المادة كاملة    
الملائكة هم رسل الله في خلقه وأمره، وسفراؤه بينه وبين عباده.. أطت السماء بهم، وحق لها أن تئط.. أوكل الله تعالى بهم أعمالاً يقومون بها في تصريف أمر هذا الكون؛ فهم عباد الله المكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.. وقد نزعت بعض طرق الصوفية إلى مشابهة الملائكة في عبادتهم؛ متأثرين بفكرة هندوسية تنتهي إلى القول بالاتحاد، والسنة هي الفطرة المتناسبة مع الجبلة البشرية، فنتشبه بفضائل الملائكة لكن في حدود بشريتنا.
  1. الملائكة .. أعمالهم وفضائلهم

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ورؤساؤهم الأملاك الثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل. الموكلون بالحياة؛ فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم.
    فهم رسل الله في خلقه وأمره، وسفراؤه بينه وبين عباده، ينزلون الأمر من عنده في أقطار العالم، ويصعدون إليه بالأمر، قد أطت السماوات بهم، وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد لله، ويدخل البيت المعمور منهم كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم.
    والقرآن مملوء بذكر الملائكة وأصنافهم و مراتبهم، فتارة يقرن الله تعالى اسمه باسمهم، وصلاته بصلاتهم، ويضيفهم إليه في مواضع التشريف، وتارة يذكر حفهم بالعرش وحملهم له، وبراءتهم من الذنوب، وتارة يصفهم بالإكرام والكرم، والتقريب والعلو، والطهارة والقوة، والإخلاص. قال تعالى: (( كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ))[البقرة:285].. ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ))[آل عمران:18].. ((هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ))[الأحزاب:43].. ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا))[غافر:7].. ((وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ))[الزمر:75].. ((بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ))[الأنبياء:26].. ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ))[الأعراف:206] .. ((فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ))[فصلت:38].. ((كِرَامًا كَاتِبِينَ))[الانفطار:11].. ((كِرَامٍ بَرَرَةٍ))[عبس:16].. ((يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ))[المطففين:21].. ((لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى))[الصافات:8]، وكذلك الأحاديث النبوية طافحة بذكرهم؛ فلهذا كان الإيمان بالملائكة أحد الأصول الخمسة التي هي أركان الإيمان]
    اهـ.
    1. رؤساء الملائكة الثلاثة الموكلون بالحياة

      الشرح:
      جبريل عليه السلام موكل بأعظم أنواع الحياة، أعني: حياة القلوب، وهي إنزال الوحي الذي به تحيا القلوب بعد الكفر، وتلين بعد القسوة والغلظة وتحيا -بإذن الله- بهذا النور المبين وبهذا الروح كما سماه الله تبارك وتعالى، فقال: ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا))[الشورى:52] فهو روح وحياة، وهو شفاء وهدى، وهو نور وموعظة ... إلى آخر ما ذكر الله سبحانه وتعالى في وصف هذا الذكر العظيم، وجبريل عليه السلام يتنزل به، وهو الذي جعله الله تبارك وتعالى سفيراً بينه وبين خلقه ينزل بمادة الحياة العظمى -الوحي- لحياة قلوبهم.
      وأما ميكائيل فهو موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، فما يحتاجه الناس في حياتهم المادية، وكّل الله تبارك وتعالى به ملكاً عظيماً ثانياً هو ميكائيل، الذي ورد أيضاً ذكره في كتاب الله عز وجل مقروناً بجبريل عليهما السلام.
      وأما إسرافيل: فهو الملك العظيم الثالث الذي جعله الله سبحانه وتعالى موكلاً بذلك الحدث العظيم الذي ليس قبله ولا بعده أعظم منه، وهو: النفخ في الصور، وينفخ نفختين -وقيل ثلاثاً- والمقصود من كلام الشارح نفخة الحياة التي بعد الموت، التي يقوم الناس بعدها قياماً ينظرون، قال تعالى: ((ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ))[الزمر:68].
      الشاهد الذي أراده المصنف رحمه الله: أن أعظم أنواع الحياة وأهمها، قد وكّل الله تعالى بها أعظم الملائكة الكرام.
    2. كثرة الملائكة وعبادتهم

      ثم ذكر رحمه الله أنهم رسل الله في خلقه وأمره، وسفراؤه بينه وبين خلقه، ينزلون بالأمر من عنده في أقطار العالم، وكذلك يصعدون إليه بالأمر.
      أما عن كثرة عددهم فذكر رحمه الله حديث: {أطت السماوات، وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع...}، وفي رواية ابن كثير عن ابن عساكر في تفسير سورة الصافات عند قوله: ((وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ))[الصافات:165] قال: {ما فيها موضع قدم، إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد لله تعالى}، وهذا دليل على كثرة الملائكة، وعظمة الخالق استغنائه سبحانه وتعالى بعبادتهم عن عبادة المخلوقين، فالله سبحانه وتعالى في غنى عن عبادة الثقلين بعبادة هؤلاء .. بل بعبادة كل شيء كما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه: ((تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا))[الإسراء:44].
      والبيت المعمور في السماء الموازي للبيت المعمور في الأرض -وهو الكعبة- يطوف به من الملائكة كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه أبداً، فهم أكثر من الناس عدداً واجتهاداً فلا يسأمون ولا يفترون عن عبادة الله سبحانه وتعالى.
      يقول: "والقرآن مملوء بذكر الملائكة وأوصافهم ومراتبهم" وهذا ما دلل عليه بآيات كثيرة من أن الله سبحانه وتعالى أكثر من ذكر هؤلاء العباد الصالحين لحكم عظيمة.
  2. من فضائل الملائكة

     المرفق    
    يقول رحمه الله: "فتارة يقرن الله تعالى اسمه باسمهم، وصلاته بصلاتهم، ويضيفهم إليه في مواضع التشريف، وتارة يذكر حفهم بالعرش وحملهم له، وبراءتهم من الذنوب، وتارة يصفهم بالإكرام والكرم، والتقريب والعلو، والطهارة والقوة، والإخلاص" ثم أخذ يذكر الآيات التي تدل على هذه الأوصاف.
    أولاً: قوله تعالى في سورة البقرة: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ))[البقرة:285] في هذه الآية قرن الله سبحانه وتعالى بين الإيمان به وبين الإيمان بملائكته، ثم ذكر الكتب، ثم الرسل، وحكمة هذا الترتيب، هي: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتكلم بالوحي، وهذا الهدى والنور يأخذه الملك لينزل به، فالملائكة هم أول الخلق أخذاً بهذا الخير والنور الذي ينزلون به إلى الناس، وأعظم ما فيه هو الكتب؛ فكانت الكتب هي الركن الثالث من أركان الإيمان، ثم الرابع الرسل؛ لأن الرسول ينقل ما بلغه من الكتب عن طريق الملك إلى الناس؛ فمن هنا كان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.
    ثانياً: سورة آل عمران يقول الله فيها: ((شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ))[آل عمران:18] فهذه أعظم وأكبر قضية في هذا الوجود، وهي قضية ألوهية الله سبحانه وتعالى، استشهد الله سبحانه وتعالى فيها بأعظم شاهد، وهو ذاته المقدسة سبحانه وتعالى: (شَهِدَ اللَّهُ)، فهو أول وأعظم شاهد: ((أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))[فصلت:53] .. ((قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً))[الأنعام:19]، وقرن معه في ذلك أفضل الخلق وهم صنفان: الملائكة وأولو العلم من بني آدم، ويدخل فيهم النبيون، ثم الصديقون، ثم العلماء بالحق والنور الذي جاء من عند الله سبحانه وتعالى، ولو كان هناك من هو خير من هؤلاء لاستشهد في هذه القضية، لكن جاءت الآية بالنص على شهادة الملائكة لما فيهم من هذه الأوصاف العظيمة، وأولي العلم لأنهم خيرة الناس، وكلما كان الشاهد أكثر علماً بالقضية المشهود عليها كلما كانت شهادته أوثق وأقوى، ومن هنا كان استشهاد الله سبحانه وتعالى على ألوهيته ووحدانيته بأولي العلم، لا بأولي السلطان، ولا بأرباب الأموال، ولا بأصحاب الجاه والمنصب، وإنما بالعلماء العالمين بحقائق هذا الدين، وبهم تقوم الحجة على العالمين، كما سماهم الإمام ابن القيم رحمه الله: الموقعون عن رب العالمين؛ لأنهم هم الذين يقولون: هذا حلال، أو: هذا حرام، والناس تأخذ عنهم الحكم كأنه جاء -مباشرة- من عند الله، لأنه قد أخذه العلماء من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم مبلغون وموقعون عن الله سبحانه وتعالى.
    فهذا دليل على فضل الملائكة، وهو كذلك دليل على فضل أولي العلم.
    ثالثاً: قال: "وصلاته بصلاتهم" ثم ذكر لذلك قول الله سبحانه وتعالى: ((هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ))[الأحزاب:43] فقرن صلاة الملائكة الكرام بصلاته عز وجل، ويفهم من ذلك تشريف هؤلاء الخلق الكرام الذين هم عنده في الملأ الأعلى، وأن الله قرن صلاته على الصالحين من بني آدم بصلاة أولئك.
    رابعاً: قال في حملة العرش: "وتارةً يذكر حفهم بالعرش وحملهم له" ثم ذكر قول الله تعالى: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا))[غافر:7] وهؤلاء من أعظم أصناف الملائكة لقربهم من الرحمن سبحانه وتعالى، وللشرف العظيم الذي ينالهم بهذا القرب وبهذا العمل، وهو حمل العرش، وهو ذاك المخلوق العظيم الذي هو أعظم مخلوقات الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء الملائكة من أعظم المخلوقات خلقة، ومن أشرفهم وأقربهم منزلة من الله سبحانه وتعالى، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم ومن حول العرش يسبحون بحمد ربهم وينزهونه بخلاف بني آدم الذين يسيئون إليه بالليل والنهار.
    وفضل التسبيح عظيم، ويكفي فيه أن من قال: (سبحان الله وبحمده) في يومه مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر، وإن قال: (سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) فقد استكمل الخير وأتى بخير كلام بعد القرآن.
    الشاهد: أن التسبيح من أعظم أنواع الذكر، بل هو أشرفها، بدليل أن الملائكة تقوله، وليس أشرف من مجرد التسبيح إلا قراءة القرآن، وقد يكون المفضول أحياناً خيراً من الفاضل بحسب الأحوال، كما في الركوع أو السجود؛ فإن الإنسان لا يقرأ فيهما القرآن، وإنما يسبح الله أو يدعوه.
    فالملائكة اختصهم الله سبحانه وتعالى بأشرف أنواع الذكر وهو التسبيح: قال: ((وَيُؤْمِنُونَ بِهِ))[غافر:7] وفي هذا دليل على أهمية الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ولا شك أن المؤمنين يؤمنون بالله وكذلك الملائكة.
    ثم قال: ((وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا))[غافر:7] ويكفي المؤمن شعوراً وإحساساً بالطمأنينة أنه محبوب في الملأ الأعلى والأدنى، وأن ملائكة الله تستغفر له وهي لا تقارف الذنوب ولا ترتكب المعاصي؛ فعندما يصعد الملائكة المتعاقبون إلى الله سبحانه وتعالى بأعمال وخطايا وذنوب من العالم السفلي؛ وهنالك يأتي أولئك الأطهار الأخيار الأبرار المقربون ويستغفرون للذين آمنوا، ويشعرون بهذه الرابطة بينهم وبين المؤمنين، ومن هنا فإن هذا يدفع المؤمنين إلى أن لا يعصوا الله عز وجل؛ لأن المؤمن إذا ذكر الله في ملأ ذكره الله في ملأ خير منه، فإذا كانت ملائكة الله تستغفر لك، فلا تتماد في المعاصي، بل حاول واجتهد أن لا تعصي الله؛ لكي تنال الأجر العظيم والمحبة والقرب من الله سبحانه وتعالى، وهذا مـما يـدل على رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده المؤمنين: أن جعل أقرب الملائكة إليه يستغفرون لهم.
    وخامساً: قال في سورة الزمر: ((وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ))[الزمر:75] وهذا بعد انفضاض المحشر وانقضاء الحساب.
    سادساً: قال في سورة الأنبياء: ((بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ))[الأنبياء:26] وهذا من أوصافهم التي جاءت في القرآن بأنهم مكرمون، وهذا الوصف لهم دليل على شرف منزلتهم وعلوها.
    سابعاً: قال في سورة الأعراف: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ))[الأعراف:206] ذكر لهم ثلاثة أوصاف في هذه الآية، وكلها فيها دلالة على استدامة العبادة والطاعة، فقال: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ))[الأعراف:206] وهذا من أدلة العلو كما تقدم، والمراد: أي: في الملأ الأعلى عند الله سبحانه وتعالى، (( لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ))[الأعراف:206] وفي ذلك تعريض باستكبار كثير من بني آدم عن عبادة الله تعالى مع أنهم مخلوقون من تراب ويعيشون عليه وفي هذا العالم السفلي الممتلئ بالآلام!! وما عرفوا قدر أنفسهم، بل كثير منهم يستكبر عن عبادة الله، وفي المقابل أولئك الذين عند الله في الملأ الأعلى الطاهر المطهر لا يستكبرون عن عبادته: (( لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ)[النساء:172] فلا يمكن لخلق من خلق الله الذين عرفوه -وأعظمهم الملائكة والأنبياء- أن يستنكفوا أو يستكبروا عن عبادته الله سبحانه وتعالى، وإنما ذلك شأن الذين أطغتهم الشياطين والآمال، أو ألهتهم الدنيا بمتاعها وغرورها وزخرفها، وانصاعوا وراء الشهوات وساروا خلف الشيطان؛ فاستكبروا عن عبادة الله، وهو غني عنهم وعن عبادتهم (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ))[فاطر:15-17].
    وقوله: ((وَلَهُ يَسْجُدُونَ))[الأعراف:206] أي: فلا يسجدون لغيره، وقدم الجار والمجرور على ما هو متعلق به للاختصاص، كما في قوله تعالى: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة:5] لبيان أن عبادتهم خالصة ممحضة لله سبحانه وتعالى. فهم لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله وحده لا شريك له يسجدون، وإليه يتقربون، كما في قوله تعالى في سورة الإسراء: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)[الإسراء:57] فسرها بعض الصحابة كـابن مسعود رضي الله عنه وغيره: أن الذين يدعوهم المشركون ويعبدونهم من دون الله كالملائكة وعيسى وعزير أو غير ذلك.. هؤلاء الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب من الله سبحانه وتعالى حريصون على القرب منه تعالى أكثر فأكثر.
    ومن هنا نعرف معنى الوسيلة الشرعية؛ لأن عباد القبور والأولياء من الروافض والصوفية وأمثالهم يجعلون الوسيلة هي الوسائط، والشفعاء: هم الأئمة أو الأولياء، أي: أن البشر المعبودين من دون الله سبحانه وتعالى هم الوسيلة، لكن يذكر الله سبحانه وتعالى هنا أن هؤلاء المقربين المدعوين المعبودين من الملائكة والرسل يتخذون إلى الله الوسيلة، وهي ما يتوسل به، أي: يتوصل به، وتقارب اللفظ واتحاد المخرج للسين والصاد يدل على تقارب المعنى، بل إن حروف الصفير تتناوب في كثير من الكلمات العربية.
    ((يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ))[الإسراء:57] فكلهم يرجو القرب من الله سبحانه وتعالى وهؤلاء أعلى الخلق درجة، وإلا فمن بعد الرسل والملائكة؟! وهذه هي الوسيلة التي في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ)[المائدة:35] فالوسيلة هي ما يتوسل ويتقرب به من الذكر، والتسبيح، والعبادة، والعمل الصالح، وأعظم الأعمال الصالحة وأساسها: توحيد الله سبحانه وتعالى؛ لذا كان الكفار أبعد الناس عن الوسيلة والقرب من الله سبحانه وتعالى، وأقرب الناس إليه سبحانه وتعالى هم أخلصهم توحيداً و أكثرهم يقيناً به سبحانه وتعالى.
    ثامناً: ذكر في سورة فصلت: ((فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ))[فصلت:38] تسبيحاً متواصلاً لا سآمة فيه ولا ملل، وأما نحن في هذه الحياة الدنيا فنفتر ونسأم، ونصاب بالملل، ولكن إذا صرنا إلى الجنة فإنا نلهم التسبيح كما نلهم النفس، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة.
  3. معنى الروح الملائكية والفناء عند الصوفية

     المرفق    
    الصوفية ضلت ضلالاً بعيداً حينما كانت تحارب النفس وطبيعتها التي جبلها الله عليها، ونقل عن بعض أكابرهم أنه كان يقول: "ما بالنا نفتر؟!" يتعجب لماذا نفتر عن التسبيح؟! ولماذا نسأم من العبادة ؟!
    فنقول: إن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو العبد الشكور، وصاحب المقام المحمود، يخالف ما تدعون؛ إذ ليس من هديه صلى الله عليه وسلم أن تجاهد هذه النفس -كما يزعمون- لتتمحص إلى نفس أو روح ملائكية، فهذا محال، وهو من مخالفة طبيعة الأشياء، ولا شك أنه وجد من العباد والزهاد من كان هدفه وهمه أن يصفي نفسه لتصبح مطيعة طاعة مطلقة، تسبح فلا تفتر ولا تمل من الصلاة والذكر، والقراءة والتسبيح. لكن هذا في الحقيقة مخالف للطبيعة الإنسانية، ولهدي الرسول صلى الله عليه وسلم كما في خبر الثلاثة وإنكاره صلى الله عليه وسلم عليهم، حتى قال: {أما أنا فأصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني}، هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولو أن أحداً قام الليل كله، أو أجهد نفسه على قيام الليل كله، فلربما نام عن صلاة الفجر، وهذه منقصة بلا شك، أو نام بعد الصلاة، فيقال له: أين التسبيح، وهذا وقت يمكن أن تسبح الله فيه؟ إنك خلقت لعبادة غير تلك التي خلق لها الملائكة.
    1. أصل فكرة العبادة بلا سأم

      إن أصل هذه الفكرة، أعني فكرة العبادة بلا سأم وبلا ملل وبلا فتور، مأخوذ من الهندوسية الذين لا يؤمنون بجنة ولا نار، بل عندهم مبدأ تناسخ الأرواح، وذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق البشر وأعطاهم هذه الأرواح، فمن جاهد نفسه وأخذها بأنواع الرياضات والمجاهدات، وأضاف إلى ذلك من العذاب والآلام التي يعذب بها نفسه، يقولون حتى يصفيها، فإذا صفاها تماماً من الشهوات والشبهات والخطايا وما يتعلق بها ثم مات، فإنه يصل إلى النعيم، والنعيم هو الاتحاد ببراهما، وهو عندهم الإله الأساس الذي انبثقت منه الأرواح، فكلما صفا الجوهر اتحد بالإله الذي هو براهما، وهذا هو الذي سمته الصوفية : الفناء أو المحو، وبعض الاتحادية منهم صرح به وسماه الاتحاد، وهؤلاء خرجوا عن الإسلام وارتدوا عنه بالكلية، لكن الذين لم يصرحوا بالاتحاد منهم يقولون: هذا فناء، أي: يفني بذاته في معبوده، وهذه حالة عليا يجب أن يصل إليها الإنسان حتى يصبح ناطقاً بلسان الحق كما يقولون تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فإذا تكلم ليس هو المتكلم وإنما هو الله، وقال قائلهم في ذلك:
      أصبحت منفعلاً لما تختاره            مني ففعلي كله طاعات
      أي: جاهد نفسه وصفاها ومحصها حتى أصبحت كل أعماله انفعالاً لقدرة الله، ولفعل الله، وقوله: ففعلي كله طاعات، أي: ليس له إرادة؛ فإن عصى وترك الصلاة، وترك الجمعة والجماعة، وفعل ما فعل؛ فإن هذا لا مؤاخذة عليه فيه؛ لأنه شهد الحقيقة الكونية -كما يزعمون- وأصبحت أفعاله كلها طاعات.
      فأصل هذا الكفر الصراح، وهذه الفكرة الخبيثة منقولة عن أولئك الهندوس، ومن ذلك نشأ ما يسمى عندهم بالشطحات، وهو الكلام الكفري الذي يقولونه في حال السكر أو حال الفناء أو المحو.
    2. الوسطية المطلوبة من البشر في العبادة

      خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وأراد منه عبادة غير تلك التي يظن أولئك الصوفية، قال تعالى: (( هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)[هود:61] وقال: ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً))[البقرة:30] فلابد أن يعلم الإنسان لماذا أوجده الله في هذه الأرض؟ وما هي الحكمة من خلقه ووجوده على هذه الأرض؟ فإنه لم يخلق فيها ليكون مَلَكَاً، ولم تركب طبيعته على أن يسبح ويعبد ولا يفتر أبداً، وإنما ليعبد الله سبحانه وتعالى كما شرع له: (( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ)[فاطر:24] فلم تأت أمة إلا ويبعث الله فيها رسولاً أو لديها بقية من آثار الأنبياء، فعلى هذه الآثار وعلى هذا الوحي تهتدي وتسير. ونحن بشر نعبد الله ونأكل مما أحل لنا من الطيبات، ولو حرمنا شيئاً مما أحل الله لنا لوقعنا في الشرك؛ كما في حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم : {إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين؛ وحرمت عليهم ما أحللت لهم}.
      فعندما آكل ما أحل الله لي معتقداً حله، وأجتنب ما حرم الله علي معتقداً حرمته، فأنا مطيع وعابد لله سبحانه وتعالى.
      وعندما يتزوج الإنسان ويقضي وطره وشهوته، ويريد بذلك الأجر والتقرب من الله فهو يعبد الله سبحانه وتعالى.
      فهذه أنواع من العبادة لا يمكن أن يظفر بها إلا من عرف هذا الدين، واتبع الحنيفية السمحة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، أما الهندوس ورهبان النصارى السابقين وإلى اليوم، فإنهم ما زالوا يعذبون أنفسهم، فحرموا عليها الزواج وغيره من الطيبات من أجل هذا الزعم الكاذب: لكي يصبحوا كالملائكة، وهذا محال ولا يمكن أن يكون؛ لأنه مخالف لشرع الله ودينه، كما أنه مخالف لما جبل الله عليه النفوس وخلقها، فعبادتنا غير عبادة الملائكة، وعبادة الملائكة غير عبادتنا، فالملائكة لم تركب فيها الشهوات؛ ولذا لم تكن موضع ابتلاء، أما نحن فقال في حقنا: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا))[الملك:2] وقال: (( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[الإنسان:3] فنحن موضع ابتلاء أما الملائكة الكرام؛ فإنهم مكرمون مصطفَون مطهرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يسأمون، ومن المحال أن يصبحوا مثلنا أو أن نصبح نحن مثلهم فكل له عبادته، وكل قد اختصه الله بأمر غير الآخر.
      ولهذا نقول: إن أعظم عبادة لله سبحانه وتعالى -أي: تحقيق العبادة بأعلى درجاتها- في اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم. هذه هي الطريق الوحيدة طريق محمد صلى الله عليه وسلم: {فمن رغب عن سنتي فليس مني}، وكل الطرق سواها لا توصل إلى الله سبحانه وتعالى، فمن رغب عن منهجه صلى الله عليه وسلم في أي أمر من أموره فليس من هذا الأمر في شيء، بل هو على شفا جرف هار.
  4. من فضائل الملائكة وعلو قدرهم

     المرفق    
    قال تعالى في الملائكة: ((كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)[المطففين:18-21]، الشاهد من ذكر الآية هنا: أنهم مقربون.
    ثم قال الله: (( لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ)[الصافات:8-9]. قوله: لا يَسَّمَّعُونَ يعني الشياطين.
    والملأ الأعلى هم الملائكة، بدليل أنهم الذين يُسْتَرَقُ منهم ما يقضيه الله تعالى: لأن الله سبحانه وتعالى إذا تكلم بالأمر أو الوحي يخر كل من في السماوات ويصعق، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيتلقى الأمر من الله سبحانه وتعالى، وكلما مر على ملأ من الملائكة: (( قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)[سبأ:23] حتى تتناقل الملائكة ما أمر به سبحانه وتعالى ويسلمون أنه حق حتى يصل إلى ملائكة السماء الدنيا أو الملائكة الطوافين الذين بين السماء والأرض. فتصعد هذه الملائكة، وتصعد الشياطين وراءها لتسترق منها السمع.
    فتسمع من الملأ الأعلى ما قضى الله تعالى به من موت أو حياة أو غيره، فيأتي هذا الشيطان فينزل به إلى وليه من الإنس كما قال تعالى عنهم: (( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا)[الأنعام:128] إذ الإنسي يسجد للشيطان ويذبح له في الأرض، وذاك يأتيه بالأخبار التي يسترقها من الملأ الأعلى الذين هم الملائكة.
    وكان ذلك قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حكمة الله أن الكهانة كانت منتشرة في ذلك الوقت، وكان هؤلاء الكهان لهم أولياء من الجن يستمعون إلى الملأ الأعلى؛ فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وجد هؤلاء الشياطين أنهم إذا أرادوا أن يستمعوا إلى الملأ الأعلى تقذفهم الشهب، ولذلك قالوا: ((وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا))[الجن:10]، ولهذا أخذوا يطوفون الأرض، إن شيئاً ما حدث فيها، بدليل أن الكواكب تقذف من كل جهة من يسترق السمع، ولم يعودوا يستطيعون السمع؛ فلما سمعوا القرآن وأنصتوا له علموا أن هذا هو الجديد: (( فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا)[الجن:1].
  5. افتراءات المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم والرد عليها

     المرفق    
    وقد تأثر بعض الجن من مرة واحدة سمعوا فيها القرآن، ولم يتأثر الإنس وهم يسمعونه مرات كثيرة جداً، فعلموا حينئذٍ أنه قد حيل بينهم وبينه؛ ((فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا))[الجن:9] وهنا الشاهد، وهو أن الشياطين لم يستطيعوا أن يسترقوا السمع حتى لا تقول قريش: هذا من وحي الشياطين، ومع ذلك فقد قالوا: إنه من وحي الشياطين، وأنه مثل سجع الكهان، فكذبهم الله سبحانه وتعالى قائلاً: ((وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)[الشعراء:210-212] (ما تنزلت) في نفي القضية، (وما ينبغي لهم) أي: فالاستماع ليس من طبعهم ولا من شأنهم، وهذا معنى: (وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ)، قال: (وَمَا يَسْتَطِيعُونَ) أي: إن حاولوا (إنهم عن السمع لمعزولون).
    والشبهة الثانية قالوا: إنه ساحر. والساحر والكاهن شيء واحد، لكن قالوا ثالثاً: إنه مجنون. وقولهم هذا لا يحتاج إلى أن يناقش أصلاً: ((مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ))[القلم:2] لأنه لا يمكن أن يصدق، ولذلك ففرية مجنون تستبعد من النقاش.
    الشبهة الرابعة: قالوا: إنما يعلمه بشر، فإما أن يكون قول كاهن، وإما أن يكون هو شاعر أتى به من عنده، وإما أن يكون بشراً آخر يعلمه، والاحتمال الصحيح والخامس هو ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم وهو: أن هذا من عند الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يعلم الغيب، وأنه لم يفتعله من عند نفسه، ولا كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه، ولكنهم لا يصدقون، بل يعرضون، وقد رد الله سبحانه وتعالى على هذه الشبهات وعلى هذه الأباطيل كلها.
    فأما الرد على الفرية الأولى: فإن الشياطين أنفسهم قالوا: نحن عُزلنا عن الملأ الأعلى ولم نعد نستطيع السمع، ولكن بقي لهم شيء واحد للفتنة والابتلاء وهو: أن يسمع كلمة فيلقيها إلى الإنسي قبل أن يدركه الشهاب؛ فتنة من الله، فيأتيهم وليهم من الإنس فيخلط معها مائة كذبة ويبثها، فيتذاكر الناس هذه الصحيحة وينسون كذباته التسع والتسعين، وبها -أي: الصحيحة- يستمرون في إضلال بني آدم ويفتتن بهم الناس.
    الفرية الثانية: أنه شاعر. ولهذا قال الله في نفس الموضـع في آخر سورة الشعراء: ((وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ)[الشعراء:224-226] وليست صفات النبي صلى الله عليه وسلم بصفات الشعراء كما قال الله: (( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ)[يس:69] أي: ليس من شأنه ولا من طبعه أبداً أن يكون شاعراً صلى الله عليه وسلم، وكل العرب يعرفون أن الشعراء دائماً يفخرون بما لا يفعلون، وأن أجبن الناس أصحاب القصائد الطويلة في الفخر بالشجاعة، ومن أبخل الناس أصحاب المعلقات الطويلة في الكرم، ولكن الرسل وإمامهم محمد صلوات الله وسلامه عليه لا يقول ما لا يفعل؛ بل يصدق قوله فعله، وفعله قوله.
    الفرية الثالثة: أنه إنما يعلمه بشر. وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: ((لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ))[النحل:103] وجاء بعض المستشرقين افترى زوراً وكذباً، وزعم -قاتله الله- أنه اكتشف هذا الاكتشاف الفريد في القرن التاسع عشر، وقال: الآن عرفنا مصدر القرآن؛ فقد وجدنا في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بـبحيرى وقال: لا ينام هنا إلا نبي، إذاً: هو الذي علمه. سبحان الله! إن كان بحيرى الراهب يقدر أن يأتي بالقرآن، فلماذا لا يكون الصحابة صحابته، والرسالة رسالته، ولا يكون الملك ملكه يهدم عرش كسرى وقيصر؟ وكيف يعطيها الأعرابي الذي رآه مرة واحدة ولا يدعيها لنفسه؟
    ثم إن بحيرى كان يقرأ في الأناجيل، وفي هذا الكتاب الرد على الأناجيل والتكذيب لما فيها، فهذا العلم، وهذا الإيمان، وهذه الأخبار العظيمة، لا يمكن لأي عاقل أن يصدق أنها من عند بشر، ولهذا رد الله عليهم بأسهل ما يمكن من الردود: ((لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ))[النحل:103] فهذا الذي يلحدون إليه وينسبون إليه أنه علم النبي صلى الله عليه وسلم أعجمي، بينما هذا القرآن ((لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ))[النحل:103]) عجز الفصحاء والبلغاء أن يأتوا بآية واحدة من مثله، وفي هذا دليل على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم.
    والشاهد: أن الشياطين لا يسمعون إلى الملأ الأعلى وأن الملأ الأعلى هم الملائكة الذين عند الله سبحانه وتعالى، كما قال: ((مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ))[ص:69] وكانوا يختصمون كما في حديث معاذ في الكفارات والقربات، والملأ الأعلى هم هؤلاء الملائكة الذين شرفهم الله سبحانه وتعالى بهذه العبودية له، فإذاً: يكون كما قال رحمه الله أيضاً: "وكذلك الأحاديث النبوية طافحة بذكرهم"، ذكرها الإمام البخاري رحمه الله في كتاب بدء الخلق، وذكرها غيره.
    ونجد ذكر الملائكة في القرآن في آيات الحشر، والبعث، والجنة، والنار، والتأييد والنصرة وغير ذلك، وفي مواضع كثيرة من الكتاب والسنة.
    يقول: "فلهذا كان الإيمان بالملائكة أحد الأصول الخمسة التي هي أركان الإيمان" أي: لما تقدم من أوصافهم وأصنافهم، ومراتبهم وبراءتهم، وقربهم وإكرامهم، وتسبيحهم وعبادتهم، ومخالطتهم، وعلاقتهم ببني آدم.. لهذا كله كان الإيمان بالملائكة أحد أركان أو أصول الإيمان الستة التي يجب الإيمان بها، ومن كذب بالملائكة فقد كفر وكذب بالدين كله، ولا يقبل له إيمان.