قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
[والآية لا تدل عليه لوجوه:
أحدها: أنه قال:((مِنْ بَنِي آدَمَ))[الأعراف:172]، ولم يقل: من آدم.
الثاني: أنه قَالَ: ((مِنْ ظُهُورِهِمْ))، ولم يقل: من ظهره، وهذا بدل بعض، أو بدل اشتمال، وهو أحسن.
الثالث: أنه قَالَ: ((ذُرِّيَّتَهُمْ)) ولم يقل: ذريته.
الرابع: أنه قَالَ: ((وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)) أي: جعلهم شاهدين عَلَى أنفسهم ولابد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إِلَى هذه الدار كما تأتي الإشارة إِلَى ذلك لا يذكر شهادة قبله.
الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم، لئلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ: ((إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ))، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها، كما قال تَعَالَى :((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً))[النساء:165].
السادس: تذكيرهم بذلك، لئلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ: ((إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعاً ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.
السابع: قوله تعالى:((أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ))، فذكر حكمتين في هذا الأخذ والإشهاد: لئلا يدَّعو الغفلة، أو يدَّعو التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره. ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا عَلَى ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة.
الثامن: قوله: ((أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ))، أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل.
التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد عَلَى نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليه بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه، كقوله: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [لقمان:25]، فهذه هي الحجة التي أشهدهم عَلَى أنفسهم بمضمونها، وذكرتهم بها رسله، بقولهم: ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض))[إبراهيم:10].
العاشر: أنه جعل هذا آية، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها، بحيث لا يتخلف عنها المدلول وهذا شأن آيات الرب تعالى، فإنها أدلة معينة عَلَى مطلوب معين مستلزمة للعلم به فَقَالَ تعالى:((وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ))[الأعراف:174]، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر النَّاس عليها لا تبديل لخلق الله، فما من مولود إلا يولد عَلَى الفطرة، لا يولد مولود عَلَى غير هذه الفطرة، هذا أمر مفروغ منه، لا يتبدل ولا يتغير. وقد تقدمت الإشارة إِلَى هذا. والله أعلم] اهـ..

الشرح:-
سوف نبين عدم رجحان هذه الأوجة العشرة التي استدل بها المُصنِّف فيما ذهب إليه فقوله: أن الآية تضمنت ما يلي:
الأول: أنه قال من بني آدم ولم يقل من آدم.
والثاني: أنه قال من ظهورهم ولم يقل من ظهره.
والثالث: أنه قال من ذريتهم ولم يقل من ذريته.
هذه الأوجه الثلاثة مضمونها: أن إشهاد الله لم يكن من ظهر آدم، وإنما الألفاظ -كما تلاحظون- من بني آدم، وكذلك ظهورهم وذرياتهم وهذا لا اعتراض فيه، وذلك لأن ذكرهم بهذا الجمع يدل عَلَى استخراج الأبناء من الآباء إِلَى آخر ما يكون من بني آدم، ولو لم يذكر إلا آدم عَلَيْهِ السَّلام لظن ظان أن الذين استخرجوا هم ذريه آدم فقط -أي: الذين هم من صلبه- فلا دليل بعد ذلك يبقى واضحا عَلَى الأحفاد إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.

والرابع أنه قَالَ: ((وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ))[الأعراف:172] أي: جعلهم شاهدين عَلَى أنفسهم، ولابد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إِلَى هذه الدار، ولا يذكر شهادة قبلها؛ نقول: ليس شرطاً أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، لأن الاستشهاد كَانَ في عالم آخر، ونحن الآن في عالم مغاير، فليس من الشرط أن يبقى ذاكراً لذلك، وأما يَوْمُ القِيَامَةِ فلا يستبعد أن يتذكروا أي: أننا الآن -بني آدم- في هذه الدنيا نقول: لم نتذكر أن الله تَعَالَى أخذ علينا العهد بهذا الشي بالذات، وهذا صحيح، لكن لا يبعد أننا نذكر ذلك في يَوْمِ القِيَامَةِ، والحساب أو السؤال عن هذا الميثاق إنما يكون يَوْم القِيَامَةِ: (((أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) [الأعراف:172] وأما في هذه الدار فمن رحمة الله أن الحجة لا تقوم إلا عن طريق الرسل
الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ ((إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ))[الأعراف:172] والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها، كما قال تعالى:((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))[النساء:165] وهذا أيضا لا اعتراض فيه؛ لأننا نقول: إن إرسال الرسل، وإن الفطرة والميثاق الأول جميعها أدلة متظافرة ولا يتعارض بعضها مع بعض، فما المانع أن يكون مع هذين الدليلين، ومع هاتين الحجتين، دليل ثالث وحجه ثالثه، والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قدير عَلَى ذلك.
والسادس: تذكيرهم بذلك لئلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ: ((إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ))[الأعراف:172] ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعا ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم] وهذا الوجه نجيب عليه بجوابين:
الأول: أنهم ليسوا غافلين عن التوحيد، وهو المقصود بالإشهاد والإخراج، فلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنا كنا غافلين عن التوحيد، بل هو موجود في أنفسهم.
والجواب الآخر: أنه لا يستبعد أنهم يَوْمَ القِيَامَةِ يتذكرون ذلك ويقرون به، أو ينكره بعضهم مكابرة منهم، مع أنه ينبغي له أن يذكره أو ينساه.

والسابع: قوله تعالى: ((أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ))[الأعراف:173] فذكر حكمتين في هذا الإشهاد: لئلا يدعو الغفلة، أو يدعو التقليد فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره، ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا عَلَى ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة] نقول: الرسل والفطرة والإشهاد كلها مجتمعه تمنع وتقطع الشرك، وتمنع ادعاء الغفلة وادعاء التقليد، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عندما ذكر هذا الإشهاد وإلاقرار، لم ينص عَلَى أنه هو الدليل الوحيد.
والثامن: قوله: ((أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ))[الأعراف:173] يقول: أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا يا رب أفتهلكنا بما فعل المبطلون، ونحن لسنا من المبطلين، إنما نَحْنُ مقلدون أشرك آباؤنا وكنا ذرية من بعدهم، فتابعناهم عَلَى الشرك، فكيف تهلكنا بما فعل المبطلون.
فَيَقُولُ: هذا لا يتناسب مع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل.
فنقول: هذا نفس الجواب: أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يجعله دليلاً واحداً، وإنما جعله دليلاً من أدلة، فيَوْم القِيَامَةِ يسألهم ماذا أجبتم المرسلين؟ وسؤالهم عن ذلك يتضمن إنكارهم لرسالة المرسلين ويتضمن إنكارهم للفطرة وللميثاق الأول.

قوله التاسع: أنه سبحاه أشهد كل واحد عَلَى نفسه أنه ربه وخالقه واحتج عليه بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه كقوله: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ))[لقمان:25] أي: فكيف يصرفونه عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم أن الله ربهم وخالقهم وهذا كثير في القُرْآن [فهذه هي الحجة التي أشهدهم عَلَى أنفسهم بمضمونها وذكرتهم بها رسله بقوله: ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضْ))].
أما العاشر فهو نفس التاسع مؤداهما واحد، وهو: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أنزل وأودع في قلوب النَّاس الآية الدالة عَلَى وجوده وعلى توحيده وعلى ربوبيته، وهي الفطرة، والفطرة أمر معلوم ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضْ))[إبراهيم:10] فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فطر النَّاس عَلَى الإيمان به، وأنه الخالق الرازق، فالإقرار والميثاق هو هذه الفطرة التي يولد عليها كل مولود، والتي لاشك أن النَّاس جميعاً لا ينكرونها، وهذا ما يريد أن يقوله المصنف، وأيضاً: لا منافاة كما سبق بين أن تكون هناك فطرة، وأن يكون هنالك استخراج وإشهاد.