وبعد ذلك أثار إشكالاً آخر أدق من ذلك وأغمض، لكن يمكن أن نوجزه رغم أن المُصنِّف أطال فيه. وهذا سؤال يرد عند بعض النَّاس فيقولون: إذا كانت هذه الأسباب يعني: "إبليس، الكفر، الشر"، مرادة لما تفضي إليه من الحكم كما سبق، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه؟، أي هل نقول: إن الله يرضى وجود إبليس ووجود الكفر، ويرضى وجود التبرج، لما ينشأ منه من فوائد وحكم وإن كَانَ مسخوطاً من حيث ذاته أو من حيث كونه معصية من أوجه أخرى؟ أو نقول: إنها مسخوطة من جميع الوجوه بإطلاق؟
السؤال يرد عَلَى وجهين [أحدهما: من جهة الرب تَعَالَى، وهل يكون محباً لها من جهة إفضائها إِلَى محبوبه، وإن كَانَ يبغضها لذاتها؟ والثاني: من جهة العبد، وهو أنه هل يسوغ له الرضى بها من تلك الجهة أيضاً؟ فهذا سؤال له شأن] هذه القضية لها جهتان: من جهة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: هل يكون محباً لهذه المعصية؛ لأنها تفضي إِلَى طاعات وإلى عبوديات له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويبغضها لذاتها، ويكرهها ويعذب من فعلها ويمقته ويمقتها؟ هذا من جهة الرب.
ومن جهة العبد: هل يسوغ للعبد أن يرضى بها من تلك الجهة؟
لا يوجد مسلم يرضى بالمنكر، لأنه ليس وراء الإنكار بالقلب من الإيمان مثقال ذرة، وقد لا يستطيع الإِنسَان أن يغير باليد أو باللسان، لكنه لا بد أن يكرهه بقلبه، فلا يوجد مؤمن يرضى المنكر بقلبه، فإذا جَاءَ أحد وقَالَ: أنا مؤمن وأكره هذه المنكرات، لكن من جهة أنها صدرت من الله، وأن لله تَعَالَى حكمة في صدورها، فأنا أرضى عنها من هذه الجهة، لا من جهة أني أقرها ولا أكرهها، لكن هناك فرق عن كونها ذنباً إِلَى كونها مصيبة، فأكل الربا أو شرب الخمر أو الزنا أو التبرج، إذا نظرت إليها من جهة أنها ذنوب فموقفك منها الإنكار المطلق، لكن إذا نظرت إليها من جهة أنها مصائب، فأنا من هذه الجهة راضي بالقدر، لكن لا يرضى من جهة المعصية، فالجهة منفكة، والمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ لم يأت بجواب حاسم في المسألة، ولهذا وضحناها وقلنا: إنه يمكن أن تُرضى من جهة كونها مصيبة لا من جهة كونها معصية، فالجهتان تختلف.
نعم المعصية هي في نفس الوقت مصيبة، لكن كونها معصية لا ترضى، والمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا رد الأمر إِلَى أصل آخر ليبين لنا كيف نفهم هذه القضية وأمثالها، يقول: [فاعلم أن الشر كله يرجع إِلَى العدم] الشر كله مرجعه إِلَى عدم الخير، وعدم الأسباب المفضية المؤدية إليه، فهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه، ووضح ذلك، بأن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة، والنفوس الشريرة، أتاها الشر بقطع مادة الخير عنها، فإنها في الأصل خلقت متحركة، فأصل وجود إبليس كمخلوق من خلق الله، ويتحرك.
فهذا الأصل في ذاته خير، مجرد أنه موجود وله قدرة عَلَى أن يتحرك وأنه يخاطب وأن يتكلم، لكن الشر جَاءَ من أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خذله وقطع عنه مادة الخير فأصبحت حركته في الشر، فليس الشر ناتجاً من وجوده ومن حركته، وإنما من عدم إمداده بالخير، وبانقطاع مادة الخير عنه، يقول: لأنها خلقت في الأصل متحركة، فإبليس أو الثعابين أو العقارب أو أي شيء من النفوس التي هي نفوس شر، خلقت في الأصل متحركة، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تركت تحركت بطبعها إِلَى خلافه، وحركتها من حيث هي حركة لا توصف بالخير ولا بالشر، لكن من جهة أن الله أوجدها خير، وإنما تكون شراً بالإضافة؛ لا أن الحركة نفسها شر، فكونها حركة ظلم أو حركة عدوان أو حركة بغي أو حركة بطش.
إذاً هي شر بالإضافة، لا أنها مجرد حركة أو مجرد وجود، والشر كله ظلم، والظلم يعني: وضع الشيء في غير محله، إذاً: فالشر كله ظلم، إذاً عرفنا أن الشيء في ذاته يختلف عن الشيء في الإضافة، فالشيء في ذاته ووجوده في ذاته لا يكون شراً ولا خيراً، وهو بالنسبة إِلَى إيجاد الله له خير، لكن بالنسبة إِلَى إضافته إذا وضع في غير موضعه أصبح شراً، يقول: [فجهة الشر فيه إذاً نسبية إضافية]، وضرب لذلك مثلاً بالعقوبات، مثل قطع يد هل هو خير أو شر؟ ننظر إِلَى السبب، فإذا قطعت يده من أجل أنه أراد أن يمدها إِلَى خير -إِلَى أمر بمعروف أو نهي عن منكر- فقطعت يده فهذا يكون شراً، وإن سرق مالاً من حرز معصوم فقطعت يده فهذا خير، فجاء الخير من أن الحركة وفقت، وكانت فيما يرضي الله، وجاء الشر من انقطاع مادة الخير، فهو إضافي وليس لذات الفعل المجرد.