالى .
    1. أركان كلمة لا إله إلا الله

      تتكون كلمة التوحيد من ركنين هما النفي (لا إله) والإثبات (إلا الله)، ومن هذين الركنين يتكون معنىً أعم وأبلغ وأدق من المعنى المثبت بدون نفي، فلو قلنا: الله الإله، أو الإله الله، فقط من دون النفي والإثبات لم يكن أدق ولا أبلغ من قولنا: (لا إله إلا الله)، ولذلك يقول المُصنِّف مثلاً لما قال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ((وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)) [البقرة:163] هذه الآية جاءت إثبات فقط دون نفي، لكن قال عقب ذلك: ((لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)) [البقرة:163] فأعقب ذلك بالنفي لحكمة كما قال المصنف: [إنه قد يتبادر خاطر شيطاني]وهذا الخاطر الشيطاني كأن يقول: هذا إلهكم إله واحد، فلغيركم إله آخر، فتأتي الآية فتنفي هذا الخاطر الشيطاني وتشمل وتعم نفي جميع المعبودات من دون الله، ((لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) وإلهكم معاشر المخلوقين أو المخاطبين إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، فدل ذلك عَلَى نفي ألوهية غير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأنه لا إله سواه جل شأنه، فهذا الذي يدل عَلَى أن اللفظة ما دامت مركبة من النفي والإثبات، فهي أبلغ وأدل مما لو كانت فقط للإثبات، ولهذا كانت (لا إله إلا الله) تكون من ركنين "النفي والإثبات"، هذا النفي المقرون بـ "إلا" يسمى في اللغة العربية: "الحصر" أو "القطع" وهو في قوة "إنما" وهي أداة حصر، تسبق المبتدأ والخبر، فكأنه يقول: إنما الإله الله، هذه أساليب الحصر، و"إنما" من أدوات الحصر، ولذلك جَاءَ في القرآن: "إنما الله إله واحد" والأسلوب الثاني من أساليب الحصر هو النفي "بلا" والاستثناء بعد "لا" "بإلا"، فهذان الركنان النفي والإثبات هما ركنا شهادة أن لا إله إلا الله.
    2. شروط لا إله إلا الله

      أما شروط لا إله إلا الله، فقد قلنا: إنها سبعة، لو تأملناها لوجدنا أنها أعمال القلوب الرئيسية، أي: أصول أعمال القلوب من "العلم، واليقين، والصدق، والإخلاص، والمحبة والانقياد، والقبول"، هذه الشروط أعمال قلبية، وهي أساس أعمال القلوب، فلو أن إنساناً عنده شك ففي المقابل ليس عنده يقين، كَانَ يكون عنده شك في الله! هل يكون هذا مؤمناً أو مسلماً؟ لا يكون أبداً، وإذا كَانَ إنسان ليس عنده علم بأن الله هو الإله وحده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذا لا يكون مسلماً أيضاً، فهو يقول: (لا إله إلا الله) لكنه غير صادق في قول (لا إله إلا الله) إنما يقولها كما يقولها المنافقون ((نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ)) [المنافقون:1]، فلا تنفعه؛ لأنه يقولها وهو غير محبٍ لها ولقائلها وغير منقادٍ لها وللوازمها ولمقتضياتها، وغير قابل لها أيضاً، وهذا لا ينفعه، ولذلك نقول: ليس المطلوب منا هو مجرد لفظة (لا إله إلا الله).
    3. بعض المفاهيم الخاطئة من مفهوم لا إله إلا الله

      غلط من غلط في معنى (لا إله إلا الله)، وظن أن المراد من هذه الكلمة هو مجرد اللفظ، وقال من قال لا إله إلا الله، أو من نطق بلا إله إلا الله، فإنه يكون مسلماً وإن عمل ما عمل، وإن اعتقد ما اعتقد، وهذا من أبطل الباطل، ومن أعظم الأدلة عَلَى ذلك: أن المنافقين عَلَى كثرتهم في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يقولون: لا إله إلا لله، ويغزون، ويحجون ويتصدقون ويصلون ويصومون لكن لا ينفعهم ذلك؛ لأنهم كانوا كاذبين، وكانوا غير مخلصين، فلو أنهم صدقوا الله في قولهم (لا إله إلا الله) وصدقوا في قولهم: ((نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه)) [المنافقون:1] وأخلصوا دينهم لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لكانوا من المؤمنين، وإن كانت فيهم بعض المعاصي، لكن لما أنهم لم يكونوا كذلك لم ينفعهم مجرد أن قالوا: (لا إله إلا الله) أو شهدوا أنه (لا إله إلا الله) فهذا أحد أنواع الغلط في شهادة (لا إله إلا الله) وذلك لظنهم أنها مجرد لفظ.
      النوع الثاني من أنواع الغلط في شهادة أن (لا إله إلا الله): قول من ظن أن معناها: (لا رب إلا الله) بمعنى: الربوبية أي: (لا خالق إلا الله)، و(لا رازق إلا الله)، و(لا فاعل إلا الله)، وهذا يقول به طوائف من الناس، وسبق أن تحدثنا عن ذلك، وتحدث عنه المُصنِّف وهذا قول بعض طوائف من المتكلمين وبعض الصوفية الذين يقولون: إنه لا فاعل إلا الله، ولا موجود إلا الله، فمعنى (لا إله إلا الله) عندهم هو الفاعل لكل شيء، وأن غيره كالسراب لا وجود له ولا فعل ولا تأثير له، وهذا أيضاً قول باطل، فإن إثبات أن الله هو الخالق، وهو الرازق -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأنه المحيي والمميت لم يخالف فيه العرب في الجاهلية؛ بل كانوا يقولون في تلبيتهم: (لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك)، وكما تقرأون في آيات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [لقمان:25] فهذا التوحيد في الحقيقة جزء من توحيد الربوبية، كَانَ يؤمن به المُشْرِكُونَ الذين بعث فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والجزء المتعلق به هو جانب الألوهية وهو الذي كانت فيه المعركة بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينهم، ولهذا لا يجوز لأحد كائناً من كَانَ أن يجعل همه من الدعوة إِلَى (لا إله إلا الله) أن يدعو النَّاس إِلَى أن يعتقدوا أنه لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا ضار إلا الله، ولا نافع إلا الله ويقف عند هذا، نعم هذا جزء من الحق لكن ليس هو الحق كله
      ؛ بل يجب علينا أن نبين ونوضح معنى شهادة أن (لا إله إلا الله) كاملةً، كما وضحها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن ذلك: نفي اتخاذ شفيع أو وسيط من دون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تصرف بعض من أنواع العبادة له، ومن ذلك أيضاً نفي اتخاذ متبوع أو مطاع، يقدم كلامه وأمره ونهيه عَلَى أمر الله ورسوله، وكلام الله ورسوله، ونهي الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد أن نكون عالمين بهذه المعاني، عَلَى أن التعرض لمثل هذه الجوانب هو جزء من الحق كما قلنا، وقد يوجد عند الإِنسَان اليقين بأن الله هو الرازق، وبأنه هو الخالق، وبأنه هو الضار النافع المحيي المميت، وهذا اليقين مطلوب بلا شك، وهو يثمر في القلب الإيمان بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويثمر عند الإِنسَان من الخوف، ومن الرجاء الشيء العظيم، ولكن الاعتراض هو عَلَى الاكتفاء بهذا فنحن يجب علينا أن نبين للناس حقيقة الربوبية، ونقول هذا الكلام؛ لأن بعض النَّاس قد يفهم خطأ وربما أيضاً وجد ممن يتكلم ويقول: بأن توحيد الربوبية مفروغ منه، لأن كل العرب في الجاهلية يثبتونه، فلا يتحدث عنه، وإنما نتكلم فقط في الألوهية، فنقول: ليس الأمر كذلك، بل يجب أن يعرض أيضاً توحيد الربوبية، لكن الخطأ هو أن يكتفى به عن الألوهية، فيجب تعليم النَّاس حقيقة أن الله هو الخالق الرازق، وأن الله هو الضار النافع، ويربط ذلك بواقع حياة الناس، فكثيراً من عوام الْمُسْلِمِينَ لو ناقشته في هذا الموضوع فإنه يقول لك: نعم الله هو الخالق، وهو الرازق، والضار، والنافع، لكن ليس هناك أثر لهذا الكلام في حياته، ولا بد أن يظهر أثر ذلك عظيماً جداً في حياة المسلم، وهو أنه لا يأخذه الهلع والجشع عَلَى الدنيا، ولا يأخذه الحرص واللهث وراء هذا المتاع الفاني، ولا يتعلق بالأسباب ويظن أن الرزق يأتيه من هذه الأسباب، أو يأتيه من كدحه أو من عمله أو من اجتهاده أومن مصادر الثروة التي يظنها مصادر للثروة أو من أي شيء، يستيقن أنه لا رازق إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيصل إِلَى اطمئنان، وإلى إيمان ويقين يدفع به هلع النفس وحرصها الشديد؛ لأن الإِنسَان شديد في حب الخير، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكما هو معلوم أن الإِنسَان يحب المال حباً جما، ويأكل التراث أكلاً لما، كما أخبر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وغير ذلك من الصفات التي هي صفات متأصلة في النفس الإِنسَانية، فإذا أيقن أن الرازق هو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فإنه يزكي نفسه ويطهرها وينقيها من رواسب هذه الصفات السيئة، التي هي من صفات غير الموقنين بأن الله هو الرازق وحده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا شريك له، ولذلك فلا يجوز أن تصرف العبادة إلا له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فما دام أنه هو الذي يرزق الخلق فهو الذي يجب أن يعبد وحده تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فنعلم النَّاس توحيد الربوبية وإن كانوا مقرين به في الأصل، لكن نعلمهم حقائقه ومقتضياته الواقعية، التي يجب أن تطبق عَلَى نفوسنا، ومن ذلك الدعاة، فإذا دعا الداعية إِلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيجب أن يعلم هذا التوحيد، أن الله هو الرازق، فلو آمن به الدعاة جميعاً حق الإيمان لما رأينا الإحجام والتردد في الدعوة، فإذا علمت أن الله هو الرازق فإنك تدعو إِلَى الله، وتنكر المنكر، وتقول الحق ولا تخاف عَلَى رزقك ولا عَلَى طعامك ولا عَلَى رزق أولادك من بعدك، لأنك تعلم أن الله هو الذي يرزقك وأن الله هو الذي يرزقهم، وأن سبيل الدعوة محفوف بالأذى واالمخاطر، ومنها قطع هذا السبب الذي هو سبب ظاهر جعله الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مصدراً لرزقك، فكثير من النَّاس يقول: لولا عملي، أو لولا رزقي، أو لولا وظيفتي، أو لولا خشية أن ينقطع راتبي لقلت الحق، ولأمرت بالمعروف، ولدعوت إِلَى الله، فيا سُبْحانَ اللَّه! هل يكون مثل هذا الإِنسَان مؤمناً حقيقة بتوحيد الربوبية، وأنه لا رازق إلا الله.
      فلا بد من الصبر ولا بد من المجاهدة، فهذا الجانب من التوحيد مهم وينبغي الحث عليه وينبغي الإيمان به.
      وكذلك من أسمائه الضار النافع، وهذا جزء من توحيد الربوبية ولا يجوز إهمالها، فكثير من النَّاس يقول: إن الله هو الضار وهو النافع ومع ذلك تراهم يلتمسون أسباب الشفاء، وأسباب النفع من الوسائل المحرمة، ومن غير الطريق المشروع وهذا دليل عَلَى أنهم لم يستيقنوا فعلاً أن الضار النافع هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالذي يوقن بأن الله هو الضار النافع هل يذهب إِلَى الكهان والسحرة والمشعوذين، ويأخذ منهم أنواعاً من العلاجات والأدوية وهو يعلم أن فيها شركيات؟ إن الذي يوقن بأن الله هو الضار النافع يكون قلبه كما قال النبي؛ {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا عَلَى أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا عَلَى أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك} فهناك فرق بين من يعرف حقيقة معنى الضار النافع، وبين من يجهله، وقس عَلَى ذلك بقية أمور الربوبية، فهذان النوعان من أنواع الغلط في مفهوم لا إله إلا الله
      والآن ينتقل المُصنِّف إِلَى ما يتعلق بكلمة (لا إله إلا الله) من ناحية الإعراب.
  2. بيان معنى لا إله إلا الله من جهة الإعراب

     المرفق    
    1. صاحب المنتخب وانتقاده على بعض النحويين من إعراب لا إله إلا الله

      يقول المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [وقد اعترض صاحب المنتخب عَلَى النحويين في تقدير الخبر].
      أولاً: صاحب المنتخب لم أستطع أن أعرف من هو فكتاب المنتخب بعضها في الأدب وبعضها في اللغة، ولعله الحسن بن صالح المتوفى 568هـ الملقب بملك النحاة، نقول ذلك ولا نجزم به حتى نطلع عَلَى الكتاب ونجد هذا اللفظ فيه، ويبدوا أن هذا الكتاب مفقود، أو مخطوط قال صاحبه فيه: "إن النحويين أخطأوا في إعراب (لا إله إلا الله)" "النحويون يقولون لا إله موجودٌ إلا الله " يقدرون خبر (لا) بأنه موجود، بينما الصحيح أن لا يكون هناك تقدير، ولا نقدر الموجود؛ لأننا إذا قلنا لا إله موجود، فالمنفي هو وجود الإله، يقول: ولكن المفروض أن ينفى ماهية الإله (ذاته) وليس وجوده، فنقول: (لا إله) أي: لا ماهية إله بدلاً من أن نقول: وجود إله، وكلمة "موجود" نلغيها ونجعل النفي منصباً عَلَى كلمة إله، (وإلا الله) تكون بدلاً، هذا الكلام في حقيقته فيه نوع من الصواب، من حيث عدم التقدير، وإن كَانَ المُصنِّف مال إِلَى غيره وقَالَ: إنه كلام المعتزلة، وهذه القضية تحتاج إِلَى شيء من الدقة والتبسيط،
      فقوله (لا) هذه تسمى لا النافية للجنس، وتدخل عَلَى المبتدأ والخبر، وهي تفيد النفي المطلق، ولذلك قيل لنفي الجنس أي: لا يمكن أن تقول: لا رجلٌ في الدار بل رجلان؛ لأن قولك لا رجل في الدار يعني: أنك تنفي نفياً مطلقاً أن يكون في الدار رجل، إذا كانت لمجرد النفي نقول: لا رجلٌ في الدار بل رجلان، فنفينا وجود "رجل" وأثبتنا رجلين، وهذه (لا) قد لا تحتاج إِلَى خبرٍ أصلاً فتستغني عن الخبر بالكلية، ومن ذلك قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى:، ((َفَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ))[البقرة:197] فلا تحتاج إِلَى خبر وقد يضمر الخبر أو يحذف، عَلَى خلاف في لغات العرب بين لغة الحجازيين ولغة الطائيين أو الشماليين هل يحذف وجوباً؟ أو يحذف جوازاً؟، الشاهد: أنه قد تستغني "لا" عن الخبر نهائياً أو يحذف خبرها مطلقاً، وإن ذكر خبرها فهي تدخل عَلَى المبتدأ وعلى الخبر، فلو حذفنا (لا) وحذفنا (إلا) من كلمة (لا إله إلا الله) وتركنا المعنى يبقى (الإله الله) المبتدأ والخبر، كلمة "الإله" ندخل عليها "أل" لأنه لا يجوز الابتداء بالنكرة فنقول: (إله الله)، ومن أجل زيادة التأكيد ينفى الجنس فنقول: (لا إله) فحذفنا (إلا) لأن لا النافية للجنس لا تدخل إلا عَلَى النكرات فنحذف (الأل) فنقول: (لا إله إلا الله) إذاً فالكلام ليس فيه تقدير.
      فكون صاحب المنتخب هذا معتزلياً، أو غير معتزلي، لا يجعلنا نخطأه إذا كَانَ قوله صواباً، نعم أخطأ المعتزلة عندما فرقوا بين الوجود وبين الماهية، لكن كلام الرجل بعضه صحيح، وقوله: " إن النحويين قالوا: تقديره لا إله في الوجود إلا الله وهذا يكون نفياً لوجود الإله ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود " معناه: نَحْنُ لا نقدر موجود فننفي نفس ماهية الإله وقَالَ: " فكان إجراء الكلام عَلَى ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى " وكلامه هذا الأخير صحيح، لأن إجراء الكلام عَلَى ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى، لكن كلامه الأول في كون العلة هي أن نفي الوجود ليس أقوى من نفي الماهية خطأ، أما إذا نظرنا إِلَى المسألة نظرة لغوية بحتة فإننا نجد أن كلام هذا الرجل صحيح في أنه لا إضمار في الكلام، فالشهادة تتكون من مبتدأ وخبر فأدخلنا عليها "لا" النافية وأدخلنا الحصر الذي يفيد التأكيد وهو أكثر من مجرد الإثبات كما قلنا، فصار الكلام (لا إله إلا الله)، مثل قولنا: لا حولا ولا قوة إلا بالله، فليس في الكلام تقدير في هذا الباب عَلَى هذا الوجه اللغوي البحت.
    2. المرسي يرد على صاحب المنتخب

      أراد أبو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الفضل المرسي أن ينتصر لمذهب أهل السنة، ضد المعتزلة ولا نعلم حقيقة ما إذا كَانَ هذا الرجل سنياً بمعنى: أنه من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أم أنه أيضاً متأثر بإحدى المذاهب المنتسبة إِلَى السنة، لكن هذا الرجل يقول عن كلام صاحب المنتخب: [هذا كلام من لا يعرف لسان العرب] فخطأه؛ لأن (إله) في موضع مبتدأ عَلَى قول سيبويه وعند غيره اسم (لا) وكلاهما لا فرق بينهما، أي سواء قلنا هي مبتدأ أو اسم "لا" "وعلى كلا التقديرين فلا بد من خبر المبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد"، يقول المرسي :" الاستغناء عن الإضمار خطأ "، نبدأ بالكلام الصواب من كلام المرسي الذي يبين لنا الخطأ من كلام صاحب المنتخب، وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفياً للماهية، فليس بشيء؛ لأن نفي الماهية هو نفي للوجود، فلا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين لا ماهية ولا وجود، هذا مذهب أهل السنة خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهية عارية عن الوجود.
      الماهية هي ذات الشيء أو حقيقته، وهي مشتقة بما يُسئل عنها (بما)، وقد سبق هذا معنا، عندما خاطب فرعون موسى فقَالَ: وما رَبُّ الْعَالَمِينَ، قال المتكلمون: إن فرعون سأل موسى عن الماهية، أي: أن فرعون من المتكلمين الباحثين في الصفات، فهو من المناطقة حيث سأل عن الماهية بـ "ما"، قَالَ: ((وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [الشعراء:23]، أي: ما كنهه وما ذاته وما حقيقته؟
      ثُمَّ قال المتكلمون، إن موسى عَلَيْهِ السَّلام حاد عن الجواب حينما قَالَ: ((قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)) [الشعراء:26] فلم يجب له بالأجوبة المنطقية، وسبق أن قلنا: إن هذا الكلام خطأ من المتكلمين؛ لأن فرعون لا يعرف المنطق ولا الفلسفة، ولا يتدخل في هذا الكلام كله، ففرعون يقول: وما رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى سبيل الاستخفاف والعناد، فهو لا يؤمن به؛ بل ينكره، ولهذا قَالَ: ((فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ)) [القصص:38] ففرعون لا يريد أن يؤمن بإله.
      وليست القضية عند فرعون قضية ماهية هذا الإله، أو السؤال عنه بـ "ما"، فلم يخطر لفرعون أن المناطقة يقولون: إن السؤال عن الماهية هو بحرف "ما"، ومعنى قول المرسي أنا إذا قلنا (لا إله) موجود فقد نفينا وجود الإله، وإذا قلنا: (لا إله) بدون تقدير نفينا ماهية الإله، إذاً عدم التقدير أفضل.

      فنقول: هذا التفريق بين الوجود وبين الماهية خطأ؛ لأن أي شيء نقول: إنه موجود، فمعنى ذلك أن له ماهية بطبيعة الحال، أما أن عدم التقدير صحيح فهذا الكلام أيضاً صحيح؛ لأن عدم التقدير هو الأولى.
    3. الإعراب الصحيح لـ" لا إله إلا الله"

      وإعراب "لا إله إلا الله": (لا): نافية للجنس، و(إله): اسم (لا) أو المبتدأ، و(إلا) أداة استثناء، و(الله): خبر، فهذا النفي والاستثناء أسلوب من أساليب الحصر المراد به تأكيد أبلغ وآكد في إثبات العلاقة بين الموضوع والمحمول أي: بين المبتدأ والخبر، وأن الإله وحده هو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا إله غيره تَبَارَكَ وَتَعَالَى، هذا مختصر إعراب (لا إله إلا الله) وليس هناك تقدير فيها؛ لأن المبتدأ والخبر يدخل عليها الحروف (لا) و(إلا) فلا تقدير في الكلام بالكلية، هذا هو الراجح والصحيح في اللغة. قوله: [وليس المراد هنا ذكر الإعراب فالمراد هو رفع الإشكال الوارد عَلَى النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة وهو ثابت وقلنا: إن المنتقد من المعتزلة إذا كَانَ انتقاده صواباً قبلناه وإن كَانَ معتزلياً وفيلسوفاً ومتكلماً، فنحن نتبع الحق حيث كان، ولا يضرنا أن يكون قائله من غير أهل السنة لا سيما وأن الموضوع موضوع لغة وليس موضوع دين وإيمان، قَالَ: " فإن قولهم في نفي الوجود ليس تقييداً لأن العدم ليس بشيء" يقول المُصنِّف عندما قال النحاة (لا إله موجود) لم يقيدوا النفي بالوجود فقط حتى نقول: إنهم لم ينفوا الماهية، وإنما نفوا الوجود فقط، وإنما قال ذلك؛ لأن العدم ليس بشيء، وما دام أن العدم ليس بشيء فنفي الوجود هو العدم، والعدم ليس بشيء، إذاً ليس هناك شيء يقيده، فليست كلمة (في الوجود) قيداً، وإنما نفي أن يكون شيء في الوجود هو عدم، والعدم لا قيد فيه بإطلاق؛ لأنه ليس بشيء [كما قال الله تعالى:((وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً)) [مريم:9] ولا يقال ليس قولهم "غير" كقوله: (إلا الله)]، أي: بدلاً من أن نقول: (لا إله إلا الله) نقول: "لا إله غير الله"، يقول المصنف: " لا نقول إن (غير) مثل (إلا) " وكلامه هنا خطأ، بل الواقع أنها مثلها والمعنى واحد؛ لأن كلمة غير الله في قوة (إلا الله)، فـ(لا إله غير الله) أو (لا إله إلا الله) بمعنى واحد؛ لكن كلمة "غير" نفيها في ذاتها، وهي تنفي الشيء الآخر، وأما (لا إله إلا الله) فنفيها من (لا) وليس من "غير"، فلما اجتمع الحصر (لا) و(إلا) صار المعنى (لا إله إلا الله) فلما أخذنا (إلا) انتقل الحصر في عموم كلمة "غير"، وهي في ذاتها عامة تنفي؛ لأنها من ألفاظ العموم المطلقة الكلية، فأصبح (لا إله غيره)، أو (لا إله إلا الله)، بمعنى واحد، هذا هو ملخص ذلك.
  3. شرح معنى قوله " قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء" .

     المرفق    
    قال الإمام الطحاوي: [ قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء ]
    قال المصنف -رحمه الله- تعالى:
    [ قال الله تعالى: ((هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِر))[ الحديد:3] وقال صلى الله عليه وسلم: { اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء } فقول الشيخ -رحمه الله-: [ قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء ] هو معنى اسمه: الأول والآخر.
    والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطرة، فإن الموجودات لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته، قطعاً للتسلسل.
    فإنّا نشاهد حدوث الحيوان، والنبات، والمعادن، وحوادث الجو، كالسحاب والمطر، وغير ذلك، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة، فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها، فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة، ثم وجدت، فعدمها ينفي وجودها، ووجودها ينفي امتناعها، وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال تعالى: ((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ))[الطور: 35].
    يقول سبحانه: أحَدَثوا من غير محدثٍ أم هم أحدثوا أنفسهم؟
    ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجوداً بنفسه بل إن حصل ما يوجده، وإلا كان معدوماً، وكل ما أمكن وجوده بدلاً عن عدمه، وعدمه بدلاً عن وجوده، فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له.
    وإذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق، ما لا يوجد عندهم مثله، قال تعالى:((وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)) [الفرقان: 33].
    ولا نقول: لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية، والأدلة الطويلة، فإن الخفاء والظهور من الأمور النسبية، فربما ظهر لبعض الناس ما خفي على غيره ويظهر للإنسان الواحد في حال ما خفي عليه في حالٍ أخرى.
    وأيضاً فالمقدمات وإن كانت خفية، فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلى منها، وقد تفرح النفس بما علمته بالبحث والنظر ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة، ولا شك أن العلم بإثبات الصانع، ووجوب وجوده أمر ضروري فطري، وإن كان يحصل لبعض الناس من الشبه ما يخرجه إلى الطرق النظرية ] إهـ .

    الشرح:
    انتقل المصنف رحمه الله إلى شرح قول الإمام أبي جعفر الطحاوي -رحمه الله- تعالى: [ قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء ] والإمام أبي جعفر الطحاوي -رحمه الله- في هذه العقيدة يريد أن يرد على الطوائف الضالة، ويأتي بكلام مبسط وواضح يعتقده المسلمون ويفهمونه.
    ويقول: [ قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء ] وهذا من المعاني الضرورية الفطرية عند الناس في حق الله -سبحانه وتعالى-
    ، إلا أن لفظ (القديم) إطلاقه على الله تعالى خطأ، وسيأتي هذا في آخر كلام المصنف وهو أنه لم يرد في أسماء الله تعالى القديم وورد بدل هذه العبارة في القرآن ما هو أجلى وأعظم وهو قول الله تبارك وتعالى: ((هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)) [الحديد:3] فهذا الإطلاق هو الأصح بل هو الواجب؛ لأنه هو الذي ورد في كتاب الله -سبحانه وتعالى- فهو أبلغ لأنه هو الدرجة العليا في الفصاحة والبلاغة.
    وجاء تفسير ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدعاء قبل النوم { اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء }وهذا هو الذي يسميه المتكلمون قطع التسلسل في الأول وكذلك في الآخر، فهم يقولون: يمتنع أن يكون لله -سبحانه وتعالى- بداية كان قبلها عدماً , وكذلك يمتنع أن يكون له نهاية ويكون بعدها عدما، فقالوا إذاً نقول: التسلسل ممنوع في الأول وممنوع في الآخر، وهذا الكلام جاء في القرآن والسنة بأوفر بيان وأفضله، فقال الله سبحانه وتعالى: ((هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ))، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: { اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء } وهذا يغني عن كلام الفلاسفة والمناطقة والمتكلمين، لكن المصنف هنا يريد أن يثبت ذلك من واقع كلامهم.
    فـالفلاسفة ينظرون إلى الوجود من حيث إنه ثلاثة أقسام: واجب الوجود أو ممتنع الوجود، أو ممكن الوجود، فيقولون: إن هذه الأقسام الثلاثة، تحوي كل متعلقات الوجود، فإن الأشياء إما واجبة الوجود لذاتها، وإما ممتنعة الوجود لذاتها، وإما ممكنة الوجود والعدم، وذكر المصنف: أن هذه المخلوقات المشاهدة لا شك أن لوجودها بداية بدليل أننا نراها وجدت قبل أن لم تكن موجودة، فنحن -مثلاً- جئنا والأرض موجودة لكننا نرى السحاب كيف يوجد، ونرى الشجرة كيف تنمو وتوجد، فكثير من الأشياء توجد بعد أن لم تكن موجودة، إذاً هذه الأشياء لا نقول ممتنعت الوجود لأنها موجودة، ولا نقول: إنها واجبة الوجود لأنها كانت من قبل في العدم، إذاً فهي من القسم الآخر وهو ممكن الوجود، وأنتم متفقون معنا أي: الفلاسفة والمتكلمون على أن ممكن الوجود يفتقر إلى واجب وجود أوجده.
    إذاً فواجب الوجود هذا لا بد أن يكون أزلياً يعني: لا أول لوجوده، لأنه إذا كان لوجوده أول أصبح من جملة الموجودات الممكنات التي تحتمل الوجود والعدم، إذاً ثبت بالدليل العقلي من كلامكم ومن نظرياتكم أن الله -سبحانه وتعالى- لا أول لوجوده أو لا بداية له وهذا مثل ما قطعه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: { لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول: هذا خلق الله حتى يقول له: من خلق الله فإذا وجد ذلك فليستعذ بالله} ونحن نشاهد هذا الكلام لا ميزان له في العقل، هذا الشعور أو هذا الخاطر أو الهاجس لا وجود له ولا صحة له في نظر العقل السليم حتى عقول الفلاسفة أنفسهم نجد -على كلامهم هذا- أن الممكنات أو المحدثات لا بد لها من محدث فهي مفتقرة إلى واجب الوجود، ولو قلنا: إن واجب الوجود مثلها مخلوق أو ممكن أو محدث لاحتاج إلى واجب يوجده وهكذا يتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، إذاً لا بد أن نقول هناك موجودات وجدت ولوجودها بداية، وهناك خالق مُوجِدٌ أوجدها ولا أول لوجوده ولا بداية له.
    ولهذا يقول المصنف: إن الله سبحانه وتعالى قد ذكر ذلك في أوجز مما يقول هؤلاء ولم يذكر مصطلحاتهم لا الوجود ولا الإمكان وإنما قال سبحانه وتعالى: ((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ )) [الطور:35].
    قال بعض السلف: "لما قُرأت علي هذه الآية أو لما سمعت هذه الآية كاد قلبي أن ينصدع" فكثير من الناس يمر عليها ولا يبالي، مع أنها على وجازتها شملت الرد على كل هذه الطوائف، وعلى كل هذه ضلالات (( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ))[الطور:35] فأي ملحد أو أي إنسان ينكر وجود الله -سبحانه وتعالى- فإن هذا السؤال يوجه إليه بأسلوب القرآن لا بأساليب الفلاسفة ولا المتكلمين وإنما يقال له: ((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ))[الطور:35] هؤلاء البشر وهذه الأجرام وهذا الكون كله، هل خلق من غير خالق؟ لا يمكن ذلك، أم هو الخالق؟
    أيضاً لا يمكن ذلك، إذاً النتيجة أنه مخلوق وأن الخالق هو الله -سبحانه وتعالى- فنقول: هذه الآية تدل على نفي أن يكون غير الله -سبحانه وتعالى- يشارك الله في أنه لا بداية لوجوده وأنه هو الأول، فالأول من أسمائه سبحانه تعالى، وهو بدلاً من قوله هنا قديم.
    وسيأتي كلام المصنف في معنى القديم وإطلاقه على الله سبحانه وتعالى؛ لكن يريد المصنف أن يقول: الشاهد من مثل هذه الآية ومثل هذا الحديث أننا نعرف أن المتكلمين ما يأتون به من طرق ومن مقدمات عقلية.
    فالحق والصواب من هذه المقدمات قد جاء به الكتاب والسنة في أوجز عبارة وأبلغها فبدلاً من قولهم -وهو كلام غايته حق- إن هذا الموجود ممكن والممكن مفتقر إلى واجب وجود، والواجب الوجود لا أول له، فبدلاً من هذه المصطلحات جاء القرآن بما هو أوجز منه وأفضل .
    1. لا مانع من استخدام الأدلة النظرية للتفكر والتأمل

      ثُمَّ يقول المُصنِّف يقول: [ولا نقول لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية والأدلة النظرية] فكلامنا السابق لا يعني أننا نعترض عَلَى أي أحد يستدل بمقدمات أو بكلام خفي؛ لأن الظهور والخفاء أولاً من الأمور النسبية، وحتى في الأمور الواضحة وضوحاً كاملاً تجد بعض النَّاس يقتنع بالأمر الخفي الدقيق ولا يقتنع بالأمر الظاهر الجلي.
      فالذي يهمنا أن يقتنع الإِنسَان وأن يعرف الحق مثال ذلك: إذا جَاءَ أحد وقَالَ: أنا أستدل عَلَى عظمة الله عَزَّ وَجَلَّ وآياته بخلق الإِنسَان، فإن الله تَعَالَى جعل له العيون وجعل له الفم، وأعطاه الأعضاء كالسمع والبصر وكذا وكذا، فهذا الاستدلال بالأمور الظاهرة أكثر وهو الذي ورد الاستدلال به في القرآن؛ لأن العوام وهم أكثر النَّاس ليسوا كلهم فلاسفة ولا كيميائيين ولا أطباء والعبرة واحدة، والتعمق فيها تعمق في نفس العبرة، ((أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)) [البلد:8-10] كلام واضح ((أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَت))ْ[الغاشية:17-18] كلام واضح أيضاً فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24] ((وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً)) [الأنبياء:32] آيات كثيرة جداً في القُرْآن تلفت النظر إليها وأن عَلَى الإِنسَان أن يتأمل في ملكوت السماوات والأرض، ويتأمل في خلق السماوات والأرض في الجبال والنبات والإبل والدواب والشجر وغير ذلك.
      لكن مع ذلك ما دام أن الاستدلال بالأدلة الخفية ينفع بعض النَّاس فلا بأس من أن نستخدم المقدمات الخفية ولا بأس بأن نستدل بها، ولذلك كما قلنا لما قيل: إن الإمام أحمد أو الإمام الشَّافِعِيّ أحدهما قَالَ: إن من الأدلة عَلَى وجود الله، وعظمته هذه البيضة التي ظاهرها عَظْم وباطنها الماء ثُمَّ يخرج منها هذا الحيوان وله منقار وله سمع وله بصر، وهذا المثال من الأمثلة الكثيرة جداً عَلَى وجود الله وعظمته وحكمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا المثال يذكره الإمام كمثال من أمثلة كثيرة، وربما ذكره لخفائه عَلَى بعض الناس، وكذلك هو من ضمن مدلول الآيات القرآنية، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: (((فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ))[عبس:24]؛ لأن كثيراً من النَّاس يأكل ولا يذكر أن يتفكر في هذا الشيء، إذاً فما الفرق بين الإِنسَان وبين الحيوان الذي يهجم عَلَى أي شيء فهو يأكل ولا يفكر ما أصل هذه الشجرة ومم تركيبها، المهم عنده أن يأكل، فالإِنسَان لا ينبغي ولا يجوز له أن يكون كذلك، فليتأمل في هذا الطعام كيف سخر الله عَزَّ وَجَلَّ له من زرعه وحصده وخبزه، حتى وصل إليه رزقاً مقسوماً مكتوباً في ساعة معينة، لم يكتب الله أن هذا الرغيف يقع في يد غيره، ولم يكتب الله عَزَّ وَجَلَّ أن يكون هذا الرغيف غداء أو فطوراً وإنما كَانَ عشاء.
      إذاً ((فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ)) [عبس:24] تشمل كل هذه الأشياء، فتشتمل أيضاً الماء الذي يشربه، ثُمَّ ذكر الله تَعَالَى بعد تلك الآيات كيفية نشأة الطعام منذ أن شق الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الأرض إِلَى أن يخرج منها الحب إِلَى أن أكله الإِنسَان وهكذا النظر في السماوات ((أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ)) [الغاشية: 17، 18] والنظر في السماء كيف رفعت معناه: أن يتأمل الإِنسَان في عظمة هذه المخلوقات.
      فبعض النَّاس قبل تطور العلم يتعجبون من القمر يرون أنه أكبر شيء في السماء فيتعجبون من ضوءه ومن كبر حجمه، ويستدلون بذلك عَلَى عظمة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الآن عرف النَّاس أن هذا القمر جرم صغير وأن هناك أجراماً أخرى أكبر وأعظم، لكن لأنها أبعد ترى أصغر، كل ذلك داخل في النظر والتفكر في السماوات، وإنما أصبح أكثر تفصيلاً، فلا يضر الجاهل الأول أنه لا يعرف حجم القمر.
      ولم يزد المعاصر معرفته بما هو أكبر من القمر إنما العبرة واحدة، وهكذا سائر الآيات والأحاديث التي فيها ما يدل عَلَى إثبات أمر من الأمور.
      ((وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَار وَالْأَفْئِدَةَ)) [النحل:78] فكل إنسان تقرأ عليه هذه الآية يفهم ماذا تريد منه، لكن هناك أناس متخصصون متعمقون يدرسون الأعصاب، ويعرفون جهاز الإحساس عند الإِنسَان وكيف ينشأ عنده العلم بالأشياء، وكيف تسقط من ذاكرته الأشياء يتعمقون جداً،
      فهذا الكلام قد ينفع بعض الناس، وقد لا يجدي معهم إلا هذه الأشياء المتعمقة، ولكن أكثر النَّاس يفهم هذا الاستدلال بمجرد الأمر الظاهر وكذلك نجد عالماً كبيراً جداً.
      ومع هذا لما خلق من بطن أمه لم يكن يعلم شيئاً فمن الذي علمه وأعطاه السمع والبصر والفؤاد؟ إنه الله سبحانه تَعَالَى فالعبرة واحدة وإن أخذها بعضهم بالتفصيل وبعضهم بغير ذلك.
    2. الاقتصار على دلائل الكتاب والسنة هو الأفضل

      إن ما يتعلق بالمقدمات وخفاء الأدلة، نَحْنُ نقول: إن الطريقة الصحيحة الواجب اتباعها هي طريقة القُرْآن والسنة، وهي أجلى وأوضح من كل طريق، لكن مع ذلك لو استُخدمت طريق أخرى أقل جلاءً أو طريق خفية.
      ودلت عَلَى المراد الذي دل عليه الكتاب والسنة فلا بأس بها نظراً لمرض يقع في قلوب النَّاس وفي تفكيرهم فيفهمون بالخفي ولا يفهمون بالجلي.
      وهذا حتى عند بعض النَّاس الذين ينكرون الحقائق نهائياً ويستدلوا عَلَى وجود الشمس بالحرارة التي يحس بها الإِنسَان في النهار ولا يحس بها في الليل، وحقيقة الأمر أن هذا الدين أنزله الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى أمة فطرية، ليس عندها تعمقات ولا تعقيدات الأمم اليونانية، مثلاً أو الهندية.
      فالفطرة السليمة نزل القُرْآن عليها وخاطبها، فآمنت واعتقدت ما يتلى عليها،
      ولذلك انظروا كيف غير في معاني الكتاب والسنة لما دخل فيه أُولَئِكَ الذين تأثروا بغير منطق العرب، كما قال الإمام الشَّافِعِيّ-رَحِمَهُ اللَّهُ-: " ما فسد النَّاس وتناقضوا واختلفوا إلا عندما تركوا منطق العرب ومالوا إِلَى منطق أرسطو طالين" فالمنطق معناه أسلوب التفكير العربي فلما تركه النَّاس -حتى من كَانَ عربياً منهم- ومالوا إِلَى طريقة المتكلمين الفلاسفة، كـالمتكلمين الذين أخذوا طريقة الفلاسفة أو كَانَ هو أعجمي الفطرة، ثُمَّ دخل في الإسلام، مثل: الإمام فخر الدين الرازي عَلَى عظمته وعلى سعة علمه وعلى مؤلفاته لولا لاحظتم كتابه التفسير الكبير ستشاهدون التأثر الكبير بـالفلاسفة لأنه من أئمة الكلام، فكان إمام الأشعرية في عصره.
      تجد هذا الشيء الذي يتنافى مع الفطرة العربية التي هي فطرة العربي الجاهلي في فهم الألفاظ -مثلاً- يقول في قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)) [البقرة:35] يقول: ربما فهم آدم وحواء أن النهي عن الأكل من الشجرة منصب عليهما مجتمعين، لأن اللفظ مثنى "لا تقربا" لكن لو أكل كل واحد منهم وحده لكان جائزاً، ولذلك أكل.
      كلام لا يمكن لأي إنسان عنده أدنى فطرة من كلام العرب أن يصدقه، فضلاً عن عالم كبير؛ لكنه يقول: هذا ليبين أن آدم معصوماً لا يخطأ، أمثلة كثيرة جداً إذا قرأها أي إنسان منكم يتعجب، وسبب وقوع هذه العقول الكبيرة الضخمة في مثل هذا الشيء هو فساد الفطرة في هذه الفلسفات، بينما العرب الذين نزل عليهم القُرْآن قريش وغيرهم كانوا يعاندون، ويكابرون وينفون نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقولون: ((وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآن آنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ))[الزخرف:31]، ويقولون: لولا أنزل معه ملك، جاءوا بحجج كبيرة جدّاً فيها عناد،، لكن لم يأتوا أبداً بمناسبات أو بردود من جنس هذا الكلام الذي فيه مماحكات أو مماطلات ليس لها معنى، بل لا يقبلها العقل ولا تقبلها الفطرة، فهم إما أن يؤمنوا به عالمين حقيقته، وإما أن ينكروه مكابرة وعناد.
  4. هل يجوز إطلاق اسم القديم على الله

     المرفق    
    قال المصنف -رحمه الله- تعالى:
    [ وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى " القديم " وليس هو من الأسماء الحسنى فإن " القديم " في لغة العرب التي نزل بها القرآن: هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم للعتيق وهذا حديث للجديد، ولم يستعملوا هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم كما قال تعالى:((حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ))[يس:39] . والعرجون القديم: الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول: قديم، وقال تعالى:((وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيم))[الأحقاف:11] . أي: متقدم في الزمان وقال تعالى:((قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ))[الشعراء:75، 76] . فالأقدم مبالغة في القديم، ومنه: القول القديم والجديد للشافعي رحمه الله، وقال تعالى: ((يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّار))[هود:98]، أي: يتقدمهم، ويستعمل منه الفعل لازماً ومتعدياً كما يقال: أخذني ما قدم وما حدث ويقال: هذا قدم هذا وهو يقدمه، ومنه سميت القدم قدماً لأنها تقدم بقية بدن الإنسان، وأما إدخال "القديم" في أسماء الله تعالى فهو المشهور عند أكثر أهل الكلام وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف منهم ابن حزم ولا ريب أنه إذا كان مستعملاً في نفس التقدم، فإن ما تقدم على الحوادث كلها، فهو أحق بالتقدم من غيره، لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به، والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى، وجاء الشرع باسمه" الأول " . وهو أحسن من "القديم"، لأنه يشعر بأن ما بعده آيلٌ إليه وتابع له بخلاف "القديم"، والله تعالى له الأسماء الحسنى لا الحسنة ] إهـ
    الشرح:
    لما قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [ قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء ] أخذ المصنف -رحمه الله- يشرح ذلك، فتحدث عن إطلاق وصف القديم على الله سبحانه وتعالى، وهل هو من أسماء الله الحسنى ؟ فالإمام الطحاوي قال: [ قديم بلا ابتداء ] يريد أن يوضح حقيقة الأزلية، فاستخدم لفظة مفهومة عند الناس وفسرها فقال: [ قديم بلا ابتداء ] لأن القديم في كلام العرب هو الشيء المتقادم البعيد وإن كان له بداية، فكلام الإمام الطحاوي هنا هو مجرد إخبار ولم يسم الله تعالى قديماً، وإنما أخبر فقط، قال: [قديم بلا ابتداء] حتى لا يدخل في الوهم أن القديم في اللغة العربية الذي يكون له بداية، وإن كان قديم العهد لكن المصنف هنا لم ينتقد الإمام الطحاوي فلم يقل وقد أخطأ الإمام في أنه جاء بهذا الاسم وإنما هو استطراد لبيان الحقيقة في ذلك، وهو أن أحداً يأتي ويقول: ما حكم إطلاق اسم القديم على الله ؟ لأن الطحاوي يقول: [قديم بلا ابتداء] فيكون الجواب عليه: أن قوله:[ قديم بلا ابتداء ] هذا خبر أطلقه عليه أما "القديم" المستخدم في كتب علم الكلام فهو الذي يمتنع كما في عبارة الجنيد أنه سأل ما التوحيد؟ قال: التمييز بين القديم والمحدث، وغير ذلك كثير في كلام الصوفية وفي كلام المتكلمين يقول المصنف رحمه الله: " المتكلمون الذين أدخلوا اسم القديم من أسماء الله مخطأون في ذلك؛ لأن القديم في لغة العرب يطلق على الشيء البعيد العهد وقد يكون له بداية ولا يختص بما لا بداية له، بل الذي ورد في القرآن يدل على أنه كان له بداية أي: قد سبقه العدم، كقول الله تبارك وتعالى: ((وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ)) [يس:39] فلا شك أن القديم سبقه عدم، وليس هذا هو المراد بالإطلاق على الله -سبحانه وتعالى- الذي يريده المتكلمون فهم يريدون القديم أي الذي لا أول لوجوده ولم يسبقه عدم، فالدلالة تختلف بين هذا وبين هذا، كما قال تعالى: ((قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ)) [الشعراء: 75-76] من كلام إبراهيم -عليه السلام- لقومه، أي: مهما كان آباؤكم موغلين في هذا الشرك ومتقدمين في فعله، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين فالأقدم مبالغة في القديم، ومنه مذهب الشافعي القديم والجديد]، فـالشافعي -رحمه الله- لما كان في العراق كان له مذهب لأنه تعلم الحديث وهو مذهب أهل المدينة، فانتقل إلى العراق وتعلم مذهب أهل الرأي فأصبح لديه فقه مستقل، فانتقل إلى مصر وصار له مذهب جديد غير ما كان يفتي به في العراق فصار يُقال للشافعي مذهبان، وهذا من أعظم الأدلة على أنه لا يجوز أن يقلد رجل في كل كلامه، ويؤخذ جميع ما يقول؛ لأن الإمام الشافعي حتى وهو إمام -رضي الله تعالى عنه- رجع عن بعض آرائه فله شيء في القديم وشيء في الجديد، إذاً القديم معناه ما تقدم الجديد، أي:ما تقدمه غيره، وليس المقصود أنه الذي يسبقه عدم، ولهذا أنكر كثير من العلماء إدخال اسم القديم في أسماء الله سبحانه وتعالى، والذي نقوله: إنه لا يطلق على الله اسماً بمعنى الاسم إلا ما ثبت إطلاقه وتسمية الله -سبحانه وتعالى- به، أما مجرد إخبار بدون تسمية فهذا يجوز، أو قد يتساهل فيه، لأنك تخبر مجرد خبر لا أن تسمي الله -سبحانه وتعالى- اسماً بغير ما أنزل في كتابه ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك ما ذكره المصنف في كلامه الأخير: [ أن أسماء الله حسنى وليست حسنة ]، لأن الحسنى أعظم وأعلى من مجرد أنها أسماء حسنة، فقولنا: إنه متقدم على الحوادث كلها فهو أحق بالتقدم من غيره هذا معنىً حسن، وهذا الذي يريده المتكلمون ولهذا يسمون الله تعالى القديم، لكن الحسنى تأنيث الأحسن، فالأحسن من ذلك "الأول" الذي جاء في القرآن لأنه يدل على أعظم من كون أنه مجرد متقدم على الحوادث، فدلالة اسم "الأول" أعظم بدليل أنه قد يدخل في ذلك معاني كثيرة، ويدخل في ذلك أنه -سبحانه وتعالى- خالقها، فقد نقول: فلان أقدم من فلان، أو قديم بالنسبة لفلان دون أن يكون هو الذي أوجده، لكن في حق الله عز وجل لا يقال هذا، فالأول هو الذي أوجد هذه المخلوقات سبحانه وتعالى، أما كلمة القديم فإنها غاية ما تدل عليه أنه متقدم عليها في الوجود فقط، فلذلك لا نسمي الله -سبحانه وتعالى- إلا بما ثبتت تسميته به أما في الإطلاقات فقد يتساهل في ذلك إذا كان المعنى حقاً، وصحيحاً، لكن لا نعدل عما جاء به القرآن أو السنة، إلا على سبيل الشرح أو الإيضاح هذا هو الأفضل والأوجز.
    ونحن لم نستخدم كلمة "القديم" إلا لأن المتكلمين استخدموها في معنىً على قواعدهم هم لا يؤديه إلا هذه الكلمة، لكن كلمة العتيق ليست كلمة اصطلاحية حتى نقول هذا المصطلح يؤدي نفس المعنى ولاجاءت في الشرع حتى نقول: إنها كلمة، وشرعية هذه الكلمة "القديم" لولا أنها دخلت في اصطلاح المتكلمين لما بحثناها هنا، لكن لأنهم أطلقوها واستعملوها، فنظرنا فإذا المقصود منها معنىً صحيحاً، وهو أنه لم يتقدمه شيء من المخلوقات، قلنا: إذاً هذا هو موضع البحث، وكلام الإمام الطحاوي -رحمه الله- لما قال:[ قديم بلا ابتداء ] هو من هذا الباب إذاً فلا حرج، لأن هذا مجرد إيضاح لأولية الله -سبحانه وتعالى- لكن التسمية لا نسميه إلا بما ثبت في الكتاب والسنة .
  5. معنى قوله: لا يفنى ولا يبيد

     المرفق    
    قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ: [لا يفنى ولا يبيد]
    قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- تعالى:
    [إقرار بدوام بقائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال عز من قائل: ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ))[الرحمن:26، 27] والفناء والبيد متقاربان في المعنى، والجمع بينهما في الذكر للتأكيد، وهو أيضاً مقررٌ ومؤكدٌ لقوله: " دائم بلا انتهاء "] ا.هـ.

    هذه الفقرة الأخرى: [لا يفنى ولا يبيد] واضحة، وهو أن الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ يقول: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يفنى ولا يبيد، وهذا لكمال حياته ولكمال قيوميته، كما قلنا: إن النفي المحض ليس مدحاً في حق الله، لكن إذا نفي شيئاً فهو لكمال الصفة المتعلقة به، أي: لكمال حياته ولكمال قيوميته، ولهذا يستدل المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- تَعَالَى بقوله تعالى: ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ))[الرحمن:26، 27] ويبين أن الفناء والبيد متقاربان في المعنى وهذا لا إشكال فيه.