ثُمَّ يقول المصنف: [ولا يدل عَلَى أنها خلقت خلقاً مستقراً واستمرت موجودة ناطقة كلها في موضع واحد ثُمَّ يرسل منها إِلَى الأبدان جملة بعد جملة كما قاله ابن حزم] أي: إن الصحيح هو إذا أراد اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أن يخلق إنساناً، فإنه يخلق روحه في ذلك اليوم الذي خلق فيه الجسد ويأمر الملك أن ينفخ فيه الروح، وقد ذكر ابن حزم ذلك في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/123) وأشار إِلَى ذلك في (5/219) في الطبعة التي أصدرتها دار عكاظ وحققها الدكتور عبد الرحمن عميرة وزميله.
يقول ابن حزم: وهذا هو القول الصحيح؛ بل ادعى أيضاً الإجماع عَلَى أن قوله هو الصحيح!! وقَالَ: الأدلة واضحة وجلية وظاهرة من القُرْآن والسنة، أما القُرْآن: فإن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقول: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَم)) [الأعراف:11] وهذه الآية تدل عَلَى أن الله عَزَّ وَجَلَّ خلق الخلق أولاً ثُمَّ صورهم -وثُمَّ للتعقيب مع الترتيب- ثُمَّ أمر الملائكة أن تسجد لآدم وعليه تكون الأرواح مخلوقة قبل الأجساد!

ويعلق ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى هذا فَيَقُولُ: " هذا أليق بظاهريته" فأخطأ والخلل جاءه من الظاهرية، وإذا أردنا أن نرد عَلَى هذا القول نرد على الظاهرية نفسها واللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ في قولهِ: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)) [الأعراف:172] من بني آدم وليس فقط من آدم بل أخذ الذرية من أصلابهم، وجاء في الحديث: أنه استخرجها من ظهر آدم والحديث يفسر الآية، فلما مسح بيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى ظهر آدم واستخرج هذه الذرية، فإن آدم يكون موجوداً، فكيف يقول ((خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَم)).
ومعنى هذا الكلام أنه خلق الأرواح وهي منفصلة، فكأن خلقها متقدم عَلَى تصوير آدم وعلى إسجاد الملائكة له، وهذا الكلام لا يقول به أحد بل لو نظرنا إِلَى قوله: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ)) لوجدنا أن ظاهر الآية لاتخص آدم بذلك؛ بل إن اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يأمر الملائكة أن يسجدوا لآدم إلا بعد أن خلق البشر وبعد أن صورهم وهذا لا يقول به أحد، وابن حزم نفسه لا يقول بالظاهر المطلق، وهو يقول: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ)) أي: ولقد خلقنا أرواحكم ((ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ)) أي: صورهم في عالم الذر((ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ))، يقول ابن حزم: فما دام أنك قد قدرت مضافاً فالتقدير الصحيح للمضاف أن نقول: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ)) أي: خلقنا أباكم الذي أنتم من ذريته وجمهور السلف قالوا في قوله: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ)) أي: قدرنا خلقكم وصوركم، فيكون اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قبل أن يخلق آدم قدر خلق الناس، وقدر صورهم، ثُمَّ خلق آدم وأسجد له الملائكة.
أو ((وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ)) أي: خلقنا أباكم آدم، وقد ورد التعبير في القُرْآن الكريم عن الجنس الإِنسَاني كله بالبشر الواحد وهو آدم عَلَيْهِ السَّلام، أو يكون بالعكس؛ لأن هذه ذريته، والعلاقة بينها واضحة.
والقصد أن هذه الآية وما ماثلها ليس فيها دليل لـابن حزم عَلَى أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، وإنما تدل عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قدر الخلق وصوره ثُمَّ ركب الإِنسَان كما قَالَ: ((فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)) [الانفطار:8] فيخلق الإِنسَان ويركبه عَلَى الصورة التي قدرها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقضاها.
أو المعنى الآخر: أنه خلق أبانا آدم وصوره وأسجد له الملائكة، ثُمَّ جعلنا منه ذريته، فخلقه من طين، وجعل نسله من سلالة من ماء مهين.

والدليل الثاني: الذي استدل به ابن حزم هو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف}، ووجه استدلاله أن الروح مخلوقة موجودة مستقلة تتعارف وتتناكر منفصلة عن الجسد، هكذا يقول، والواقع أننا لو تأملنا الحديث لوجدنا أن ما يدل عليه أن الأرواح خلقٌ من خلقِ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "جنود مجندة" فهي أشباه ونظائر فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، وهذا موجود في واقع النَّاس، فالأرواح المتشابهة المتعارفة تأتلف، والأرواح المتخالفة المتناكرة تختلف، ونجد أن أهل الخير يحبون أهل الخير، وأهل الشر يحبون أهل الشر؛ لأن الأرواح جنود مجندة خلقها الله عَزَّ وَجَلَّ هكذا، وليس فيه دليل عَلَى أن الأرواح خلقت منفصلة في عالم الغيب، وبقيت هنالك.
والدليل الثالث: الذي ذكره ابن حزم حديث عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الذي فيه: {إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثُمَّ يكون علقة مثل ذلك ثُمَّ يكون مضغة مثل ذلك، ثُمَّ يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بكتب أربع كلمات} ووجه استدلال ابن حزم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذا أراد أن يخلق إنساناً، وأن ينفخ فيه الروح، فإنه يأتي بتلك الروح المخلوقة المنفصلة الموجودة التي خلقها واستنطقها وأقرها فينفخها في ذلك المخلوق، وهذا في الحقيقة لا دليل عليه، وإنما الوجه الصحيح في هذا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذا أراد أن يخلق نسمة، فإنه يخلق روحها، ثُمَّ يأمر الملك بأن ينفخ هذه الروح المخلوقة في ذلك الجنين.

والذين قالوا: إن الأرواح قديمة أزلية هم طائفة من الفلاسفة ومن الزنادقة الذين لا يعتد بقولهم ولا بخلافهم في هذه المسألة.
ثُمَّ يقول ابن حزم بعد ذلك: "وقد ذكر مُحَمَّد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه -ذكر القول الذي قال به- ثُمَّ قَالَ: وعلى هذا أجمع أهل العلم، وقَالَ ابن حزم: وهذا قول جميع أهل الإسلام.
ونقل ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ أن ابن حزم ادعى الإجماع ها هنا في أمرين مختلفين، فإن السلف لم يجمعوا عَلَى أن الأرواح مخلوقة موجودة منفصلة قبل الأجساد حقيقة، وإنما أجمعوا عَلَى أن الأرواح مخلوقة من خلق الله عَزَّ وَجَلَّ، وعليه فإن الإجماع الذي نقله مُحَمَّد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه إنما هو في كون الأرواح مخلوقة.
والآثار التي ذكرها مُحَمَّد بن نصر المروزي، ونقلها ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في كتاب الروح تدل عَلَى هذا، ويكون قول ابن حزمٍ بهذا شاذاً.