المادة كاملة    
أصول الدين عند أهل السنة والجماعة مأخوذة من الكتاب والسنة، بخلاف غيرهم من الفرق التي أخذت أصولها من غير الكتاب والسنة؛ كالمعتزلة والرافضة. وهي خمسة أصول، إلا أن بعض السلف أثبت أصولاً أخرى في الظاهر، وهي في الحقيقة متفرعة من تلك الأصول الخمسة.
  1. تقيد أهل السنة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في أصول الدين

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [وأصول أهل السنة والجماعة تابعة لما جاء به الرسول.
    وأصل الدين: الإيمان بما جاء به الرسول كما تقدم بيان ذلك، ولهذا كانت الآيتان من آخر سورة البقرة -لما تضمنتا هذا الأصل- لهما شأن عظيم ليس لغيرهما، ففي الصحيحين عن أبي مسعود عقبة بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه}، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {بينا جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته} وقال أبو طالب المكي: "أركان الإيمان سبعة"، يعني هذه الخمسة، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار. وهذا حق، والأدلة عليه ثابتة محكمة قطعية، وقد تقدم الإشارة إلى دليل التوحيد والرسالة. ]
    اهـ.
    1. ذكر الأصول الخمسة فيما أنزل على النبي من القرآن

      الشرح:
      يعود المصنف رحمه الله ليقرر قول أهل السنة والجماعة وأصول الدين عندهم، فيقول رحمه الله: [وأصول أهل السنة والجماعة تابعة لما جاء به الرسول] أي أن أصول أهل السنة والجماعة مخالفة لما عليه المعتزلة والرافضة وقبلهم الفلاسفة والباطنية وغيرهم من أهل الضلال كما قد بينا ذلك فيها سبق.
      إن أصول الدين عند أهل السنة والجماعة تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس هناك أصل من أصول الدين لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز في مذهب أهل السنة والجماعة أن يأتي أحد بأمر من الأمور من عند نفسه، ويقول: هذا أصل من أصول الدين، ويدعو إليه ويوالي ويعادي فيه، وهذا أمر معلوم قد سبق إيضاحه، وفاعل هذا يسمى: مبتدعاً ضالاً، وقد يكون كافراً، كما هو مقرر.
      يقول الشارح: [وأصل الدين: الإيمان بما جاء به الرسول كما تقدم بيان ذلك] -أي: عند قول الإمام الطحاوي رحمه الله: [ونؤمن بالملائكة والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين].
      قال المصنف: [وهذه الأمور من أركان الإيمان، قال تعالى: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ))[البقرة:285]] إلى أن قال: [فجعل الله سبحانه وتعالى الإيمان هو الإيمان بهذه الجملة، وسمى من آمن بهذه الجملة مؤمنين]؛ كما جعل الكافر من كفر بهذه الجملة؛ بقوله: ((وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا))[النساء:136].
    2. بيان تفرع الأصول الخمسة عن الإيمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم

      وهذه الأركان الخمسة يضاف إليها ركن سادس -كما في حديث جبريل- هو: الإيمان بالقدر، ولم يذكر الإيمان بالقدر فيما ذكرنا من الآيتين في سورتي النساء والبقرة؛ لكنه داخل في الإيمان بالله أي: من جهة أن العلم علمه، والمشيئة مشيئته، والكتابة كتابته، والخلق خلقه، وهذه هي مراتب القدر الأربع: (العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق). والمقصود أن القدر من أصول الإيمان.
      ويمكن أن نرجع أصول الدين عند أهل السنة والجماعة إلى أصل واحد، وهو الإيمان بما جاء به الرسول.
      فإذا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: آمنت بك رسولاً، وصدقت واتبعت؛ فيكون هذا الرجل قد أعلن إيمانه بأصل الدين الذي يتفرع منه غيره من الأصول، أي أن الإيمان بما جاء به الرسول يعني الدخول في أركان الإيمان كلها؛ لأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وهو أيضاً يعني: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وهو العمل بجميع الطاعات، وترك جميع المحرمات.
      إذاً: الدين كله يرجع إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} وقال: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}، والأمر هنا هو الدين، فإذا أقر الإنسان بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أقر بالدين جملة.
    3. الأمور التي يحكم لصاحبها بالدخول في الإسلام

      إذا رجعنا إلى أول الكتاب عند قول الطحاوي : [نقول في توحيد الله....] نجد أن المصنف بعد أن ذكر الآيات قال: [ولهذا كان الصحيح أن أول واجب على المكلف: شهادة أن لا إله إلا الله. لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك]، إلى أن قال: [وهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء: فمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام، ولم يتكلم بهما: هل يصير مسلماً أم لا؟] فالمقصود من هذا؛ بم يكون الإنسان مسلماً؟
      ثبت في السنة: أن الإنسان يكون مسلماً بأمور كثيرة، منها: أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ومنها: أن يقول: أسلمت، حتى جعل العلماء منها الإشارة والتي هي من أضعف الأدلة، فلو حاصر المسلمون حصناً من الحصون فأخرج الكافر يده مشيراً بعلامة التوحيد وأن الله في السماء؛ لكففنا عنهم وقبلنا منهم إيمانهم ولو لم ينطق بذلك. وكذلك لو قالها بأي لغة؛ حتى لو قال: صبأنا كما وقع مع خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه عندما أراد الكفار أن يسلموا فقالوا: صبأنا. وهم يعنون بذلك آمنا، فيحكم لهم ظاهراً بالإسلام. بمعنى أن أي شيء يشعر بأن الإنسان ترك الشرك ودخل في الإيمان فإنه يقبل منه ويُصدّق، ومن أعظم ذلك أن يقول الرجل: آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فمعنى ذلك أنه قد آمن بالدين جملة، وأتى بأصل الدين الذي تتفرع منه الأصول الأخرى جميعاً.
  2. فضل الآيتين من آخر البقرة لتضمنها أصول الدين

     المرفق    
    يقول: [ولهذا كانت الآيتان من آخر سورة البقرة -لما تضمنتا هذا الأصل- لهما شأن عظيم ليس لغيرهما] أي: من الآيات في كتاب الله، وذلك لأن الله يقول فيهما: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ))[البقرة:285]، فالذي أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو هذه الأصول، وأصلها جميعاً يرجع إلى ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، فنؤمن به ونطيع: ((وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا))[البقرة:285] أي: إذعان وانقياد مطلق، وطاعة لله سبحانه وتعالى، لا كما قال أهل الكتاب: سمعنا وعصينا. ثم يطلبون المغفرة من الله: ((غُفْرَانَكَ رَبَّنَا))[البقرة:285]، لأن العبد مهما سمع وأطاع وانقاد فعبادته أقل من أن تكافئ أو توازي نعم الله سبحانه وتعالى وفضله عليه، فالفضل له أولاً وآخراً سبحانه وتعالى فهو الذي هداه، وهو الذي وفقه، ومهما عبد العبد ربه سبحانه وتعالى فالفضل له؛ لأن العبد مقصر دائماً، ولذلك فإنه يستغفر الله من التقصير.
    قوله: ((وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ))[البقرة:285]، يعني: الإيمان باليوم الآخر، فإليه المرجع، وإليه المآل سبحانه وتعالى.
    فيذكر الشارح أن لهاتين الآيتين شأناً عظيماً لتضمنهما أصول الدين، وسوف نفصل القول في ذلك إن شاء الله.
    1. معنى قوله عليه السلام: (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)

      قال المصنف: [ففي الصحيحين عن أبي مسعود عقبة بن عمرو عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه}] وهي قوله تعالى: ((آمَنَ الرَّسُولُ ...))[البقرة:285] إلى آخر سورة البقرة، وليس كما ذكر البعض أن الآية الأخيرة هي عبارة عن آيتين، فالآيتان تبتدئان من قوله: (آمَنَ الرَّسُولُ) وتنتهي بقوله: (الْكَافِرِينَ).
      ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى سبعة أقوال في معنى (كفتاه) في فتح الباري عند شرحه لكتاب فضائل القرآن:
      القول الأول: بمعنى أجزأتاه عن قيام الليل، فلو أنه قرأهما قبل نومه ولم يستطع تلك الليلة أن يقوم الليل فقد كفتاه عن ذلك.
      القول الثاني: أنهما كفتاه من قراءة القرآن مطلقاً، سواء كان يقرأه في الصلاة أو في غير الصلاة.
      القول الثالث: أنهما كفتاه فيما يتعلق بالاعتقاد، فكل العقيدة موجودة ومتضمنة في هاتين الآيتين، لأنهما اشتملتا على أمور الإيمان وأعماله وأصوله جميعاً، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وهذا القول هو ما ذكر المصنف رحمه الله تعالى أنه المقصود لذكر هاتين الآيتين، فيكفيك في باب الاعتقاد -المجمل لا المفصل- أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ثم تفصيل ذلك يعلم ويؤخذ من أدلته.
      القول الرابع: أنهما كفتاه من كل شر، فلو قرأ في ليلته هاتين الآيتين لكفتاه من كل شر، وينام ليلته تلك آمناً مطمئناً بإذن الله.
      القول الخامس: وهو أخص مما قبله، أنه بمعنى كفتاه شر الشيطان، فمن قرأهما فقد كفي شر الشيطان اللعين.
      القول السادس: أنهما كفتاه شر الجن والإنس.
      القول السابع: بمعنى أنهما تغنيانه عن طلب الأجر فيما سواهما، فينال بقراءة هاتين الآيتين من الثواب والأجر ما يغنيه عن طلب الأجر والثواب فيما سواهما.
      والثلاثة الأقوال: الرابع والخامس والسادس متقاربة، يعني: كفتاه شر كل شيء: شر الشيطان وشر الجن والإنس، فأمكن أن نجعلها خمسة أقوال.
    2. شرح الإمامين النووي وابن حجر لقوله صلى الله عليه وسلم: (كفتاه)

      والصحيح من هذه الأقوال كلها كما قال الحافظ ابن حجر وقبله الإمام النووي رحمهما الله: "يجوز أن يراد ذلك كله، ففضل الله واسع، فإذا قرأتُ هاتين الآيتين حصل لي ما يعنيني عن قيام الليل إن لم أقم، وحصل لي ما يغنيني عن قراءة القرآن كله إن لم أفعل، وحصل لي ما يعنيني في باب الاعتقاد، كما حصل لي الكفاية من شر كل ذي شر" من الشياطين ومن الجن والإنس، ومن كل أنواع الشرور "وكذلك يحصل لي الكفاية إذا قرأتها من أن أطلب عملاً آخر أطلب به نفس الأجر والمنزلة من الله سبحانه وتعالى".
      ونأخذ من هذا قاعدة في الفضائل، قال: "ما جاء من الفضائل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في كتاب الله عز وجل مطلقاً، فالأصل فيه أن يبقى مطلقاً" أي: ما لم يخصصه الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم يبقى مطلقاً ولا نحجر فضل الله تبارك وتعالى، فالله ذو الفضل العظيم.
      يقول ابن حجر رحمه الله بعد ذلك معقباً: "إن هذه الأوجه بعضها دل عليها أدلة صريحة، من ذلك: الوجه الأول" والذي هو بمعنى: كفتاه من قيام الليل. قال: "إن ذلك ورد صريحاً في حديث أبي مسعود رضي الله عنه نصه : {من قرأ خاتمة البقرة أجزأته عن قيام الليل}.
      ودليل الوجه الرابع والذي هو بمعنى كفتاه كل شر، والذي يندرج تحته الوجه الخامس والسادس، وقد دل عليها حديثان رواهما الحاكم وصححهما قال صلى الله عليه وسلم: {لا يقرب الشيطان داراً قرئت فيها ثلاث ليال}، وفي رواية أخرى: {لا يقربه الشيطان -أولا يدخل الشيطان معه- تلك الليلة} وذكر الشيطان يشمل ما بعده، فالشيطان رأس كل شر، فإذا لم يدخل الشيطان فلن يدخل أتباعه من الجن، وكذلك أولياؤه من الإنس، فإذا كفي الإنسان الشيطان فقد كفي كل شر؛ لأن الشيطان أصل كل شر يقع في هذا العالم، أعاذنا الله وإياكم من شره.
      إذاً: هاتان الآيتان اشتملتا على أصول الإيمان كما هو عند أهل السنة والجماعة، وهذا ممـا يدل علـى أن مذهب أهل السنة والجماعة تشهد له النصوص المتضافرة المتظاهرة في كل مسألة.
    3. ذكر حديث ابن عباس في فضل آيتي آخر البقرة

      قال المصنف: [وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {بينا جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه؛ فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن صلى الله عليه وسلم تقرأ بحرف منها إلا أوتيته}]. أي: أن ملكاً نزل من السماء -وكان جبريل قاعداً عند النبي صلى الله عليه وسلم- فسمع صلى الله عليه وسلم نقيضاً؛ والنقيض: صوت يصدر من فوق كما لو كان السقف فيه حركة، وجبريل يعلم أحوال السماء، فعرف هذا الصوت، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا الصوت الذي تسمعه هو صوت باب من أبواب السماء فتح، ولم يفتح قبل ذلك أبداً إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال جبريل: (هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم) وفي هذا بشارة عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم.
      فجبريل عليه السلام مطلع على أحوال السماء ويعلم أصوات الأبواب، ويعرف الملائكة، ومن نزل منهم ومن لم ينزل؛ فهو رئيس الملائكة وكبيرهم؛ فقال: (أبشر) والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك) أي: لم يؤتهما أحد من الأنبياء الذين أنزل الله تبارك وتعالى الكتب عليهم (وهما: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته) يعني: إذا قرأت بهما أو بحرف منهما فقد أوتيت نورين: نور الفاتحة، ونور الآيتين في خواتيم سورة البقرة، فإنك لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيت ذلك النور، وهذا كله من الذكر الذي سماه سلفنا الصالح: (الغنيمة الباردة) أي: ليس فيها حرب ولا قتال ولا مشقة؛ لكن الذي يهمنا أن ننبه عليه: أن يكون الذكر باللسان والقلب، وهو الذكر النافع، وإن كان مقتصراً على اللسان فهو خير من أن يتكلم اللسان بما لا يرضـي الله سبحانه وتعالى؛ لأن الذكر كبقيـة العبادات قد يكون كاملاً وقد يكون ناقصاً، كما أن الصلاة قد تكون صلاة كاملة وقد تكون ناقصة.
      لكن الذكر الكامل هو ما توافرت فيه شروط منها: أن يتواطأ عليه القلب واللسان، فإذا ذكر العبد ربه سبحانه وتعالى خالصاً موقناً من قلبه وتواطأ القلب واللسان على ذلك، فإنه يكون عند الله سبحانه وتعالى في منزلة عظيمة.
      وحسب المسلم أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل أربع كلمات خيراً من هذه الدنيا التي يتنافس الناس عليها شرقاً وغرباً، قديماً وحديثاً، فيتنافسون على الملك والزعامة، وعلى الوزارات والمناصب، وعلى المراتب العالية والمراكب الثمينة، وعلى الزوجات الحسناوات، فخير للعبد الصالح من هذا كله أن يقول الكلمات الأربع التي هي أفضل الكلام بعد القرآن وهي: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عند تفسير قوله تعالى: ((الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا))[الكهف:46] فالمال والأولاد والمناصب والمراتب.. إلخ هذه كلها زينة الحياة الدنيا، وأما الأعمال الصالحة فهي التي يثاب عليها الإنسان، قال صلى الله عليه وسلم: {الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر}.
      وحديث جبريل السابق ليس فيه ما يصرح على أن الملك النازل من السماء هو الذي خاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قال في الحديث: {هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما..} قد يكون الملك النازل خاطب بها جبريل، وجبريل خاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك وارد ومحتمل، ولا ينافي ذلك أن غير جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث ليس نصاً في أن الآيتين نزل بهما ذلك الملك على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن جبريل قد نزل بالفاتحة وبأواخر سورة البقرة، لكن هذا الملك جاء مبشراً بفضلهما، وعليه فلو خاطب بها الملك النازل النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة لما كان في ذلك شيء، وإنما هي بشارة بفضلهما لا نزولاً بهما، والقرآن كله إنما نزل به على النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام.
  3. القول بأن أركان الإيمان سبعة عند أبي طالب المكي

     المرفق    
    قول المصنف رحمه الله: [وقال أبو طالب المكي: أركان الإيمان سبعة] و أبو طالب المكي: هو الإمام المشهور -ولا سيما عند أرباب التصوف- بكتابه: قوت القلوب، وهذا الكتاب هو عمدة الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، وأكثر ما في الإحياء من كلام جيد فهو مأخوذ من القوت، والقوت على ما فيه من الخلل إلا أنه أقل من الإحياء خطراً وخللاً، وهو مشتمل على بعض البدع، لكنه يخلو مما في الإحياء من الطوام، وتقل فيه الأحاديث الضعيفة والموضوعة مقارنة بـ الإحياء، وقد اعتمد عليه الغزالي ونسج على منواله، وأفاض وأكثر من الروايات والقصص والغرائب والضعاف والموضوعات فكان كتاب الإحياء .
    وكان أبو طالب المكي في باب الأسماء والصفات والقدر، وكذلك في باب الإيمان على مذهب أهل السنة والجماعة، لكنه كان ميالاً إلى الصوفية في السلوك فقط، وهو ما يسمى بعلم العبادة والذكر وما أشبه ذلك، أما من حيث الاعتقاد فكان أبو طالب على منهج السلف الصالح، وكتابه قوت القلوب شاهد بذلك؛ فقد أفرد أبو طالب المكي في قوت القلوب فصلاً كاملاً في الحديث عن الإحسان والإيمان والإسلام وما يتفرع عنهما، ورد على المرجئة ونقض كلامهم بكلام جيد، وإن كان عليه بعض المآخذ لكنها مآخذ تغتفر له؛ لأنه قد وقع فيها قبله بعض العلماء كما في مسألة تفسير الإيمان بالإسلام، وهذا ظاهر صنيع الإمام البخاري رحمه الله في تراجمه في الصحيح ؛ أن الإيمان والإسلام شيء واحد، فالقضية قديمة ولا تخرج الإنسان عن مذهب السلف الصالح، والفصل الذي خصصه أبو طالب في قوت القلوب لهذه المسألة هو الفصل الرابع والثلاثون.
    1. توجيه قول أبي طالب في أن أركان الإيمان سبعة

      يقول: [وقال أبو طالب : "أركان الإيمان سبعة، يعني: هذه الخمسة، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار] فلو قارنا بين كلام أبي طالب وبين حديث جبريل عليه السلام فإنه ذُكر في حديث جبريل ستة أركان: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر؛ لأن القدر مذكور في حديث جبريل، فـأبو طالب المكي ما جاءنا بشيء جديد عندما ذكر القدر، لكن الزيادة والغرابة في الركن السابع الذي هو: (الإيمان بالجنة والنار).
      يقول المصنف: [وهذا حق، والأدلة عليه ثابتة محكمة قطعية" أي: أن أدلة ثبوت الإيمان باليوم الآخر محكمة قطعية، ففي حديث جبريل ذكر أركان الإيمان الستة، ومن جملتها الأصول الخمسة التي ذكرت في أواخر سورة البقرة فيمن يؤمن بها، وفي سورة النساء فيمن يكفر بها: ((وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا))[النساء:136] فذكر الإيمان باليوم الآخر، ونحن عندما نقول: إننا نؤمن باليوم الآخر فهو الإيمان بكل ما بعد الموت ابتداءً من رؤية الملائكة الموكلة بقبض الأرواح إلى عذاب القبر ونعيمه، إلى البعث والحشر، والصراط والميزان، والجنة والنار، وكل ما يكون من حال ذلك اليوم، فيدخل ذلك كله ضمن قولنا: اليوم الآخر، لكن قد يفصل بعض الناس بعض الإجمال كجعل أبي طالب المكي الجنة والنار أصلاً سابعاً، فقالوا: كأن الإيمان باليوم الآخر عنده هو البعث، والحشر، والنشور، والحساب، وغيره مما يتعلق به، ثم بعد ذلك الإيمان بالجنة والنار، فكأنه أصل آخر، وهو في الحقيقة تابع له، فليس في كلامه أمر جديد، لكن ذكرنا هذا توجيهاً لقوله وما أراد من كلامه، والتفصيل بعد الإجمال وارد.
      نقول: إن هذه الأصول الخمسة مجملة وكل منها له تفصيله: فالإيمان بالله يشمل الإيمان بأسمائه وصفاته وأفعاله... إلى آخر ذلك، والإيمان بالرسل يشمل الإيمان بهم وبأحوالهم وصفاتهم... إلى آخره، والإيمان بالملائكة يشمل الإيمان بأنواعهم وأصنافهم وأعمالهم وكل ما ورد فيهم، وهذا الذي ذكره هنا لعله أخذه من حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة، وفي رواية: أدخله الله الجنة على ما كان من العمل} فذكر في هذا الحديث تفصيل بعض أمور الإيمان: كذكره للشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم زاد عليها: {وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه}، ولهذا قال بعض العلماء كما ذكر النووي رحمه الله: "إن هذا الحديث من أشمل الأحاديث في أصول الإيمان؛ لاشتماله على أصل العقيدة كلها، الذي لو آمن به الإنسان وأقر به كان متبرئاً من كل دين يخالف دين الإسلام" وذلك أنه إذا شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ أصبح من المسلمين، وزيادة على ذلك إذا أقر بأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فقد برئ من دين اليهود والنصارى؛ لأن اليهود قالوا عنه: إنه ابن زنا -والعياذ بالله- وقالوا: إن مريم -عياذاً بالله- زنى بها يوسف النجار ؛ فجاءت بعيسى، فلو أقر اليهودي بأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، مع إقراره بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقد برئ من دين اليهود.
      ويشار هنا إلى أن أهم قضية وقع فيها الخلاف بين أهل التوراة والإنجيل والقرآن هي مسألة المسيح، فاليهود يعتقدون أن عيسى ابن زنا، وقد رد الله عليهم اتهامهم لمريم عليها السلام بالزنا عندما رجعت إلى قومها وهي تحمله، قال تعالى: ((فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا))[مريم:29-30] فأنطق الله المولود وكذبهم في ذلك. وقوله: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) فيه رد وتكذيب لقول النصارى القائلين أنه ابن الله؛ لأن النصارى قالوا: إن مريم لم تتزوج وأتاها هذا الولد وهو ينطق في المهد، ويأتي بالمعجزات والآيات فيحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص وغير ذلك، فهو ابن الله.
      فاليهود فرطوا وأنزلوه عن مستوى المؤمنين الصالحين وطعنوا فيه وفي أمه عليهما السلام، والنصارى أفرطوا وغلوا فيه حتى رفعوه عن درجة الملائكة والمرسلين إلى أن يكون هو الله.
      فإذا آمن العبد بالشهادتين، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه؛ فقد تبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام.
      والشاهد أن حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه هو أحد الأدلة على أركان الإيمان، ويصلح دليلاً لما ذكره أبو طالب من أن الأصول سبعة، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن الأولى أن نقف عند النص وأن نجعلها ستة كما في حديث جبريل، أو خمسة كما في القرآن، وهذه هي أصول الدين.
  4. مقدمة عن الإيمان بالملائكة

     المرفق    
    يقول رحمه الله: [وقد تقدم الإشارة إلى دليل التوحيد والرسالة] يعني: الأصل الأول وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني: الإيمان بالرسالة وقد قلنا: إن هناك حكمة في ترتيب أركان الإيمان، ولكن الشارح لم يرتبها، فنقول: الإيمان بالله هو أول شيء، ثم الله أرسل الملائكة، والملائكة جاءت بالكتب، والكتب ألقيت إلى النبيين، وأعظم ما أنذر به الناس في هذه الكتب هو اليوم الآخر، فإذا أطاعوا الله واتبعوا هذه السلسلة في الإيمان؛ فلهم الجنة، وإن عصوا؛ فلهم النـار، وقد تكلم المصنف هنا فيما يتعلق بالإيمان بالله، والإيمان بالرسل، ثم يتكلم عن ركن آخر من أركان الإيمان وهو الإيمان بالملائكة.
    1. توكيل الله الملائكة بالسماوات والأرض وكفر من قال بتأثير الكواكب

      قال المصنف رحمه الله:
      [وأما الملائكة، فهم الموكلون بالسماوات والأرض، فكل حركة في العالم، فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: ((فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا))[النازعات:5].. ((فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا))[الذاريات:4] وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل، وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع، فيقولون: هي النجوم.
      وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكَّل بالجبال ملائكة، ووكَّل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكَّل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها، ثم وكَّل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته]
      اهـ.
      الشرح:
      يقول رحمه الله: [وأما الملائكة فهم الموكلون بالسماوات والأرض]، أي: موكلون من قبل الله [فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: ((فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا))[النازعات:5] ((فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا))[الذاريات:4]...] كما ذكر الله صفات أخرى للملائكة في قوله: ((وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا))[المرسلات:1]... وقوله تعالى: ((وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا))[النازعات:1-2]...] إلى آخر ما ورد في القرآن من آيات تذكر أفعال الملائكة وصفاتهم، وهذا كله سنأتي عليه إن شاء الله تعالى بالتفصيل.
      والمدبرات والمقسمات في هذه الآيات يؤمن بها المؤمنون بالله والمؤمنون بالنبوات، فيؤمنون أن تدبير الكون وتقسيم الأمر والأرزاق فيه وما يتعلق به، وتدبير النطفة في الرحم وما يتعلق بقبض الأرواح، وخلق الجبال والسحاب... إلى آخره، يقع بواسطة الملائكة بإذن الله سبحانه وتعالى وقد سخرها الله لذلك ووكلها بهذه الأعمال.
      قال المصنف رحمه الله: [وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع] يعني: للخالق، وهي أفضل من كلمة (الصانع)، [فيقولـون: هي النجـوم] أي: المدبرات هي النجوم، وسوف نتكلم إن شاء الله تعالى عن التنجيم والكهانة في فقرة خاصة، لكن لا بأس هنا أن نجمل في المسألة حتى تتضح الصورة، وخاصة ونحن نتحدث عن تدبير الكون والنجوم والتي هي خلق من خلق الله سبحانه وتعالى، ولله سبحانه وتعالى في خلقها حِكَم ذكرها نصاً في كتابه العزيز: فخلقت النجوم زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات كما قال قتادة رضي الله عنه: [[من قال شيئاً غير ذلك فقد تكلف وقال بغير علم]] وأدلة هذه الحكم قوله تعالى: ((وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ))[النحل:16] وقوله: ((إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ))[الصافات:6]، وهذا دليل على أنها زينة للسماء، ودليل أنها رجوم للشياطين قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ))[الملك:5] فهذه هي الحكم من خلق النجوم، وليس لها علاقة بإنزال الأمطار، ولا إحياء الموتى، ولا تدبير الأمر، ولا تقسيم الأرزاق ولا شيء من ذلك.
    2. التنجيم سبب الانحرافات العقدية القديمة

      إن النجوم كانت سبب الانحراف والضلال عن التوحيد قديماً، فقد انحرف الناس منذ عهد الصابئين، كما انحرف قدماء المصريين -الفراعنة- إلى عبادة الهياكل والنجوم، ولهذا ناظر الخليل إبراهيم عليه السلام قومه، وكان قوم إبراهيم عليه السلام في أيام الآشوريين والبابليين، الذين كانوا يعبدون الكواكب والنجوم، ويبنون لها الهياكل، ويتقربون إليها بأنواع القربات، ولهذا ناظرهم مبيناً فساد اعتقادهم في هذه الكواكب والنجوم. وكذلك كان الحال عند الزرادشتية والمجوسية في إيران والهند، والطاغية الأكبر وداعية الضلال الأعظم في الدنيا أرسطو يقرر ذلك، ومذهب أرسطو مذهب شاذ حتى عند الفلاسفة اليونان، فإنه أشرك بالله سبحانه وتعالى، ودعا إلى الشرك، في حين أن سقراط وغيره يخالفونه في ذلك، فقد قال أرسطو : إن المخلوقات العلوية هي المؤثره في الحركات السفلية، أي أن النجوم هي التي تؤثر في حركات العالم والناس، ولا يوجد رب يدبر، ولا ملائكة.
      فلما قرر أرسطو هذه الأشياء جاء ممن بعده من يأخذ بها مثل بطليموس وفيثاغورس، ومعظم فلاسفة اليونان الذين يهتمون بالرياضيات والفلك، كانوا يتكلمون في التنجيم والكهانة، وتبعهم على ذلك بعض الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام، فنادوا بما نادى به أرسطو، وكتبوا في ذلك الكتب المشهورة التي لا تزال منتشرة إلى اليوم ولها أتباع، وهي تقرر أن التدبير الأرضي إنما يكون بسبب النجوم، فكان كلما أراد ملك من الملوك أن يعرف فترة حكمه نظروا في النجوم وقدروا له ذلك، وإذا أراد أن يذهب إلى معركة نظروا في النجوم قبل أن يشيروا عليه بشيء، ولما أراد المعتصم فتح عمورية قال له الكهان والمنجمون: إن المشتري والمريخ مقترنان، وهذا أنحس وقت، فلو قاتلت الروم فإنك ستهزم، فلم يبال المعتصم بما قالوا وقاتل الروم، فانتصر عليهم، وكان نحساً على الروم بإذن الله، فثبت أن النجوم ليس لها دخل في ذلك، فقال في ذلك أبو تمام الشاعر قصيدته المشهورة التي مطلعها:
      السيف أصدق إنباء من الكتـب            في حده الحد بين الجد واللعب
      بيض الصفائح لا سود الصحائف في            متونهن جلاء الشك والريب
      فالتنجيم كان واقعاً مشهوراً حتى في أيام الخلفاء الراشدين، فقد نقل أن بعض المنجمين كانوا موجودين في أيام علي رضي الله تعالى عنه، فهم موجودون في جميع العصور وفي جميع البلاد إلى اليوم، بل وفي أرقى بلاد العالم -كما تسمى-: في أمريكا وأوروبا .
      فالمقصود: أنه حيثما فقد التوحيد وجد الشرك بجميع أشكاله وأنواعه وصوره، ولا نستغرب منها أي شيء، فانتشر التنجيم والكهانة وآمن به الفلاسفة الذين يسمون (الإسلاميين) نسبة إلى بلاد (الإسلام) التي عاشوا فيها وهي نسبة جغرافية فقط، وممن آمن به ابن سينا والكندي، فقال بالتنجيم والكهانة أخبث من على وجه البسيطة وهم الباطنية، وخاصة إخوان الصفا !
      وقد أثبتوا في كتبهم ورسائلهم أشياء عجيبة فيما يخص الإيمان بالمشتري والمريخ وتأثيراتها وأحوالها فكيف تصدق هذه العقول إمكانية عزو تدبير هذا العالم إلى النجوم والكواكب؟ وأعجب من ذلك أن الإمام الفخر الرازي -عفا الله تعالى عنه- ألف كتاباً سماه: السر المكتوم في مخاطبة النجوم، وكان هذا قبل أن يهتدي، وهذا الكتاب موجود اليوم، وهناك نسخة مصورة منه في مكتبة جامعة الملك سعود بـالرياض، وقد ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في عدة مواضع من الفتاوى في بيان فساد العقائد التي بنى عليها الأشعرية مذهبهم؛ لأن الإمام الرازي هو إمام الأشعرية المتأخر، ويقول من جملة ذلك: إن الرازي ألف كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم على نفس منهج المشركين -والعياذ بالله- الذين يتقربون إلى النجوم ويعبدونها.
      ويزعم الفخر الرازي في كتابه هذا أن النجوم هي التي تدبر أمور الخلق، فيقول في مواضع من كتابه: "إذا كانت السنة تبدأ يوم الأحد فإن هذا دليل على ظفر الملك والولاة، واتصال الأسباب، ويكون النيل متوسطاً في طلوعه ويبقى على وجه الأرض، ويخرج زرعاً جيداً، ويكثر القمح ..." إلى أن يقول: "ويكثر ثمر النخل، ويكون الزرع مباركاً، والملك منصوراً مؤيداً ..." إلى آخره.
      قال: "وإن كان أولها يوم الإثنين فإن القمر يملكها، -نعوذ بالله من الضلال والشرك- فيدل على صلاح الولاة، ونزول الغيث والرحمة، وحسن زيادة النيل، والزرع ونمو القمح.....".
      قال: "وإن كان أول السنة الثلاثاء، فالمريخ يملكها -أي: الذي يتصرف في تلك السنة هو المريخ- فهذا يدل على ظفر الملك بجميع أعداءه، ونفاذ أمره في سره وجهره، وتكثر الأقاويل، ويمتد النيل، وتكون الأمراض في غالب الجهات ..." إلى آخره، عياذاً بالله.
      قال: "وإن كان أولها يوم الأربعاء، كان عطارد يملكها؛ فهذا يدل على العدل للملوك والقضاة، ويكون النيل فيها متوسطاً، وتظهر البدائع والغرائب في الصناعات والآلات، ويتحابب الناس، ويموت كثير من الكبار والكهول ..." إلى آخره.
      قال: "وإن كان أولها يوم الخميس فالمشتري يملكها، فهذا يدل على موت الأتقياء، ويكون النيل مباركاً، وتغلى الماشية..." إلى آخر هذا الكلام.
      قال: "وإن كان أولها الجمعة الزهرة تملكها، فهذا يدل على انشراح الصدور، وتودد الناس، وتأييد الملوك، وتوسط النيل، وربح التجار، وطغيان أهل الملاهي من النساء والرجال، ..." إلى آخره.
      قال: "وإن كان أولها يوم السبت فزحل يملكها، فهذا يدل على تولية العبيد للروم، وكثرة الوباء والشئوم، وفناء المشايخ والصالحين، ...." إلى آخر هذا الكلام وما فيه من كفر وشرك.
      وهذا جملة اعتقادهم فيمن يدبر الكون ومن يقسم الأمر، وهو مخالف لصحيح كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.