نعرض لكم سبب المجيء بهذا القول من كلامهم، كما ذكر
القاضي عبد الجبار في
شرح الأصول الخمسة يقول: "إن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمناً ولا كافراً ولا منافقاً..." إلى أن قال: "بل له اسم بين الاسمين وحكم بين الحكمين"، قال: "والمخالف في هذا الباب لا يخلو إما أن يقول: إن صاحب الكبيرة منافق، وذلك لا وجه له؛ لأن النفاق اسم لمن يبطن الكفر ويظهر الإسلام، وليس هذا حال صاحب الكبيرة" يعني أن صاحب الكبيرة يبطن الإيمان، لكن شهوته وشيطانه غلباه، ففعل الكبيرة، فكيف تجعلونه منافقاً؟! ثم يقول: "أو يقول: إنه كافر على ما تقوله
الخوارج ".
قال: "والكلام عليه أن نقول: ما تعني به؟ أتريد أن حكمه حكم الكافر، حتى لا يناكح ولا يورّث ولا يدفن في مقابر المسلمين؟ أو تريد أنه يسمى كافراً وإن لم تجر عليه هذه الأحكام؟ فإن أردت به الأول -وهو أن مرتكب الكبيرة يأخذ أحكام الكافر المرتد- فذلك ساقط، لأنا نعلم ضرورة من دين الأمة أنَّ صاحب الكبيرة لا تجري عليه هذه الأحكام، فلا يمنع من المناكحة والموارثة والدفن وغيرها " وهذا دليل قوي، لكن ضلالهم -أعني
المعتزلة - في أنهم لم يفهموا منه المعنى الحق، وإلا فهو بحق رد قوي جداً على
الخوارج، لأن هذه الأحكام شرعية، والمسألة مسألة الأسماء والأحكام، وهذه الأسماء -أعني اسم الإيمان واسم الكفر- أسماء شرعية.
والحكم عليه بأنه يناكح أو يورَّث هذه أحكام شرعية، فننظر ماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وماذا فعل الخلفاء الراشدون، والأمة من بعدهم في هذه الأحكام، وفي من يرتكب الكبيرة، فنجد أن الأمة كلها حتى العوام يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق في أحكامه بين مرتكب الكبيرة وبين الكافر، مثلاً: زنى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم آحاد من الناس، وحُكم عليهم بالرجم أو بالجلد والتغريب، كذلك سرق سارق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فحكم عليه بقطع اليد، وكذلك شرب الخمر قوم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فحكم عليهم بالجلد، ولم يمنعهم من الميراث من المسلمين والمناكحة، ولا حرمهم من بيت المال، ولا حرمهم من حقوق الإسلام، وكل الأمة مجمعة على ذلك، وهذا يدل على أن
الخوارج على ضلالة واضحة، وكل من أعطاه الله تعالى شيئاً من الفكر والفطنة يجد أن قولهم ضلالة عمياء لا يجوز لأحدٍ أن يعتقدها.
يقول
القاضي عبد الجبار المعتزلي: "وإن أردت به الثاني فذلك لا يصح أيضاً"، والثاني: أن يسمى كافراً ولكن مع عدم إجراء أحكام الكفر عليه فيقول: "لا يصح أيضاً؛ لأن الكفر صار بالشرع اسماً لمن يستحق إجراء هذه الأحكام عليه، فكيف يجوز إطلاقها على من لا يستحقها؟!"
فتقول
المعتزلة: إن الشرع جعل أحكام الكفر لمن يسمى كافراً، فكيف تفصلون أنتم بين الاسم وبين واقع من سمي به؟!
وهذا الكلام خطأ وباطل؛ فليس كل من سماه الشرع كافراً، أو أطلق عليه صفة الكفر، يأخذ أحكام الكفار.
هناك أمثلة وردت سمي فيها مرتكب الكبيرة كافراً، وليس المقصود بها أنه يأخذ أحكام الكفار؛ فقد سئُل
أبو وائل وهو
شقيق بن سلمة التابعي المشهور عن
المرجئة كما في
صحيح البخاري -وهذا يدل على أن المرجئة كانت قبل المعتزلة ثم جاءت المعتزلة فيما بعد- فقال أبو وائل: حدثنا عبد الله -يعني ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سباب المسلم فسوق وقتاله كفر} وقد ذكر الإمام البخاري الحديث في معرض الرد على المرجئة ؛ لأنهم يرون مرتكب الكبيرة كامل الإيمان، فـأبو وائل فطن إلى أن هذا الحديث يرد عليهم؛ لأنه جعل سباب المسلم فسوقاً -والفسوق هو نقص في الإيمان- وقتاله كفراً، وأطلق على قتاله -لأنه أكبر من السباب- اسماً أكبر من الفسوق، وهو الكفر، ومن يوصف بأن فيه كفراً أو أنه كافر، فإنه لا يوصف بأنه كامل الإيمان، فالرد واضح جداً، فكيف نفهم نحن أيضاً من هذا الحديث الرد على المعتزلة ؟
نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: {سباب المسلم فسوق وقتاله كفر}، فإنه لا يقصد بذلك صلى الله عليه وسلم أن المسلم إذا قاتل مسلماً كفر، والدليل على أنه لا يريد ذلك قوله تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا))[الحجرات:9] فجعلهم من المؤمنين، والقتال لا يكون إلا إذا التقى المسلمان بسيفيهما، وفي الحديث الآخر أيضاً وهو صحيح: {لا تقوم الساعة حتى تقتتل طائفتان عظيمتان من المسلمين}. إذاً ليس القتال مخرجاً من الملة.
وسمي الاقتتال كفراً لحكمة عظيمة؛ فإن الكبائر -التي هي دون الشرك بالله- نوعان: أحدهما ما سماه الشارع كفراً، والآخر لم يسمه كفراً، وإنما سماه ذنباً أو معصية أو فسقاً أو فجوراً أو إثماً أو خطيئة.. إلى آخر الأسماء الشرعية المعروفة.
وأعظمها إثماً هو ما سمي كفراً، ولذلك كان السباب فسوقاً، والقتال كفراً.
فما سماه الله ورسوله كفراً نعلم أنه أعظم إثماً وأكثر خطراً مما لم يسمه الشارع بذلك، لكن لا يعني ذلك أن من ارتكب ذنباً مما سماه الله ورسوله كفراً يأخذ أحكام الكفار، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في وصيته المشهودة في حجة الوداع: {لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض}.
ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا أن نرتد عن الدين، ولكن ليس المقصود بهذه الكلمة التحذير من أن نرجع كفاراً ونرتد ونعبد الأصنام، ويتبين ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: {لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض} لأن هذا العمل هو عمل الكفار، ومن فعله فقد فعل ما هو أكبر من مجرد فعل كبيرة لم تسم كفراً.
وهنا ننبه إلى أن الكفر أو الشرك -المعرف بالألف واللام- الأصل فيه هو الكفر الحقيقي المنافي للإيمان، أما ما سمي من الذنوب كفراً فإن ورود الكفر فيه لم يكن مقترناً بأداة التعريف؛ كما في حديث ابن مسعود: وقتاله كفر، وفي حديث حجة الوداع يقول: كفاراً أما حديث: {بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة} فهو بمعنى الخروج من الملة، لأنه قد جاء مقترناً بأداة التعريف، وهذا له تفصيل في موضع آخر.
نعود إلى الكلام على المعتزلة فنقول: إن كلام القاضي عبد الجبار ليس على إطلاقه، فقوله: "لأن الكفر صار في الشرع اسماً لمن يستحق إجراء هذه الأحكام عليه"، هو معلوم البطلان؛ وذلك لأن الشرع قد يطلق صفة الكفر على من ليس بكافر؛ وذلك على سبيل التغليظ والزجر وتعظيم الذنب، فيكون أعظم من الذنب الذي لم يسم كفراً .