قَالَ المُصنِّفُ -رحمه الله تعالى-:
[ومنها ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إِلَى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد، وقد أشار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هذا بقوله: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم}.
ومنها ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره عَلَى انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك، فلو قُدِّر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر، ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه، ولو كَانَ النَّاس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى، وإيثار محابَّ الله تعالى، وعبودية التوبة والاستغفار وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه إِلَى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها] اهـ.

ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أن من الحِكَمِ في وجود الخير والشر هو ظهور آثار أسمائه القهرية أي: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يظهر آثار أسمائه القهرية وأفعاله، مثل كونه قهاراً منتقماً عدلاً ضاراً شديد العقاب سريع الحساب، إِلَى آخر ما تقدم شرحه، فلولا وجود الشر ما ظهرت آثار هذه الأسماء، وكذلك ما يقابلها وهو ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه، وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إِلَى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد.
فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى موصوف بهذه الصفات لأنه عَزَّ وَجَلَّ ذو حلم وعفو ومغفرة وستر وتجاوز فيقتضي ذلك ويتضمن وجود عبادٍ يحلم عنهم ويغفر لهم ويستر عليهم ويتجاوز عنهم، وهذا لا يكون إلا من عبادٍ لهم ذنوب ولهم أفعال يكرهها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وتكون من إغواء عدو الله الذي هو مادة كل شر من أعمال العباد وهو إبليس اللعين، فلكي تظهر آثار هذه الأسماء والصفات والأفعال لله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَانَ ذلك الشر موجوداً مع الخير، وكان لوجود الشر حكمة، كما أن لوجود الخير حكمة أيضاً، فوجود هذين معاً واجتماع إرادة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لها مع بغضه وكراهته لها أي: اجتماع ذلك في شيء واحد أو في هذه الأشياء، هو في غاية الحكمة لمن تأمله وتدبره
.
يقول: وقد أشار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هذا بقوله: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم} هذا الحديث الصحيح تضمن إشارةً إِلَى تلك الحكمة الجليلة، وهو أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبين لأمته الذين يخافون من الذنوب -وكل مسلم ومؤمن يجب أن يخاف من الذنوب- أن هذا الذنب لا بد أن يقع منكم، ولكن يجب عليهم أن يستغفروا، فالحرج ليس في وقوع الذنب فهو لابد أن يقع.
لكن يجب عليهم أن يبادروا إِلَى الاستغفار والتوبة والإنابة، فهذا أمر جبلت عليه الطبيعة الإِنسَانية، وهي أنها تقبل الخير وتقبل الشر، فقد يغلبها الهوى فتغلب النفس صاحبها، وإن كَانَ ذا إيمان ودين، لكن الواجب عليه أن يرجع وأن يتوب إِلَى ربه تَبَارَكَ وَتَعَالَى وهو سبحانه تَعَالَى يغفر له، كما قال الله تَعَالَى في الحديث القدسي: {يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم}
وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر: {كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون}.
فالخطأ من طبيعة البشر، لكن يجب عَلَى الإِنسَان أن يتوب وأن يستغفر، وأن يبادر إِلَى ربه تَبَارَكَ وَتَعَالَى في ذلك، بل إن مما يشاهد ويلاحظ في واقع النَّاس أن بعض الذنوب والمعاصي والأخطاء التي يرتكبها بعض النَّاس ربما كانت سبباً في هدايته هدايةً عظيمة، واستقامته استقامةً لا مثيل لها قبل أن يقع منه ذلك الذنب، وهذا ما عبر عنه بعضهم بقوله: (رب معصيةٍ أورثت ذلاً وانكسارً خيرٌ من طاعةٍ أورثت عزاً واستكباراً).
فبعض المعاصي والذنوب يعرف بها صاحبها قدر نفسه ومنزلتها من طاعة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وربما كانت سبباً في إقلاعه عن سائر الذنوب واجتهاده في طاعة الله فترتفع درجته، ويزداد يقينه، ويعرف فضل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليه بالتوبة وبالعصمة من الذنوب التي هي أكبر، ويعرف مقدار انحطاط العبد ومقدار غروره، ومقدار ظلمه لربه ولنفسه في حالة الذنب، وهذه العبر والحكم لا تكون إلا بناءً عَلَى ذنب بعد ذنب أذنبه
.
انظروا إِلَى أبينا آدم عَلَيْهِ السَّلام! لله حكمة عظيمة حيث قدر له أن يأكل من الشجرة، ألا ترون أن الله تَعَالَى نهاه من الأكل من الشجرة؟
إذاً: الأكل من الشجرة بالنسبة لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى مبغضاً شرعاً لأنه نهاه، وهو كوناً وقدراً محبوب أي: مراد مطلوب، فاجتمعت فيه إرادته كوناً مع بغضه شرعاً، والإرادة الكونية لها حكم عظيمة وإن خالفت الإرادة الشرعية
. فمن ذلك الحكم العظيمة التي نراها الآن في واقع هذه الدنيا.
كيف ترون الحال لو أن آدم وذريته خلقهم الله تَعَالَى في الجنة وبقوا يتناسلون ويتكاثرون فيها، لما كانت هناك حكمة من خلق الإنس والجن مما هو في الدنيا، ومن حكمة خلق الإِنسَان وحكمة التكليف وتحمل الأمانة , وإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وافتراق النَّاس إِلَى فريقين، هذا يجاهد في الله حق جهاده، وهذا يطيع عدو الله ويتبعه ويعادي ربه.
كل هذه من الحكم التي نراها ووجود خلق من خلق الله اصطفاهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهم الأَنْبِيَاء وأفضلهم هو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو تأملنا لوجدنا أنه لا معنى للوجود الإِنسَاني بإطلاق لو كَانَ في الجنة، فهناك نوع شر محض وهم الشياطين المردة، وإن كَانَ في وجودهم خير من جانب، وهناك خير محض وهم الملائكة، ووجود الجنس أو الطرف الذي يمكن أن يكون خيراً ويمكن أن يكون شراً لحكم عظيمة جداً، فوجد عن طريق خلق آدم فخلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قادراً لهذا ولهذا، فكان أكله من الشجرة ووقوع الذنب منه الذي لم يرض به الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرعاً، لكنه وقع لحكمة كونية فنزل آدم إِلَى الأرض، فلما نشأ عَلَى هذا التراب عرف قيمة الجنة وعرف قيمة الطاعة وعرف أثر المعصية وخطرها وضررها عليه وعلى ذريته.
حتى قيل: {إن آدم عَلَيْهِ السَّلام بكى حتى كانت دموعه تجري في الأرض مثل الأنهار من كثرة البكاء}، ولا نستغرب هذا لأن من رأى الجنة ثُمَّ جَاءَ إِلَى هذا التراب لا بد أن يبكي؛ لأنه شيء لا يمكن للإنسان أن يطيقه ويأتي إِلَى هذه الأرض، ففي هذا من الحكم والمصالح العظيمة ما لم يكن لولا ذلك الذنب، ثُمَّ استمرت الإِنسَانية قروناً عَلَى التوحيد، حتى وقع فيهم الشرك، فظهرت حكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أن يكون النَّاس مختلفين ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً))[هود:118] لكن حكمته اقتضت أن يكون النَّاس مختلفين، وأن يكونا عَلَى فريقين، ثُمَّ نتج عن ذلك إرسال الرسل، وما يكون من رفعٍ لدرجات الرسل ولأتباعهم، وما يكون من إنزال العقاب والعذاب الأليم لمن خالفهم ولمن عصاهم وكفر بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
.
.