يقول: "والفريق الثاني: من يريد أن يأمر وينهى، إما بلسانه وإما بيده مطلقاً، من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر"، فهذا الفريق همه أن ينهى إذا رأى منكراً، إما أن يهجم باليد أو يصرخ باللسان، من غير أن ينظر هل هذا منكر أو غير منكر، وهل سيترتب عليه منكر أكبر أم لا، ولا يعني بالصبر والحلم أن الإنسان يتحلى بالصبر ويترك إنكار المنكر، فهذا لا يقصده
شيخ الإسلام، ولا يقصده أي شخص يأمر بالصبر أو الحكمة أو الحلم، بل المراد النظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر عليه، فما تقدر عليه تنكره، وما لا تقدر عليه تحيله إلى من يقدر عليه، فإن لم يقدر عليه أحد فالأمر لله.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مستضعفين في
مكة لا يقدرون على شيء، فلم يكلفهم الله سبحانه وتعالى أن يرتكبوا أمراً يقضي على دينهم وعلى أنفسهم وعلى دعوتهم وهم لا يستطيعون.
ثم يقول رحمه الله: "كما في حديث
أبي ثعلبة الخشني : سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {
بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمراً لا يدان لك به، فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام؛ فإن من ورائك أياماً القابض فيهن على دينه مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله}، فيأتي بالأمر والنهي معتقداً أنه مطيع في ذلك لله ورسوله، وهو متعد في حدوده" يعني: أن الإنسان الذي يكون أمره ونهيه من غير فقه ولا حلم ولا صبر، ولا نظر في العواقب، يأتي بالأمر والنهي معتقداً أنه مطيع في ذلك لله ولرسوله، والحقيقة أنه متعد لحدود الله.
يقول: "كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء: كـ
الخوارج و
المعتزلة و
الرافضة وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد على ذلك، وكان فساده أعظم من صلاحه"، ومن هذا المدخل دخل أولئك، فلم يكن
الخوارج يتهمون -لما ادعوا إنكار المنكر- أنهم كانوا منافقين وكاذبين، لم يحدث شيء من ذلك، حتى ممن قاتلوهم، لكن كانوا ضالين في فهم إنكار المنكر الذي ظنوه بزعمهم: (كيف يحكم الرجال في دين الله؟)!
فضرب
عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه لهم مثلاً، حيث قال: [[
إن الله قد حكَّم فيما هو أدنى من ذلك، في أرنب أو شاة، فقال: ((يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ))[المائدة:95]، فكيف لا يحكم في أمر تحقن به الدماء، ويصلح الله به الأمة؟! وحكَّم فيما بين الزوجين: ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا))[النساء:35] ]]، سبحان الله! يحكمنا الله تعالى في هذا ونقول: لا حكم للصحابة في أمر تحقن به الدماء بين المسلمين؟! ولهذا قال
علي رضي الله تعالى عنه لما قالوا: حكَّمت الرجال في دين الله، قال: [[
إنما الكتاب خط مسطور، وإنما ينطق به الرجال]] يريد أن يقول: إنا لم نحكم إلا كتاب الله.
كذلك
الرافضة وأشباههم، قالوا في مثل هذا الموضع: إذا لم يكن الإمام من الأئمة الاثني عشر؛ فلا صحة لحكمه، ويجب الخروج عليه، وإن كانوا هم يتركون الجهاد، وإنما قالوا: نخرج بسيوف من خشب، ويقولون: إن
الحسين رضي الله عنه خرج من أجل ذلك إنكاراً للمنكر، وهم لا يرون الجهاد.
فأهل البدع يجتهدون بزعمهم، فيرون أن هذا الأمر هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقعون ومن معهم من الأمة في منكر أكبر، وفي إثم عظيم.
يقول رحمه الله: "ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة، ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة" فحين قيل له: {
أفلا ننازعهم يا رسول الله؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة} وفي الرواية الأخرى قال: {
لا ما صلوا} وقال: {
أدوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم، فإن عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم}،
فالواجب على الجميع -الحكام والعلماء والأمراء والخاصة والعامة- التعاون على تقوى الله، وعلى العدل والإنصاف، فإن أخل أحد، فعليه ما حمل، وعليكم ما حملتم، فإن ظلمك وجار عليك وأخذ مالك وجلد ظهرك، وجب عليك أن تصبر وتؤدي له حق الله وهو الطاعة، ما لم يأمرك بمعصية، فإذا أمرك بطاعة فأطعه وإن ظلمك، أما لو أن كل من جار أو ظلم أو فسق جاز الخروج عليه لأصبح الأمر فوضى، كما قيل لـعبد الله بن عمر : "إن يزيد يشرب الخمر، قال: هل رأيتموه؟ إنما قيل لكم: إنه يشرب الخمر، فقلتم: يشربها"، فهذا أمر لا دليل عليه، فتقع الفتنة ولا تحقن الدماء ولا تقوم للجهاد قائمة، وتؤتى أنواع من المنكرات أضعاف ما يراد القضاء عليه.
يقول رحمه الله: "ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة -كما تواتر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم- أما أهل الأهواء -كـالمعتزلة - فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم، ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة: (التوحيد) الذي هو سلب الصفات، و(العدل) الذي هو التكذيب بالقدر، و(المنزلة بين المنزلتين)، و(إنفاذ الوعيد)، و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي منه قتال الأئمة".