المادة كاملة    
أمر الله تعالى نبيه بالصبر الجميل، والهجر الجميل، والصفح الجميل، وهي ركائز أساسية في أخلاق الداعية المسلم. ومن رحمة الله تعالى بهذه الأمة أنه ما من أحد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا ويقيض الله له من ينصره ويقوم معه، بخلاف أهل البدعة والمعصية فإنهم أذلة صاغرون.
  1. أهمية الصبر الجميل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

     المرفق    
    وصف الله تعالى كلاً من الصبر والصفح والهجر بالجميل، كما قال تعالى: ((فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا))[المعارج:5] وقال: ((فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ))[الحجر:85] وقال: ((وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا))[المزمل:10].
    1. أعلى مراتب الصبر والصفح والهجر

      قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: "الصبر الجميل: هو الذي لا ضجر فيه ولا ملل" وذلك أن الإنسان قد يصبر، لكن الصبر الجميل درجة أعلى، وهي التي لا ضجر فيها ولا ملل ولا تسخط.
      قال: "والهجر الجميل: هو الهجر الذي لا أذية فيه، والصفح الجميل: هو الذي لا عتاب فيه".
      والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون صاحبه في الذروة وفي القمة من التحلي بهذه الصفات ولاسيما الصبر.
      وهذه الأعمال -الصبر والصفح والهجر- لها درجة عليا، وهي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم متحلياً بها، فكان صبره صلى الله عليه وسلم من الصبر الجميل، وهجره من الهجر الجميل، وصفحه من الصفح الجميل، فبعض الناس قد يصبر ويصفح ويهجر، لكن لا يصل إلى هذه المرتبة، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي له أن يتحلى بأعلى المراتب في هذه الصفات وفي غيرها من الآداب.
    2. الصبر الجميل من صفات الأنبياء في الدعوة

      ولو أخذنا أنموذجاً من صبره صلى الله عليه وسلم لرأينا العجب العجاب، فقد جاءه ملك الجبال وقال له: {لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين، فقال: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله} فبعد أن بلغ الهم منه مبلغه، وبعد الرجم والصد والإعراض والتكذيب له، يكون منه هذا الموقف من الصبر والصفح كما أمره ربه عز وجل.
      ولو نظرنا إلى قوله تعالى: ((تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ* فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا))[المعارج:4-5]، لوجدنا أن هناك حكمة في ذكر مقدار اليوم: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) فإن ذلك يعطي شعوراً بأن عمر الإنسان كله محدود؛ فلو قضى الإنسان خمسين سنة في الدعوة إلى الله فهي لا شيء من خمسين ألف سنة؛ فليس هناك داع للتضجر؛ فاصبر صبراً جميلاً.
      ولو تأمل الإنسان واقع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، والأنبياء من قبله وما ابتلوا به، لتأثر واعتبر بذلك الاجتهاد مع الصبر في الدعوة والعمل؛ فإن نوحاً عليه السلام صبر وصابر ألف سنة إلا خمسين عاماً، وكان يدعو قومه ليلاً ونهاراً؛ سراً وجهاراً.. وما ترك وسيلة إلا واتخذها، كما فصل الله قصته في سورة نوح.
    3. الدعاة إلى الله في مقام أنبياء بني إسرائيل

      قال شيخ الإسلام : "إن الرسل -وهم أفضل خلق الله وقادة الدعاة- إنما أرسلهم الله تعالى للتخفيف من الشر ما أمكن، ولم يرسلهم لاستئصال الشر من العالم".
      ولم يبعثهم الله من أجل ألا يبقى على وجه الأرض نسمة كافرة، ولو بعثوا بذلك، لكان أولى الناس به محمداً صلى الله عليه وسلم الذي هو خاتم الأنبياء والرسل، ودعوته عامة للناس أجمعين، قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))[الأنبياء:107] ومع ذلك لم يبعث حتى يستأصل الشر من العالم.
      وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد} فلذلك ليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطاً بحصول النتائج، وإنما الواجب فيه هو: أن تتحقق الشروط الشرعية في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، أما النتائج فهي على الله سبحانه وتعالى.
      ومن رحمة الله بهذه الأمة أنه ما من أحد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقوم بذلك فيها إلا ويقيض الله له منها من يتبعه وينصره، ومن يقيم الله دينه على يديه؛ لأنها قد اختصت وفضلت ببقاء الطائفة المنصورة التي تقوم مقام أنبياء بني إسرائيل، فقد {كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء؛ كلما هلك نبي، خلفه نبي} يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويجدد الدين ويدعو الناس إلى الدين الحق، أما هذه الأمة فقد جعل الله مجدديها منها، وهم أئمة الهدى والدعاة إلى الله؛ فهم يقومون مقام الأنبياء، وما من أحد يقوم مقام الأنبياء إلا ويقيض الله له ناصراً، فلا تزال هذه الطائفة قائمة بإذن الله إلى قيام الساعة.
    4. أهمية الصبر الجميل في الدعوة

      يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان ميزة الصبر وأهميته: "ولهذا أمر الله الرسل -وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- بالصبر؛ كقوله لخاتم الرسل؛ بل ذلك مقرون بتبليغ الرسالة، فإنه أول ما أرسل أنزلت عليه سورة (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) بعد أن أنزلت عليه سورة (اقرأ) التي بها نبئ".
      وقد قال ذلك شيخ الإسلام ليجمع بين المروي عن الصحابة في أول ما نزل من القرآن؛ فبعضهم قال: أول ما نزل (اقرأ)، وبعضهم قال: أول ما نزل (يا أيها المدثر).. فجمع شيخ الإسلام -وكثير من العلماء- بين هذه الروايات بأنه صلى الله عليه وسلم نبئ بـ(اقرأ) وأرسل بالمدثر.
      يقول شيخ الإسلام: فقال: (( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ))[المدثر:1] إلى قوله: (( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ))[المدثر:7].
      إذاً: نزل الأمر بالصبر مع أول الأمر بالإبلاغ وبالنذارة، فهما مقترنان معاً.
      قال: "فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة، وختمها بالأمر بالصبر، ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر، وقال: ((وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا))[الطور:48] وقال تعالى: ((وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا))[المزمل:10] وقال: ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ))[الأحقاف:35] وقال: ((فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ))[القلم:48] وقال: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ))[النحل:127] وقال: ((وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ))[هود:115]".
      والصبر مذكور في القرآن بكثرة؛ قال الإمام أحمد : "تدبرت كتاب الله، فوجدت الله تعالى قد ذكر الصبر في أكثر من تسعين موضعاً" وهذا فيه دليل على فضل الصبر وعظيم شأنه، وشيخ الإسلام قد ذكر منها يتعلق بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
      وقد قال شيخ الإسلام قبل ذكر هذه الآيات: ولابد أيضاً أن يكون -يقصد الآمر والناهي- حليماً صبوراً على الأذى فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح كما قال لقمان لابنه: ((وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ))[لقمان:17] فمن الحكمة التي أوتيها لقمان، والتي أجراها الله على لسانه ما قاله لابنه: ((يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ))[لقمان:17] فإنه أعقب أمره له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالوصية بالصبر، فمن لم يصبر، فلن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
  2. شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

     المرفق    
    قال شيخ الإسلام: " فلا بد من هذه الثلاثة: العلم والرفق والصبر؛ العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده" فقبل أن تأمر وتنهى لابد أن تعلم أن هذا منكر أو معروف، وتنظر إلى المصلحة والمفسدة، وحال المأمور والمنهي.
    وبعد ذلك لابد من الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد فقد الرفق عند كثير من الناس، لا لضعف في إيمانهم ولا لعدم حرصهم أو غيرتهم؛ بل لأن الإنسان يريد أن يوصل الحق إلى الناس بأسرع وقت دون أن يتحمل الرد والمجابهة، ومن قوته في الحق يظن أنه لابد أن يكون عنيفاً متعسفاً في إنكار المنكر، مع أن عنفه هذا لا يليق؛ لأن النفوس البشرية كالزجاج؛ كسرها لا يجبر، فلو أسأت إلى إنسان فلربما حمل عليك الدهر كله، حتى أخوك -الذي بينك وبينه رابطة الإيمان والمحبة- إذا نصحته بعنف فربما فرق الشيطان بينكما، فما بالك بمن هو فاعل لما نهى الله عنه أو تارك لما أمر الله به؟!
    فلابد من الرفق، وهذا الرفق يعبر عنه بالأسلوب الحسن، ومن الرفق عرض الحجج بلطف وتودد، ولا يعني ذلك أن للخصم حجة، فإن خصوم السنة كلهم حجتهم داحضة، لكن من أجل أن تسمع ما عنده، وتحاوره كما تحاور الرسل مع أقوامهم، ومن ذلك ما قصه الله في مواضع كثيرة مما دار بين موسى وهارون عليهما السلام وبين الطاغية الجبار فرعون.
    فلابد أن يكون الرفق مصاحباً للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والصبر يكون بعده، فإذا ما عرضت الأمر والنهي -بعد العلم به وبحال المأمور والمنهي- على أفضل صورة محققاً الرفق مع المدعو، فبعد ذلك وطن نفسك على الصبر؛ لأنك قد تؤذى، كما قال الله لنبيه: ((فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ))[القلم:48] فصاحب الحوت لم يصبر، وكان يعجب كيف يقول للناس: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وهم يعلمون صحة رسالته وأمانته وديانته، ومع ذلك يرفضون ذلك ولا يؤمنون به، فخرج مغاضباً، ولم يتحمل هذا الرد وهذه المجابهة، وركب في السفينة كي يبتعد عنهم.
    يقول رحمه الله: "وإن كان كل من الثلاثة مستصحباً في هذه الأحوال" يعني: أن العلم والصبر والرفق لابد أن يستصحبها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قبل توجيه الأمر والنهي وأثناءه وبعده.
    ثم يقول: "وليُعلم أن الأمر بهذه الخصال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجب صعوبة على كثير من النفوس؛ فيظن أنه بذلك يسقط عنه فيدعه"، وذلك لأن النفوس قد جبلت على الراحة والدعة والاستكانة؛ والطريق إلى النار محفوف بالشهوات، لكن ليس للإنسان أن يسلك طريق النار للإخلاد إلى الدعة أو للتمتع بالشهوات؛ ولذلك لا تنظر إلى الأمر والنهي من جهة حظك وحظ النفس، فربما كان حظ نفسك في أن تأمر بمعروف كبير وأن تنهى عن منكر كبير، فتتحمل أمراً عظيماً، لكن ليس فيه مصلحة الدعوة، وتفعله لأن نفسك تميل إليه، فبعض الناس يريد أن يموت بأي وسيلة، والموت أشق شيء على النفس، ولكنه يجد راحة في ذلك، ولو قيل له: تعلم العلم، لما صبر على تعلمه ساعة، والعلم ليس فيه شيء مما في الموت من المشقة، لكنه يميل إلى الموت ولا يميل إلى طلب العلم.
    فليس كل ما أقبلت عليه النفس أو رغبت فيه واشتهته أمراً مطلوباً في الشرع؛ فوطن نفسك على ما تكره ما دام هو الحق الذي يرضي الله، ويقيم الدين، ويحقق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    يقول: "فيظن أنه بذلك يسقط عنه، فيدعه؛ وذلك مما يضره أكثر مما يضره الأمر بدون هذه الخصال أو أقل" أي أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جملة أضر على الإنسان مما لو أنه أمر ونهى مع عدم توفر الخصال الثلاث.
    1. فقه التعامل مع المنكر

      يقول: "فإن ترك الأمر الواجب معصية، فالمنتقل من معصية إلى معصية أكبر منها كالمستجير من الرمضاء بالنار، والمنتقل من معصية إلى معصية كالمنتقل من دين باطل إلى دين باطل، وقد يكون الثاني شراً من الأول، وقد يكون دونه، وقد يكونان سواء" فمعصيتك في ترك الصبر أو في ترك الرفق قد تكون مثل أو أقل من معصيتك في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلية، وهذه قاعدة عامة: المنتقل من معصية إلى معصية كالمنتقل من دين باطل إلى دين باطل، قال: "فهكذا تجد المقصر في الأمر والنهي والمعتدي فيه قد يكون ذنب هذا أعظم، وقد يكون ذنب هذا أعظم، وقد يكونان سواء" وقد يقال: أيهما أعظم ذنباً: الذي لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، أو الذي اعتدى فيه فكانت المفسدة؟ فيقال: قد يكون الأول أعظم لتقصيره، وقد يكون الثاني أعظم لما نتج عنه من مفسدة لاعتدائه، وقد يكونان سواء، فلابد من الفقه في هذه المسألة.
  3. زوال النعم بالمعاصي والذنوب

     المرفق    
    قال: "ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا، وبما شهد به في كتابه: أن المعاصي سبب المصائب، فسيئات المصائب والجزاء من سيئات الأعمال، وأن الطاعة سبب النعمة، فإحسان العمل سبب لإحسان الله، قال تعالى: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ))[الشورى:30] وقال تعالى: ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ))[النساء:79] وقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ))[آل عمران:155] وقال: ((أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ))[آل عمران:165] وقال: ((أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ))[الشورى:34] وقال: ((وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ))[الشورى:48]، وقال تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ))[الأنفال:33].
    وقد أخبر سبحانه بما عاقب به أهل السيئات من الأمم -كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وقوم فرعون- في الدنيا، وأخبر بما يعاقبهم به في الآخرة، ولهذا قال مؤمن آل فرعون: ((وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ* وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ))[غافر:30-33] وقال تعالى: ((كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ))[القلم:33] -أي: كذلك العذاب في الدنيا- وقال: ((سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ))[التوبة:101] -أي سنعذبهم مرتين في الدنيا- وقال: ((وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ))[السجدة:21] -العذاب الأدنى في الدنيا، والأكبر في الآخرة على قول- وقال: ((فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ))[الدخان:10] إلى قوله: ((يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ))[الدخان:16].
    ولهذا يذكر الله في عامة سور الإنذار ما عاقب به أهل السيئات في الدنيا، وما أعده لهم في الآخرة، وقد يذكر في السورة وعد الآخرة فقط؛ إذ عذاب الآخرة أعظم، وثوابها أعظم، وهي دار القرار، وإنما يذكر ما يذكره من الثواب والعذاب في الدنيا تبعاً" يعني: ما يأتي في الدنيا فهو تبع لما في الآخرة، فالله تعالى جعل النصر للمؤمنين في الدنيا على سبيل التبعية، وإلا فالنصر الحقيقي يوم القيامة، قال تعالى: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ))[غافر:51] فهناك النصر العظيم والفوز العظيم، لكن في الدنيا لهم كذلك النصر والعاقبة والمجرمون لهم الخزي العظيم في الدنيا ولهم العذاب الشديد في الآخرة.
    يقول: "كقوله في قصة يوسف: ((وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ))[يوسف:56-57]" فأعطاه الله الملك؛ لأنه أحسن في الدنيا، ولكن أجر الآخرة خير وأبقى وأعظم وأفضل، فكان هذا جزاءه؛ لأنه كان عبداً صالحاً عرضت عليه أعظم ملذات الدنيا، وفي أشد دواعيها ومقتضياتها، حيث أغرته امرأة الغزيز بجمالها ومنصبها، فقد كانت هي الملكة، وهو العبد الرقيق المشترى، وهي في أجمل حلة، وفي خلوة، وهي صاحبة الأمر والنهي في المملكة، وليس فقط في البيت، وتدعوه إلى فعل الفاحشة، وهو شاب غريب منقطع، ومع ذلك أبى واستعصم، ولما رأى مكر النسوة من حوله ((قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ))[يوسف:33] فاختار السجن على المعصية، ولهذا قيل: إن امرأة العزيز مرت به وهو قادم في موكبه، فلما رأت ما عليه من الملك، قالت: (سبحان من جعل العبيد ملوكاً بطاعته، وجعل الملوك عبيداً بمعصيته) فقد سُلب منها العز والملك، وأما ذلك العبد الذي اشتري بدراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، فإنه قد أصبح ملكاً، يجلس على عرش مصر، وهذا من عاجل إنعام الله وثوابه للمحسنين، ومن عاجل عقوبة الله للمسيئين في الدنيا.
    يقول: "وقال: ((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ))[آل عمران:148] وقال: ((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ))[النحل:41-42] وقال عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ((وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ))[العنكبوت:27]".
    1. عقوبات المنذرين من الأمم

      ثم ذكر العقوبات الأخروية المذكورة في عدة آيات يطول المقام بذكرها، وإنما المقصود من ذلك هو: أن الكفر والذنوب سبب العقوبة، كما قال تعالى في سورة الفجر بعد أن ذكر فرعون وعاداً وثمود: ((إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ))[الفجر:14] وقال في قصة قوم لوط: ((مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ))[هود:83] حتى لا يظن ظان أن هذه الحجارة أنزلت على قوم لوط فقط، فهي ليست عقوبة مختصة بهم، وليست من الظالمين ببعيد. ففي أي زمان وفي أي مكان يمكن أن تحل بالمجرمين؛ قال تعالى: (( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ))[هود:102].
  4. من الثمار المرة لقلة الفقه في إنكار المنكر

     المرفق    
    يقول رحمه الله: "وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان، فقد يذنب الرجل أو الطائفة، ويسكت آخرون عن الأمر والنهي، فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر عليهم آخرون إنكاراً منهياً عنه، فيكون ذلك من ذنوبهم، فيحصل التفرق والاختلاف والشر، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديماً وحديثاً" قال الله: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ))[المائدة:78-79] هذا ذنب من سكت ممن كان يجب عليه أن يأمر وينهى، فتأتي طائفة ثالثة، فتذنب وتنكر على الساكتين إنكاراً في غير محله، وتلومهم وتطعن فيهم طعناً في غير موضعه، فيكون الذنب الثالث من الطائفة الثالثة، فتحصل بتلك الذنوب الفتن، وهذا في كل العصور.
    ففي القرن الأول أحدث أمراء الظلم والجور الفساد في الأرض، كما حدث من الحجاج، ومن عبيد الله بن زياد وأمثالهم ممن ظلموا وجاروا، وسكت كثير من الناس بعذر وبغير عذر، والأمة في جملتها تؤاخذ بالسكوت على المنكر، وإن كان بعض أفرادها قد يعذر بما يسقط عنه الذنب.
    وأعظم المؤاخذين على ظلم الحجاج عبد الملك بن مروان وأبناؤه الذين أطلقوا له اليد في ذلك، فأذنبت طائفة ثالثة -وهم الخوارج- بإيذائهم من سكت، فأتوا إلى الحسن البصري وأبي مجلز وغيرهم من التابعين، وقالوا لهم: أنتم لا تنهون ولا تأمرون، فلاموهم وعنفوهم، وغلظوا عليهم بما لا يحق لهم أن يقولوه.
    وقد ضرب الشعبي رحمه الله -وكان رجلاً حكيماً- مثلاً للخوارج فقال: "مثل هؤلاء القوم كمثل ثلاثة إخوة؛ مات أبوهم وترك مالاً، فجاء الأخ الأكبر، فأخذ المال كله، وظلم أخويه، فجاء الأوسط وقال للأصغر: قم معي فلنقاتل هذا، ولنأخذ حقنا منه، فأبى الأصغر لأنه لا يطيق؛ فعدا عليه فقتله" فضاع الأصغر والأوسط، وظلم الأكبر.
    فهكذا حال الناس إن لم يفقهوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، والأخ الأكبر يقصد به الشعبي الحكام الذين ظلموا الناس وأخذوا أموالهم، وفعلوا ما يوجب الإنكار عليهم، فجاء أهل العنف -وهم الأخ الأوسط- كـالخوارج، وقالوا للعوام: تعالوا معنا ننكر عليهم، فأبى عليهم عامة الناس، فقاموا يقاتلونهم، وقالوا لهم: أنتم كفار مرتدون لأنكم راضون بالكفر، فبقي ظلم الأكبر وضاع الأوسط والأصغر، ولأجل ذلك ضاعت الأمة كلها.
    1. معركة الدعاة ليست مع العلماء والعوام

      إن معركة الدعاة ليست مع العوام ولا مع العلماء الذين لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، فعلى العالم والحاكم والعامي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يدعو إلى الله؛ أياً كان الآمر، وأياً كان الناهي، وأياً كان المأمور والمنهي. وإنما تقع الشرور بسبب هذه الأمور الثلاثة: الأول: ظلم وذنب المجرمين الذين ارتكبوا الفواحش وأعلنوا بها. والثاني: تقصير من قصر من العلماء أو الدعاة تجاه هذا المنكر. والثالث: ذنب من عنف على من لم يأمر أو ينه أو لم يزل المنكر، فإذا أذنبت الأمة بهذه الطريقة، وقعت الفتنة، ووقع الفساد، وسلط الله عليها عدواً من خارجها، أو سلط عليها من العقوبات القدرية ما يذهب به النعم التي كانت فيها.
    2. تدخل شهوة النفس وهواها في إنكار المنكر

      يقول: "إذ الإنسان ظلوم جهول، والظلم والجهل أنواع؛ فيكون ظلم الأول وجهله من نوع -وهو ارتكاب المعاصي- وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع آخر" هذا لسكوته، وهذا لغلوه وتعديه في الإنكار على من سكت.
      يقول رحمه الله: "ومن تدبر الفتن الواقعة، رأى سببها ذلك، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها ومن تبعهم من العامة من الفتن: هذا أصلها" هذا حال الأمة الإسلامية في جميع العصور، يقول: "يدخل في ذلك أسباب الضلال والغي التي هي الأهواء الدينية والشهوانية، وهي البدع في الدين والفجور في الدنيا؛ وذلك أن أسباب الضلال والغي: البدع في الدين، والفجور في الدنيا، وهي مشتركة، تعم بني آدم لما فيهم من الظلم والجهل" يبين هنا أن كلا نوعي الذنوب داخل في ذلك، ليس فقط ما يتعلق بالفواحش الظاهرة والشهوات بل حتى ما يتعلق بالشبهات؛ فإذا أحدث قوم بدعة، فذلك ذنب عظيم، فإذا سكت من يعلم أنه منكر، كان هذا ذنباً من نوع آخر، فإذا قام قوم ينكرون عليهم واعتدوا عليهم في الإنكار، كان هذا هو الذنب الثالث، ثم تكون الفتن في الأمة عامة.
      ثم أخذ يفصل رحمه الله ذلك، فقال: "فبذنب بعض الناس يظلم نفسه وغيره: كالزنا واللواط وغيره، أو شرب خمر، أو ظلم في المال بخيانة أو سرقة أو غصب أو نحو ذلك، ومعلوم أن هذه المعاصي وإن كانت مستقبحة مذمومة في العقل والدين فهي مشتهاة أيضاً"، فالمعاصي الشهوانية -مع أنها مذمومة في الشرع والعقل- مشتهاة تميل إليها النفوس التي ضعف إيمانها.
      يقول: "ومن شأن النفوس أنها لا تحب اختصاص غيرها بها، لكن تريد أن يحصل لها ما حصل له، وهذا هو الغبطة التي هي أدنى نوعي الحسد، فهي تريد الاستعلاء على الغير والاستئثار دونه، أو تحسده وتتمنى زوال النعمة عنه، وإن لم يحصل، ففيها من إرادة العلو والفساد والاستكبار والحسد ما مقتضاه أنها تختص عن غيرها بالشهوات، فكيف إذا رأت الغير قد استأثر عليها بذلك، واختص بها دونها؟! فالمعتدل منهم في ذلك الذي يحب الاشتراك والتساوي، وأما الآخر فظلوم حسود.
      وهذان يقعان في الأمور المباحة والأمور المحرمة لحق الله، فما كان جنسه مباحاً من أكل وشرب ونكاح ولباس وركوب وأموال؛ إذا وقع فيها الاختصاص حصل الظلم والبخل والحسد، وأصلها الشح، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم؛ أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا}" والدافع هو حب الاستئثار بهذه الشهوة.
      وقد يقع العكس، فإن أهل المعاصي حين سرقوا من بيت المال وارتكبوا الفواحش، ازدراهم الناس، فسعوا إلى أن يعمموا ذلك الشر على جميع الناس.
      ولو سألت شخصاً: لماذا ترتشي؟ فسوف يقول: المدير الفلاني يرتشي، وفلان يرتشي، ثم يسعى لأن يعمم ذلك خروجاً من ازدراء الناس له، وكذلك شارب الخمر يجتهد في أن ينشر الخمر حتى يعمم، فلا يعود مختصاً بذم الناس ونقدهم.
      ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أقسام الذنوب فقال: "ولهذا كانت الذنوب ثلاثة أقسام: أحدها: ما فيه ظلم للناس، كالظلم بأخذ الأموال ومنع الحقوق. والثاني: ما فيه ظلم للنفس فقط، كشرب الخمر والزنا إذا لم يتعد ضررهما. والثالث: ما يجتمع فيه الأمران، مثل أن يأخذ المتولي أموال الناس يزني بها ويشرب بها الخمر ومثل أن يزني بمن يرفعه على الناس بذلك السبب ويضرهم؛ كما يقع ممن يجب بعض النساء والصبيان -فاجتمع فيه- الأمران: الظلم للناس بأخذ أموالهم، والظلم للنفس بتعاطي ما حرم الله، وقد قال تعالى: (( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ))[الأعراف:33] وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل -الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم- أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة".