ذكر المُصنِّف -رحمه الله تعالى- ما يدل عَلَى قِدم الخلاف في القدر وعلى موقف الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- من القدرية، وهو ما رواه اللالكائي بالسند المذكور أنه قيل لـابن عباس: إن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر فقَالَ: دلوني عليه وهو يومئذ قد عمي فقالوا له: ما تصنع به فقَالَ: "والذي نفسي بيده لأن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعها ".
وهذا الرجل هو معبد الجهني لما جَاءَ إِلَى مكة جاء بعض التابعين وقالوا لـابن عباس: إن هاهنا رجلاً ويشيرون إلى معبد الجهني يكذب بالقدر، وفي رواية أخرى أوردها اللالكائي أشار إِلَى أن معبد قَالَ: إنما يُكذَبُ عليَّ، فلم يستطع أن يقر. يقول ابن عباس: ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها.
انظروا إِلَى شدة الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- في معاملة أهل البدع ومقاومتهم، ولو كَانَ أهل السنة قلة قليلة وأهل البدعة هم الغالبون، فحينئذ يكون الحال أن أهل السنة يكفوا أيديهم ويدعو أهل البدعة قليلاً قليلاً؛ لكن إذا كَانَ النَّاس في سنة وخير، ثُمَّ يأتي رجل مبتدع ليفسد ما هم عليه من الحق؛ فإنه يقاوم أشد المقاومة
. وقوله:[فإني سمعت رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {كأني بنساء بني فهم يطفن بالخزرج تصطك إلياتهن مشركات}]. هذا الحديث -كما ذكر الأرنؤوط - أنه ضعيف من هذه الطريق؛ لأن فيه العلاء بن الحجاج، ولا يهمنا إلا كلام ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وموقفه من ذلك الرجل القدري.
وقد ذكر اللالكائي أيضاً هذه القصة في موضع آخر، وكذا ابن بطة والآجري ذكروها بطرق أخرى، فمجموع الطرق تؤيد أن الأمر قد وقع، وأن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قد توعد ذلك الرجل الذي جَاءَ في إحدى روايات اللالكائي أنه معبد.
أما مسألة عودة الشرك وهو المرفوع إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أن إليات نساء دوس ستضطرب عَلَى ذي الخلصة} فهذا معلوم أنه صحيح ثابت مرفوع إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- توعد معبداً بما تقدم، ثُمَّ استدل بأن الشرك سيقع في هذه الأمة عَلَى أن هذا من الشرك، ومادام أن النَّاس سيعودون كما نص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تقوم الساعة حتى تلحق فئام من أمتي بالْمُشْرِكِينَ، وحتى تضطرب إليات نساء دوس عَلَى ذي الخلصة} وهو صنم خثعم في الجاهلية. أي: مادام أن الشرك سيقع وهذه الأمة هي أمة الإيمان، وأمة التوحيد والسنة، يعقب ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَيَقُولُ: هذا أول شرك في الإسلام.
إذاً قد ابتُدئ، ولهذا جَاءَ في رواية أخرى: {أوقد فعلوها}
. ولهذا قلنا: إن السلف سموا القدرية مجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس أثبتوا إلهين خالقين إله الخير وإله الشر، وهَؤُلاءِ أيضاً أثبتوا أن العبد يخلق الشر، أن الله تَعَالَى يخلق الخير تَعَالَى يخلق الخير .
إذاً: هذا أول شرك وقع في هذه الأمة.[قَالَ: والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يُقدر الخير كما أخرجوه من أن يُقدر الشر]؛ لأن باب الشر إذا فتح لا ينغلق، ولهذا قال بعض السلف: "إياكم ومحدثات الأمور فإنها تبدو صغارا ثُمَّ تؤول كبارا". فأول ما بدأوا ينزهون الله -بزعمهم- عن الشر فلا يثبتون أنه خالق الشر، ثُمَّ انتهى بهم الحال إِلَى أن وجد من ينكر العلم. إذاً من أنكر علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أسوأ ممن أنكر نسبة الشر إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
يقول المصنف-رَحِمَهُ اللَّهُ-: [قوله وهذا أول شرك في الإسلام..إلى آخره من كلام ابن عباس، وهذا يوافق قوله: القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذَّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده] معنى نظامه أي: الذي به ينتظم، فلا ينتظم التوحيد إلا بالقدر، لأن من أنكر القدر فقد أثبت خالقاً غير الله-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهذا الذي وقعت فيه القدرية المجوسية.
هذه الروايات موقوفة عَلَى ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وليست مرفوعة إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن العلماء كـابن بطة في الإبانة والآجري في الشريعة واللالكائي وغيره ذكروها، يقول: [وروى عمرو بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة -والمصنف يروي هذه الواقعة ليبين أنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه - وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فَقَالَ القدري للمجوسي: أسلم] فالقدري داعية، ولا نستغرب هذا فإنه يوجد دعاة وهم عَلَى بدعة وضلالة، وقد يبذلون جهدهم في الدعوة إِلَى الله، ويكون قصدهم الدعوة إِلَى الحق لكنهم عَلَى باطل. فهذا القدري حريص عَلَى أن يسلم المجوسي، لكن انظروا إِلَى سوء بدعته وبطلانها كيف حالت بين هذا الرجل وبين الإسلام. [قال المجوسي: حتى يريد الله] ألا تذكرنا عبارة هذا المجوسي بمن نقول له: صلِّ فَيَقُولُ: إذا شاء الله؛ فالشيطان الذي يلقن المجوس، يلقن تارك الصلاة أيضاً، فعندما ذكر المجوسي لفظة الإرادة جاءت البدعة عند القدري [فقَالَ: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد]. هذه هي العقيدة التي يريد القدري أن يعلمها إياه، [فأجاب المجوسي وقَالَ: أراد الله وأراد الشيطان فكان ما أراد الشيطان فأنا مع أقواهما!] عياذاً بالله.
فنتبين بهذا بطلان مذهب القدرية
ولو كَانَ المناظر سنياً، لأجابه ببساطة: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شاء منك المجوسية، ولكنه أمرك بالإسلام. ولا تعارض بين الأمر الكوني والأمر القدري الذي هو المشيئة، لكن الغالب في هذه المناظرة هو المجوسي؛ لأنه هو الذي قطع حجة القدري. ومما يدل أيضاً عَلَى بطلان هذه العقيدة الضالة قصة الأعرابي مع شيخ الاعتزال عمرو بن عبيد.
واللالكائي -رَحِمَهُ اللَّهُ- الذي ذكر هذه الوقائع، أفرد لـعمرو بن عبيد ورؤساء المعتزلة باباً بيَّن فيه ما نقله العلماء من سوء عقيدتهم، وقد كَانَ السلف يحذرون من عمرو بن عبيد، ويحذرون من الجلوس معه، عَلَى ما كَانَ فيه من العبادة والزهد والتقشف، حتى كَانَ ضامراً من شدة العبادة، وكان لا يأكل إلا أقل القليل من متاع الدنيا، فجاء الأعرابي عَلَى حلقة فيها عمرو بن عبيد وخُدع الأعرابي بمظهر عمرو، وبما يُقال عنه من العبادة، ورأى عَلَى ظاهره علامات التعبد الطويل.
فَقَالَ له: يا هَؤُلاءِ: إن ناقتي سرقت فادعوا الله أن يردها عليّ، فتقدم عمرو ليدعو الله عَلَى أساس أنه أصلح الموجودين وأتقاهم، الذي لو دعا لأُجيب من ولايته وصلاحه فقَالَ: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت فارددها عليه. نزه الله عن الشر وإرادة المعاصي، ولكن الأعراب فيهم الذكاء السريع والبديهة الحاضرة فبدون أن يتكلف، وبدون أن يفكر قَالَ: لا حاجة لي في دعائك، قَالَ: لماذا؟ قَالَ: أخاف كما أراد أن لا تسرق فسرقت، أن يريد أن يردها فلا ترد، وذهب الأعرابي وتركه، فلو كَانَ لدى عمرو بن عبيد إيمان حق وصدق ويريد الحق لكفاه كلام هذا الأعرابي.
وثعلب اللغوي والنحوي المشهور، سئل هل في الأعراب قدري؟ قال معاذ الله، ما في الأعراب قدري، بل هم في جاهليتهم وإسلامهم تنضح أشعارهم بإثبات القدر، والمصنف -رحمه الله تعالى- أورد هذا ليشير وليثبت أن هَؤُلاءِ فروا من شر توهموه فوقعوا في شر محقق، وقال رجل لـأبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى، وأوردني الضلال، ثُمَّ عذبني أيكون منصفا؟! يسأله عن الله، وعبارته توحي أن هناك اعتراضاً عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه قال منعني وأوردني!.
فقال أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه ممن يشاء؛ ولكن نقف مع عبارة السائل هذا " أرأيت إن منعني الهدى " هل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منع النَّاس الهدى؟ ليس بهذا الإطلاق، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أوضح الهدى وبينه للناس، وأنزل عليهم كتاباً يتلى ورسولاً يدعوهم إِلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فقد بين الهدى ولم يمنعه، كما قال :((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيل))) أي: بينا له ووضحنا له((إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)) [الإِنسَان:3] أي: يختار هو ما يشاء((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)) [الإِنسَان:30].
وقد أجابه أبو عصام: بجواب بسيط مقنع سهل جداً، ومفهومه: إن منعك شيء هو له فهو حقه، وإن منعك شيئاً هو لك فقد ظلمك، والحال أن كل ما في السموات والأرض هو ملك لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يشركه فيه أحد من العالمين؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يمنع أحداً من النَّاس حقه حتى يقال: لِمَ لم يعطه، أو أنه قد ظلمه، فليس لأحد عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق بإطلاق.