قول المُصنِّف -رحمة الله-: [النزاع بين النَّاس في مسألة القدر مشهور] قد ذكرنا فيما سبق أصل هذا النزاع، وكيف نشأ، أما الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم فلم يكن فيهم قدري ولله الحمد.
بل روى اللالكائي عن طاووس قَالَ: "أدركت أكثر من ثلاثمائة نفس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يؤمن بأن الله خالق الشر والخير".
وذكر اللالكائي روايات عنهم. فالصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- كانوا يؤمنون بالقدر كما نص عَلَى ذلك حديث جبريل وغيره، وكما هو صريح القُرْآن كما في هذه الآيات، فلم يكن فيهم مخالف.
لكن وقع النزاع والاختلاف -كما ذكرنا- عندما ظهر معبد الجهني وغيلان الدمشقي، وكل منهما تلقى ذلك عن النَّصَارَى كما أشرنا إِلَى أن معبداً كَانَ في البصرة، وهي قريبة من مذاهب البلاتشتية، ومذاهب وفلسفات الهند؛ فهنالك كانت لديهم هذه الأمور والفلسفات فوقعت في قلب معبد أو سمعها منهم، وأما غيلان فإنه كَانَ في دمشق وكان فيها النَّصَارَى وقد أعطوا العهد وبقوا في بلاد الشام من النَّصَارَى، ويقَالَ: إن سُوسَن النصراني أو يوحنا هو الذي علم غيلان الدمشقي شبهة القدر.
المهم أن هذه الشبهة حصلت في عهد صغار الصحابة كـابن عمر وابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما- ومنذ ذلك الحين والخلاف مستمر، وقد ذكرنا كيف تطور الأمر من مسألة الكلام في معاصي العباد إِلَى الجبر المحض وآل إِلَى وحدة الوجود عند الصوفية، وكذلك آل الآمر بالذين ينكرون القدر إِلَى أن وجد فيهم من ينكر علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي لا ينكره ولا يجهله أحد
.
وقد ذكر المُصنِّف رحمه الله تعالى هنا العبارة الأخيرة التي هي أهم مادار فيه البحث وهي: [أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه] كما هو مذهب أهل السنة ويريد هنا بمعنى يشاؤه، وليست بمعنى يشرعه أو يطلبه.
فإن الإرادة تختلف عن المشيئة؛ لأن الإرادة تكون شرعية وتكون قدرية كونية؛ فإذا كانت الإرادة قدرية كونية؛ فهي بمعنى المشيئة، لكن إذا كانت الإرادة شرعية فهي بمعنى شرع وطلب. فيجب أن نفرق بين معنيي الإرادة.
والمصنف هنا لما عطف عليها المشيئة قصده أن معنى الإرادة هي الكونية أي: أن الله تَعَالَى يريد الكفر كوناً ويشاؤه، ولذلك قَالَ: [ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً ولا يرضاه دينا] فكل ما يكون في الكون كله من خير أو شر، من محبوب أو مبغوض، فهو كله بمشيئة الله وإرادته، فأما ماكان من مشيئة الله فلا بد أن يتحقق، فما شاء الله كَانَ وما لم يشأ لم يكن؛ لكن ما أمر الله به وشرعه فقد يكون وقد لا يكون؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل حكمته في أن الابتلاء يكون في جانب الشرع ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ))[التغابن:2] ((فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ))[النحل:36] ((فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ)) [الأعراف:30].
فالابتلاء في مسألة الأمر الشرعي الطلبي الذي أحبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورضيه، وهذا يتحقق من قوم ولا يتحقق من آخرين؛ لكن كل ما يفعله هَؤُلاءِ النَّاس مما وافق شرع الله أو خالفه؛ فهو موافق للإرادة الكونية وللمشيئة العامة الشاملة. هذا هو موجز كلام أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ
، وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة.

وقد ذكرنا أن القدرية أول ما نشأت عَلَى يد معبد وغيلان ولم يكونا معتزليين، لكن لما جَاءَ زعيم المعتزلة عمرو بن عبيد ورث القدر عن معبد ونشره، وأصبح إذا قيل: القدرية تطلق على المعتزلة.
وقد دخلت الروافض في مذهب الاعتزال في الصفات والقدر، واعتنقوه ابتداءً من القرن الرابع فما بعده، وأخذت الرافضة دين المعتزلة في جوانب الاعتقاد، وبقيت لها المسألة التي اختصت بها وهي الإمامة، وما أشبه ذلك، فأصبحت عقيدة المعتزلة الآن في القدر موجودة عند الروافض.
فلما قال المصنف: "القدرية والمعتزلة" كأنه يشير إِلَى الترتيب التأريخي؛ لأن القدرية ظهرت أول الأمر في زمن الصحابة، ثُمَّ ظهرت المعتزلة وورثوا ذلك، ثُمَّ بعد ذلك ورث المعتزلة الرافضة.