يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فإذا كَانَ لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن يشاء ولكن يكرم الشفيع بقبول شفاعته كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء}].
لما نفى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تلك الشَّفَاعَة الشركية بيَّن الشَّفَاعَة المثبتة التي تكون لعباده المؤمنين -كما سبق- وفي هذه الشَّفَاعَة حكم عظيمة، منها إكرام الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما يشفع للخلق أجمعين في الموقف، وكذلك إذا شفَّع الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الشهيد في أهل بيته فهو تكريم له، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يريد أن يظهر فضل الشهيد فيشفعه، وكذلك شفاعة الابن الصالح في أبيه أو العكس ومنها حصول الخير للمشفوع الذي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فتفضل عليه بقبول الشَّفَاعَة فالأمر إذاً كله لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وفي قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّه مَا يشَاءُ} دليل على أن الشَّفَاعَةَ الشرعية في الدنيا من أسباب الخير والإعانة التي يعين العبد المسلم بها أخاه، فإذا شفع أجر على هذه الشَّفَاعَةِ، ويقضى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ما يشاء، فلا يخسر الشافع شيئاً؛ بل له أجر شفاعته وإن لم يتحقق كانت له شفاعته، كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى :((مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا)) [النساء:85] أي: وزر منها، هذا بالنسبة في الدنيا.
وفي الآخرة يقول: [وفي الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لا أمْلِكُ لَكُم مِنَ اللهِ مِنْ شيء يا صفية عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ لا أَمْلِكُ لَكِ مِنْ اللهِ مِنْ شيء يا عباسُ عَمَّ رَسُولِ اللهِ لا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللهِ مِنْ شيء}].
فاللهُ سبحانه ليس بينه، وبين أحد من الخلق نسب، ولذا يقول تَعَالَى لإبراهيم عَلَيْهِ السَّلام لما أن أتم الكلمات:
((وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً))[البقرة:124] أكرمه الله ومَنَّ عليه فجعله إماماً للناس، فأراد إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام الخير لذريته فقَالَ: ((وَمِنْ ذُرِّيَّتِي))[البقرة:124] أي تبقي الإمامة في ذريتي: ((قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ))[البقرة:124] فكرامة الله لا تنال المجرمين، وإن كانوا أبناء الأَنْبِيَاء والمرسلين، فلا بد من عمل صالح يعمله الإِنسَان حتى ينال هذا الرتبة.
ولم يكن هنالك أحد أعزُ على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ممن لم يعمل صالحاً من عمه أبي طالب الذي حمى الدعوة ونصرها وأيدها وحوصِر مع النبي في الشِّعْبِ، وتحمل الأذى كل ذلك من أجل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع ذلك لم يأذن له ربه أن يستغفر له، بل أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليه ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))[القصص:56] فحينئذٍ يأس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شأن عمه، ولكن الله أذن له في أن يشفع له الشَّفَاعَةَ التي سبقت، وهي: أن يكون في ضحضاح من نار، له شراكان من نار يغلي منهما دماغه، وهو يظن أنه أشد أهل النَّار عذاباً، وهو أهونهم عذاباً عافانا الله من ذلك، أما أن يدخل الجنة فلا وهذه خاصة بـأبي طالب وحده دون غيره من النَّاس.

فالأمر ليس أمر وساطة أو نسب مجرد، وإنما هو عمل صالح يفعله الإِنسَان وأن يرضى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنه بأن يشفع له.
وفي الصحيح أيضاً {لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُم يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أو شَاةٌ لَهَا يَعَارٌ، أو رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: أَغِثْنِي أَغِثْنِي فَأَقُولُ: قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيء}].
هذا المال إذا أخذه الإِنسَان من الغلول من بيت مال الْمُسْلِمِينَ أو من الحق العام فلا يجوز له ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) [آل عمران:161] بفتح الياء وضم الغين المعجمة، وفي قراءة بضم الياء وفتح العين، فلو أن أحداً أخذ من الفيء أو من المال العام للمسلمين شيئاً، فإنه يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ وهو يحمل ذلك على رقبته نسأل الله العفو والعافية، هذا الذي تهاون فيه كثير من النَّاس -إلا من رحم الله- وأصبحوا يرون أنه مباح وحلال لا شيء فيه، فسيعاقبون عليه، فهذا الرجل الذي كَانَ مولى لرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغلَّ شملةً، أي: ملحفةً فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {والذي نفسي بيده إنها لتشتعل عليه ناراً} وقد تكون لا تساوي شيئاً مع أنه خرج وجاهد مع رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع ذلك يعذب ويعاقب عليها!
فإذا كَانَ الصحابي الذي جاهد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرج معه ومع ذلك بسبب فساد نيته يعاقب، فما بالكم بمن يغل وهو ليس في جهاد ولا عمل صالح ولم يقدم شيئاً للإسلام وللمسلمين إلا الخيانة والسرقة، وربما تكون وظيفته هذه أخذها بوسائل غير مشروعة، ومع ذلك يرى وكأن بيت مال الْمُسْلِمِينَ من حقه يأخذ منه كما يشاء ويصرفه كما يشاء، وهذا من عمى البصيرة ونسيان الآخرة.
والشاهد من القصة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {لا أملك لك من الله من شيء}.
لكن هل يتعارض هذا مع كونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع لأصحاب الكبائر؟
والجواب أنه لا تعارض فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو سيد الشفعاء لا يملك من عند نفسه أن يشفع، لكن إذا أذن الله تَعَالَى له أن يشفع في الذي غل أو سرق أو زنى أو أذنب بأي ذنب فإنه يشفع، ولهذا قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [فإذا كَانَ سَيِّدُ الخلقِ وأَفْضَلُ الشفعاء يقول لأخصِّ النَّاس به {لا أَمْلِكُ لَك مِنَ اللهِ مِنْ شَيء} فما الظن بغيره؟!] نعم، فما الظن بغيره وإن كَانَ صالحاً أو شهيداً أو براً أو تقياً.
ثُمَّ يقول رَحِمَهُ اللَّهُ: [وإذا دعاه الداعي، وشفع عنده الشفيع، فسمع الدعاء وقبل الشَّفَاعَة، لم يكن هذا هو المؤثر فيه، كما يؤثر المخلوق في المخلوق؛ فإنَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يختلف شأنه عن شأن غيره من المخلوقين والعالمين جميعاً، لأنه هو الذي خلق الأسباب، وأما غيره فهو من الأسباب، ولو أن مخلوقاً شفع لك عند مخلوق آخر فحصل لك الخير فإنك حينئذ تقول: كَانَ هذا الشيء بفضل الله، ثُمَّ بفضل فلان وفلان فاجتمع سببان: الشافع، والمشفوع لديه، ويسر الله الخير أو الفضل على يديهما، فهذا شفع وهذا استجاب فكان لك المطلوب، لكن بالنسبة لله تَعَالَى فإن الأمر يختلف.
ونتيجة لذلك نعرف أن باب الشَّفَاعَة من أعظم الأبواب التي نتعرف بها على حقيقة توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأن الدعاء هو العبادة وتوحيد الألوهية يُعرف عندما نعرف حقيقة الشَّفَاعَةِ المنفي منها والمثبت.

ثُمَّ يتطرق المُصنِّف رحمه الله تعالى إِلَى مسألة لها علاقة بموضوع القدر فَيَقُولُ:
[وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذي وفق العبد للتوبة، ثُمَّ قبلها، وهو الذي وفقه للعمل، ثُمَّ أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء، ثُمَّ أجابه، وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن الله خالق كل شيء].