قال المصنف رحمه الله:
[ووكل بالموت ملائكةً، ووكل بالسؤال في القبر ملائكةً، ووكل بالأفلاك ملائكةً يحركونها، ووكل بالشمس والقمر ملائكةً، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكةً، ووكل بالجنة وعمارتها وغرسها وعملِ آلاتها ملائكة.
فالملائكة أعظم جنود الله، ومنهم: المرسلات عرفاً، والناشرات نشراً، والفارقات فرقاً، والملقيات ذكراً.
ومنهم: النازعات غرقاً، والناشطات نشطاً، والسابحات سبحاً، فالسابقات سبقاً.
ومنهم: الصافات صفاً، فالزاجرات زجراً، فالتاليات ذكراً.
ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله: الفرق والطوائف والجماعات، التي مفردها (فرقة) و(طائفة) و (جماعة).
ومنهم ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، وملائكةٌ قد وكلوا بحمل العرش، وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله تعالى.
ولفظ (الملك) يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله، فليس لهم من الأمر شيء؛ بل الأمر كله لله الواحد القهار، وهم ينفذون أمره: ((لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ))[الأنبياء:27-28].. ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ))[النحل:50].
فهم عباد له مكرمون، منهم الصافون، ومنهم المسبحون، ليس منهم إلا له مقام معلوم لا يتخطاه، وهو على عمل قد أمر به، لا يقصر عنه ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده: ((لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ))[الأنبياء:19-20]].
الشرح:
يقول رحمه الله: "ثم وكل بالعبد ملائكةً لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته"، وهؤلاء هم الكرام الكاتبون، قال تعالى: ((
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *
كِرَامًا كَاتِبِينَ))[الانفطار:10-11].
وقد أفردها المصنف رحمه الله بالشرح تبعاً للإمام
الطحاوي رحمه الله، فقد قال
الطحاوي -كما سيأتي-: "ونؤمن بالكرام الكاتبين، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين".
ومن المعلوم أن الإمام الطحاوي رحمه الله لا يأتي بالموضوعات المتجانسة في موضع واحد، بل يفرقها، وهذه شبه عادة للعلماء القدامى في التصنيف، فإنهم لم يكونوا يصنفون ويبوبون مثل تبويب المتأخرين بدقة في الترتيب والتنسيق، وإنما كانوا يسترسلون في الكتابة، فتتداخل المواضيع مع بعضها.ثم قال الشارح: "ووكل بالموت ملائكةً"، وقد أفرد ذلك الإمام الطحاوي أيضاً فقال: "ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين".
ثم قال المصنف: "ووكل بالسؤال في القبر ملائكةً"، وقد أفرد الإمام الطحاوي رحمه الله ذلك في فقرة مستقلة فقال: "وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، وسؤال منكر ونكير في قبره، عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم".
ثم قال الشارح رحمه الله: [ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها، ووكل بالشمس والقمر ملائكةً]. وقد بحثت في هذه المسألة -ولم أستقص البحث- فلم أجد ما يدل نصاً على أن للشمس أو للقمر أو للأفلاك ملائكة، ولكن عموم الأدلة التي ذكرها المصنف تدل على ذلك؛ لأنهم هم الذين وردت صفاتهم في سورة الصافات والمرسلات والنازعات، فهم يدبرون أمر هذا الكون، ويدخل في عموم التدبير هذه الأجرام العظيمة، ومن ذلك الأفلاك والشمس والقمر، وغيرها مما هو أعظم منها في العالم العلوي الذي لا نعلمه.
ثم قال: "ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة". وهؤلاء هم ملائكة العذاب، الذين قال الله تبارك وتعالى عنهم: ((عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ))[التحريم:6]، وقال تعالى: ((عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ))[المدثر:30]، وقال تعالى لبيان كبير خزنة جهنم الموكل بها: ((وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ))[الزخرف:77]، فمالك هو كبير خزنة النار، الموكلين بأهل النار وبتعذيبهم -نسأل الله العفو والعافية- والأحاديث في هذا كثيرة جداً.
قال: "ووكل بالجنة وعمارتها وغرسها وعمل آلاتها ملائكة". فكما أن هناك ملائكة موكلين بالنار، فهناك ملائكة موكلون بأمور الجنة، وعملهم الترحيب والتبشير بالمؤمنين، وزيادة الإنعام لهم، فهم من جملة نعيم أهل الجنة.
ثم قال: "فالملائكة أعظم جنود الله"، وذلك لأنهم موكلون بأصناف المخلوقات، يدبرون أمورها جميعاً بإذن الله سبحانه وتعالى، من الأمور اليسيرة القليلة في الدنيا، إلى الجنة والنار في الآخرة، فهم إذاً أعظم جنود الله سبحانه وتعالى.