وقد وقع الانحراف الكبير في واقع حياة الأمة الإسلامية، وأدى إِلَى مصائب عظيمة وإلى حوادث فظيعة منها ما ذكره شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، أنه لما دخل هولاكو بغداد عاصمة الإسلام وهي أكبر مدينة في العالم في ذلك الوقت، وقتل فيها عَلَى أقل تقدير (800) ألف مسلم، وكلهم من أهل السنة، لم يقتل من الرافضة أو من النَّصَارَى أو من الباطنية أحداً، لأن الوزير الذي دلّه وأدخله كَانَ رافضياً.
وبعد أن قتلوا 800 ألف مسلم -بل ذكر بعض المؤرخين أنهم مليونين- خرج هولاكو وكان يمشي في شوارع بغداد، وإذا بشيخ أكبر الطرق الصوفية آخذ بعنان فرس هولاكو ويقوده بعد أن قَتل من قَتل، فرآه فقيه كَانَ متخفياً ولديه شيء من الفقه، ولكن ليس لديه بصيرة كافية يقول: فرأيت الشيخ فخاطبته فقلت: أبأمرٍ هذا؟ قَالَ: نعم بأمر، فسكت، أي: أنه لم يفعل هذا من عند نفسه ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)) [الكهف:82].
أي أن الله أمره أن يقود فرس هذا الكافر الضال المضل -وهم لا يتورعون أن يقولوا إن هذا أمر كشفي خوطبنا به في قلوبنا- وقال: نَحْنُ بهذا العمل نوافق بين قدر الله وحكمة الله، فالْمُسْلِمُونَ عصوا الله فسلط عليهم هَؤُلاءِ الكفار.
فنحن موافقون للقدر وللحكمة من وقوع هذا العذاب، فهذا يسمونه الاستبصار بسر الله في القدر، إذا وقع في قلب أحدٍ فلا يعترض عَلَى أي شيء يقع أبداً بل يرى أن كل هذه الأفعال إما أن تكون من فعل الله -كما أشرنا فيما مضى- فـهولاكو ما هو إلا صورة لفعل الله، والله هو الذي فعل ذلك وأنا عندما أعمل هذا العمل فأنا أُنفذ حكم الله وفعله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو أن تكون من فعل هولاكو ولكنه ما فعله إلا موافقة للقدر، فهو وإن كَانَ خارجاً عن الدين والشرع، لكنه موافق للقدر.
وبذلك عبر شاعرهم عبد الكريم الجيلي :
إذا كنت في حكم الشريعة عاصيـاً            فإني في حكم الحقيقة طائـع

فلا مانع عندهم أن يعبد الله في الكنيسة أو في المسجد أو في إي مكان، فهم يقبلون أي دين -والعياذ بالله-،
ومعنى البيت: إذا كنتُ خرجتُ عن حكم الشريعة، عن الأمر والنهي، فإني لم أخرج عن القدر وهو: شهود الحقيقة الكونية، فإذا شهد العبد -على زعمهم- الحقيقة الكونية فإن كل ما في الكون هو من أفعال الله، فلا ينكر منكراً، ولا يعترض عَلَى أي أمر يقع، لأنه من فعل الله، تعالى الله عما يقولون.
ولهذا يقول المُصنِّف رحمه الله تعالى رداً عليهم:
[قيل: هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر عَلَى خلاف ما هو عليه، فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر، وقَالَ: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته وفي ذلك قيل :
أصبحت منفعلاً لما تختاره            مني ففعلي كله طاعات
وهَؤُلاءِ أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي، لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كَانَ موافقة القدر طاعة، لكان إبليس من أعظم المطيعين له، ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون، كلهم مطيعين! وهذا غاية الجهل] اهـ.

الشرح:
من شدة جهل الصوفية أنه يتردد عَلَى ألسنة بعضهم فيقولون: إن الواحد منهم من شدة استحضاره بأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مدبر كل شيء، وخالق كل شيء..، تصبح أفعاله وأعماله كلها بغير اختياره، والله هو الذي يدبرها ويحركها، فيلغي إرادته بالكلية ويقول: أنا لا إرادة لي في ذلك، وكل ما أعمله فهو من الله، وكله موافق لإرادة الله الكونية ولأقداره التي كتبها، فإن هذا لم يصبح فاعلاً وإنما أصبح منفعلاً لما يختاره الله، فسواءً وافق ذلك حلالاً أو حراماً بحكم الشرع، فأنا منفعل لما يختاره الله.