المرتبة الأولى من مراتب القدر: العلم. لم يكن العرب في الجاهلية ولا أي إنسان يشك أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلم كل شيء أبداً؛ بل ورد ذلك في أشعارهم، فهذا عنترة الفارس الجاهلي الشاعر المشهور يقول في أول قصيدة له:
يا عبل أين من المنية مهرب            إن كَانَ ربي في السماء قضاها
فهو مقر بالقدر رغم جاهليته، لكن هذا الإقرار عَلَى تخبط.
وكذلك زهير يقول وهو في الجاهلية في إثبات المرتبة الأولى من مراتب القدر أي: العلم :
فلا تكتُمن الله ما في نفوسكم            ليخفي ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر            ليوم حسابٍ أو يعجل فينقم
كان يثبت أن الله لا يخفى عليه شيء ((إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ))[الأنبياء:110] فمضمون الآية ذكره زهير في شعره، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم بكل شيء، وكان هذا معلوماً لدى العرب الْمُشْرِكِينَ قاطبة، لكن زهيراً هو القائل:
رأيت المنايا خبط عشواء من            تصب تمته ومن تخطئ يعمر فيهرمِ
فهذه نظرة زهير وهو حكيم العرب الذي يمتاز شعره بالحكم، ففي هذا البيت يذكر أن الموت والأقدار التي تنزل بالنَّاس فيموتون خبط عشواء، والعشواء هي الناقة ضعيفة البصر، تتخبط في المشي يميناً وشمالاً؛ لأنها لا ترى، لكن الأمر ليس كذلك فالله تَعَالَى يقول :((وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَاب)) [فاطر:11] ليس في هذا الكون خبط عشواء أبداً، بل هذا العلم أثبته زهير وكان العرب يثبتونه في الجاهلية.

يقتضي أنه لا يوجد أدنى شيء في الوجود إلا وهو بحكمة والله هو الذي دبره وقدره كما قال تعالى: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) [الأنعام:59].
فالشيء الرطب أدنى نقطة من الرطوبة من الماء يقول علماء الأحياء: "لو وضعتها تحت المجهر لوجدت فيها الملايين من الأحياء، تعيش وتموت وفق أعمار قدرها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى" فقدر أن هذا المكروب قد يعيش دقيقة أو نصف دقيقة، فبعضها لا يعيش إلا ثلاثين ثانية، وربما أقل من ذلك، لكن هذا العمر مكتوب ومحسوب ومقدر عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ما تنزل قطرة من السماء إلا والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلمها.
فهو يعلم منذ أن أخرجها من البحر، وساقها بهذا السحاب، ثم أين تنزل، يصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء، كل هذا بقدره، ثُمَّ هذه النقطة تقع حيث شاء الله تَعَالَى، فكل شيء عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى معلوم؛ بل أعجب من ذلك: أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قد كتبه وقدره قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فعلْمهُ وكتْبهُ وخلْقهُ كل ذلك منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إذاً: لا يوجد عَلَى الإطلاق في هذا الكون ولا أدنى ذرة إلا وهي بقدر من الله تعالى، فالعرب في الجاهلية لم تكن تنكر القدر ولكنها تخطئ في فهم حقيقة القدر.