المادة كاملة    
الملائكة أعظم جنود الله، وقد أوكل الله إليهم أعمالاً يقومون بها في تدبير الكون؛ فقد وكل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته، ووكل بالموت ملائكة، ووكل بالسؤال في القبر ملائكة، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها. والموكلون بالحياة من الملائكة هم: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل.
  1. تدبير الملائكة لأمور الكون

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [ووكل بالموت ملائكةً، ووكل بالسؤال في القبر ملائكةً، ووكل بالأفلاك ملائكةً يحركونها، ووكل بالشمس والقمر ملائكةً، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكةً، ووكل بالجنة وعمارتها وغرسها وعملِ آلاتها ملائكة.
    فالملائكة أعظم جنود الله، ومنهم: المرسلات عرفاً، والناشرات نشراً، والفارقات فرقاً، والملقيات ذكراً.
    ومنهم: النازعات غرقاً، والناشطات نشطاً، والسابحات سبحاً، فالسابقات سبقاً.
    ومنهم: الصافات صفاً، فالزاجرات زجراً، فالتاليات ذكراً.
    ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله: الفرق والطوائف والجماعات، التي مفردها (فرقة) و(طائفة) و (جماعة).
    ومنهم ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، وملائكةٌ قد وكلوا بحمل العرش، وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله تعالى.
    ولفظ (الملك) يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله، فليس لهم من الأمر شيء؛ بل الأمر كله لله الواحد القهار، وهم ينفذون أمره: ((لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ))[الأنبياء:27-28].. ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ))[النحل:50].
    فهم عباد له مكرمون، منهم الصافون، ومنهم المسبحون، ليس منهم إلا له مقام معلوم لا يتخطاه، وهو على عمل قد أمر به، لا يقصر عنه ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده: ((لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ))[الأنبياء:19-20]]
    .
    الشرح:
    يقول رحمه الله: "ثم وكل بالعبد ملائكةً لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته"، وهؤلاء هم الكرام الكاتبون، قال تعالى: ((وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ))[الانفطار:10-11].
    وقد أفردها المصنف رحمه الله بالشرح تبعاً للإمام الطحاوي رحمه الله، فقد قال الطحاوي -كما سيأتي-: "ونؤمن بالكرام الكاتبين، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين".
    ومن المعلوم أن الإمام الطحاوي رحمه الله لا يأتي بالموضوعات المتجانسة في موضع واحد، بل يفرقها، وهذه شبه عادة للعلماء القدامى في التصنيف، فإنهم لم يكونوا يصنفون ويبوبون مثل تبويب المتأخرين بدقة في الترتيب والتنسيق، وإنما كانوا يسترسلون في الكتابة، فتتداخل المواضيع مع بعضها.
    ثم قال الشارح: "ووكل بالموت ملائكةً"، وقد أفرد ذلك الإمام الطحاوي أيضاً فقال: "ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين".
    ثم قال المصنف: "ووكل بالسؤال في القبر ملائكةً"، وقد أفرد الإمام الطحاوي رحمه الله ذلك في فقرة مستقلة فقال: "وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، وسؤال منكر ونكير في قبره، عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم".
    ثم قال الشارح رحمه الله: [ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها، ووكل بالشمس والقمر ملائكةً]. وقد بحثت في هذه المسألة -ولم أستقص البحث- فلم أجد ما يدل نصاً على أن للشمس أو للقمر أو للأفلاك ملائكة، ولكن عموم الأدلة التي ذكرها المصنف تدل على ذلك؛ لأنهم هم الذين وردت صفاتهم في سورة الصافات والمرسلات والنازعات، فهم يدبرون أمر هذا الكون، ويدخل في عموم التدبير هذه الأجرام العظيمة، ومن ذلك الأفلاك والشمس والقمر، وغيرها مما هو أعظم منها في العالم العلوي الذي لا نعلمه.
    ثم قال: "ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة". وهؤلاء هم ملائكة العذاب، الذين قال الله تبارك وتعالى عنهم: ((عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ))[التحريم:6]، وقال تعالى: ((عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ))[المدثر:30]، وقال تعالى لبيان كبير خزنة جهنم الموكل بها: ((وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ))[الزخرف:77]، فمالك هو كبير خزنة النار، الموكلين بأهل النار وبتعذيبهم -نسأل الله العفو والعافية- والأحاديث في هذا كثيرة جداً.
    قال: "ووكل بالجنة وعمارتها وغرسها وعمل آلاتها ملائكة". فكما أن هناك ملائكة موكلين بالنار، فهناك ملائكة موكلون بأمور الجنة، وعملهم الترحيب والتبشير بالمؤمنين، وزيادة الإنعام لهم، فهم من جملة نعيم أهل الجنة.
    ثم قال: "فالملائكة أعظم جنود الله"، وذلك لأنهم موكلون بأصناف المخلوقات، يدبرون أمورها جميعاً بإذن الله سبحانه وتعالى، من الأمور اليسيرة القليلة في الدنيا، إلى الجنة والنار في الآخرة، فهم إذاً أعظم جنود الله سبحانه وتعالى.
  2. معنى المرسلات والعاصفات والناشرات

     المرفق    
    قال الشارح: [ومنهم المرسلات عرفاً]، وفي بعض النسخ ذكر الآية بنصها،: ((وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا))[المرسلات:1]، فقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالمرسلات عرفاً، وكذلك: (وَالنَّازِعَاتِ) (وَالصَّافَّاتِ) (وَالذَّارِيَاتِ) كلها مقسم بها، ولهذا أتت مجرورة، ولله سبحانه وتعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لأحد من خلقه أن يقسم إلا به سبحانه وتعالى.
    وقد ذكر الشارح رحمه الله [المرسلات، والناشرات، والفارقات، والملقيات، والنازعات، والناشطات، والسابحات، والسابقات، والصافات، والزاجرات، والتاليات] على أنها تعني الملائكة، فظاهر كلامه أن هذه كلها صفات للملائكة، ولكن بعضها مسلم به، وبعضها فيه خلاف: هل المراد بها الملائكة أم خلق من خلق الله سبحانه وتعالى غير ذلك؟
    ومن ذلك: (المرسلات) فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (8/686): "أخرج الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال [[المرسلاتُ عرفاً: الملائكة أرسلت بالمعروف ]]" فيكون (عرفاً): منصوب بنزع الخافض، والمعنى: (والمرسلات بالعُرف) والعُرف: هو المعروف، كما فسره أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، وكما قال الله تعالى: ((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ))[الأعراف:199] فالعرف: هو المعروف.
    الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره أقوالاً أخرى للعلماء، فقد ذكر سند ابن أبي حاتم إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: [[(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا): الملائكة ]]، وهذا يتفق هذا مع ما ذكره الحافظ رحمه الله وأقر الحاكم على تصحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
    ثم قال: "وروي عن مسروق وأبي الضحى ومجاهد في إحدى الروايات والسدي والربيع بن أنس مثل ذلك"، فهؤلاء وافقوا أبا هريرة رضي الله عنه على أن المرسلات هي الملائكة، قال: "وروي عن أبي صالح أنه قال: هي الرسل، وفي رواية عنه أنها الملائكة، وهكذا قال أبو صالح في (العاصفات، والناشرات، والفارقات، والملقيات) أنها الملائكة"، فقد جاء عن بعض السلف أنه فسر الكل بأنها صفات للملائكة؛ كما هو ظاهر كلام المصنف رحمه الله.
    ثم قال: "وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي العبيد قال: [سألت ابن مسعود عن المرسلات عرفاً؟ قال: الريح ]، وهذا هو القول الثاني. قال: "وكذا قال في العاصفات عصفاً، والناشرات نشراً: إنها الريح، وكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح في روايةٍ عنه، وتوقف ابن جرير في (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) هل هي الملائكة إذا أرسلت بالعرف، أو كعرف الفرس يتبع بعضهم بعضاً؟" وهذا على قول من يقول: إنها الملائكة، كما فسرها أبو هريرة رضي الله عنه في رواية الحاكم ففي تفسير (العرف) قولان: الأول: أي أرسلت بالمعروف، والثاني: أي: المرسلات كعرف الفرس يتبع بعضهم بعضاً، وعرف الفرس هو الشعر المتماوج الذي يتبع بعضه بعضاً، قال: "أو هي الرياح إذا هبت شيئاً فشيئاً"، فهي مرسلات ترسل فتهب شيئاً فشيئاً، ويتبع بعضها بعضاً.
    إذاً: المرسلات إما أنها الملائكة يتبع بعضها بعضاً، وإما أنها الرياح يتبع بعضها بعضاً، وهذا على أن العرف مأخوذ من عرف الفرس.
    ثم قال: "وقطع -أي: ابن جرير - بأن العاصفات عصفاً: الرياح، كما قاله ابن مسعود ومن تابعه" وهذا ظاهر من حيث اللغة أن العاصفات هي الرياح قال: "وممن قال ذلك في الْعَاصِفَاتِ عَصْفًا أيضاً: علي بن أبي طالب والسدي، وتوقف في الناشرات نشراً هل هي الملائكة أو الريح؟ كما تقدم".
    لقد كان الإمام محمد بن جرير الطبري من أعلم الناس بالآثار، وتفسيره شاهد على ذلك، وقد كان يريد أن يمليه في ثلاثمائة مجلد، فلما استكثر طلابه ذلك قال: الله المستعان! ضعفت الهمم، فجعله في ثلاثين جزءاً، وهو إمام في اللغة والقراءات، ونجده يستدل على كل مسألة -تقريباً- فيها إشكال بلغة العرب وأشعارهم، ومع ذلك توقف في هذه المسائل؛ وذلك حتى لا يقال في كتاب الله تعالى بغير علم، والعلماء لا يعيبهم ولا يضيرهم أن يتوقفوا في مسألة أو مسائل، فقد توقف الإمام مالك في مسائل كثيرة، وتوقف الإمام أحمد في مسائل كثيرة، وهكذا دأب العلماء وشأنهم، أما التسرع في الفتيا، والقول على الله تعالى بغير علم، وإلقاء الكلام على عواهنه، فهذا شأن الذين يقولون على الله تعالى بغير علم، وهم مستحقون للوعيد والعذاب.
    يقول: "وتوقف في الناشرات نشراً، هل هي الملائكة أو الريح؟ كما تقدم"، فيحتمل أنها الملائكة، ويحتمل أنها الريح من حيث اللغة، قال: "وعن أبي صالح أن الناشرات نشراً هي المطر"، يقول ابن كثير رحمه الله: "والأظهر أن المرسلات هي الرياح، كما قال تعالى: ((وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ))[الحجر:22] وقال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ))[الأعراف:57]" فقد رجع ابن كثير رحمه الله غير ما صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنها الملائكة. قال: "وهكذا العاصفات هي الرياح، يقال: عصفت الرياح إذا هبت بتصويت، وكذا (النَّاشِرَاتِ) هي الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء كما يشاء الرب عز وجل"، إذاً: المرسلات والعاصفات والناشرات عند ابن كثير رحمه الله بمعنى الرياح، وهذا هو الراجح في العاصفات والناشرات، أما المرسلات ففيها خلاف كما سبق.
    إلا أن يقال: إن الرياح عندما تعصف وتنشر فإن ذلك بتدبير الملائكة، فيكون المعنى متقارباً، فلا خلاف حينئذ بين القولين.
  3. معنى الفارقات والملقيات

     المرفق    
    ثم قال: "وقوله تعالى: ((فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا))[المرسلات:4-6] يعني الملائكة. قاله ابن مسعود وابن عباس ومسروق ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس والسدي والثوري، ولا خلاف هاهنا، فإنها تنزل بأمر الله على الرسل تفرق بين الحق والباطل، والهدى والغي، والحلال والحرام"، فلا خلاف بين السلف في أن (الفارقات فرقاً) هي الملائكة، ويعلل ذلك بأنها تنزل بالوحي من عند الله، وبأمر الله سبحانه وتعالى، فتفرق به بين الحق والباطل، وبين الغي والهدى، وبين الضلال والرشاد، وبين الحلال والحرام.
    إذاً: فالفارقات هي الملائكة، قولاً واحداً. يقول: "وتلقي إلى الرسل -أي: (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً)- وحياً فيه إعذار إلى الخلق، وإنذار لهم عقاب الله إن خالفوا أمره"، فقوله تعالى: ((فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا))[المرسلات:6]، الذكر هو: العذر أو النذر، وعليه فلا يحتمل إلا أنها الملائكة تلقي الوحي من الله سبحانه وتعالى بما فيه من إعذار وإنذار.
  4. معنى النازعات والناشطات

     المرفق    
    ثم قال رحمه الله: [ومنهم: النازعات غرقاً]، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "قال ابن مسعود وابن عباس ومسروق وسعيد بن جبير وأبو صالح وأبو الضحى والسدي: (والنازعات غرقاً) الملائكة يعنون حين تنزع أرواح بني آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتغرق في نزعها"، وهم المجرمون والكفار الذين تأخذ الملائكة أرواحهم بقوة؛ لأنهم إذا رأوا ملائكة العذاب تفرقت الروح في الجسد، فينزعونها من كل عرق وعصب، فتغرق الملائكة فيكون ذلك تغرق في نزعها. يقول: "ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط -أي: كأنما كان مربوطاً فحل ذلك الرباط- وهو قوله: ((وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا))[النازعات:2]. قاله ابن عباس".
    والنازعات -كما ذكر الشارح- جمع نازعة، وكذلك الذاريات والمرسلات كلها جمع تأنيث، وذلك باعتبار الطائفة، يقول الشارح: [ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله: الفِرَق والطوائف والجماعات، التي مفردها: فرقة وطائفة وجماعة].
    فيكون المعنى: الطوائف النازعات، أو الفرق النازعات، أو الجماعات النازعات، إما باعتبار أن الملائكة ترسل دفعةً، أو باعتبار ما تقبضه من أرواح دفعة واحدة. أي: أنها تقبض ثم تقبض ثم تقبض، وتنزع ثم تنزع ثم تنزع، إذاً معنى النازعات: الطوائف أو الفرق التي تنزع أرواح الكفار، أو الأرواح التي تُنزع بقوة وشدة وغلظة.
    (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) هي الملائكة التي تنزع الأرواح بخفة وسهولة.
    ثم قال ابن كثير: "وعن ابن عباس [(وَالنَّازِعَات) هي أنفس الكفار، تُنزع ثم تُنشط ثم تُفرق في النار ] رواه ابن أبي حاتم "، فعلى هذا المعنى يقسم الله تعالى بأرواح الكفار حين تنزع ثم تنشط.. إلخ، لكن الأظهر -والله أعلم- هو القول الأول، قال: "وقال مجاهد: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) الموت. وقال الحسن وقتادة: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً) هي النجوم". وقول مجاهد: أنها الموت، لا يعارض ما ذكر؛ لأن الموت يكون بالملائكة، فهو كالقول في العاصفات، وقول الحسن وقتادة: [أن النازعات والناشطات هي النجوم؛ لأنها تنزع وتنشط] قول محتمل من حيث اللغة.
    قال: "وقال عطاء بن أبي رباح في قوله تعالى: (وَالنَّازِعَات) و(النَّاشِطَاتِ): هي القسي في القتال". أي: القوس عندما يقاتل به، فينتزع وينشط، يقول ابن كثير رحمه الله: "والصحيح الأول، وعليه الأكثرون"، وهو أنها الملائكة، وهو الذي عليه الأكثرون من السلف .
  5. معنى السابحات والسابقات والمدبرات

     المرفق    
    يقول ابن كثير رحمه الله: "وأما قوله تعالى: ((وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا))[النازعات:3]، فقال ابن مسعود: [هي الملائكة]، وروي عن علي ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح مثل ذلك، وعن مجاهد: (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً): الموت". ولعل المقصود ملائكة الموت، وذلك لأنها تقبض الأرواح ثم تسبح بها، قال: "وقال قتادة: هي النجوم" ففسر قتادة رحمه الله السابحات بالنجوم مثل النازعات والناشطات، قال: "وقال عطاء بن أبي رباح: هي السفن"، وذلك لأنها تسبح في الماء، فهي مثل قوله تعالى: ((فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا))[الذاريات:3] والجاريات: هي السابحات.
    ثم قال: "وقوله تعالى: ((فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا))[النازعات:4] رُوي عن علي ومسروق ومجاهد وأبي صالح والحسن البصري: يعني الملائكة"، وهو قول الأكثرين، ثم يذكر ابن كثير تعليل الحسن البصري لهذا القول، فيقول: "قال الحسن: [سبقت إلى الإيمان والتصديق به]"؛ وذلك لأن الإيمان يتنزل عن طريقهم، فإذا تكلم الله سبحانه وتعالى بالأمر فيكون أول من يسمعه هم الملائكة، ثم بعد ذلك ينقلونه إلى أهل الأرض،: ((قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))[سبأ:23]، وليس هناك اعتراض، فالملائكة هم السابقون إلى سماع القول الحق أياً كان ذلك القول، سواء كان حكماً أو قدراً أو أمراً أو نهياً، ثم بعد ذلك ينزل الوحي إلى بني آدم، فمنهم من يؤمن ومنهم من يكفر.
    قال: "وقال عطاء: هي الخيل في سبيل الله"، إذاً: عطاء رحمه الله يرى أن السابحات هي السفن، والسابقات هي الخيل التي تسبق في سبيل الله، وكأنها هي العاديات ضبحاً.
    قال: "وقوله تعالى: ((فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا))[النازعات:5] قال علي ومجاهد وعطاء وأبو صالح والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي: هي الملائكة. زاد الحسن: تدبر الأمر من السماء إلى الأرض، يعني بأمر ربها عز وجل، ولم يختلفوا في هذا"، أي أنه لم يرد عن السلف خلاف في أن المدبرات أمراً هي الملائكة.
    إذاً: هناك اتفاق على أن المدبرات أمراً هي الملائكة، وأما النازعات، والناشطات، والسابحات، والسابقات، فالأظهر أنها الملائكة، فتكون سورة النازعات كلها -تقريباً- في الملائكة، وأحوالهم وأوصافهم.
    يقول: "ولم يقطع ابن جرير بالمراد في شيء من ذلك، إلا أنه حكى في المدبرات أمراً أنها الملائكة، ولا أثبت ولا نفى" مع أن عادته في مثل هذه الأمور أن يرجح، لكنه هنا لم يرجح شيئاً؛ بل نقل في المدبرات أنها: الملائكة، وهذا هو التفسير الظاهر إن شاء الله تعالى.
  6. معنى الصافات والزاجرات

     المرفق    
    قال الشارح رحمه الله: [ومنهم: الصافات صفاً فالزاجرات زجراً، فالتاليات ذكراً]: ((وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا))[الصافات:1-3]، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "قال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: [[(وَالصَّافَّاتِ صَفّاً) هي الملائكة، (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً) هي الملائكة، (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً) هي الملائكة]]، وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما، ومسروق وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس . قال قتادة: الملائكة صفوف في السماء. وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة -إلى أن قال:- عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فُضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة...}".
    وهذا فضل عظيم، فنحن نصف لربنا عز وجل في هذه الأرض كما تصف الملائكة لربها تبارك وتعالى في السماء، وهذا -مع الأسف- مما ضيع وترك، فإن بعض الأئمة لا يهتم بتسوية الصفوف، فما أن يكمل المؤذن الإقامة حتى يتقدم الإمام ويكبر مباشرة، دون تسوية للصفوف.. وهذا الأمر مخالف للسنة، وقد يقع هذا الفعل من بعض طلبة العلم، الذين يؤاخذون على تركهم لهذه السنة العظيمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، التي لو لم يكن من فوائدها إلا أن القلوب لا تختلف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: {لا تختلفوا فتختلف قلوبكم}، ومن فوائدها: أن نكون كالملائكة عندما تصف عند ربها، ونحظى بهذا الشرف العظيم، وأن نسلم من الوعيد الشديد الذي ورد في حق المخالفين.
    فالمقصود: أن الله سبحانه وتعالى فضل هذه الأمة بهذه الميزة العظيمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: {جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعل لنا ترابها طهوراً }، وفي رواية: {فحيثما أدركت أحداً من أمتي الصلاة فليصل} أما أهل الكتابين فلا تصح الصلاة منهم إلا في الكنائس، أو البيع وقوله صلى الله عليه وسلم: {وجعل لنا ترابها طهوراً} وذلك إذا لم نجد الماء وهذا من فضل الله تعالى ومن نعمه على هذه الأمة، أن منّ عليها بالتيمم الذي يقوم مقام الماء، في الوضوء في حالات معينة مذكورة في كتب الفقه، فيتيمم المسلم ويصلي وليس عليه حرج.
    قال رحمه الله: "وروى مسلم أيضاً وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: يتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصون في الصف}، فالصف المتقدم لابد أن يُتم حتى لا يبقى فيه فراغ، ولابد أيضاً من المراصة في نفس الصف، حتى لا تكون هناك فرج فيما بينهم.
    وهذا الأمر -كما ذكرنا- مما أضاعه المسلمون، وما أكثر ما أضاعوا من أمور دينهم! لأنهم قد يتهاونون في بعض الأمور ظناً منهم أنها هينة، ولكنهم ينسون ما يترتب على ضياعها من فوات خير كثير، وينسون ما في تطبيقها من فضل وبركة عظيمة، ومن ذلك هذه الشعيرة العظيمة وهي الصلاة، التي هي من أولى ما يجب علينا أن نعتني به وبإقامته، كما بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    قال ابن كثير: " وقال السدي وغيره: معنى قوله تعالى: ((فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا))[الصافات:2] أنها تزجر السحاب"، وذلك مثل قوله تعالى: ((وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا))[المرسلات:3] أي: تنشره وتبسطه بإذن الله كما يشاء الله سبحانه وتعالى. قال: "وقال الربيع بن أنس: (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) ما زجر الله عنه في القرآن، وكذا روى مالك عن زيد بن أسلم، إذاً الزاجرات زجراً -على هذا المعنى- هي الآيات والعبر والمواعظ الزاجرات في القرآن، قال: ((فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا))[الصافات:3] قال السدي: الملائكة. يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله إلى الناس. وهذه الآية كقوله تعالى: (( فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ))[المرسلات:5-6].
    هذا هو تفسير ما ذكره المصنف رحمه الله من صفات الملائكة عن السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، ومن أعظمها: أنها موكلة بإنزال الوحي، فهي تُرسل بالوحي، وتنذر الناس به، وتتلوه وتلقيه إلى الناس.
    قال المصنف: [ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله: الفرق والطوائف والجماعات]، أي أن (النازعات، والناشطات، والمرسلات، والملقيات، والصافات) جمعت جمع التأنيث على أساس أن جمع التأنيث جمع للطائفة أو الفرقة أو الجماعة، وقد ذكر ذلك لينبه على أن الملائكة ليسوا إناثاً لأجل تأنيث الجمع؛ لأننا قد نقول: جاءنا من الرجال جماعة أو طائفة، فكلمة (جماعة وطائفة) مؤنث، ولكنهم في الحقيقة ذكور وليسوا إناثاً.
  7. بيان ضلال من يعبد الملائكة

     المرفق    
    قال رحمه الله: [ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله، فليس لهم من الأمر شيء]، يبين المصنف رحمه الله هنا ضلال الذين يعبدون الملائكة، وقد كانت عبادة الملائكة معروفة عند الأمم القديمة، فقد بنوا الهياكل على أساس أنهم يعبدون الملائكة، ويزعمون أنها تقربهم إلى الله، وقد كان بعض العرب أيضاً يعبدون الملائكة، ويزعمون أنهم بنات الله، تعالى الله عما يصفون! والشبهة في عبادتهم: لأنهم يدبرون العالم، فهم الذين يرسلون السحاب وينشرونه ثم ينزل منه المطر، وهم الموكلون بأحوال العباد وتصريفهم..إلخ، فما داموا يدبرون الأمر فلا بأس أن يعبدوا من دون الله، ليكونوا شفعاء وواسطة لهؤلاء المشركين عند الله ليقربوهم إلى الله زلفى، كما زعمون.
    فأراد المصنف رحمه الله أن ينبه على ذلك، فبين أن لفظ (الملك) يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله، فليس لهم من الأمر شيء أبداً، فمن عبد الملائكة من دون الله فقد خاب وضل وخسر، ولهذا فإن الملائكة تتبرأ منهم، وكذلك الأنبياء والصالحون يتبرءون ممن كان يعبدهم، وهؤلاء إنما هم عباد لله، كما قال الله عز وجل: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا))[الإسراء:57]، فالملائكة يرجون رحمة الله ويخافون عذابه، ويتقربون إلى الله، ويرجون الوسيلة والقربى منه سبحانه وتعالى.
    وكذلك الأنبياء والصالحون، وكل من عُبد من دون الله تعالى وهو من الصالحين، فإنه لا يرضى بذلك؛ لأنه هو يتقرب إلى الله تعالى.
    بل إن الملائكة يوم القيامة يبينون أن هؤلاء لم يعبدوهم، وأنهم لم يرضوا بذلك ((بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ))[سبأ:41]؛ فإن المشركين الذين يعبدون الملائكة، هم في الحقيقة يعبدون الشياطين؛ لأن الشياطين هم الذين سولوا وزينوا لهم هذا الأمر، وهذا موجود ومشاهد في أيامنا، فإن الشياطين تأتي وتلبس على بعض الناس أنها ملائكة، فإن هؤلاء الذين يزعمون أنهم أولياء لله من أصحاب الطرق الصوفية وأشباهها، يزعم أحدهم أن الله أرسل إليه ملكاً، ويدعي أنه رآه وخاطبه، مع أن المرئي في الحقيقة إنما هو شيطان؛ وذلك لأن هذا الذي لا يصلي جمعة ولا جماعة، ولا يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن تنزل عليه الملائكة أو تخدمه أبداً -كما يزعم-!!
    إذاً: الذي يأتي إليه إنما هو شيطان، فيأتي في صورة طير أبيض جميل، ويدعي أنه ملك، فيصدقه ذلك الضال المضل، فيضِلُّ به خلقاً كثيراً فتنةً وابتلاءً.
    وأوضح علامة على أن هؤلاء ليسوا ملائكة: أنهم يدعون إلى الشرك، والملائكة لا تدعو إلى الشرك، بل إنهم كما قال الله تعالى: ((لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ))[التحريم:6] وقال:((بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ))[الأنبياء:26]، وأكبر معصية هي الدعوة إلى الشرك؛ لأن الشرك هو أكبر المعاصي، ومن دعا إليه فهو أكبر دعاة الضلال، فهل يمكن أن تدعو الملائكة أحداً إلى الشرك؟!
    فهذا دليل قوي على أن الذين يخاطبون هؤلاء الناس إنما هم شياطين، يريدون أن يضلوهم عن دين الله تعالى.
    1. الملائكة لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً

      يقول: [بل الأمر كله لله الواحد القهار، وهم ينفذون أمره (( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ))[الأنبياء:27-28]. ]، فالملائكة لهم منزلة وجاه عند الله تعالى، ويشفعون، ولكن الشفاعة لابد فيها من أمرين:
      الأول: الإذن من الله للشافع، قال تعالى: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ))[البقرة:255].
      الثاني: رضاه عن المشفوع له، قال تعالى: ((وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ))[الأنبياء:28].
      وهم ينفذون أمره: ((لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ))[الأنبياء:27]، فإن ساقوا السحاب، أو أنزلوا المطر، أو نفخوا الأرواح في الأرحام أو قبضوها، أو عملوا أي عمل، فإنما هو بأمر الله: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ))[الأعراف:54]، فلا يشاركه في ذلك أحد.
      وقال تعالى عنهم : ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ))[النحل:50]، فمع عظم خلقتهم، ومكانتهم العظيمة عند الله تعالى، مع ذلك يخافون الله ويتقونه، ويفعلون ما يأمرهم به سبحانه وتعالى، فكل عملٍ يعملونه فليس من تلقاء أنفسهم، وإنما هو بأمر من الله سبحانه وتعالى، ولهذا فكيف يليق أن يعبد أو يدعى العبد المأمور المنفذ الذي لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً؟! إذاً: فلا يجوز أن تعبد الملائكة، ولا عيسى، ولا عزير، ولا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هؤلاء جميعاً لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، بل إن الله سبحانه وتعالى هو الذي له الأمر كله، وهو النافع والضار، وإن فعل غيره من المخلوقين ما فعل، فهو إنما يفعل ذلك بأمره وبإذنه، ولو شاء سبحانه وتعالى لأهلك هؤلاء جميعاً وإن كانوا ملائكة أو أنبياء: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ))[الملك:28].
      فالله سبحانه وتعالى يستطيع أن يهلك كل أحد يشذ أو يخرج عن أمره، كائناً من كان، فيجب -إذاً- أن تصرف العبادة جميعاً له سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
    2. كل ملك له عمل ومقام لا يتعداه

      قال رحمه الله: [فمنهم الصافون، ومنهم المسبحون، ليس منهم إلا له مقام معلوم لا يتخطاه، وهو على على قد أمر به، لا يقصر عنه ولا يتعداه]، فكل ملك له عمله الموكل به، فلا يقصر عنه ولا يتعداه أبداً، فلو أراد ملك الجبال أن يتصرف في الأرواح أو في الأجنة، فإنه لا يستطيع أبداً؛ لأنه مأمور بعمل آخر لا يتعداه أبداً، فكل ملك من الملائكة هو من جند الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يقصر في عمله، ولا يمكن أن يتجاوزه أو يتخطاه إلى غيره.
      إذاً: فالذين يدعون الملائكة أو يستغيثون بهم، لما لهم عند الله من جاه عظيم ومنزلة عظيمة، يقال لهم: إن هؤلاء عبيد، لهم عمل لا يتعدونه ولا يتجاوزونه، وهو ما وكله الله سبحانه وتعالى إليهم من أمور التدبير والتصريف.
      قال رحمه الله: [وأعلاهم الذين عنده: ((لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ))[الأنبياء:19] : ((يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ))[الأنبياء:20]]، أي أن أعلى الملائكة درجة هم من هذا شأنهم، فمن كان هذا شأنه، فهو قائم لله تبارك وتعالى بالعبودية.
      وعلو كل إنسان ليس بمقدار جاهه ولا ملكه، ولا ماله، ولا نسبه، لكن بمقدار عبوديته لله، ولهذا كان أفضل البشر أجمعين محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عبد الله سبحانه وتعالى حتى وصل إلى كمال العبودية، ولهذا وصفه الله تعالى بالعبودية في أعلى وأشرف المقامات: في مقام الإسراء، وهو الذي لم يقع لأحد غيره، قال تعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ))[الإسراء:1]، فقوله: (بعبده) للتكريم والتعظيم، فكأنه ليس له عبد إلا هو، مع أن له عبيداً غيره، ولكن المقصود: عبده الذي حقق عبوديته الكاملة لله سبحانه وتعالى، وفي مقام الدعوة، والرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد الدعاة والهداة، الذي بعثه الله لهداية العالمين أجمعين، مع أن من قبله من الرسل إنما كان يبعث ليدعو قومه خاصة، قال تعالى: ((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا))[الجن:19]، أي: العبد الداعي الذي حقق كمال العبودية في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى، فوصف العبودية في أشرف المقامات هو الأصل.
      ولهذا نقول: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، مع أن عبيد الله كثير، فعيسى وموسى وغيرهم من عباد الله، لكن كأننا نخص النبي صلى الله عليه وسلم لبلوغه غاية العبودية، فمن هنا كانت درجته أعلى، وكذلك الملائكة، فأعلاهم عند الله هم الذين : ((لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ))[الأنبياء:19-20].
      فبمقدار عبوديتك لله يكون قدرك عند الله، ولذلك ارتفع قدر الصحابة الكرام عند الله للعبودية العظمى التي قاموا بها، ثم الناس بعدهم مراتب.. إلى مرتبة الفاجر الذي لو ملك الدنيا بحذافيرها، فإنه لا يساوي عند الله جناح بعوضة، بل إنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا}.
      إذاً: درجات الملائكة بحسب العبودية، ودرجات الناس بحسب ذلك، ودركات النار أيضاً بحسب ذلك، فالعصاة أقل عذاباً، وأما الأشد كفراً وضلالاً من الطواغيت والمجرمين فهم في الدركات السفلى من النار، وهكذا.. فالأمر والمعيار يرجع إلى تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى.
  8. رؤساء الملائكة الثلاثة

     المرفق    
    يقول: [ورؤساؤهم الأملاك الثلاثة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل الموكلون بالحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم]، فهؤلاء الثلاثة هم الموكلون بالحياة، وأعظم حياة على الإطلاق هي حياة القلوب بالإيمان، وقد قيل:
    ليس من مات فاستراح بميت            إنما الميت ميت الأحياء
    فإذا كان قلب الإنسان ميتاً، فلا حياة فيه ولا خير، فأعظم حياة هي الحياة الإيمانية، حياة القلب بالنور والإيمان، والموكل بها هو جبريل عليه السلام، وميكائيل عليه السلام موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وهذه هي الحياة الحسية المادية النباتية الحيوية، والموكل بها هو الملك الثاني، وهو في المرتبة الثانية من الفضل، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم، وذلك عندما ينفخ النفخة الثانية التي يقوم الناس بعدها لرب العالمين سبحانه وتعالى.
    إذاً: هؤلاء الملائكة الثلاثة قائمون على أمور الحياة الثلاثة، والتي هي: حياة القلوب بالإيمان، وحياة النبات والحيوان، وحياة البعث بعد الموت.