المادة كاملة    
إقامة العدل سبب رئيس لبقاء الأمم وتمكينها، وإن كانت في ذاتها كافرة. وخيرية هذه الأمة في إيمانها بربها، وإقامتها لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والناس قد تختلف مواقفهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنه في النهاية ضرورة من ضرورات الاجتماع الإنساني، فلابد من القيام به كما أمر الله تعالى.
  1. العدل والمساواة من أسباب بقاء الأمم

     المرفق    
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام".
    لا يخرج شيء في هذا الوجود عن سنة الله أبداً؛ قال تعالى: ((وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا))[فاطر:43] هذه السنة لا تتغير ولا تتبدل؛ فقد جعل الله لكل شيء قدراً، وجعل للأمور أسباباً؛ إذا حصلت تلك الأسباب، حصلت النتائج، وهذا من عظيم حكمته كما أنه من عظيم رحمته سبحانه وتعالى.
    فتتجلى حكمته عز وجل في أن يري الناس هذه السنن الثابتة، فيستنبطون منها ما به يعلمون كيف يعيشون، وكيف أن الحكيم الخبير سبحانه وتعالى -وهو رب كل شيء ومليكه- جعل أموره كلها على هذه السنة التي لا تتغير ولا تتبدل.
    ورحمته تعالى تتجلى في أنه علم البشر ذلك وألهمهم إياه، فلو أن الأمم تقوم جزافاً، وتسقط وتموت بلا أسباب ثابتة يعقبها نتائج مؤكدة، لما علم الناس كيف يهتدون إلى السلامة، وكيف يطلبون الخير، وكيف ينأون عن الشر.
    فهناك سنن ثابتة، ومنها هذه السنة الإلهية، وهي: أنه بالعدل تدوم الأمم وإن كان فيها الاشتراك في الإثم والمعاصي، فمن عامل الناس بالعدل، دام ملكه وإن أثم بغير الظلم، وأما من يظلم، فإنه وإن كان على شيء من الحق لكن تعسفه في هذا الحق وجوره فيه مؤذن بهلاكه.
    ولذلك أشرنا إلى أن واقع أمم الكفر ودولها الآن هو التمكين والسيطرة، ولكنها سوف تذهب وتضمحل بإذن الله، فلكل أمة أجل، ولم يأت أجلهم بعد.
    لكن ما هو سبب بقائهم؟ وما الذي يجعلهم يدومون ويسيطرون مع ما هم فيه من الكفر، وما هم فيه من الأمراض الاجتماعية والنفسية، والانهيار الأخلاقي والتفكك الاجتماعي؟
    لابد أن هناك أموراً يستحقون بها البقاء، فما هي هذه الأمور؟
    1. العدل والمساواة سمة من سمات الروم قديماً وحديثاً

      لقد أثنى عمرو بن العاص رضي الله عنه قديماً على الروم بذلك، وهذه الصفة مشهورة فيهم، ولا يضيرنا نحن المسلمين أن نقول: إن فيهم صفة المساواة أو العدل أو الشجاعة، فنحن أمة العدل، ومن عدلنا أننا لا نظلم أمة من الأمم، ولا ننكر ما لها من صفات حق، مع علمنا أنها أمة كافرة، ولا يغني ذلك عنها شيئاً، ولا ينفعها عند الله، ولا ينجيها من سيوف المسلمين في الدنيا أيضاً؛ لأن سنة الله في النصر والتمكين لعباده الصالحين تغلب ما عند أولئك.
      لكن الواقع يشهد بوجود شيء مما ذكرنا في تلك البلاد، فمثلاً عند الدول الغربية التي تدخل تحت ما يسمى بالدول الديمقراطية: إذا أراد الإنسان أن يقدم إليهم لاجئاً ومهاجراً يريد الإقامة، فإنهم يشترطون عليه أن يتقدم بطلب للحصول على الإقامة، ثم ينتظر بعد ذلك الرد، وبعد ذلك تنفق عليه الدولة، وتعطيه مرتباً أسبوعياً يكفيه لإعاشته؛ سواءٌ كان وحده أو مع أسرته، ولا يطالبه أحد بشيء، إنما كل ما يلزم به أن يبرز لهم ما يثبت أن لديه ملفاً لمراجعة موضوع إقامته، فإذا حصل على الإقامة؛ فعندها يصبح له حقوق كأي مواطن في تلك الدولة، وإذا لم يحصل له ذلك، فإنه يطلب منه مغادرة البلاد، وفي كلا الحالتين ما لم يحصل على عمل؛ فإنه يحصل على نفقة وسكن وكل ما يضمن له أن يعيش ويكف نفسه حتى يحصل له مراده؛ إما أن يجد عملاً أو يسافر، وهذه قاعدة يتعاملون بها ويتعارفون عليها، ولا شك أن هذا عدل، وجدير أن يدوم سلطان من كان هذا شأنه، على ما فيه من كفر أو شرك.
      وكذلك لا يمكن أن يحاكم أي إنسان هناك إلا بتهمة قانونية، وإن كان التحاكم إلى قانونهم كفر بلا شك، لكنهم يعدلون في تطبيقه، وأصل المبدأ من العدل، وهو أن الإنسان لا يؤاخذ بالتهمة أو بالظن ويرمى في السجون إلى ما لا نهاية، بل لابد أن يكون الأخذ قانونياً، والأصل في الإنسان البراءة حتى تثبت التهمة، وهذا موجود في شرعنا وديننا وفيما قبله من شرائع الله، وربما كانت هذه لديهم من بقايا الأديان، ولكنهم أصّلوها وعملوا بها، فالأصل أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وأنَّ من حقه أن يتخذ محامياً وأن تكون المحاكمة علنية ومدنية.
    2. الظلم سبب من أسباب انحطاط المسلمين

      إن ما يحصل في بعض بلاد الكفار من عدل وتطبيق للقانون هو خلاف ما يقع أحياناً في بعض الدول التي تدعي أنها إسلامية، حيث تشكل فيها محاكم عسكرية خصوصاً للدعاة إلى الله، ولا يخفى ما يقع في هذه الدول من حرب للدعاة وسجن لهم، مع وضوح أنهم لا يدعون إلا إلى الله، وربما لا يكون لديهم أي تهمة على الإطلاق، وربما أخذ من ليس له ذنب على الإطلاق.
      فهذه السنن التي سنها الله سبحانه وتعالى؛ بها يقوم أمر أولئك الكفار، وبها يزول من كان على غير العدل، وإن كان من أهل الإسلام، هذا في الدنيا.
      أما في الآخرة، فأولئك ليس لهم في الآخرة إلا النار، وأما المسلمون فربما يعاقبون في الدنيا بزوال النعم؛ لأنهم فرطوا ولم يقوموا بالعدل، ومآلهم في الآخرة إلى الله، وهذه السنة قديمة، ولهذا فإن كسرى أنو شروان الذي اشتهر بعدله مُكِّن له في الملك، يقول حافظ إبراهيم :
      أتى عمر فأنسى عدل كسرى            كذلك كان عهد الراشدينا
      فإن كسرى استطاع أن يحتل بلاد العراق والشام .
      ومع بعثة النبي صلى الله عليه وسلم مكن الله سبحانه وتعالى لـهرقل؛ فغلب أولئك الفرس، وفيه أنزلت: ((الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ))[الروم:1-4]
      فغلب هرقل على أولئك الفرس، لأنه كان متديناً وكان عادلاً.
      وهكذا سنة الله في القديم والحديث لا تختلف، والظلم لا يدوم، فالانهيار الحاصل في المجتمعات الشيوعية سببه الظلم.
      قال: "وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم} فالباغي يصرع في الدنيا، وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة؛ وذلك لأن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق".
      جعل الله قيام الدنيا بالعدل سبباً من الأسباب التي تتخذ،كما أن الإنسان إذا اتخذ أي سبب مادي لقيام بنيان، وكان هذا السبب صحيحاً، قام البنيان، فإن لم يتخذه لم يقم، فالعدل من أسباب قيام الملك وبقاء الدولة، قال رحمه الله: "فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة".
  2. أقسام الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

     المرفق    
    يقول رحمه الله: "والناس هنا ثلاثة أقسام" أي أن الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ثلاثة أقسام:
    النوع الأول: "قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم، فلا يرضون إلا بما يعطونه، ولا يغضبون إلا لما يحرمونه، فإذا أعطي أحدهم ما يشتهيه من الشهوات -الحلال والحرام- زال غضبه وحصل رضاه" فبعض الناس يقوم بهذا الأمر ويقوم له لحظ النفس وشهوته، فالعدل عنده ما تمكن به من أخذ ما يريد، والحلال ما حل في يده، واستطاع أن يتملكه، أما الظلم والحرام، فهو أن يحرم شيئاً وإن كان حرمه بحق وبعدل وبحكم شرعي.
    قال: "وصار الأمر الذي كان عنده منكراً -ينهى عنه ويعاقب عليه ويذم صاحبه ويغضب عليه- مرضياً عنده، وصار فاعلاً له وشريكاً فيه ومعاوناً عليه، ومعادياً لمن نهى عنه وينكر عليه وهذا غالب في بني آدم؛ يرى الإنسان ويسمع من ذلك ما لا يحصيه، وسببه أن الإنسان ظلوم جهول" أي أن بعض الناس لا يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الإنكار إلا لذات الشهوة وحظ النفس، فإذا حصّل ممن كان ينكر عليهم على شيء مما يريد، وحصلت شهواته من منصب أو مال أو أمر من الأمور الدنيوية؛ نسي ذلك المنكر وأصبح مقراً له، بل يصبح معاوناً لأصحاب المنكر.
    وشيخ الإسلام في كلامه هذا يعرض بأهل الأهواء وبغيرهم من الظالمين في التاريخ، وهذا يقع في كل زمان ومكان، فتجد ممن ينكرون على الملوك والخلفاء أنهم أنكروا عليهم لأنهم استأثروا بالدنيا دونهم، فإذا أُشركوا فيها، وأُعطوا شيئاً من المناصب، رضوا وقالوا: هذا هو الحق والعدل؛ فهم لم ينكروا غضباً لله ولا طلباً للعدل أو المساواة بين الرعية، وإنما أنكروا غضباً للنفس وحباً لشهوة الملك أو السلطان. يقول رحمه الله: "فلذلك لا يعدل، بل ربما كان ظالماً في الحالين، يرى قوماً ينكرون على المتولي ظلمه لرعيته واعتداءه عليهم، فيرضي أولئك المنكرين ببعض الشيء، فينقلبون أعواناً له، وأحسن أحوالهم أن يسكتوا عن الإنكار عليه، وكذلك تراهم ينكرون على من يشرب الخمر ويزني ويسمع الملاهي؛ حتى يدخلوا أحدهم معهم في ذلك، أو يرضوه ببعض ذلك، فتراه قد صار عوناً لهم" أي أنه أصبح من أعوانهم بعد أن كان منكراً عليهم، قال: "وهؤلاء قد يعودون بإنكارهم إلى أقبح من الحال التي كانوا عليها، وقد يعودون إلى ما هو دون ذلك أو نظيره".
    يقول رحمه الله: "وقوم يقومون ديانة صحيحة" هؤلاء هم النوع الثاني، وهم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بدافع الديانة الصحيحة، قال: "وقوم يقومون ديانة صحيحة، يكونون في ذلك مخلصين لله، مصلحين فيما عملوه، ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا، وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم من خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله".
    أما النوع الثالث فيقول: "وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا، وهم غالب المؤمنين" فيهم شهوة من جهة، ومن الممكن أن يسكتوا إذا أعطوا ما يرضيهم، ومن الجانب الآخر فيهم نوع من الإنكـار والغيرة على الدين، فتتردد الأنفس بين الأمرين.
    يقول: "فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم إرادة الطاعة وإرادة المعصية، وربما غلب هذا تارة، وهذا تارة" فإذا ذكر بالله أخذته الغيرة وأنكر، فإذا غلبت عليه الشهوة، ومال إلى ما أعطي من الدنيا، سكت.
    يقول: "وهذه القسمة الثلاثية كما قيل: الأنفس ثلاث" أي أن القسمة الثلاثية تكون بحسب الأنفس الثلاث " أمارة ومطمئنة ولوامة، فالأولون هم أهل الأنفس الأمارة التي تأمر بالسوء" كما قال تعالى: ((وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ))[يوسف:53] فالنفس الأمارة بالسوء: هي تلك التي تتبع الهوى وتدعو صاحبها إليه.
    قال: "والأوسطون هم أهل النفوس المطمئنة التي قيل فيها: ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي))[الفجر:27-30] والآخرون هم أهل النفوس اللوامة، التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه، وتخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً" أي أنهم هم الذين خلطوا واجتمع فيهم الأمران .
    1. صلاح شئون المسلمين في عهد الشيخين

      ثم شرع رحمه الله في بيان حال الأمة الإسلامية، التي ترتبط حياتها وقيامها ووجودها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيف وقع فيها الخلل والانحراف في هذا الأمر يقول: "ولهذا لما كان الناس في زمن أبي بكر وعمر -اللذين أُمر المسلمون بالاقتداء بهما؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: {اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر }- أقرب عهداً بالرسالة، وأعظم إيماناً وصلاحاً، وأئمتهم أقوم بالواجب، وأثبت في الطمأنينة، لم تقع فتنة، إذ كانوا في حكم القسم الوسط"، فلم تكن فتنة في خلافة الشيخين رضي الله عنهما، فالقضاة لا يجدون عملاً، وليس لهم ما يشغلهم؛ لأن كل أحد عرف ما له وما عليه، فالأمة قائمة بالقسط، والأئمة قائمون بالقسط، ولم يحدث من أحدهم ظلم ولا إخلال، لا الأمة ولا الأئمة، فـأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يستأثرا دون الناس بشيء من بيت المال، فلم يؤثرا أهلهما، أو ذويهما أو أقرباءهما بشيء من ذلك أبداً، بل كانا متجردين لله عز وجل، والأمة كانت طائعة لهما في طاعة الله تعالى، وكانت تعلم أنه يجب عليها أن تسمع وأن تطيع لهما، إذ أنهما قد حكما بالعدل وقد أعطيا وقسما بالسوية، فلم تقع فتنة -ولله الحمد- فقد غلب المسلمون المرتدين، وحاربوا الفرس والروم وهزموهم، فكان العدو خارجياً، أما في الداخل، فالصف واحد، والهدف واحد.
    2. بيان اختلال أمر المسلمين بعد الشيخين

      قال: "ولما كان في آخر خلافة عثمان وخلافة علي كثر القسم الثالث، فصار فيهم شهوة وشبهة مع الإيمان والدين" كثرت فيهم الشهوات من أموال وجوارٍ وكنوز تملكوها، وأيضاً وجدت الشبهات، فظهرت الشيعة والرافضة، وبدأت فتنة القدرية وما أشبه ذلك.
      يقول: "وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا" أي: لم يكن ذلك في الخليفتين عثمان وعلي رضي الله عنهما، ولكن في بعض ولاتهم وفي بعض رعيتهم، ويقول: "ثم كثر ذلك بعد، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين واختلاطها بنوع من الهوى والمعصية في الطرفين"، فانتشرت الفتن حتى وقعت المعارك بين ابن الزبير من جهة وعبد الملك بن مروان من جهة والمختار بن أبي عبيد من جهة، وكانت فتنة عظيمة بين المسلمين.
      ولهذا لما خطب عبد الملك بن مروان قال: تكلفوننا أعمال المهاجرين والأنصار ولستم مثلهم. يقول: تطلبون منا أن نحكمكم كما كان يحكم أبو بكر وعمر المهاجرين والأنصار، وأنتم لستم مثلهم.
      ولما سئل علي رضي الله عنه من قبل أحد أتباعه: لماذا استقام الأمر في عهد أبي بكر وعمر ولم يستقم لك؟ قال: {كانت رعيتهم مثلي، وأنا رعيتي مثلك}، فالفرق واضح بين رعية أبي بكر وعمر وبين رعية علي رضي الله عنهم أجمعين.
      ولذلك حصل الخلل بعد عصر الخلفاء الراشدين من الجهتين، فلا أولئك الحكام كانوا كالخلفاء الراشدين، ولا الرعية كانوا كالمهاجرين والأنصار، فكانت العقوبة وتسليط بعض الظالمين على بعض، وتولية بعضهم بعضاً.
      يقول: "وكل منهما متأول أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأنه مع الحق والعدل، ومع هذا التأويل نوع من الهوى" أي أن كل واحد متأول، ويظن أنه يريد الحق مع أن فيه شبهة وشهوة وميلاً، وكذلك الطرف الآخر. يقول: "ففيه نوع من الظن وما تهوى الأنفس، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحق من الأخرى.
      فلهذا يجب على المؤمن أن يستعين بالله ويتوكل عليه في أن يقيم قلبه ولا يزيغه، ويثبته على الهدى والتقوى، ولا يتبع الهوى،كما قال تعالى: ((فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ))[الشورى:15]".
      ويقول رحمه الله: "وهذا أيضاً حال الأمة فيما تفرقت فيه واختلفت في المقالات والعبادات" (المقالة) هنا معناها: الاعتقاد أو المذهب، ولهذا ألّف الأشعري كتاباً سماه مقالات الإسلاميين، أي: آراءهم واعتقاداتهم.
      يقول: فكما أن هذا واقع فيما يتعلق بالملك والسلطان؛ فهو واقع كذلك في المقالات والعبادات.
      يقول: "وهذه الأمور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين، فإنهم يحتاجون إلى شيئين: إلى دفع الفتنة التي ابتلي بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضي لها؛ فإن معهم نفوساً وشياطين كما مع غيرهم، فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضي عندهم، كما هو الواقع؛ فيقوى الداعي الذي في نفس الإنسان وشيطانه، وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير، فكم ممن لم يرد خيراً ولا شراً حتى رأى غيره -لا سيما إن كان نظيره- يفعله ففعله" فالإنسان أحياناً يريد الخير، لكن نفسه تنازعه للشر، فإذا رأى نظيره أو قرينه على شيء، مال إلى أن يفعل مثل ما هو عليه، فإذا ظهر الهوى والشهوة، وغلبت على طائفة، كان ذلك داعياً إلى أن ينساق إليها البقية من الذين هم على الخير، والعكس صحيح أيضاً.
      يقول: "فإن الناس كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض" القطا: هو الطير المعروف، وهو يطير في أسراب؛ فالذي يحصل في طيران هذه الطيور أنه إذا تقدم منها واحد أو مجموعة، اندفعت البقية وراءه؛ فإذا تأخر وتقدم غيره، اندفعت وراء الآخر؛ فإذا انحرفت مجموعة، انحرفت الطيور كلها جميعاً، وهكذا الناس يتبع بعضهم بعضاً؛ فالناس عندما يرون إنساناً يفعل شيئاً، اتبعوه دون أي تفكير، وهذا من العجب؛ لأن الله تعالى ميز الإنسان بالعقل؛ لكن قَلَّ من يحكم عقله في أمور حياته وَيُغَلِّبُه على هواه.
    3. أتبع السيئة الحسنة تمحها

      وهنا يتحدث شيخ الإسلام رحمه الله عن داعي الخير وداعي الشر، فيقول: "ولهذا يؤمر المؤمنون أن يقابلوا السيئات بضدها من الحسنات، كما يقابل الطبيب المرض بضده، فيؤمر المؤمن بأن يصلح نفسه، وذلك بشيئين: بفعل الحسنات، وترك السيئات، مع وجود ما ينفي الحسنات، ويقتضي السيئات، وهذه أربعة أنواع.
      ويؤمر أيضاً بإصلاح غيره بهذه الأنواع الأربعة" أي: بإتيان الحسنات وترك السيئات من غير العكس، "بحسب قدرته وإمكانه قال تعالى: ((وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))[العصر:1-3]" فكل إنسان خاسر وإن جمع ما جمع، وإن عاش ما عاش، وإن فعل ما فعل، فهو خاسر خسارة لا ربح معها، إلا من استثناهم سبحانه وتعالى بقوله: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))[العصر:3] فلديهم الإيمان الذي يستلزم العمل الصالح وهو جزء منه، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالصبر؛ إذ لا يكتمل إيمانهم ولا يثبت، ولا تستقيم دعوتهم وأمرهم ونهيهم إلا بأن يصبروا على ما يلاقون من الأذى.
      يقول: "وروي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: [[لو فكر الناس كلهم في سورة (والعصر) لكفتهم]]" فأكثر الناس يحفظها، لكن من الذي يتدبرها ويتأملها ويفقهها؟! وإلا فهي كافية.
  3. تلبيسات إبليس في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

     المرفق    
    ثم ينتقل شيخ الإسلام رحمه الله إلى موضوع آخر يتعلق بمواقف الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقول رحمه الله:
    "ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة؛ صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة".
    ونحن أولى الناس بأن نداوي أمراض قلوبنا.
    فمن الشبهات والفتن التي يتعرض لها الدعاة: أن يقول الإنسان: أترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طلباً للسلامة من الفتن.
    1. ترك الدعوة والجهاد سقوط في الفتنة

      يقول: "كما قال عن المنافقين: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)[التوبة:49] وقد ذكر في التفسير أنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزو الروم".
      في غزوة تبوك أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين كافة أن يتجهزوا، فخرجوا ولم يتخلف إلا المنافقون أو من أعذرهم الله، إلا الثلاثة الذين خلفوا، وليس معنى خلفوا: تخلفوا عن المعركة ولم يذهبوا إليها، وإن كان الكلام في التخلف، وإنما معناه: أُخِّروا وأُجِّلوا، لأن المنافقين كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث كعب بن مالك الطويل- فيحلفون له، فيصدقهم ويعفو عنهم، ويكلهم إلى الله، أما أولئك فقد خلفوا، أي: أُنظِروا وأرجئ أمرهم حتى أنزل الله توبتهم بعد خمسين ليلة.
      وقد قال ابن عباس رضي الله عنه في هذه السورة: إنها الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين حتى أتت على جل صفاتهم وأحوالهم. قال تعالى: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي))[التوبة:49] هذا فقه المنافقين، وقد ذكره الله تعالى في القرآن حتى نعتبر.
      يقول شيخ الإسلام: "وأظنه قال: {هل لك في نساء بني الأصفر، فقال -أي: الجد بن قيس -: يا رسول الله! إني رجل لا أصبر عن النساء، وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر، فائذن لي ولا تفتني} أي: أنه مستعد للجهاد، وقادر عليه، لكن عذره أنه إذا رأى بنات الروم؛ لم يصبر عنهن فيخشى أن يقع في الفتنة، فكأنه لا يريد إلا بقاء هذا الإيمان، وبقاء القرب من الله سبحانه وتعالى بأن لا يقع في شهوة النساء التي قد تؤثر وتضعف إيمانه ودينه.
      يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن قصة الجد : "إنه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء، فلا يفتتن بهن، فيحتاج إلى الاحتراز من المحذور ومجاهدة نفسه عنه، فيتعذب بذلك، أو يواقعه فيأثم، فإن من رأى الصور الجميلة وأحبها، فإن لم يتمكن منها إما لتحريم الشارع، وإما للعجز عنها؛ يعذب قلبه، وإن قدر عليها وفعل المحذور هلك".
      وهذا حال من يسمون أنفسهم بالعشاق، والذين نسمع صرخاتهم وآهاتهم وأناتهم في كل حين، ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله عن الغناء قال: [[ما أظن عاقلاً يصنع بنفسه هكذا]] لترنح المغنين وتمايلهم.
      فيقول: إذا غلب الهوى فحصل هذا العشق لا يخلو من أمرين: إما أن يأتي الإنسان شهوته ومراده فيقع في الحرام، وإما أن يحرم منها، فيقع في الألم والعذاب.
      يقول: "فهذا وجه قوله: (ولا تفتني) قال الله تعالى: ((أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا))[التوبة:49] يقول: نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه، وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد: فتنة عظيمة قد سقط فيها" أي أن حبه للإخلاد إلى الدنيا وترك الجهاد والتخلف بنفسه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة عظيمة سقط ووقع فيها.
      قال: "فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؟!" أي: أحاطت به وانعكس عليه الأمـر، يقول: "والله يقـول: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ))[البقرة:193]، فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة؛ فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه، ومرض فؤاده، وتركه ما أمر الله به من الجهاد".
      ولهذا لما جاء التتار، قال بعض الناس: كيف نحاربهم وهم يقولون: (لا إله إلا الله)؟ فأفتاهم شيخ الإسلام ومن جملة ما قال: "لو رأيتموني معهم والمصحف معلق في عنقي؛ فاضربوا عنقي" يقول لهم ذلك حتى يستيقنوا أن الفتنة هي في ترك قتال أولئك، ولا يقولوا: هذا قتال فتنة بين المسلمين، فهم ليسوا مسلمين؛ لأنهم يحكمون الياسق الذي وضعه جنكيز خان، ويقولون كما يقول الغربيون اليوم: رجلان عظيمان محمد وجنكيز خان، فجعلوا محمداً صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وخير البرية مثل جنكيز خان، وقالوا: نحن مسلمون، نشهد أن لا إله إلا الله..!
      فهؤلاء لا يقبل منهم هذا مع بقائهم على هذا الولاء لذلك المشرك، وتحكيم ما أقره وكتبه لهم، فقال شيخ الإسلام : ليس هذا من قتال الفتنة ولا من قتال البغاة، هذا من الجهاد الواجب لأولئك الخارجين على الشريعة، فلو رأيتموني معهم والمصحف معلق بعنقي، فاضربوا عنقي.
      فالفتنة: هي ترك القتال عندما يكون في القتال إعلاء لكلمة الله؛ لأن الله تعالى يقول: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ))[البقرة:193] والفتنة: الشرك، كما فسرها الصحابة رضوان الله عليهم.
    2. الفرق بين المفاسد الحقيقية والمفاسد المتوهمة

      يقول: "فتدبر هذا، فإن هذا مقام خطر، فإن الناس هنا ثلاثة أقسام: قسم يأمرون وينهون ويقاتلون؛ طلباً لإزالة الفتنة التي زعموا، ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة، كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة" فالفتن إذا وقعت بين المسلمين وتقاتلوا من أجل الملك والسلطان، لا لإعلاء كلمة الله، ولا لإعزاز دينه، ولا لإحقاق الحق، فهؤلاء في الحقيقة يتقاتلون ويزعمون أنهم بقتالهم هذا يزيلون الفتنة وهم قد وقعوا فيها؛ لأن القتال من أعظم الفتن، بل هو أساس كل فتنة بين المسلمين، وأساس كل فساد وقطع للأرحام، ويترتب على ذلك مصائب لا يعلمها إلا الله.
      ثم يقول: "وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا؛ لئلا يفتنوا، وهم قد سقطوا في الفتنة"، أي: هناك في المقابل المنافقون الذين يقرون الشرك والكفر والإلحاد ومخالفة دين الله عز وجل، فإذا دعوا للإنكار وإلى الجهاد قالوا: نخاف الفتنة، فهؤلاء في الفتنة سقطوا ولم يخلصوا منها، يقول: "وهذه الفتنة المذكورة في سورة (براءة) دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة؛ فإنها سبب نزول الآية" الصورة المقصود بها من كلام العلماء هي: المظهر، فصورة أي إنسان تعني مظهره، فالافتتان بالصور الجميلة يعني العشق، وهو المراد بهذه الآية.
      قال: "وهذه حال كثير من المتدينين، يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، لئلا يفتنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه"، أي أن بعض المتدينين يكون حاله ذلك، فيترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل، والدعوة إلى الله، ويقول: أخشى من الفتن، وقد تكون الفتن متوهمة غير حقيقية، فيكون تركه لذلك من أعظم الفتن.
      وهذه من المداخل الشيطانية الخبيثة، فالإنسان يجب عليه أن يتقي الله ويتحرز من الرياء والغرور والإعجاب، وهذه أمراض خطيرة تقضي على العلم والعمل، لكن إذا أعطاك الله علماً، وفقهك في شيء من الدين، ثم طلب منك أن تدعو إلى الله فقلت: أخشى الفتنة، وأخشى أن يفتتن الناس بي، وهذا هو المثل الذي يريده شيخ الإسلام، فهو يقول: إن الفتنة في الحقيقة هي كتم ما أنزل الله وكتم ما أمر الله، فإقرار الانحراف -إن كان في العقائد أو في الأعمال- والسكوت عليه وعدم تبليغ ما أمر الله بيانه للناس هذا هو الفتنة الكبرى، والواجب في هذه الحالة أن تتصدر وأن تأمر وتنهى وتعلم وتحذر.
      فلو كان هذا الرجل المنافق وأمثاله يخافون من فتنة بنات الروم: فما الواجب عليهم شرعاً؟
      نقول: اخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأيتم بنات الروم، فغضوا أبصاركم، فلا تُترَكُ الطاعة من أجل احتمال فتنة، ولكن تقام الطاعة، وتجتنب أسباب المعصية، فإن كنت تريد أن تعمل في الدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأقدم وافعل الطاعة واؤمر وانه واصبر، وفي الوقت نفسه احذر مما يباغتك به الشيطان من الشهوات التي تسقطك فيما حرم الله، فالواجب عليك الجهاد بكلا الحالين.
      يقول: "وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب وترك المحذور، وهما متلازمان، وإنما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم إلا فعلهما جميعاً أو تركهما جميعاً مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو المال وشهوات الغي؛ فإنه إذا فعل ما وجب عليه من أمر ونهي وجهاد وإمارة ونحو ذلك، فلابد أن يفعل شيئاً من المحظورات"، والمقصود: أن من كان لديه المقدرة والأهلية، ثم بمجرد احتمال أن يأتيه الشيطان أو يسقط في الفتنة يترك الخير، ويصده الشيطان عن الحق ويحرمه، ويحرم المسلمين من أمره ونهيه وجهـاده، يقول: "فالواجب عليه أن ينظر أغلب الأمرين، فإن كان المأمور أعظم أجراً من ترك ذلك المحظور؛ لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه في المفسدة".
      فمثلاً: قائد من القواد جريء وشجاع، لكنه يخشى أن يظلم الجنود ويجور عليهم، فالمصلحة تكون في أن يتولاها؛ لأن مفسدة جوره على الجند أخف من مفسدة أن يسيطر علينا الكفار ويغزونا، ولهذا اشترط العلماء في اختيار الخليفة أو قائد الجند مراعاة مصلحة الأمة؛ فإن كانت الأمة في حالة حرب وقتال، فإنه يختار الأشجع والأجرأ والأدهى والأحكم، لا الأتقى والأضعف قوة؛ لأن الأمة حينئذ تحتاج إلى القوة، وإن كانت الأمة في حالة سلم وموادعة ومهادنة، فلا يختار الأشجع والأجرأ، ولكن يختار الأتقى، وإن كان أضعف قوة وأقل جرأة؛ فديننا بني على الحكمة والمصلحة.
    3. الأمر والنهي من ضرورات الاجتماع الإنساني

      يقول: "وكل بشر على وجه الأرض فلابد له من أمر ونهي، ولابد أن يأمر وينهى" فلا يقل أحد: أريد أن أترك الأمر والنهي؛ فذلك غير ممكن؛ فكل بشر لابد أن يحب أشياء ويكره أشياء، ولابد أن يأمر بأشياء وينهى عن أشياء.
      ومن ينظر في أحوال الدول الغربية، يعجب من الصحافة هناك؛ فهي تنتقد السلطة الإدارية والتنفيذية، وتنتقد كل الأوضاع حتى القوانين؛ فكل مجتمع لن يقوم إلا على أمر ونهي.
      بل إن كل نفس أيضاً لا تقوم إلا بذلك؛ يقول رحمه الله: "حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها: إما بمعروف وإما بمنكر، كما قال تعالى: ((إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ))[يوسف:53] فإن الأمر هو طلب الفعل وإرادته، والنهي طلب الترك وإرادته، ولابد لكل حي من إرادة وطلب في نفسه يقتضي بهما فعل نفسه، ويقتضي بهما فعل غيره إذا أمكن ذلك؛ فإن الإنسان حي يتحرك بإرادته..." إلى أن يقول: "وإذا كان الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم؛ فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله، وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، ويؤمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله، ويُنه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، وإلا فلابد أن يأمر وينهى، ويؤمر ويُنهى، إما بما يضاد ذلك" أي: فيأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ويؤمر بالمنكر وينهى عن المعروف "وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزل الله بالباطل الذي لم ينزله الله، وإذا اتخذ ذلك ديناً كان ديناً مبتدعاً" فلابد من إحدى حالتين؛ إما أن يكون الأمر والنهي وفق ما شرع الله، وإما أن يكون الأمر والنهي خلاف ما شرع الله، ولذلك نجد الناس إما أن يقولوا: هذا حرام وهذا حلال، وإما أن يقولوا: هذا مخالف للنظام، وهذا خارج عن القانون، وهذا متعد، وهذا لابد أن يردع ويهجر.. ولكن الخير والهدى والاستقامة والصلاح ودوام النعمة في طاعة الله وفي الالتزام بأمر الله والتمسك بسنة رسول الله، وذلك بأن يكون الأمر والنهي تابعاً وموافقاً لما شرعه الله تبارك وتعالى.
      يقول : "وهذا كما أن كل بشر فإنه متحرك بإرادته؛ همام حارث؛ فمن لم تكن نيته صالحة، وعمله عملاً صالحاً لوجه الله، وإلا كان عملاً فاسداً أو لغير وجه الله، وهو الباطل، كما قال تعالى: ((إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى))[الليل:4] وهذه الأعمال كلها باطلة من جنس أعمال الكفار..." إلى أن يقول: "وقد أمر الله في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر من المؤمنين، كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا))[النساء:59].
      و(أولو الأمر) أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة، وأهل العلم والكلام؛ فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء، والأمراء؛ فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس؛ كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للأحمسية لما سألته: ما بقاؤنا على هذا الأمر؟ قال: [[ما استقامت لكم أئمتكم]]، ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان.. وكل من كان متبوعاً فإنه من أولي الأمر" أي: فكل من كان له شأن أو سلطة في أمر من الأمور، فهو ولي في ذلك الأمر بحسبه، حتى أن الرجل راع في أهل بيته، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من أولي الأمر في البيت، والمدرس ومدير المدرسة من أولي الأمر في المدرسة، فيطاع بالمعروف في المدرسة، والمدير من أولي الأمر في الإدارة، فيطاع بالمعروف في الإدارة، فعليه جزء من المسئولية التي على ولي الأمر.
      وأعظم ولاة الأمور هم الأمراء -الحكام عموماً- والعلماء؛ فهذان الصنفان إذا صلحا صلح الناس جميعاً، وإذا فسدا فسد الناس جميعاً.