المادة كاملة    
الوعد والوعيد أصل من أصول المعتزلة؛ يقررون به أنه يجب على الله عز وجل إثابة الطائعين، وعقاب العاصين، ويرون أن إخلاف الوعيد من الكذب القبيح الذي يتنزه الله عنه، وأن الخلف في الوعيد يستلزم الخلف في الوعد.
  1. مذهب المعتزلة في الوعد والوعيد

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [ثم تكلموا في النبوة والشرائع، والأمر والنهي، والوعد والوعيد].
    الشرح:
    الوعد يكون بالخير، والوعيد يكون بالشر، والمعتزلة جعلوا الوعد والوعيد أصلاً من أصولهم الخمسة، وقد جعلوها خمسة باعتبار المخالفين.
    وقد قال القاضي عبد الجبار في كتابه الأصول الخمسة: "وأما من خالف في الوعد والوعيد، وقال: إنه سبحانه وتعالى ما وعد المطيعين بالثواب، ولا توعد العاصي بالعقاب ألبته؛ فإنه يكون كافراً" يرد المعتزلة بذلك على من قال: إن الله لم يعد المؤمن بالثواب، ولم يتوعد العاصي بالعقاب، ونحن لا نعلم طائفة بعينها من الأمة قالت: إنه لا وعد ولا وعيد، حتى أن أهل الأديان والملل السابقة يعلمون أن الإنسان ذا الفضل والإيمان موعود بالخير، وأن المجرم الشرير والكافر متوعد بالشر والعقاب، أما المعتزلة فيقولون: إن هناك فرقة قالت بذلك، وربما كانت هذه الفرقة هي من الفلاسفة، وبالذات من فلاسفة الهند وما والاها.
  2. حكم المعتزلة في من أنكر الوعد والوعيد

     المرفق    
    يقول القاضي عبد الجبار: "وأما من خالف في الوعد والوعيد، وقال: إنه سبحانه تعالى ما وعد المطيعين بالثواب، ولا توعد العاصين بالعقاب ألبتة؛ فإنه يكون كافراً؛ لأنه رد ما هو معلوم ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وسلم".
    ثم انتقل عبد الجبار إلى نقطة أخرى فقال: "وكذا لو قال: إنه تعالى وعد وتوعد، ولكن يجوز أن يخلف في وعيده؛ لأن الخلف في وعيده كرم؛ فإنه يكون كافراً لإضافة القبيح إلى الله تعالى.. فإن قال: إن الله تعالى وعد وتوعد، ولا يجوز أن يخلف في وعده ووعيده، ولكن يجوز أن يكون في عموميات الوعيد شرط أو استثناء لم يبينه الله تعالى، فإنه يكون مخطئاً"
    وهذا أمر لابد فيه من التفصيل، فنقول: إن كانت طائفة بعينها أو رجل بعينه أنكر الوعد والوعيد فهو كافر، وكذلك إن أنكر العقاب، بمعنى أنه قال: إن الله سبحانه وتعالى توعد أن يعاقب إلا أنه لن يعاقب أحداً؛ فإن هذا مخالف أيضاً لصريح القرآن، ولما ثبت في السنة، ولما هو معلوم من الدين بالضرورة.
    فالأول: هو من أنكر الوعد والوعيد كله. والثاني: هو من يثبت الوعد والوعيد ولكن يقول: إن الله تبارك وتعالى لن يفي بوعيده، أي: لا ينفذ وعيده كرماً منه، فيقول عبد الجبار: إن قائل هذا كافر؛ لأنه تكذيب لكلام الله ولكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولما هو معلوم من الدين بالضرورة.
    وأما إن قيل: إن الله سبحانه وتعالى قد يعفو عمن يشاء من أهل الوعيد لحكمة عظيمة يعلمها؛ فإن من مقتضى حكمته عز وجل أنه لا يخلف وعده أبداً؛ بل يزيد العبد من فضله على ما وعد وعلى ما يستحق العبد، فلا يمكن أن يكون الله مخلفاً لوعده الذي وعد عباده، فكل من وُعد خيراً على حسنة قدمها فإن الله تعالى لن يخلفه ما وعد، وسوف يلاقي ثواب ما عمل من الحسنات، أما السيئات فلله تبارك وتعالى على مقتضى حكمته ألا ينفذ وعيده في حق بعض الأفراد.
    فمثلاً: الله سبحانه وتعالى توعد آكل الربا وآكل أموال اليتامى ظلماً بالنار، فمن قال: إن الله قد يغفر لبعض أكلة الربا، أو أكلة أموال اليتامى ظلماً أو مرتكب الكبيرة، أو أي ذنب دون الكفر فلا يعاقبهم، أو يغفر لبعض الزناة فلا يعاقبهم.. فإن قائل هذا القول عند المعتزلة يعد مخطئاً، ولكن قولهم هذا باطل، فإن هذا اختصاص من الله سبحانه وتعالى لبعض خلقه لحكمة يعلمها عز وجل.
    ومن هنا يأتي مبحث عظيم هو أحد ما نرد به على المعتزلة في هذا الشأن، وهو أصل عظيم من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة، وهو موضوع الشفاعة.
    وهذا يدل على ما في كلام المعتزلة من الإجمال والتلبيس الذي يؤدي إلى إبطال كثير مما دل عليه القرآن وما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  3. إيجاب المعتزلة على الله إثابة الطائعين وتعذيب العاصين

     المرفق    
    تقول المعتزلة: إنه يجب على العبد أن يعتقد أن الله سبحانه وتعالى وعد المطيعين بالثواب، وتوعد العصاة بالعقاب. وقولهم هذا حق، إلا أنهم يقولون: إنه يفعل ما وعد به وتوعد عليه لا محالة، أي: يجب عليه -كما نص بعضهم- أن يثيب الطائعين ويعاقب العاصين -تعالى الله عما يقولون- وهذا ينبني على أصل قولهم في مرتكب الكبيرة أنه خالد مخلد في النار لا يخرج منها ولا يشفع فيه أحد؛ قالوا: ولا يجوز عليه الخلف والكذب، فجعلوا عدم إنفاذ الوعيد في مستحقه خلفاً وكذباً.
    يقول القاضي عبد الجبار: "والمخالف في هذا الباب إما أن يخالف في أصل الوعد والوعيد، ويقول: إن الله تعالى ما وعد ولا توعد، وهذا على الحقيقة خلاف في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنا نعلم من دينه ضرورة أنه وعد وتوعد" وهذا حق لأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي وعد ووعيد.. بشارة ونذارة؛ بشارة للمؤمنين ونذارة للمشركين وللكافرين.
    يقول القاضي عبد الجبار: "أو يقول: إن الله وعد وتوعد، ولكن يجوز أن يخلف في وعيده، فالكلام عليه أن يقال: إن الخلف في حق الله تعالى كذب لما تقدم، والكذب قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح لعلمه بقبحه ولغناه عنه"، و المعتزلة يقولون: قد توعد الله بأن يعاقب أهل الكبائر، فإذا عفا عن أحد منهم فقد كذب، والكذب قبيح، ولا يليق بالله سبحانه أن ينسب إليه قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح لعلمه بقبحه ولغناه عنه.
  4. الرد على شبهة المعتزلة: أن إخلاف الوعيد من الكذب القبيح

     المرفق    
    من المسلم به أن الله لا يفعل القبيح، وأنه عليم بالقبيح وغني عنه، لكن الاعتراض والخلاف في: هل العفو عن المجرم قبح؟
    لقد كان معروفاً عند العرب أن الإنسان إذا عفا عند المقدرة فإن هذا من كرمه وفضله، وهذا دليل على كريم الطباع ونبيل الخصال؛ ذلك أنه عفا وهو قادر على إنزال العقوبة؛ قال الشاعر يمدح بني أمية:
    لا ينقمون من بني أمية إلا            أنهم يحلمون إن غضبوا
    وأنهم أكرم الناس ولا             تصلح إلا عليهم العرب
    وكل كمال في المخلوق فالله تعالى أولى به منه؛ بشرط ألا يحتمل النقص بأي وجه من الوجوه، فإذا كان العلم في المخلوق كمالاً والجهل عيباً، فالله تبارك وتعالى أولى بأن يوصف بالعلم، وكذلك الحلم والكرم، ومن ذلك العفو عمن تُوعِّدَ بالعقاب، وهناك بيت مشهور عند العرب في هذا المعنى وهو عندهم كالمثل السائر:
    وإني إذا أوعدته أو وعدته            لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
    وهذا من أفخر ما تقوله العرب وتمتدح به، فقوله: (وإني إذا أوعدته)، بمعنى: توعدته بالعقاب، (لمخلف إيعادي) أي: لا أعاقبه وأخلف في العقوبة، (ومنجز موعدي)، أي: أنني أفي بما وعدته به من الخير والنفع.
    والمقصود: أن ما قاله عبد الجبار بأن إخلاف الوعيد من الكذب القبيح الذي يتنزه الله عنه كلام سامج، وشبهة متهافتة ساقطة؛ بل الذي يعد كذباً هو إخلاف الوعد، وهذا الأمر من صفات المنافقين، وهو أمر مذموم عند العرب وعند العقلاء، لكن من توعد ثم عفا وصفح؛ فإنه ممدوح محمود لدى جميع الأمم وعند جميع العقلاء.
  5. الرد على استدلال المعتزلة بقوله تعالى: (ما يبدل القول لدي...)

     المرفق    
    ثم يقول عبد الجبار: "وإلى هذا أشار تعالى بقوله: ((مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ))[ق:29]". ووجه استدلال المعتزلة من هذه الآية واضح. وهنا يأتي سؤال وهو: هل ينكر المعتزلة أن الله غفور أو رحيم؟
    الجواب: المعتزلة لا ينكرون ذلك؛ لكنهم يقولون: إن الله تعالى غفور لمن تاب فقط، ويستدلون بقوله تعالى: ((وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى))[طه:82].
    ونحن نقول: إن الآية لا تخالف ما عليه أهل السنة والجماعة من أن الله تعالى يغفر ويعفو لمن يشاء وإن لم يتب، ويستدل أهل السنة بقوله تعالى: ((غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ))[غافر:3]، فالله تعالى وصف نفسه بوصفين متباينين: أنه غافر الذنب، وأنه قابل التوب، وهاتان الصفتان متعلقتان بنوعين من الناس: النوع الأول: أصحاب الذنوب وهم من مات وعليه ذنب، والنوع الثاني: من تاب من ذنبه، فالله سبحانه وتعالى يغفر الذنب لمن شاء دون الشرك؛ وذلك حتى نجمع بين جميع الآيات، فإن الله يقول: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))[النساء:48]، فمن لقي الله تبارك وتعالى وهو مشرك فغير مغفور له، ولا يجوز أن يستغفر له، كما قال تعالى: ((مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ))[التوبة:113].
    وقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا))[الزمر:53] يحمل على من تاب، وقد ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أتاه قوم من المشركين وقالوا: إن قوماً قتلوا فأكثروا، وأشركوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، وإنهم قد وجدوا آية من كتاب الله وهي التي في سورة الفرقان، فقرأ عليهم قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))[النساء:48] وقوله تعالى: (( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ))[الزمر:53] فالله تعالى يغفر الذنوب جميعاً، فإن كان الإنسان كافراً أو يهودياً أو نصرانياً، ثم تاب ودخل في الإسلام، فإن الإسلام يجب ما قبله، أما من مات؛ فإنه إما أن يلقاه وهو مشرك، فهذا لا غفران له، وإما أن يلقاه وهو مرتكب لكبيرة ولم يتب منها، فهذا أمره إلى الله، وسوف تأتي الأدلة إن شاء الله بالتفصيل.
    أما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: ((مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ))[ق:29] فنقول: لا وجه لاستدلالهم بها؛ لأن الظلم إنما يكون بمنع الإنسان حقه الذي هو له، وأما التكرم عليه بإعطائه ما ليس له، فهذا عكس الظلم تماماً؛ لأنه غاية الكرم والإنعام.
  6. الرد على شبهة المعتزلة في قياسهم الوعيد على الوعد

     المرفق    
    ثم يقول عبد الجبار: "وبعد فلو جاز الخلف في الوعيد لجاز في الوعد"، الشبهة الأخرى للمعتزلة هي القياس، وأول من قاس إبليس؛ وهذا القياس من القياس الفاسد، فـالقاضي عبد الجبار يزعم أنه لو جاز الخلف في الوعيد، لجاز أن يعد الأبرار والشهداء والصديقين والأنبياء بالجنة ولا يدخلهم؛ فما دمتم قد قلتم: إنه يجوز أن يوعد بعض العصاة والمذنبين ولا يدخلهم النار، فكذلك يجوز أن يعد بعض المؤمنين ولا يدخلهم الجنة! وهذا قياس باطل فاسد.
    يقول: "لأن الطريق في الموضعين واحدة، فإن قال: هناك فرق بينهما؛ لأن الخلف في الوعيد كرم، وليس كذلك في الوعد، قلنا: ليس كذلك؛ لأن الكرم من المحسنات -أي من الأمور الحسنة- والكذب قبيح بكل وجه؛ فكيف تجعله كرماً؟!"
    وهذا كلام بيِّن التهافت، فنقول: إن كان الكرم قد اتفقنا على أنه أمر حسن، وتكرم الله تعالى به على أحد، فمن أين يتطرق إليه الكذب؟! هذا من عندك، فأنت جعلته كذباً مع أنك جعلته حسناً وكرماً، وهذا لا يليق، بل هو واضح البطلان.
    قال: "أو يقول -أي المخالف-: إن الله تعالى وعد وتوعد ولا يجوز عليه الخلف والكذب، ولكن يجوز أن يكون في عمومات الوعيد شرط واستثناء لم يبينه الله تعالى".
    وهذا ما تحدثنا عنه سابقاً، وهو القول بأنهم يقولون: نحن لا نكفر مطلقاً، إلا في إحدى حالتين: الأولى: من أنكر الوعد والوعيد، الحالة الثانية: من أنكر العقاب مطلقاً مع إثبات الوعد والوعيد، أما من قال: إن الله لابد أن يعاقب، لكن لعل له شرطاً أو استثناءً لا نعلمه فإنهم يقولون عنه: إنه مخطئ؛ أي: أنه ما كفر لكنه مخطئ، وهذا في غاية الضلال، وما أعجب ما يقوله هؤلاء! ومن عجيب أقوالهم في هذه المسألة ما نقل عن أبي هاشم الجبائي: يقول أبو هاشم الجبائي في مسألة وقوع العقاب: "إنه لابد من العقاب، وإنه يجب على الله أن يعاقب كل المذنبين. يقول: لأن القديم تعالى -هم يسمون الله تعالى بالقديم، وليس القديم من أسمائه عز وجل، بل هو الأول- خلق فينا شهوة القبيح، ونفرة الحسن، فلابد أن يكون في مقابلته من العقوبة ما يزجرنا عن الإقدام على المقبحات، ويرغبنا في الإتيان بالواجبات".