يقول: [ومنها ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة] إذاً: بالإضافة إِلَى هذه الأسماء المتقابلة من كونه منتقماً وشديد العقاب، وسريع الحساب، وكونه رحيماً وغفوراً وستيراً، أيضاً هنالك أسماء أخرى تظهر آثارها بوجود الخير والشر في هذا الكون، فمن ذلك: آثار أسماء الحكمة والخبرة، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سمى نفسه في القُرْآن الحكيم بالخبير، يقول: [فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته].
فكونه حكيماً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وخبيراً فهو يخلق ما يشاء كيف يشاء، متى شاء، ويضعه إن كَانَ تصرفاً أو أمراً في موضعه اللائق به
، إذاً فكيف تظهر آثار هذه الأسماء إلا مع وجود المتضادات من خير وشر، وطاعة ومعصية، وأولياء له وأعداء، فلو كَانَ الكون كله عَلَى حال واحد لم تتفاوت الأحوال، ولم تظهر حكمة في أن يوضع هذا الشيء في هذا الموضع، فإذاً لو أن النَّاس كلهم عَلَى حال واحدة فلم يكلفوا لم يفهم من ذلك حكمة، ولا يكون لذلك حكمة، لكن عندما يكون في النَّاس الطائع وفيهم العاصي، فيأتي العذاب عَلَى من عصى وكفر، وينجوا من أطاع الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فيظهر هنالك أثر -فعلاً- أنه حكيم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حيث أصاب هَؤُلاءِ ونجى هَؤُلاءِ وهكذا
.
يقول: [فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره عَلَى انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك].
إن أشرف ما امتنَّ الله تَعَالَى به عَلَى عباده في هذا الوجود هو الرسالة، وأشرف خلق الله عَزَّ وَجَلَّ وأفضلهم وأعلاهم قدراً ومنزلةً هم الرسل، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فله الحكمة سبحانه وتَعَالَى، فهو الحكيم الخبير وهو الذي يضع هذه الرسالة في فلان، ولا يضعها في فلان، وإلا لو كَانَ الأمر موكولاً إِلَى أهواء البشر لقال الكفار كما قالوا: ((وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآن آنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)) [الزخرف:31] لماذا لم يكن فلان؟ ولماذا لم يكن فلان؟ وما قيمة فلان هذا؟ قالوا: لأنه صاحب مال وصاحب جاه ومنصب، مطاع في قومه إِلَى آخر ما يرونه من صفات.
والله تَعَالَى يقول: ((اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)) [الأنعام:124]، ليس هنالك أحد أعلم من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) [الزخرف:32] .
أما المعيشة الدنيوية فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قسمها بينهم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، لكن ((وَرَحْمَةٌ رَبِكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)) [الزخرف:32] فالرسالة أفضل من كل ما يجمع النَّاس ومن كل ما يعطون في هذه الحياة الدنيا فيقسمونها
، هذه الدنيا إذا تجردت عن الإيمان بالله تعالى، فهي أحقر عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا تعادل ولا تزن جناح بعوضة
، ومع ذلك لم توكل قسمتها لهم فهل يوكل إليهم قسمة الرسالة وهي أعظم من ذلك، وخير من ذلك، فيضعونها حيث شاءوا؟!
فالله كونه هو الحكيم الخبير، هو أعلم حيث يجعل رسالته، فهو يخلق ما يشاء ويختار ((اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ)) [الحج:75] وهو أعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره عَلَى انتهائها إليه، سواءً كَانَ الرَّسُول الذي يصطفيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو كَانَ الأتباع الذين يشكرون الله ويحمدونه عَلَى أن هذه الرسالة قد بلغتنا وجاءتنا.

ولهذا فالمؤمنون لم ينافسوا في الرسالة بأن يقولوا: كيف يكون الرَّسُول فلان؟ ولماذا لم أكون أنا أو فلان؟ لم يقولوا ذلك، بل حمدوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وشكروه عَلَى أن الرسالة قد أنزلت، وعلى أن هذا النور قد جاء، ووضع في الموضع اللائق، وأن هذا الرَّسُول الذي جَاءَ به هو خيرهم وأفضلهم نسباً وأمانةً وصدقاً وخلقاً وشجاعةً، فحمدوا الله وشكروه وعرفوا قدر هذه النعمة، أما المُشْرِكُونَ فلأنهم لم يقدروا النعمة حق قدرها، ولم يعرفوا الله حق معرفته، ولم يقدروه حق قدره، وكذلك لم يعرفوا منزلة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحقيقية -وإن كانوا مقرين بفضله- لكنه الاستكبار والجحود، فهَؤُلاءِ هم الذين أرادوها أن تكون في غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالله تَعَالَى أعلم بهذا وأعلم بالضد المقابل، فلو قدر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة، ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر، لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب، فإذا نظرنا إِلَى واقع دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه أوذي أشد أنواع الأذى، وأوذي أصحابه المؤمنون، وكان الابتلاء والامتحان والتضييق في مكة، وحوصروا في الشعب، وهاجر من هاجر إِلَى الحبشة، كل هذا من أجل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ أخذ يعرض نفسه عَلَى القبائل فرده أكثرهم، حتى ضاقت به الدنيا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولكن هذه الابتلاءات لله تَعَالَى فيها حكمة عظيمة جداً، ارتفعت منزلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان له الأجر عَلَى هذا الصبر، وعلى هذا الابتلاء
.
واختار الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد ذلك الأنصار -الأوس والخزرج- وفضلهم عَلَى كل القبائل، ليكونوا أهلاً لقبول الدعوة ولإيواء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولتكون بلدتهم يثرب -كما كانوا يسمونها- هي المنطلق والمرتكز لهذا الدين، كل هذا فيه حِكَم، فالمؤمنون الأولون الذين عذبوا وأوذوا هم الذين صبروا وصمدوا وعليهم قام هذا الدين، لكن الذين دخلوا في الإسلام بعد الفتح عشرات الألوف، وتوفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم ينتشر خبر وفاته إلا وارتد أكثر العرب، لأنهم لم يتربوا عَلَى هذا الدين ولم يعرفوا قيمته، لكن الذين كانوا محاصرين، وهاجروا إلى الحبشة، وكانوا يعذبون وتوضع عليهم الصخرات الثقيلة في شدة الرمضاء في مكة ليرجعوا عن دينهم، هَؤُلاءِ لم يرتدوا بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذاً: لله في إقداره حِكَم، فهذا الأذى الذي وقع من الكفار لا يريده الله بمعنى: لا يرضاه ولا يحبه فلا يرضى الكفر ولا يرضى إيذاء المؤمنين، لكن لما فيه من الحكم العظيمة.
فأهل بدر الذين خرجوا وأكثرهم مشياً عَلَى الأقدام في عتادٍ وعدةٍ قليلة، وكانوا يواجهون من هو أقوى منهم عدداً وقوةً، وكانوا يودون أن غير ذات الشوكة تكون لهم، لكن كَانَ لله حكمة في أنهم وقع لهم ما وقع، لأن النصر جاءهم مع هذه القلة ومع هذا الضعف والصبر، وبقي لأهل بدر ميزة يتميزون بها عن أهل الإسلام كافة، إذاً في تلك المكروهات حكم ومصالح عظيمة لم تكن لتتحقق إلا بوجود تلك الأسباب المكروهة التي جعلها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى
.
أرأيتم إِلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام، لولا أن فرعون كَانَ عالياً من المسرفين في قمة الطغيان والاستبداد والاستعباد وجعل بني إسرائيل شيعاً، يذبح أبناءهم ويستحيي نسائهم، كل هذا الضغط وهذا الظلم الذي كَانَ يعاني منه بنوا إسرائيل، وهذه القوة والجبروت الذي كَانَ فرعون يعلنها أمام النَّاس ((أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)) [النازعات:24] ((أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)) [الزخرف:51]، ((أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ))[الزخرف:52]، كل هذا الكبر والاستعلاء في الأرض كَانَ فيه مصلحة وحكمة وهو: أن الله جعل موسى عَلَيْهِ السَّلام من أولي العزم من الرسل، وبلغ عند الله منزلة عظيمة، وكلمه ربه تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وأيده ونصره لأنه واجه هذا الظلم العظيم، فلو لم يكن فرعون بهذه المثابة من الكفر لما ظهر بذلك فضل موسى عَلَيْهِ السَّلام وصبره وقوته في مقاومة هذا الباطل وهذا الظالم وهكذا.
ولهذا فالحال كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يبتلى المرء عَلَى قدر دينه، فأشد النَّاس بلاءً الأَنْبِيَاء، ثُمَّ الأمثل فالأمثل} فالابتلاء والكفر والعناد الذي يقع من الكفار وهو مكروه ومبغوض لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يكون فيه خير، وهو أنه يظهر به تفاوت المؤمنين ودرجاتهم عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
ويضرب رَحِمَهُ اللَّهُ لذلك مثلاً بالشمس والمطر والرياح، يقول: التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر، ألا ترون الشمس ألا تؤذي، فمن النَّاس من تؤذيه الشمس بلا شك، ولو أن إنساناً جلس في الشمس يوماً أو أكثر لمرض وتأذى، وقد تؤثر عَلَى بعض المحاصيل أو بعض المنتوجات، وقد تمرض وقد تضر بأنواع من الضرر، لكن إذا قدرنا هذا الضرر الحاصل من الشمس بالخير الذي يحصل منها، وكذلك لو نظرنا إِلَى آثار الشمس عَلَى الحياة وعلى النبات والحيوان والإِنسَان لوجدنا أن النَّاس يتحدثون عنها، وقد وجد العلم البشري من الآثار العظيمة والفوائد للشمس ما لم يكن يعلمه، ولم يكن يتوقعه من قبل، إذاً: فيها أضرار، لكن هذه الأضرار بالنسبة إِلَى المنافع العظيمة لا تعد شيئاً، فوجود شيء أو جانب مكروه في أمر فيه حكمة وفيه مصلحة وفيه خير، لا يلزم أن نلغي هذا الخير كله لمجرد وجود هذا الشيء المكروه، فهذا هو المقصود بالمثال.
وكذلك المطر: قد يهدم بيوتاً، ويغرق بعض الناس، لكن كيف يكون حال النَّاس لو لم ينزل هذا المطر؟ يحل بهم الجدب والقحط وأمور كلها مكروهة للناس نتيجة لانقطاع المطر ولعدم نزوله، وكذلك الرياح فكثير من النَّاس يتضايقون من الغبار ومن الرياح، لكن هل يعني ذلك أن الرياح لا تفيد، أو أن هذا الشيء المكروه كله شر؟! ففوائد الرياح عظيمة، مرسلة من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إن أرسلت بالخير جَاءَ الخير، وإن أرسلت بالشر جَاءَ الشر، ((وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ))[الحجر:22].
فجعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لواقح، وهذا من الخير الذي تأتي به الرياح، لكن إذا أراد الله أن يهلك أمةً من الأمم بالرياح أهلكهم بها كما أهلك قوم عاد، أرسل عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات، فهلاك طائفة من النَّاس بالريح أو تضرر من محصولاتهم، أو أمور حياتهم ومعايشهم، لا يعني ذلك أنها شر محض، أو أنها لا تطلب، بل هذا الشر ضئيل محدود بالنسبة إِلَى ما فيها من الخير وإلى ما فيها من النفع العام , إذاً المراد بهذه الأمثلة أن يتضح لدينا أنه قد يجتمع في الأمر الواحد أن يكون مراداً من جهة، ومع ذلك مكروهاً مبغضاً من جهة أخرى، هذا بالنسبة للمخلوقين وكذلك بالنسبة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.