المادة كاملة    
من أصول المعتزلة: أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر ولا مؤمن، وأنه في منزلة بين المنزلتين، وقد استدلوا لذلك -ومنهم القاضي عبد الجبار- بما هو معارض بنصوص صحيحة صريحة. والمعتزلة والخوارج والمرجئة وكل من ضل في مسألة الإيمان؛ إنما ضلوا لإغفالهم أصلاً عظيماً دلت عليه أدلة الشرع، وأقرته العقول والفطر، وهو أن الإيمان يزيد وينقص.
  1. بيان المنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة والرد عليها

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [وهي مسائل الأسماء والأحكام التي هي المنزلة بين المنزلتين، ومسألة إنفاذ الوعيد].
    الشرح:
    العبارة على هذا النحو فيها خلل، ويبدو لي أن كلمة (وهي) أصلها (وفي)، فتكون العبارة هكذا: "وفي مسائل الأسماء والأحكام التي هي المنزلة بين المنزلتين".
    قد تقدم قوله رحمه الله: [وتكلموا في التوحيد..]، وبعد ذلك قال: [ثم تكلموا بعد ذلك في أفعاله التي هي القدر، وسموا ذلك العدل] وبعد ذلك قال: [ثم تكلموا في النبوة والشرائع..] إلخ، ويكون المعنى: وتكلموا في مسائل الأسماء والأحكام التي هي المنزلة بين المنزلتين، هذا هو المعنى الصحيح، لذلك فنحن نصلحها بحسب المعنى، وربما يكون الخطأ في أصل المخطوطة، وربما تكون العبارة في المخطوطة صحيحة، ولكنها طبعت خطأً.
    فالمعنى الصحيح يقتضي أنها (وفي) لا (وهي)، أي: ثم تكلموا في مسائل الأسماء والأحكام التي هي المنزلة بين المنزلتين، وهذا هو الأصل الرابع من أصولهم المنحرفة.
    1. أول ما أظهر المعتزلة من بدعهم المنزلة بين المنزلتين

      إن أول ما ابتدأ ضلال المعتزلة من مسألة المنزلة بين المنزلتين، وهي أول بدعة أظهروها؛ ابتدعها واصل ثم تبعه عليها عمرو، وجعلوها أصلاً من أصول دينهم، فلم يسبق لأحد من أئمة الإسلام ولا من فرق الضلال قبلهم أن ذكر هذا، وإنما كان الناس قبلهم على ثلاث فرق في مسألة مرتكب الكبيرة، كانت الخوارج تقول: إنه كافر، وكانت المرجئة تقول: إنه كامل الإيمان، وأهل السنة والجماعة على مذهبهم المعروف في المسألة، فخرج هؤلاء بهذه البدعة الجديدة، وقد برر واصل بن عطاء هذه البدعة بقول الحسن البصري لما سئل عن مرتكب الكبيرة فقال: إن مرتكب الكبيرة منافق، والحسن رحمه الله -إن ثبت عنه ذلك- لا يقصد به النفاق الأكبر، كما لا يقصد أن يبتدع في دين الله سبحانه وتعالى، أو يقرر أصلاً من أصول الابتداع، وإنما قال: كيف يدعي الإيمان ثم يرتكب الكبيرة؟! هذا يقول ما لا يفعل، وهذه صفة المنافقين.
      وكان الأمر في مجلس موعظة، وليس في تقرير أصل بدعي جديد لم يقله أحد من قبل.
      لكن لما أراد الله تبارك وتعالى الفتنة لـواصل ولـعمرو وأشباههم، احتاروا بسبب هذا القول وترددوا، و قالوا: إن قلنا: إنه مؤمن؛ فكيف يكون مؤمناً وقد ارتكب الكبائر؟! وإن قلنا: إنه كافر كما تقول الخوارج، فكيف يكون كافراً وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله مع إيمانه في الباطن؟! فاحتاروا واضطربوا في هذا الأمر.
      وكان المخرج من الحيرة والاضطراب والاختلاف هو العودة إلى الكتاب والسنة، كما أمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نرد الأمور عند التنازع إلى الله ورسوله، أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكنهما ردَّا الأمر إلى الرأي المجرد فقالا: نجعله في منزلةٍ بين المنزلتين: لا هو مؤمن ولا هو كافر، المنزلتان هما: منزلة الإيمان، ومنزلة الكفر، فهو في منزلةٍ بينهما. وهي منزلة وهمية لا وجود لها في الحقيقة والواقع.
    2. أصل ضلال الفرق في باب الإيمان

      ويتضح لكل ناظر في هذه المسألة أن الإيمان يزيد وينقص، وكل الفطر والعقول السليمة تقر بذلك، لكن غفل عن ذلك جميع أهل البدع الذين ضلوا في باب الإيمان.
      والأصل المشترك الذي بنيت عليه ضلالات الفرق التي ضلت في باب الإيمان هو اعتقادهم أن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ ولا يتركب، ولا يزيد ولا ينقص.. هذا الأصل اتفقوا عليه، ثم أخذوا يطبقونه في الواقع؛ فـالخوارج عندهم أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص؛ وحين وجدوا أن أقواماً يسرقون ويزنون ويشربون الخمر، ويفعلون الموبقات، قالوا: كيف يكون عند هؤلاء الناس إيمان؟! فنفوا عنهم الإيمان مطلقاً، وجعلوهم كفاراً مرتدين، وأكثر فرق الخوارج غلواً في التكفير هم الأزارقة، أتباع نافع بن الأزرق، ثم بعد ذلك النجدات أتباع نجدة بن عامر الحنفي، وأخفهم وأقلهم غلواً الإباضية، هذه هي الفرق الثلاث الرئيسة، وتفرعت منها فرق كثيرة جداً.
      وهذه شبهتهم؛ قالوا: كيف يزني ويشرب الخمر ويأكل الربا ويكون مؤمناً؟! الإيمان شيء واحد فقط؛ فإما أن يوجد كله، وإما أن يذهب كله، ولا يمكن أن يتبعض أو يتجزأ، ولا يتركب من شيئين أو أكثر، فهذا الذي فعل هذه الكبائر والموبقات خرج من الإيمان، وخرج من الدين.
      ثم بعد ذلك أتوا بظواهر النصوص التي فيها نفي الإيمان عمن فعل شيئاً من ذلك، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن} لكن هذه الأدلة إنما أتوا بها بعد أن حكموا على القضية بعقولهم وآرائهم، ولذلك ردوا كل دليل يخالفها، وما وجدوه من الأدلة يوافقها في نظرهم أخذوا به.
      أما المرجئة، فقالوا: من أكل الربا أو زنى أو سرق، أو شرب الخمر، أو عق والديه أو فعل غير ذلك من الكبائر؛ وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلي، وهو من أهل القبلة، فكيف يكون كافراً؟! والإيمان عندهم -أعني المرجئة - لا يزيد ولا ينقص، فقالوا: هو مؤمن، وإيمانه كإيمان أبي بكر وعمر، وذلك لأن الإيمان عندهم شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وعليه فإيمان أبي بكر كإيمان عمر، وهو كإيمان أفجر الفجار من أهل القبلة، فهو شيء واحد، فناقضوا بذلك العقول السليمة، والفطر القويمة، والنصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في تفاضل أهل الإيمان.
      ثم جاءت المعتزلة بقول جديد لم تسبق إليه، وهو أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين؛ فلا هو مؤمن ولا هو كافر... إلى آخر ما سبق ذكره من قولهم في هذه المسألة.
  2. نقل كلام القاضي عبد الجبار في شرح المنزلة بين المنزلتين والرد عليه

     المرفق    
    نعرض لكم سبب المجيء بهذا القول من كلامهم، كما ذكر القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة يقول: "إن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمناً ولا كافراً ولا منافقاً..." إلى أن قال: "بل له اسم بين الاسمين وحكم بين الحكمين"، قال: "والمخالف في هذا الباب لا يخلو إما أن يقول: إن صاحب الكبيرة منافق، وذلك لا وجه له؛ لأن النفاق اسم لمن يبطن الكفر ويظهر الإسلام، وليس هذا حال صاحب الكبيرة" يعني أن صاحب الكبيرة يبطن الإيمان، لكن شهوته وشيطانه غلباه، ففعل الكبيرة، فكيف تجعلونه منافقاً؟! ثم يقول: "أو يقول: إنه كافر على ما تقوله الخوارج ".
    قال: "والكلام عليه أن نقول: ما تعني به؟ أتريد أن حكمه حكم الكافر، حتى لا يناكح ولا يورّث ولا يدفن في مقابر المسلمين؟ أو تريد أنه يسمى كافراً وإن لم تجر عليه هذه الأحكام؟ فإن أردت به الأول -وهو أن مرتكب الكبيرة يأخذ أحكام الكافر المرتد- فذلك ساقط، لأنا نعلم ضرورة من دين الأمة أنَّ صاحب الكبيرة لا تجري عليه هذه الأحكام، فلا يمنع من المناكحة والموارثة والدفن وغيرها " وهذا دليل قوي، لكن ضلالهم -أعني المعتزلة - في أنهم لم يفهموا منه المعنى الحق، وإلا فهو بحق رد قوي جداً على الخوارج، لأن هذه الأحكام شرعية، والمسألة مسألة الأسماء والأحكام، وهذه الأسماء -أعني اسم الإيمان واسم الكفر- أسماء شرعية.
    والحكم عليه بأنه يناكح أو يورَّث هذه أحكام شرعية، فننظر ماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وماذا فعل الخلفاء الراشدون، والأمة من بعدهم في هذه الأحكام، وفي من يرتكب الكبيرة، فنجد أن الأمة كلها حتى العوام يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق في أحكامه بين مرتكب الكبيرة وبين الكافر، مثلاً: زنى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم آحاد من الناس، وحُكم عليهم بالرجم أو بالجلد والتغريب، كذلك سرق سارق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فحكم عليه بقطع اليد، وكذلك شرب الخمر قوم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فحكم عليهم بالجلد، ولم يمنعهم من الميراث من المسلمين والمناكحة، ولا حرمهم من بيت المال، ولا حرمهم من حقوق الإسلام، وكل الأمة مجمعة على ذلك، وهذا يدل على أن الخوارج على ضلالة واضحة، وكل من أعطاه الله تعالى شيئاً من الفكر والفطنة يجد أن قولهم ضلالة عمياء لا يجوز لأحدٍ أن يعتقدها.
    يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: "وإن أردت به الثاني فذلك لا يصح أيضاً"، والثاني: أن يسمى كافراً ولكن مع عدم إجراء أحكام الكفر عليه فيقول: "لا يصح أيضاً؛ لأن الكفر صار بالشرع اسماً لمن يستحق إجراء هذه الأحكام عليه، فكيف يجوز إطلاقها على من لا يستحقها؟!"
    فتقول المعتزلة: إن الشرع جعل أحكام الكفر لمن يسمى كافراً، فكيف تفصلون أنتم بين الاسم وبين واقع من سمي به؟!
    وهذا الكلام خطأ وباطل؛ فليس كل من سماه الشرع كافراً، أو أطلق عليه صفة الكفر، يأخذ أحكام الكفار.
    هناك أمثلة وردت سمي فيها مرتكب الكبيرة كافراً، وليس المقصود بها أنه يأخذ أحكام الكفار؛ فقد سئُل أبو وائل وهو شقيق بن سلمة التابعي المشهور عن المرجئة كما في صحيح البخاري -وهذا يدل على أن المرجئة كانت قبل المعتزلة ثم جاءت المعتزلة فيما بعد- فقال أبو وائل: حدثنا عبد الله -يعني ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سباب المسلم فسوق وقتاله كفر} وقد ذكر الإمام البخاري الحديث في معرض الرد على المرجئة ؛ لأنهم يرون مرتكب الكبيرة كامل الإيمان، فـأبو وائل فطن إلى أن هذا الحديث يرد عليهم؛ لأنه جعل سباب المسلم فسوقاً -والفسوق هو نقص في الإيمان- وقتاله كفراً، وأطلق على قتاله -لأنه أكبر من السباب- اسماً أكبر من الفسوق، وهو الكفر، ومن يوصف بأن فيه كفراً أو أنه كافر، فإنه لا يوصف بأنه كامل الإيمان، فالرد واضح جداً، فكيف نفهم نحن أيضاً من هذا الحديث الرد على المعتزلة ؟
    نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: {سباب المسلم فسوق وقتاله كفر}، فإنه لا يقصد بذلك صلى الله عليه وسلم أن المسلم إذا قاتل مسلماً كفر، والدليل على أنه لا يريد ذلك قوله تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا))[الحجرات:9] فجعلهم من المؤمنين، والقتال لا يكون إلا إذا التقى المسلمان بسيفيهما، وفي الحديث الآخر أيضاً وهو صحيح: {لا تقوم الساعة حتى تقتتل طائفتان عظيمتان من المسلمين}. إذاً ليس القتال مخرجاً من الملة.
    وسمي الاقتتال كفراً لحكمة عظيمة؛ فإن الكبائر -التي هي دون الشرك بالله- نوعان: أحدهما ما سماه الشارع كفراً، والآخر لم يسمه كفراً، وإنما سماه ذنباً أو معصية أو فسقاً أو فجوراً أو إثماً أو خطيئة.. إلى آخر الأسماء الشرعية المعروفة.
    وأعظمها إثماً هو ما سمي كفراً، ولذلك كان السباب فسوقاً، والقتال كفراً.
    فما سماه الله ورسوله كفراً نعلم أنه أعظم إثماً وأكثر خطراً مما لم يسمه الشارع بذلك، لكن لا يعني ذلك أن من ارتكب ذنباً مما سماه الله ورسوله كفراً يأخذ أحكام الكفار، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في وصيته المشهودة في حجة الوداع: {لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض}.
    ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا أن نرتد عن الدين، ولكن ليس المقصود بهذه الكلمة التحذير من أن نرجع كفاراً ونرتد ونعبد الأصنام، ويتبين ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: {لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض} لأن هذا العمل هو عمل الكفار، ومن فعله فقد فعل ما هو أكبر من مجرد فعل كبيرة لم تسم كفراً.
    وهنا ننبه إلى أن الكفر أو الشرك -المعرف بالألف واللام- الأصل فيه هو الكفر الحقيقي المنافي للإيمان، أما ما سمي من الذنوب كفراً فإن ورود الكفر فيه لم يكن مقترناً بأداة التعريف؛ كما في حديث ابن مسعود: وقتاله كفر، وفي حديث حجة الوداع يقول: كفاراً أما حديث: {بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة} فهو بمعنى الخروج من الملة، لأنه قد جاء مقترناً بأداة التعريف، وهذا له تفصيل في موضع آخر.
    نعود إلى الكلام على المعتزلة فنقول: إن كلام القاضي عبد الجبار ليس على إطلاقه، فقوله: "لأن الكفر صار في الشرع اسماً لمن يستحق إجراء هذه الأحكام عليه"، هو معلوم البطلان؛ وذلك لأن الشرع قد يطلق صفة الكفر على من ليس بكافر؛ وذلك على سبيل التغليظ والزجر وتعظيم الذنب، فيكون أعظم من الذنب الذي لم يسم كفراً .
    1. نقل القاضي عبد الجبار لموقف الصحابة من العصاة والرد عليه

      يقول القاضي عبد الجبار : "وإما أن يقول: إن صاحب الكبيرة مؤمن، على ما تقوله المرجئة، والكلام عليه أن نقول: ما تريد به؟ أتريد به أن حكمه حكم المؤمن في المدح والتعظيم والموالاة في الله تعالى، أم تريد أنه يسمى مؤمناً؟ -أي: دون أن يأخذ حقوق المؤمنين- فإن أردت به الأول، فذلك لا يصح؛ لأنه خرق إجماع مصرح، فإنا نعلم من حال الصحابة -وخاصةً من حال علي بن أبي طالب عليه السلام- أنهم كانوا لا يعظمون صاحب الكبيرة ولا يوالونه في الله عز وجل؛ بل يلعنونه ويستخفون به، ولهذا فإن أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول في قنوته: "اللهم العن معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وأبا الأعور السلمي، وأبا موسى الأشعري ".، وإن أردت به الثاني، فذلك لا يصح أيضاً؛ لأن قولنا: (مؤمن) في الشرع اسم لمن يستحق هذه الأحكام المخصوصة؛ فكيف يجري على من لا يستحقها؟!"
      ما نقله القاضي عبد الجبار من أن علياً لعن هؤلاء هو مما اختلقه عليه أهل البدع ممن يدعون أنهم شيعته؛ فإنه قد علم أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه سئل عن الخوارج الذين خرجوا عليه وكفروه، فقيل له: [[ أكفار هم؟ قال: لا، من الكفر فروا، قيل: أمنافقون هم؟ قال: لا، إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً، قيل: فمن هم إذاً؟ قال: بغاة بغوا علينا]]، وفي رواية: [[إخواننا بغوا علينا]] فإذا كان الخوارج بغاة؛ بغوا وخرجوا وظلموا؛ ومع ذلك لم يستحل علي رضي الله تعالى عنه أن يخرجهم من الدين، وإنما كانوا خارجين في نظره عن الحق، وعن الجادّة وعن السنة، مخطئين بهذا التصرف، فكيف يستحل في حق أهل الشام -معاوية ومن معه- وفي حق أبي موسى الأشعري أن يلعنهم.. كما افترى عليه ذلك أهل البدع ممن زعم أنه من شيعته؟! فهذا مما لا يظن بأمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه.
      ومما يدل على أن هذا مما اختلقه أهل البدع على علي رضي الله عنه قصته مع عائشة رضي الله تعالى عنها بعد يوم الجمل، وخلافه مع الخوارج وإلزامه لهم، وإلزام عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما- لهم أيضاً.
      بل الثابت عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: [[إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ))[الحجر:47]]].
      هذا هو الظن بالصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
      وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج : {يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة} الأصح أن ذلك لا يعني خروجهم من الملة، وإنما يعني خروجهم عن الحق وعن السنة والهدى، ولعلنا نفصل الأقوال والخلاف في كفرهم في موضع آخر، وكذا الفرق بين متقدميهم ومتأخريهم، وأن بعضهم يستحق الحكم عليه بالكفر لأنه قد أتى بمكفر؛ فإن بعض الخوارج خرجوا من الملة بأشياء أخرى، كمن أنكر سورة يوسف مثلاً، فهذا خروجه من الملة ليس لكونه من الخوارج، بل لكونه أنكر سورة من كتاب الله.
      المقصود أن كلام علي رضي الله تعالى عنه هو في أصحاب النهروان، الذين أمّروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي، واجتمعوا في النهروان، وسفكوا الدم الحرام، واستحلوا دماء المسلمين وقطع الطريق، ولقد قال لهم رضي الله عنه قبل ذلك: [[إن لكم علينا أن لا نمنعكم من الفيء وأن لا نمنعكم مساجد الله حتى تحدثوا]]، فأحدثوا بعد ذلك وقتلوا عبد الله بن خباب وجاريته، وبقروا بطنها، ولما لقوا النصراني قالوا: لا تخفروا ذمة نبيكم. وهذا صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بأهل الذمة، وقال: {من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة} لكن كيف يحترم الخوارج دم الذمي ويقتلون الصحابي؟! هذه مشكلة الخوارج وهي الفهم المنكوس.
      ومروا في طريق، فوجد أحدهم رطبة، فقال: هل آكلها أم لا آكلها؟ فاختلفوا هل هي حلال أو حرام، وتورعوا عنها، لكنهم في دماء المسلمين ولغوا ولم يتورعوا، ولأعراض الصحابة استباحوا وفيها ورتعوا، فانظر إلى فهم الخوارج، تجده فهماً منكوساً معكوساً.
      وكل قضاياهم هكذا، يقولون: لا نبايع أحداً، إلا أن تأتونا بمثل عمر .
      فإذا كان لا يوجد عمر، ولكن يوجد علي وسعد وطلحة والزبير، قالوا: لا نريدهم، ففارقوا الجماعة وأمَّروا منهم أميراً، فهل أمّروا أميراً مثل عمر ؟
      أمّروا عبد الله بن وهب الراسبي، وقد قال فيه ابن حزم كلمته المشهورة، قال: "هو أعرابي بوال على عقبيه، ليس له صحبة ولا سابقة ولا فضل، ولم يشهد الله له بخير".
      يقول القاضي عبد الجبار؛ "وإن أردتم به الثاني -وهو أنه يسمى مؤمناً ولكن لا يأخذ أحكام المؤمنين- فذلك لا يصح أيضاً؛ لأن قولنا: (مؤمن) في الشرع اسم لمن يستحق هذه الأحكام المخصوصة، فكيف يجري على من لا يستحقها؟!" وهنا نرد عليه مثلما رددنا عليه سابقاً، فنقول: لا يلزم من كونه مؤمناً أو مسلماً أن يأخذ كل أحكام وحقوق المسلمين.
  3. مذهب أهل السنة في تفاوت الناس في الإيمان والكفر

     المرفق    
    هذه القضية سهلة وواضحة في مذهب أهل السنة والجماعة ؛ فإن الناس يتفاوتون في الإيمان، وتبعاً لذلك يتفاوتون في أخذ أسمائه وأحكامه وحقوقه.
    فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم لهم علينا من حق التقدير والإجلال والترضي عنهم والتعظيم لهم وتوقيرهم ما ليس للتابعين، لأنهم أعظم وأكمل إيماناً، فحقهم علينا أكبر، والتابعون حقهم علينا أعظم ممن بعدهم، والأئمة الهداة المتبوعون لهم أيضاً فضل، والعلماء المقتدى بهم لهم فضل وحق عظيم.
    والذي على تقوى وإخلاص وعبادة وجهاد ودعوة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر له من الحق والحب والموالاة أعظم مما لذلك الذي يؤدي الواجبات ويترك المحرمات، ولكنه على حال دون ذلك، وأقل منه الذي يأتي بعض المحرمات، والذي يأتي بكبيرتين أكبر جرماً من الذي يأتي بكبيرة واحدة، وهو أخف جرماً ممن يأتي بثلاث كبائر.
    هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة بكل وضوح، والفطرة تشهد له، حتى عند من لم يتفقه في الدين؛ ولهذا كان أهل السنة والجماعة ينطلقون في هذه المسألة من قضية واضحة جداً؛ فهناك الإيمان المطلق، وهناك مطلق الإيمان، فلا نثبت لمرتكب الكبيرة الإيمان المطلق الذي لا قيد فيه، بل نثبت له مطلق الإيمان، وذلك يصدق على أي قدر من الإيمان، فهو مطلق الإيمان، أما الإيمان المطلق فمعناه: الإيمان التام الكامل الذي لا قيد فيه.
    فإذا نفينا عنه الإيمان فإننا نستخدم معه سلب العموم لا عموم السلب، فلا نقول: كل مرتكب كبيرة ليس مؤمناً، فهذا غير صحيح، بل نقول: ليس كل مرتكب لكبيرة مؤمناً؛ لأنه يوجد من يرتكب الكبيرة وهو كافر، ويوجد من يرتكبها وهو مؤمن، فيكون كافراً إذا شرب الخمر مستحلاً لها جاحداً لتحريمها، أو ترك الفريضة مستحلاً للترك جاحداً للوجوب.
    والمقصود أن مرتكب الكبيرة إيمانه يزيد وينقص، فمرتكب الكبيرة ليس هو المؤمن الذي يأخذ صفات الإيمان الكامل، الممدوح في مثل قوله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ))[الأنفال:2] لكن أيضاً ليس مرتكب الكبيرة هو ذلك الذي ينطبق عليه قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ))[آل عمران:21] أو قوله تعالى: ((وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ))[المائدة:5] وإنما هو في حالٍ بينهما، وهي نقص الإيمان بحسب المعصية.
    فأصل فكرة المعتزلة يمكن أن نعتبرها صحيحة، وهي أنه لا يمكن أن نعتبره مؤمناً، ولا يمكن أن نعتبره كافراً، لكن الخطأ جاء من تصورهم أن الإيمان شيء واحد، إما أن يذهب كله أو يبقى كله، فاحتاروا في مرتكب الكبيرة، فقالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، ولو قالوا: الإيمان يتجزأ ويتبعض ويتركب، لما كان هناك أيُّ إشكال، والله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز قد ذكر بدلالة صريحة ما يبطل كلام المعتزلة، ويوضح منهج أهل السنة والجماعة، وذلك قوله تعالى في سورة الحجرات: ((قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ))[الحجرات:14] والذي يفهم من هذه الآية أن هناك فرقاً بين الإيمان والإسلام، فيكون الإيمان شيئاً زائداً على الإسلام، فمرتكب الكبيرة الذي لم يستحل ولم يجحد يبقى مسلماً، وإن لم يكن مؤمناً كامل الإيمان.
    ومدح المرء بالإيمان درجة لا ينالها إلا من ترك الكبائر وفعل الواجبات، ومن أخل بشيء من ذلك لا يستحق هذا المدح.
    ثم المؤمنون أنفسهم متفاوتون في الدرجات، بل المحسنون متفاوتون، فأفضل المحسنين هم الرُسُل صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في الإيمان، ومتفاوتون في الدرجة، فأولو العزم أفضل من غيرهم وأكمل إيماناً بلا ريب، وأكمل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ((تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ))[البقرة:253].
    والصديقون درجات، فهم متفاوتون أيضاً، فـأبو بكر رضي الله عنه صدِّيق، وفي الأمة أيضاً صديقون، ولكنهم أقل درجة من أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ثم بعد ذلك يأتي الشهداء كما في آية: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا))[النساء:69] والشهداء متفاوتون، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {أفضل الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان جائر، فأمره ونهاه؛ فقتله} والشهيد الذي قتل في سبيل الله عز وجل -وهو يجاهد الكفار- أفضل ممن يأخذ الشهادة حكماً، كالمطعون والمبطون إلى آخر من يثبت له حكم الشهادة ممن صرح النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، وجمعهم بعض العلماء فزادوا على العشرين؛ كلهم ممن يستحق أن يوصف بالشهادة وينال أجر شهيد، لكنهم ليسوا مثل الشهيد في سبيل الله.
    كذلك الفجار والمجرمون هم أيضاً متفاوتون.
    والكفر كذلك يتفاوت، فكفر فرعون أشد وأعظم وأعلى أنواع الكفر، ثم من دونه ثم من دونه، وهكذا.
    ومن يرتكب مع الخمر زناً يكون أشد جرماً ممن يشرب الخمر ولا يزني، فإذا ارتكب ثلاث كبائر؛ زنى وشرب الخمر وأكل الربا، فهو أشد ممن ارتكب كبيرتين.
    فهذه -والحمد لله- مسائل واضحة، يعرفها الإنسان من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبها نعلم الردَّ على المعتزلة في هذه الدعوى، حينما يسلبون عن الإنسان اسم الكفر ويسلبون عنه اسم الإيمان، ويقولون: هو في منزلة بين المنزلتين.
    وهذا حكم مرتكب الكبيرة عند المعتزلة في الدنيا، أما في الآخرة فهم متفقون مع الخوارج في الحكم، بمعنى أنهم مختلفون مع الخوارج في الاسم لا في المسمى، وهذا مما نعلم به ضلال المعتزلة في قولهم: هو في منزلة بين المنزلتين.
    فإذا كان المعتزلة يعتقدون أن مرتكب الكبيرة إذا مات غير تائب فهو خالد مخلد في النار، فما الفرق بين قول المعتزلة: لا نسميه كافراً ولا نسميه مؤمناً، بل في منزلة بين المنزلتين، وبين قول الخوارج ؟! فليست إذاً إلا نظرية وهمية، ونتيجتها هي نتيجة ما قاله الخوارج.
    1. الرد على المعتزلة بما ردوا به على الخوارج في مسألة الإيمان

      يقال للمعتزلة : إن الدليل الذي رددتم به على الخوارج دليل عليكم، وهو تفريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحدود.
      فإن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل بعض الناس كفراً؛ لأنهم كفار مشركون، أما من رجم أو جلد أو قطعت يده من أصحاب الكبائر، فهؤلاء لهم حكم الإسلام، هذا التفريق استدللتم به أنتم معشر المعتزلة على الخوارج بأن مرتكب الكبيرة لا يكفر، ونحن أيضاً نستدل به عليكم بأنه لا يخلد في النار.
      أفي الدنيا تتفاوت الأحكام، ويكون العدل الرباني، والعدل النبوي، وفي الآخرة يظلمون بالتخليد في النار؟! حتى لو قال المعتزلة: يخلد في نار أخف من نار الكفار الأصليين؛ فمجرد التخليد لا يليق، وإن زعمتم أن هذه أسماء شرعية، وهذه أحكام شرعية، فلنرجع إلى الشرع.
      ومما يرد على المعتزلة وعلى جميع فروع الشيعة؛ الزيدية وأشباههم ممن يخلطون في هذه المسألة: ثبوت الشفاعة؛ فهي رد جليٌّ صريح على المعتزلة والخوارج ومن اتبع مذهبهم، ولو آمنوا بالشفاعة، لرجعوا عن كثير من ضلالاتهم؛ لكنهم تمادوا في ضلالات مركبة تسلسلت وأفضى بعضها إلى بعض، وانتهى بهم الأمر إلى حالة غريبة جداً، وهي أن المعتزلة -على هذه الشدة في حكم مرتكب الكبيرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- كانوا من أفسق الناس، وكثير من أئمتهم كانوا لا يصحون من شرب الخمر، ولا يتورعون عن سماع الطرب والملاهي، وأكل الحرام، والكذب والبهتان، وقول الزور... إلخ.
      فالعقيدة الفاسدة -وإن كانت في صورة متشددة في الدين- لابد أن تورث صاحبها تقصيراً، فما أراد أحد أن يزيد في هذا الدين إلا وينقص منه، وما ابتدع قوم بدعة إلا وتركوا من السنة مثلها، وهذه هي العبرة التي نأخذها حين ندرس هذه الطوائف بضلالاتها وبدعها، نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يعافينا وإياكم من ذلك.