في معرض الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإننا نجد أن له صفتين مختلفتين تماماً.
الأولى: هي صفة الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكتاب وفي السنة.
والأخرى صفة من نسج الخيال، وشخصية أسطورية وهمية، لا وجود لها في القُرْآن ولا في السنة والواقع، إنما هي من أوهام وخرافات الذين اخترعوا هذه الأوصاف التي لا أصل لها من أهل الغلو كـالصوفية ومن تبعهم.
أما الصفة الأولى: فهو كسائر البشر تصيبه العوارض مثلهم، بل قد يكون ما يصيبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العوارض أشد، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: { إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم } وهذا لفضله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولِرَفعِ درجتهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ربه، ونجد أنه يأكل ويشرب وينام ويتعَب ويفكر ويهتم ويغتم ويتخذ الأسباب مثل سائر البشر، رغم أن الله تَعَالَى خصه بهذه الميزة العظيمة وهي الرسالة وجعله سيد ولد آدم، وهذا كله نجده واضحاً جلياً.
فإذا انتقلنا إِلَى الصورة الأخرى التي تذكرها الصوفية وهي: أنه مخلوق من نور، موجود قبل المخلوقات، بيده مقاليد السماوات والأرض يعلم الغيب...، وأمور غريبة يذكرونها له التي لو تأملها الإِنسَان لعلم أنها لا توجد في دنيا البشر ولا عالمها أبداً وليس لها من كتاب الله ولا من سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصل يُرجع إليه، وإنما الحال أن قوماً أرادو هدم الإسلام، والطعن فيه عن طريق الغلو الذي اتخذوه كما فعل النَّصَارَى وكما فعل اليهود بأنبيائهم، وكما غلت الشيعة من هذه الأمة في الإمام عَلِيّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ حتى ادعوا أنه إله في حياته.
ومرت القرون وفُضح هَؤُلاءِ القوم وحوربوا وتميزوا عن سائر الأمة الإسلامية، حتى أصبحت الأمة منقسمة إِلَى سُني وشيعي، وأصبحت كلمة السنة، تعني: من ليس شيعياً فكأنهم اختصوا بمخالفة السنة مع أن المخالفين للسنة كثير، وظل الهدامون وأعداء الإسلام يريدون هدم عقيدة التوحيد والإيمان عند أهل السنة، فاخترعوا الأقطاب والنقباء والندباء وشيوخ التصوف.
ومن نفس مدخل الغلو وحُبِّ النبيِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخلوا، فألّهوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورفعوه عن منزلةِ البشرية إِلَى منزلةِ الألوهيةِ، وجعلوه نداً لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يعلم الغيب، ويُدخِلُ الجنة من شاء -عياذاً بالله- وعندما نَعرِضُ هذهِ الأمور عَلَى الآياتِ والأحاديثِ يَظهرُ لَنَا كَذِبَ هَؤُلاءِ، وإن زعموا ما زعموا من المحبة.

وهذا يذكرنا بما عليه كثير من النَّصَارَى الذين زعموا أن عيسى إله، ويسمونه الرب "يسوع" ويؤلفون الكتب في ذلك، ويذهبون إِلَى غابات إفريقيا وآسيا ليدعو النَّاس إِلَى دينه، وهم صادقون مع أنفسهم في محبته؛ لكن هذه المحبة أفضت بهم إِلَى الكفر والشرك ولم تنفعهم محبتهم له عند الله، وكذلك عيسى عَلَيْهِ السَّلام لم يرض بها لنفسه أبداً.
ومثله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرض بهذا الغلو، بل نهى عنه فقد قَالَ: {لا تطروني كما أطرت النَّصَارَى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله} .
ثُمَّ يقول المصنف: [وقال الله تعالى: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ))[الأعراف:54]] فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المتفرد بالخلق والأمر، وفي هذه الآية دليل لـأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى إثبات صفة الكلام لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه يتكلم بما شاء متى شاء.
فمن ذلك مثلاً كلمة "كن" فالله تَعَالَى يتكلم بالأمر، فإذا قَالَ: "كن"، فهذا أمره، فإذا كَانَ ما أمر به فهو خلقه، وفي هذه الآية دليل عَلَى أنه لا يجوز لأحد غير الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن يشرع للناس بأي حال من الأحوال، فالشرع المتبع إنما هو شرع الله ودينه، لأن الله تَعَالَى هو الذي خلق الخلق، فكيف يكون له الخلق ويكون لغيره الأمر والنهي؟
وهذا ما فعله النَّاس في الجاهلية الأولى وفي كل جاهلية في كل زمان ومكان، يؤمنون بأن الله له الخلق، ولكن يجعلون لغيره الأمر، فيشرعون ويسنون القوانين، ويحلون ما يشاءون، ويحرمون ما يشاءون، وهذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وهو حقيقة الطاغوت الذي أمر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن يكفر به، ولا يكون الإِنسَان مؤمناً إلا إذا كفر بالطاغوت الذي يشرع من دون الله تعالى؛ لأن الخلق جميعاً مأمورون بأن يطيعوا أمر الله، كما هم مخلوقون بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا انفصال بينهما بأي حال من الأحوال.