المادة كاملة    
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض واجب على الأمة لا خيرية لها بدونه أصلاً، مصداقاً لقوله تعالى: (( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ... ))[آل عمران:110]. الأمر بالمعروف وكذلك فيجب إنكار المنكر ولو بأقل وأدنى درجات الإنكار، وهو الإنكار بالقلب. ولا بد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من فقه في هذا الأمر؛ ليكون على بينة مما يقول ويفعل.
  1. الأصل الخامس عند المعتزلة

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [ثم تكلموا في إلزام الغير بذلك، الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضمنوه جواز الخروج على الأئمة بالقتال.
    فهذه أصولهم الخمسة، التي وضعوها بإزاء أصول الدين الخمسة التي بعث بها الرسول]
    . اهـ
    الشرح:
    أصول المعتزلة الخمسة هي: التوحيد الذي يريدون به نفي الصفات، والعدل الذي يريدون به نفي القدر، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد والركن الأخير: هو الإلزام بذلك، وقد سمته المعتزلة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الالتزام بهذه الأمور والدعوة إليها، وإلزام الناس بذلك، وقد علم ما وقع فيه المعتزلة من الفتنة حين تمكنوا وألزموا الناس بالقول بخلق القرآن، وذلك في أيام المأمون، ثم في أيام المعتصم والواثق، وانتهت فتنتهم في أيام المتوكل .
    فإن المعتزلة لما استطاعوا أن يستميلوا المأمون إلى جانبهم، وجعلوه يتبنى أفكارهم، ألزم الأمة جميعاً بقولهم، وكانوا يرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن كل صاحب بدعة يرى أن ما هو عليه هو الحق وأن غيره على باطل يجب أن ينكر عليه.
    ولذلك يجب على كل أحد أن يعيد النظر دائماً في نفسه، وأن يراجعها؛ ليرى ما هو عليه أهو حق أم باطل.
    مع أن الأصل أن الناس لا يتمسكون ولا يلتزمون إلا بما يرون ويعتقدون أنه حق، لكنه قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً.
    ومن ذلك: ما تبنته المعتزلة من جواز الخروج على أئمة المسلمين بالسيف، وأن ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهم في ذلك كلام كثير وخلاف طويل.
    ومن أوضح الأمثلة التاريخية الواقعية: ما كانت تمارسه الزيدية، فإن الزيدية يرون وجوب الخروج على أئمة الجور، فإذا لم يكن الإمام عدلاً مرضي السيرة، بأن فسق أو جار أو ظلم، خرجوا عليه بالسيف وجوباً، وهذا عندهم من أصول الدين، وسلفهم في ذلك الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه، ثم خرجوا على من بعده من خلفاء دولة بني أمية وبني العباس، ولم يخرجوا بناءً على أصل شرعي صحيح، وإنما خرجوا بناءً على هذا الأصل الفاسد الذي أصلوه، وأسموه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    ونحن إن شاء الله تعالى سوف نوضح بالتفصيل مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الإمامة والخروج على الأئمة، وسيأتي شيء منه عند الحديث على الرافضة، وموقفهم أيضاً من هذا الشأن.
    والمقصود الآن هو بيان الضلال الذي وقعت فيه المعتزلة، حين جعلوا إلزام الناس سواء كانوا عامة أو حكاماً بما يرونه: من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه لو وجد حاكم أو خليفة من أهل السنة والجماعة، لرأى المعتزلة وجوب الخروج عليه؛ حتى يؤمن بأن القرآن مخلوق، وحتى ينفي الصفات، ويكذِّب بالقدر، ويؤمن بالمنزلة بين المنزلتين؛ فإنهم يرون هذا ديناً واجباً، ويسمونه أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وسيأتي الكلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن الأمور التي تأتي في مبحث أهل القبلة وحكم الصلاة عليهم.
  2. النظرة الشرعية الصحيحة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

     المرفق    
    نتكلم هنا عن معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقط في ذاته وحقيقته، وحكمه عند أهل السنة والجماعة، وعن ضلال المعتزلة وغيرهم فيه.
    وقد رأيت أن يكون الكلام من الفصل الذي كتبه شيخ الإسلام رحمه الله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن كتاب الحسبة، وهو مطبوع ضمن مجموع الفتاوى (28):
    1. حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

      يقول شيخ الإسلام رحمه الله مبيناً حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه، بل هو على الكفاية، كما دل عليه القرآن" وذلك في قول الله تعالى: ((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))[آل عمران:104]، "ولما كان الجهاد من تمام ذلك، كان الجهاد أيضاً كذلك".
      والمنكر الأكبر في الوجود هو الشرك، والمعروف الأكبر هو التوحيد، فإذا لم يدخل أهل الشرك في دين الله تبارك وتعالى ويدعوا ما هم عليه من الشرك إلا بالقتال والجهاد، كان الجهاد -الذي يمكن به إزالة هذا المنكر الأكبر وتحقيق ذلك المعروف الأكبر- من تمام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل ديننا كله معروف أو أمر بمعروف، ولذلك كان {ذروة سنامه الجهاد} والغاية منه قلع الفتنة من جذورها، قال تعالى: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ))[الأنفال:39]، فيكون دين العبد كله لله، لا للشيطان ولا للشهوات ولا للكبراء ولا للزعماء، ولا لكل من صد عن سبيل الله من الطواغيت.
      يقول رحمه الله: "فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه، أثم كل قادر بحسب قدرته"، والمقصود بذلك: هو أن إزالة عين المنكر واجبة على الكفاية، فمتى أزيلت عين المنكر، سقطت الفرضية، وسقط الوجوب عن الباقين، أما الإنكار في ذاته فهو على درجات، الدنيا منها هي الإنكار بالقلب، ولا تسقط عن المؤمن أبداً، وهذا ما سيوضحه رحمه الله.
    2. درجات إنكار المنكر

      يقول: "إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}.
      فلا بد للإنسان من أن ينكر المنكر، لكن إنكار المنكر غير إزالته، فالمسلم إذا رأى المنكر لا بد أن ينكره بقلبه، ولا بد أن يحرص على إنكاره باليد، فإذا أنكره غيرك وأزاله باليد، سقط عنك الإثم وأجرت على مبادرتك ومعاونتك لمن أنكره، فإن لم يكن باستطاعتك أن تغير باليد، فلا بد من الإنكار باللسان، فإن لم يمكن ذلك فلا يسقط عن أحد الإنكار بالقلب.
      ولو أن المسلمين ينكرون المنكر بقلوبهم، لما تفشت المنكرات وانتشرت في المجتمع، فالإنكار بالقلب هو الحد الأدنى، ومع ذلك فإنه مفقود عند عامة المسلمين إلا من رحم الله، ولهذا تنتشر المنكرات، بل يصير الذين لم ينكروا المنكر -ولو بقلوبهم- من فاعلي المنكر، وهذا دليل على أنهم لم ينكرو بقلوبهم، ولو أنكرو المنكر لما اقترفوه.
      يقول: "وإذا كان كذلك، فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا به، ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر".
      هذه قاعدة عظيمة؛ فلو أردت أن تأمر بالمعروف وأتيت بمنكر، فأنت ممن يجب أن ينكر عليه، ولست ممن يأمرون بالمعروف في الحقيقة.
      يقول: "وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات، فالواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به فهو صلاح"، أي: إنما بعثت الرسل وأنزلت الكتب للقضاء على الفساد، وللدعوة إلى الصلاح والإصلاح، فإذا دعا الإنسان وأفسد، فإن ذلك ليس أمراً بالمعروف ولا نهياً عن المنكر، بل هو بذلك قد خالف الغاية التي يدعو إليها الدعاة، وعلى رأسهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، "وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم المفسدين في غير موضع؛ فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به"، فإن الله لا يأمر بالفساد، "وإن كان قد تُرِكَ واجب وفُعِلَ محرم"، فمن كان يترتب على إنكاره مفسدة أعظم من المفسدة الحاصلة، فعليه أن يمتنع حينئذٍ عن الإنكار.
      يقول: "إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده، وليس عليه هداهم"، قال تعالى: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))[القصص:56].
      يقول: "وهذا معنى قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ))[المائدة:105]، والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قام بغيره من الواجبات؛ لم يضره ضلال الضَّلاَّل" يعني: إذا دعوت إلى الله وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، ولم ترتكب مفسدة أعظم، لم يضرك ضلال الضالين، وإن كان الضال قريباً لك؛ كما كان أبو إبراهيم عليه السلام، وكزوجة لوط وزوجة نوح، وابن نوح، وعم النبي صلى الله عليه وسلم.
      فإنك إذا قمت بالواجب على الوجه الشرعي الصحيح، فلا يضرك ضلال من ضل، أما إذا لم تقم بالواجب، فإنك آثم ومؤاخذ على عدم قيامك بهذا الواجب العظيم.
      يقول: "وذلك يكون تارة بالقلب، وتارة باللسان، وتارة باليد، فأما القلب فيجب بكل حال، إذ لا ضرر في فعله" من رحمة الله وحكمته أن جعل ما في القلوب محفوظاً، والسرائر مكنونة، فإذا اعتقدت في قلبك بغض هذا المنكر وأهله، فإن الله سبحانه وتعالى قد حفظ ذلك، فلا يطَّلعون عليك، ولا تتضرر من ذلك، ولهذا لا يسقط عنك الإنكار بالقلب، بل يجب عليك، فإن أكره الإنسان على منكر فيكون حاله كما ذكر الله تبارك وتعالى: ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ))[النحل:106]، المهم ألا يشرح بالكفر -ولا بالمنكر- صدراً؛ فالمقصود هو سلامة القلب من الإقرار بهذا المنكر.
      يقول: "ومن لم يفعله -من لم ينكر بقلبه- فليس بمؤمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وذلك أدنى -أو أضعف- الإيمان} وقال: {ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل}، وقيل لـابن مسعود : {من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً}.
      وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان" .
      يقصد رحمه الله حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في عرض الفتن: {تعرض الفتن على القلوب كما يعرض الحصير عوداً عوداً...} إلى أن ذكر صلى الله عليه وسلم حال القلب المفتون المذموم فقال: {لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه} فالذي لا يعرف المعروف ولا ينكر المنكر موصوف بأنه ليس بمؤمن، وأنه قد ترك أدنى الإيمان، وأضعفه، وليس عنده مثقال خردلة من إيمان، وأنه ميت؛ لأنه لا ينكر المنكر، وهو أيضاً مفتون... إلى آخر ما ورد في ذمه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كلام صحابته.
      لكن: هل الذي رأى منكراً ولم يغيره بقلبه يعتبر غير مؤمن؛ بمعنى أنه خارج عن الملة؟
      الجواب: لا. وإنما ليس مؤمناً بهذا الأمر، فالذي يعلم أن الله حرم هذا الأمر، فعليه أن يعتقد حرمته، فإن لم يغيره بقلبه فليس بمؤمن بأن الله حرمه، ولا يعني ذلك أنه ليس مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ بل ليس مؤمناً بأن هذا الأمر حرام، ولو سألته: هل هذا الشيء حرام؟ لأجابك: نعم. حرام، فتقول له: لم لا تنكر مادمت معتقداً حرمته؟ فهذا يظهر لك أنه كاذب في قوله، فكلامه دعوى مجردة، أما لو كان مؤمناً في الحقيقة أن الله حرمه لأنكره، هذا هو الفهم الصحيح لمعنى الحديث.
  3. أخطاء الناس تجاه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

     المرفق    
    1. ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

      يقول رحمه الله: "وهنا يغلط فريقان من الناس"، هذا هو المقصود، وهو أن نعرف كيف غلطت الفرق في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ يقول رحمه الله: "فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلاً لهذه الآية".
      وهذا غلط الفريق الأول: أنهم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، ويتعللون بتعللات منها هذه الآية: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ))[المائدة:105] فهذا هو الفريق الأول، وهو من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أهميته من الدين.
      يقول رحمه الله: كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته: إنكم تقرءون هذه الآية: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ))[المائدة:105]، وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه}.
      يبين الصديق رضي الله تعالى عنه الفهم الصحيح لهذه الآية، وأنه لا بد من إنكار المنكر، وإلا كانت العقوبة عامة، كما قال تعالى: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً))[الأنفال:25]، وكما قص الله تبارك وتعالى علينا في قصة أصحاب القرية التي كانت حاضرة البحر، إذ يعدون في السبت، إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، فإن الله تعالى إنما ذكر نجاة الذين ينهون عن السوء، وذكر تعذيب من سواهم، فالناجي من هذا العذاب هو من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: {مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم ركبوا سفينة فاستهموا، فكانت طائفة في أعلاها، وكانت طائفة في أدناها} الحديث.
      وكم من الآيات والأحاديث تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد السفيه أو الظالم، وإلا فالعقوبة عامة.
    2. ممارسة الحسبة من غير فقه ولا علم

      يقول: "والفريق الثاني: من يريد أن يأمر وينهى، إما بلسانه وإما بيده مطلقاً، من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر"، فهذا الفريق همه أن ينهى إذا رأى منكراً، إما أن يهجم باليد أو يصرخ باللسان، من غير أن ينظر هل هذا منكر أو غير منكر، وهل سيترتب عليه منكر أكبر أم لا، ولا يعني بالصبر والحلم أن الإنسان يتحلى بالصبر ويترك إنكار المنكر، فهذا لا يقصده شيخ الإسلام، ولا يقصده أي شخص يأمر بالصبر أو الحكمة أو الحلم، بل المراد النظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر عليه، فما تقدر عليه تنكره، وما لا تقدر عليه تحيله إلى من يقدر عليه، فإن لم يقدر عليه أحد فالأمر لله.
      وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مستضعفين في مكة لا يقدرون على شيء، فلم يكلفهم الله سبحانه وتعالى أن يرتكبوا أمراً يقضي على دينهم وعلى أنفسهم وعلى دعوتهم وهم لا يستطيعون.
      ثم يقول رحمه الله: "كما في حديث أبي ثعلبة الخشني : سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمراً لا يدان لك به، فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام؛ فإن من ورائك أياماً القابض فيهن على دينه مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله}، فيأتي بالأمر والنهي معتقداً أنه مطيع في ذلك لله ورسوله، وهو متعد في حدوده" يعني: أن الإنسان الذي يكون أمره ونهيه من غير فقه ولا حلم ولا صبر، ولا نظر في العواقب، يأتي بالأمر والنهي معتقداً أنه مطيع في ذلك لله ولرسوله، والحقيقة أنه متعد لحدود الله.
      يقول: "كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء: كـالخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد على ذلك، وكان فساده أعظم من صلاحه"، ومن هذا المدخل دخل أولئك، فلم يكن الخوارج يتهمون -لما ادعوا إنكار المنكر- أنهم كانوا منافقين وكاذبين، لم يحدث شيء من ذلك، حتى ممن قاتلوهم، لكن كانوا ضالين في فهم إنكار المنكر الذي ظنوه بزعمهم: (كيف يحكم الرجال في دين الله؟)!
      فضرب عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه لهم مثلاً، حيث قال: [[إن الله قد حكَّم فيما هو أدنى من ذلك، في أرنب أو شاة، فقال: ((يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ))[المائدة:95]، فكيف لا يحكم في أمر تحقن به الدماء، ويصلح الله به الأمة؟! وحكَّم فيما بين الزوجين: ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا))[النساء:35] ]]، سبحان الله! يحكمنا الله تعالى في هذا ونقول: لا حكم للصحابة في أمر تحقن به الدماء بين المسلمين؟! ولهذا قال علي رضي الله تعالى عنه لما قالوا: حكَّمت الرجال في دين الله، قال: [[إنما الكتاب خط مسطور، وإنما ينطق به الرجال]] يريد أن يقول: إنا لم نحكم إلا كتاب الله.
      كذلك الرافضة وأشباههم، قالوا في مثل هذا الموضع: إذا لم يكن الإمام من الأئمة الاثني عشر؛ فلا صحة لحكمه، ويجب الخروج عليه، وإن كانوا هم يتركون الجهاد، وإنما قالوا: نخرج بسيوف من خشب، ويقولون: إن الحسين رضي الله عنه خرج من أجل ذلك إنكاراً للمنكر، وهم لا يرون الجهاد.
      فأهل البدع يجتهدون بزعمهم، فيرون أن هذا الأمر هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقعون ومن معهم من الأمة في منكر أكبر، وفي إثم عظيم.
      يقول رحمه الله: "ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة، ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة" فحين قيل له: {أفلا ننازعهم يا رسول الله؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة} وفي الرواية الأخرى قال: {لا ما صلوا} وقال: {أدوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم، فإن عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتمفالواجب على الجميع -الحكام والعلماء والأمراء والخاصة والعامة- التعاون على تقوى الله، وعلى العدل والإنصاف، فإن أخل أحد، فعليه ما حمل، وعليكم ما حملتم، فإن ظلمك وجار عليك وأخذ مالك وجلد ظهرك، وجب عليك أن تصبر وتؤدي له حق الله وهو الطاعة، ما لم يأمرك بمعصية، فإذا أمرك بطاعة فأطعه وإن ظلمك، أما لو أن كل من جار أو ظلم أو فسق جاز الخروج عليه لأصبح الأمر فوضى، كما قيل لـعبد الله بن عمر : "إن يزيد يشرب الخمر، قال: هل رأيتموه؟ إنما قيل لكم: إنه يشرب الخمر، فقلتم: يشربها"، فهذا أمر لا دليل عليه، فتقع الفتنة ولا تحقن الدماء ولا تقوم للجهاد قائمة، وتؤتى أنواع من المنكرات أضعاف ما يراد القضاء عليه.
      يقول رحمه الله: "ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة -كما تواتر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم- أما أهل الأهواء -كـالمعتزلة - فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم، ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة: (التوحيد) الذي هو سلب الصفات، و(العدل) الذي هو التكذيب بالقدر، و(المنزلة بين المنزلتين)، و(إنفاذ الوعيد)، و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي منه قتال الأئمة".
  4. قواعد أهل السنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

     المرفق    
    يقول رحمه الله: "وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع، وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة" أي: كل ما تعلق بإنكار المنكر -سواء تعلق ذلك بكبير أو صغير- تجمعه قاعدة عامة؛ يقول رحمه الله: "فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به"؛ لأن المفاسد أكثر، والله تعالى لا يأمر بالفساد، وهذا أصبح أمراً بالفساد، وإن كان في أصله إنكاراً لمنكر هو مفسدة يجب إزالتها، لكن ما دام الإنكار سيحدث أضعاف هذه المفسدة أو أكبر منها، فإن الإنكار حينئذ محرم شرعاً.
    يقول: "فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة"، فلا يقل أحد: أنا أرى المصلحة الآن في خروج المرأة للعمل؛ لكي تكفي أولادها؛ لأن الذي يقدر المصالح والمفاسد هو صاحب الشرع، فكل ما خالف دليلاً من أدلة الشرع فهو مفسدة.
    والفقه ليس مجرد معرفة الأدلة؛ فكثير من الناس قد يعرف أدلة كثيرة؛ لكنه أن تعرف أعظم المصلحتين فتفعلها، وأن تعرف أكبر المفسدتين فتدفعها، فالقضية تحتاج إلى توازن، وهذا يحتاج إلى فقه.
    يقول: "فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر" كالقصة المعروفة عن شيخ الإسلام: كان التتار يدَّعون الإسلام، فلما وجدوا سكارى، أراد بعض الناس أن ينكر عليهم، فقال له شيخ الإسلام: دعهم فلو أفاقوا من الخمر لقاتلوا المسلمين الذين هم على الإسلام حقيقة، أما أولئك فهم يدَّعونه وليسوا عليه؛ فشرب الخمر منكر، لكن إنكاره يؤدي إلى مفسدة، وتركه فيه مصلحة أرجح.
    يقول: "وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام" فكل من وفقه الله وفقهه في الدين سيجد من النصوص ما يبين له هل عمله هذا حق أو باطل، وذلك إذا اجتهد وكان لديه الفقه والعلم والبصيرة في أمر الله سبحانه وتعالى، يقول: "وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما بل إما أن يفعلوهما جميعاً، أو يتركوهما جميعاً، لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر" وذلك كما إذا كان هناك فساق؛ جعلوا مسئولين عن حفظ الأسواق، يقال لهم: امنعوا المنكرات في السوق، فإذا رأيتم النساء متبرجات فانصحوهن بالحجاب، وهم أصلاً فساق؛ يترتب على تمكينهم من الإنكار منكرات أعظم مما هو حاصل دون إنكارهم؛ حيث إن الفاسق إذا كلم المرأة أو خلا بها أو عاقبها فقد يحدث منكر، وإذا لم يأمر انتشر التبرج والفساد، فهذان منكران لا يمكن أن نفصل أحدهما عن الآخر، ففي هذه الحالة لا يجوز تمكينهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما الواجب أن نسعى إلى الفصل بين المنكر والمعروف؛ بأن يؤتى بالأمناء الثقات، ويمكنوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    يقول رحمه الله: "بل ينظر؛ فإن كان المعروف أكثر، أمر به وإن استلزم ما هو دونه من المنكر". مثاله: شابان عزبان ذوا خلق واستقامة لا ينبغي لهما إذا رأيا منكراً من امرأة أن ينكرا بأيديهما أو يقبضا عليها، لكن إذا كانا من رجال الحسبة وشاهدا منكراً من داعرة فإنهما يقبضان عليها، مع ما في ذلك من منكر؛ ففي هذه الحالة إنكار المنكر يتضمن شيئاً من المنكر، لكنه أقل بالنسبة لمنكر موجود يمكن أن يتفشى في المجتمع إذا تعطلت وظيفة الحسبة؛ إذ لا بد أن يقبض على الداعرات وإلا عمت الفاحشة، فهذه المفاسد التي قد تخالط الإنكار تتلاشى وتهمل بجانب القضاء على منكر الدعارة والفساد الذي هو أشد مفسدة.
    يقول: "ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه" كما لو رأيت إنساناً على بدعة وشرك، فلو ترك البدعة لأشرك، فلا تنكر على بدعته حتى تتيسر لك طريقة تنكر عليه بها الشرك والبدعة، بل لو كان من أهل القبلة وأهل التوحيد وهو مبتدع، فذلك خير من أن يكون من أهل الشرك والعياذ بالله، ثم إن كان على بدعة كبرى وبدعة صغرى، فلا ندعه على هذه البدعة الكبرى من أجل أن ننكر عليه بدعة صغرى، فهذا من الفقه الذي لم تفقهه الخوارج ولا المعتزلة .
    يقول: "بل يكون النهي حينئذٍ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات"، فيأثم من يفعل ذلك من غير تقدير ولا حساب.
    يقول: "وإن كان المنكر أغلب نهي عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر، وسعياً في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما".
    وينبغي مع النظر في الأدلة والموازنة بين المصالح والمفاسد ألا يقطع الداعية فيها برأيه وحده؛ بل عليه أن يستشير غيره، فقد يكون تقديره أن المفسدة في أمر ما قليلة، والمصلحة فيه واضحة؛ فماذا عليه لو استشار إخوانه من الدعاة؟ إذا وافقوه اطمأن قلبه وازداد يقينه، وإذا عارضوه فقد يبينون له من الأدلة على أن المفسدة أرجح من المصلحة ما يتغير معه رأيه نحو الأصوب؛ وذلك خير له من إقدامه على أمر يظنه صواباً وهو خطأ؛ وقد يكون عمله من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله.
    وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله في الرد على الرافضي في منهاج السنة إن الله تبارك وتعالى لم يبعث الرسل لاستئصال الشر من العالم، ولو فعل ذلك لما بقي في العالم شر، وإنما للتخفيف منه ما أمكن، فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي.