المادة كاملة    
وضع المعتزلة أصولاً خمسة ليست من الكتاب ولا من السنة، وإنما هي نتيجة لمخالفة بعض الفرق، وهذه الأصول هي: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمعتزلة ينفون القدر والصفات، ظناً منهم أنهم ينزهون الله تعالى!
  1. الأصول الخمسة عند المعتزلة وسبب وضعها

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [وقد أبدلتها المعتزلة بأصولهم الخمسة التي هدموا بها كثيراً من الدين، فإنهم بنوا أصل دينهم على الجسم والعَرَض الذي هو الموصوف والصفة عندهم، واحتجوا بالصفات التي هي الأعراض على حدوث الموصوف الذي هو الجسم، وتكلموا في التوحيد على هذا الأصل، فنفوا عن الله كل صفة؛ تشبيهاً بالصفات الموجودة في الموصوفات التي هي الأجسام.
    ثم تكلموا بعد ذلك في أفعاله التي هي القدر، وسموا ذلك (العدل)].
    الشرح:
    المقصود أن المعتزلة يؤمنون بهذه الأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    وهنا مسألة؛ فقد يقال: لماذا كانت خمسة؟ من الذي وضعها؟ ولماذا وضعها؟ هذه الأسئلة وردت على المعتزلة فأجابوا عنها، نقرأ عليكم جواب القاضي عبد الجبار في هذه المسألة، يقول في كتابه شرح الأصول الخمسة: "لا خلاف أن المخالفين لنا لا يعدون أحد هذه الأصول ألا ترى أن خلاف الملاحدة والمعطلة والدهرية والمشبهة قد دخل في التوحيد، وخلاف المجبرة بأسرهم دخل في باب العدل، وخلاف المرجئة دخل في باب الوعد والوعيد، وخلاف الخوارج دخل تحت المنزلة بين المنزلتين، وخلاف الإمامية دخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!" يعني: أن المبدأ الذي على أساسه وضعوا هذه الأصول الخمسة هو أنهم نظروا إلى المخالفين لهم؛ فكل شيء خالفهم فيه غيرهم جعلوه أصلاً، فعلم من هذا أن هذه الأصول ليست مأخوذة من الكتاب والسنة، وإنما هي مبنية على خلاف المخالفين، هذا أصل التقسيم.
    لم يقولوا -ولن يستطيعوا أن يقولوا-: إننا قرأنا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا دعوته وسيرته، ووجدنا أنه يدعو إلى هذه الأمور الخمسة وهي الأساس، لو قالوا ذلك لكان لنا معهم جواب آخر.
    ولكنهم نظروا إلى ما خالفهم فيه الناس -ويعنون بهم كل المسلمين ومنهم أهل السنة - فجعلوه أصولاً؛ وذلك لزعمهم أنهم هم أهل الحق، ودعواهم أنهم هم الفرقة الناجية.
    قال ابن المرتضى صاحب المنية والأمل: الطبقة الأولى من طبقات المعتزلة هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم الطبقة الثانية الحسن البصري وواصل بن عطاء.
    الشاهد أن الطبقة الأولى في رأي المعتزلة هم الصحابة؛ لأنهم يرون أنهم موافقون لمذهبهم؛ وكما تنتسب الرافضة إلى علي رضي الله عنه وهو منهم بريء، فكذلك تنتسب المعتزلة إلى هؤلاء الصحابة؛ لأقوال وردت عنهم: إما أنها صحت ولكن فهمت خطأً، أو لم تصح أصلاً.
    1. الأصل الأول: التوحيد

      يقول عبد الجبار : " لا خلاف أن المخالفين لنا لا يعدون أحد هذه الأصول، ألا ترى أن خلاف الملاحدة والمعطلة والدهرية والمشبهة قد دخل في التوحيد؟!" الملاحدة هم الذين ينكرون وجود الله، والمعطلة الذين يعطلون صفات الله، والدهرية الذين ينكرون البعث.
      أما المشبهة فالمقصود بهم في كلامه أهل السنة ؛ لأنهم يثبتون الصفات؛ يقول: خلاف هؤلاء كلهم يرجع إلى التوحيد، فكأنه يقول: حين نؤصل نحن أصل التوحيد نكون قد رددنا على هؤلاء جميعاً؛ لأن التوحيد عند المعتزلة هو نفي الصفات.
      فهو يقول: نحن خالفنا بهذا الأصل -أصل التوحيد- الملاحدة وخالفنا المعطلة .
      والمعتزلة تخالف الجهمية وتخالف الباطنية؛ فـ المعتزلة يثبتون الأسماء وينكرون الصفات، والجهمية ينكرون الأسماء والصفات، والباطنية ينكرون ما هو أشد من ذلك، حتى إنهم يقولون: لا نقول: إنه موجود، ولا نقول: إنه غير موجود؛ فـالمعتزلة يخالفونهم؛ لكنهم أيضاً يخالفون أهل السنة والجماعة ؛ لأن أهل السنة يثبتون صفات الله، فمن هذا الباب أصبح موقف المعتزلة المخالف لجميع هذه الطوائف هو التوحيد، وهو الأصل الأول من أصولهم.
    2. الأصل الثاني: العدل

      يقول: "وخلاف المجبرة بأسرهم دخل في باب العدل"، يقول: الخلاف بيننا نحن معشر المعتزلة وبين الجبرية أو المجبرة داخل في باب العدل.
      ومن المعلوم أن المعتزلة ينفون القدر، وأن أول من تبنى ذلك واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وكان قبلهم رجلان هما غيلان الدمشقي ومعبد الجهني وكانا معاصرين لهما، لكن الذين تبنوا إنكار القدر هم المعتزلة، وعلى رأسهم واصل وعمرو .
      قيل للمعتزلة : كيف تنكرون القدر الذي هو أصل من أصول الدين وركن من أركان الإيمان؟! قالوا: نحن ننفي عن الله تبارك وتعالى القبائح؛ لأن العباد يرتكبون القبائح والمحرمات والكبائر، فهم يزنون، ويسرقون، ويشربون الخمر، ويفعلون هذه القبائح، فإذا قلنا: إن الله قدرها، وأثبتنا أن الله خالق أفعال العباد، وأنه هو الذي خلقها فيهم، فإننا نكون بذلك قد نسبنا إليه كل ما يفعله العباد من مخاز وقبائح؛ هذا أمر، والأمر الآخر: أننا ننفي عن الله سبحانه وتعالى الظلم، فإنا إذا قلنا بقول الجبرية الذين يقولون: إن الله قدر هذه الأشياء، فإننا نكون بذلك قد نسبنا إلى الله الظلم؛ إذ كيف يقدر على الخلق هذه الأشياء ثم يحاسبهم عليها؟! فنحن ننفي القدر تنزيهاً لله عن الظلم وعن القبائح، ففي ظنهم أنهم ينزهون الله ويعظمونه ولا يصفونه بما لا يليق به.
      وقد حصلت قصة بين أحد أهل السنة وأحد علمائهم -قيل: بين القاضي عبد الجبار وبين الإسفرائيني- قال المعتزلي: (سبحان من تنزه عن الفحشاء)، يقصد بذلك نفي القدر وأن الله لم يقدر هذه الأفعال ولا كتبها، فرد عليه السني فقال: (سبحان من يفعل ما يشاء) فالله يفعل ما يشاء حتى لو كان في نظرك أنت أنه قبيح؛ فلله وحده الملك كله والأمر كله، فرد عليه المعتزلي قائلاً: (أيشاء الله أن يعصى؟!)، فقال له السني: (أفعصي كارهاً؟!) فما دامت المعصية قد وجدت وأنت تقول: إن الله لا يشاء أن يعصي؛ فإنه إذن قد عصي كارهاً، ونسبة القبيح إلى الله بهذا القول -أن الله يعصي كارهاً- أشد من كل ما توهم المعتزلة أن فيه نسبة القبيح إلى الله؛ فكأن العباد أرغموه على ما لم يرده؛ فلو أن المعتزلي لديه عقل لعلم أن ما أصله وهو يريد به تنزيه الله سبحانه وتعالى يوقعه في شر مما فر منه.
    3. الأصل الثالث: الوعد والوعيد

      يقول: "وخلاف المرجئة داخل في باب الوعد والوعيد"، كلمة المجبرة وكلمة المرجئة فيها إجمال، فهي مثل كلمة المشبهة؛ فكما أن كلمة المشبهة لا يقصد بها المعتزلة هشام بن الحكم الرافضي وداود الجواربي وأمثالهما، بل يعنون أهل السنة كما سبق، فكذلك الجبرية والمجبرة يعنون بها أيضاً أهل السنة، وإن كانت قد تطلق على الجبرية الحقيقيين والذين هم: الجهمية .
      وكذلك أيضاً: المرجئة يقصد بها أهل السنة، وهم ليسوا بـمرجئة، ويقصد أيضاً المرجئة الحقيقية الذين يقولون: إن الإيمان مجرد المعرفة، وهم الجهمية .
      فـالجبرية الحقيقية هم الجهمية، والمرجئة الحقيقية هم أيضاً الجهمية، وعنهم تفرعت الأشعرية ؛ فمذهب الجهمية إنكار الأسماء والصفات، وأن الإيمان هو مجرد المعرفة، والقول بالجبر، بمعنى أن العبد كالريشة في مهب الريح، والمعتزلة في الأصل منشقون عن الجهمية، ولهذا قيل: : المعتزلة مخانيث الجهمية، والأشعرية مخانيث المعتزلة، يعنون بذلك أنهم كالخنثى الذي ليس بذكر ولا أنثى، فـالجهمية الذكور هم الذين جهميتهم خالصة، وهم أصحاب جهم، أما المعتزلة فهم جهمية إناث والمعتزلة الذكور هم أتباع واصل بن عطاء، أما الأشعرية فإنهم معتزلة إناث وأي فرقة تنشق عن فرقة فإنها تعاديها أكثر من أي فرقة أخرى لم تكن منها أصلاً، وهذه سنة في التاريخ الفكري والعقائدي.
      مثلاً: الجاحظ معتزلي، وهو مؤسس فرقة من المعتزلة تسمى الجاحظية، لكنه يقول عن إبراهيم النظام شيخ المعتزلة الكبير: ومن كفرياته كذا، ومن كفرياته كذا، ومن مخاريقه كذا؛ يتكلم فيه بالجد والهزل؛ مع أن الجاحظ معتزلي، لكن انشق عن النظام، وله آراء تخالف النظام، فيتكلم فيه ويبين بطلان أقواله أكثر من أي إنسان آخر ليس من المعتزلة .
      وكان العلاف يكفر النظام، والنظام يكفر العلاف، وكذلك أيضاً واصل بن عطاء فقد ألف في الطعن على عمرو بن عبيد وبيان بطلان كلامه.. وهذا حال أهل البدع جميعاً.
      قوله: "وخلاف المرجئة داخل في باب الوعد والوعيد" والمقصود: أن المعتزلة يزعمون أن الذين يقولون: إن الله سبحانه وتعالى قد يعفو عن المجرم والمذنب: هم مرجئة .
    4. الأصل الرابع: المنزلة بين المنزلتين

      يقول: "وخلاف الخوارج داخل تحت المنزلة بين المنزلتين".
      يقول عبد الجبار : ونحن أيضاً نخالف الخوارج، ومخالفتنا للخوارج تدخل في قضية المنزلة بين المنزلتين؛ وذلك أن الخوارج يرون أن مرتكب الكبيرة كافر في الدنيا وفي الآخرة، خالد مخلد في النار، أما واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وسائر المعتزلة فقالوا: حكمه في الآخرة أنه مثل الكفار فهو في النار خالد مخلد؛ لكنه في الدنيا ليس بكافر ولا مؤمن؛ بل هو في منزلة بين منزلتي الإيمان والكفر.
      فأي عقول هذه التي يقدمونها على الشرع ويزعمون بها أن هناك واسطة بين الإيمان والكفر؟!
      إن القول بالمنزلة بين المنزلتين ليس له أي معنى؛ وإنما هي كلمة قذفها واصل في وقت غضب، فأصبحت ديناً يدينون به ويدافعون عنه إلى قيام الساعة، وهكذا تنشأ البدع، نسأل الله العفو والعافية.
    5. الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

      يقول: "وخلاف الإمامية داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، الإمامية هم الرافضة، وسموا إمامية؛ لأنهم يخرجون عن سائر فرق الأمة في مسألة الإمامة؛ فهم بزعمون أن الإمام منصوص عليه، وأنه معصوم، وأنه يجب على الله أن يعين الإمام ويجعله معصوماً فهم يتفقون مع المعتزلة في الوجوب على الله، لكنهم يزيدون عليهم بأنه يجب على الله أن يعين الإمام وأن يجعله معصوماً؛ ولهذا يقولون: إن الله تعالى نص على أن الإمام هو علي، وبعد علي الحسن، وبعد الحسن الحسين، وبعد الحسين زين العابدين، وبعد زين العابدين الباقر، ثم الصادق ... إلى الإمام الثاني عشر بالنص والاسم.
      فـالمعتزلة يخالفون الإمامية في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
      وأكثر المذاهب مخالفة للعقل والنقل هم الروافض؛ فهم يقولون: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والجمعة والجماعة؛ كل هذه الواجبات ساقطة عن الأمة، إلا إذا قام الإمام المعصوم وأمر الناس أن يجاهدوا ويصلوا الجمعة والجماعة، ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
      وهم يزعمون أن الظلم سينتشر في الأرض حتى يظهر المهدي، فيملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، والمهدي الذي يدعونه وينتظرون خروجه من السرداب ليس المهدي الذي ينتظره أهل السنة؛ فكأنهم يقولون: دع الظلم ينتشر ولا تأمر بمعروف ولا تنه عن منكر حتى يظهر الإمام فيغيره، ولذلك أسقطوا هذه الفرائض العظيمة.
      وكان من أشهر أسمائهم الخشبية ؛ لأنهم لا يرون الجهاد، ويقولون: نتخذ سيوفاً من الخشب، حتى يظهر الإمام المعصوم ويدعو إلى الجهاد فيجاهد معه.. هذا أصل مذهب الإمامية وأصل مذهب الإثني عشرية، والذي هو مذهب الأكثرية من علمائهم الكبار إلى اليوم، وقد خالفهم في ذلك إمامهم الهالك الذي جاء بالثورة، وقال: إن الفقيه له ولاية نيابة عن الإمام المعصوم، ولهذا يجوز أن تقوموا معه وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتغيروا، ولهذا أقيمت صلاة الجمعة و الجماعة وأشياء كثيرة أحدثها هو في دينهم، وهذا مخالف لما في المذهب، وقد أتى بنصوص من كلام الأئمة تشهد لما ذهب إليه؛ فقد قالوا: "وإن كنَّا غائبين، فالفقهاء يحكمون فولّوا هؤلاء الفقهاء"، ولهذا كان من هذا الجانب مرشداً للثورة، لكن لا يحكم هو مباشرة، وإنما ينوب عنه شخص آخر، فيقوم ببلاغاته وكتاباته نيابة عن الإمام، فإذا ظهر الإمام انتهت مهمته.
      ومن خلال ما ذهب إليه الإمامية في مذهبهم من إبطال الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإسقاط الجمعة والجماعة يظهر الذكاء اليهودي الخبيث، فلو أن أحداً أراد أن يبطل دين الإسلام لما كان لديه حيلة أفضل من هذه الحيلة، وكل عدو للإسلام يعلم علماً يقينياً أنه لن يستطيع أن يقول للناس: لا تصلوا الجمعة ولا الجماعة، وعليكم أن تكفروا الصحابة، وألا تؤمنوا بالقرآن، لأنه لن يصدقه أحد، وقد صرح بذلك بعض الزنادقة والملاحدة فقالوا: لو قلنا ذلك للناس ما اتبعنا أحد، وإنما ندخل عليهم من باب التشيع لأهل البيت، فنكفر الصحابة بناءً على أنهم أخذوا الإمامة من علي، ثم نطعن في القرآن، فنقول: إنَّ أبا بكر وعمر وعثمان كتبوا القرآن وزادوا فيه ونقصوا، ونقول عن السنة: ما رواها إلا أبو هريرة وفلان وفلان، من الذين خالفوا علياً، أما الجمعة والجماعة فنقول: لا تصح إلا بالإمام، ولا وجود للإمام؛ فلا جمعة ولا جماعة، ولا جهاد، ولا قرآن، ولا سنة، ولا صحابة، فما بقي من الإسلام شيء! فهذا من ذكائهم والعياذ بالله.
      فرأى المعتزلة أن هذا هدم للدين، ولهذا قالوا: نحن نخالف الإمامية في مسألة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام به،خلافاً لما تقوله هذه الفرقة الضالة، ولهم في ذلك كلام سيأتي إن شاء الله.
  2. حكم مخالفة الأصول الخمسة عند المعتزلة

     المرفق    
    ما حكم المعتزلة في من خالف الأصول الخمسة؟
    يقولون: من خالفنا في هذه الأصول فهو إمَّا كافر وإما مخطئ، بحسب مخالفته لما في الأصل، أو في شيء من لوازمه، فمن خالف في التوحيد فأثبت لله تعالى الصفات التي يرونها تشبيهاً فهو كافر عندهم ولا يعدونه مسلماً، ومن خالفهم في مسألة العدل، وأثبت القضاء والقدر، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي قدر أفعال العباد، فهو كافر عندهم؛ لأنه خالفهم في مسألة العدل، ومن خالفهم في الوعد والوعيد فقال: قد لا يعاقب الله أحداً ممن توعدهم بالعقاب، فهو كافر؛ لكنهم يقولون: إن قال: إن الله تعالى وعد وتوعد، ولا يجوز أن يخلف في وعده ولا وعيده، فإنه مخطئ ولا نكفره.
    فمن قال: إن الله لا يخلف الميعاد، لكن وعيده يجوز أن يعفو عنه، فيجوز أن يتوعد بالعقاب ثم يعفو، فيقولون: من قال بهذا فلا يكفر، بل هو مخطئ؛ لأنه يمكن أن يكون هناك استثناء لم يبين.
    وأما من خالف في المنزلة بين المنزلتين فقال: إن حكم صاحب الكبيرة حكم عبدة الأوثان والمجوس -يعنون بذلك الخوارج - فإنه كافر، وإن قال: إن حكمه حكم المؤمنين فإنه يكون فاسقاً، فمن ذهب مذهب الخوارج فهو عندهم كافر، ومن ذهب مذهب أهل السنة في مرتكب الكبيرة فهو عندهم فاسق، وإن قال: ليس حكمه حكم المؤمن ولا حكم الكافر، لكن أسميه مؤمناً، قالوا: هذا مخطئ، لكن لو قال: إنه مؤمن ناقص الإيمان كما يقول أهل السنة والجماعة فهو عندهم فاسق.
    وأما من خالف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال: إن الله لم يكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً، فإنه يكون كافراً، فإن قال: إن ذلك مما ورد به التكليف، ولكنه مشروط بوجود الإمام، فإنه يكون مخطئاً، أي أن الروافض الإمامية عندهم مخطئون؛ قالوا: لأنهم يقولون: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروط بوجود الإمام، والمفروض أن يكون من غير هذا الشرط؛ فهم مخطئون؛ لأنهم لم يردوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل اشترطوا له وجود الإمام.
  3. نفي المعتزلة للقدر والرد عليهم

     المرفق    
    يقول المصنف رحمه الله: [ثم تكلموا بعد ذلك في أفعاله التي هي القدر] أي: أن أول ما تكلموا فيه كان في أسماء الله وصفاته، فنفوها وسموا ذلك توحيداً، ثم تكلموا في أفعال الله وسموا ذلك العدل، ومن العدل عندهم أنه سبحانه وتعالى لا يظلم الناس، فلا يمكن أن يقدر عليهم المعاصي ثم يعاقبهم عليها، فالعدل عندهم هو نفي القدر؛ فهم ينفون أن الله قدر المعاصي على العباد.
    1. المشيئة لا تستلزم الرضا

      والرد عليهم في مسألة (أن الله قدر المعاصي ومع ذلك يعاقب عليها) أن نقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل شيء وقع فهو بمشيئته، فإذا أردت أن تستدل على شيء ما أن الله شاءه، فانظر إليه: إن كان واقعاً فاعلم أن الله شاءه، وإن لم يقع فاعلم أن الله لم يشأه.
      وإرادة الله تنقسم إلى قسمين:
      1- إرادة شرعية: وهي ما يريده الله من العبد شرعاً، وذلك مثل الصلاة، فالله أراد من العبد أن يصلي، بمعنى أن الله شرع الصلاة وأمر بها وطلبها من العبد.
      2- وإرادة كونية، كأن يريد الله أن فلاناً لا يصلي، فهذه إرادة كونية كتبها وقدرها، لكنه لم يرض ذلك، فليس هناك تلازم بين الإرادة وبين الرضا، قال تعالى: ((وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ))[الزمر:7]؛ ولهذا لما قال المشركون: ((لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ))[النحل:35] رد الله عليهم -كما في الآية التي بعدها- فقال سبحانه: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ))[النحل:36] فلو كان الله عز وجل يرضى بالمعاصي ويرضى بالشرك، فلم يبعث الرسل ليحذروا الناس منها، ويقولوا لهم: من فعلها دخل النار؟! فإرساله تعالى للرسل من أجل تحذير الناس من الشرك والمعاصي دليل على أنه لا يرضاها؛ لكنه شاءها.
      وقد ذكر الله تعالى في القرآن ما زعمه المشركون من أن شركهم بالله قد شاءه الله، وأن هذا دليل على رضا الله عن الشرك؛ قال تعالى: : ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا))[الأنعام:148]، وقال في نفس السورة عن نفسه: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا))[الأنعام:107] فما الفرق بين الموضعين؟
      والجواب: هناك شيء واضح لمن تأمله، وهو أنهم أرادوا بقولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) الاستدلال على شرعية الشرك والاحتجاج له بالمشيئة، فيشركون بالله، ويكذبون الرسل، ويعارضون أمر الله ونهيه وشرائعه التي أنزلها؛ يعارضون ذلك بالمشيئة، ويجعلون تلك المشيئة مستلزمة لمشروعية ما يقع عنها من أمور؛ فالشرك والمعاصي التي يمارسونها قد شرعها الله ورضي بها وأقرها وأحبها وطلبها.
      فاحتجاجهم هذا بالمشيئة وأنها تستلزم الرضا والمشروعية وهو المردود عليهم، وهو الذي نفاه الله، وأثبت أنهم ليس لهم بذلك من علم، إن هم إلا يخرصون، وهذا افتراء محض لا دليل عليه.
      أمَّا قوله: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا))[الأنعام:107] وقوله: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ))[الأنعام:112] فهو حق وليس احتجاجاً بالقدر، ولكنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم -ولكل من يدعو إلى الله في كل زمان ومكان فيجد الإعراض والصدود- لكي يعلم أن هذا شيء قدّره الله، فلا يحزن عليهم؛ فهو مثل قوله تعالى: : ((فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ))[فاطر:8] .وكقوله عز وجل: . ((إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ))[الرعد:27].
      فمن إرادة الله الكونية أن الناس لا يزالون مختلفين، وأنه يجعل لكل نبي عدواً من المجرمين، وأن من الناس من يبتدعون ويشركون ويلحدون، فهذه إرادة كونية؛ لله تعالى فيها حكم عظيمة.
      ولو أن المشركين قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، لا على سبيل الاحتجاج، بل على سبيل الإخبار بما هو واقع، لكان كلامهم صحيحاً.
      ولو قد قال ذلك أبو الدرداء؛ فقد تأخر إسلامه وكان له صنم يعبده، فلو قيل له بعد أن أسلم: يا أبا الدرداء ! كنت تعبد الصنم؟! فقال: هذا شاءه الله وقدّره عليّ... فلو قالها أحد على سبيل الإخبار عما كان واقعاً فيها -لا على سبيل الاحتجاج- فكلامه صحيح؛ فهو لا يحتج بالقدر على الشرك؛ إنما يذكر القدر على سبيل التسلي عن مصيبة الشرك التي كانت بإرادة الله، ولا شك أنه لا يقع شيء إلا بإرادة الله، وأن المصائب يجب علينا جميعاً أن نقول فيها: (( لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا))[التوبة:51] فالمصائب من قدر الله وقضائه ومشيئته وإرادته، ولولا إرادة الله لم تقع، فلو أن المشركين قالوا: لقد اهتدينا وتبنا إلى الله وآمنَّا وأسلمنا، بعد أن كنا مشركين، ولو شاء الله لما وقع ذلك الشرك منا؛ لو أنهم قالوا ذلك لما اعترض عليهم أحد، أما أن يحتجوا بالقدر؛ فيكذبوا أمر الله ووعده ووعيده ويعارضوا رسل الله ثم يقولوا: شاء الله لنا الشرك -بمعنى: رضيه لنا واختاره- فهذا مردود عليهم.
    2. إقامة الحجة على الناس بالرسل

      نحن إذن نستطيع أن نرد على المعتزلة بالتفريق بين الإرادتين؛ الإرادة الشرعية والإرادة الكونية؛ فإن المعتزلة يظنون أنهم بنفي القدر ينفون عن الله سبحانه وتعالى الظلم، وينفون عنه القبائح، ونحن نقول: لا ظلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يعذب أحداً ولن يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه قال تعالى: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))[الإسراء:15] حتى على القول أن هذا في الدنيا، لكن قوله تعالى: ((رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا))[النساء:165] يكون في الدنيا والآخرة؛ فمن حكمة الله ورحمته عدله سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل، وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه.
      وقد مر هذا معنا في دليل الفطرة في آية الميثاق حيث قلنا: إن الله سبحانه وتعالى جعل الفطرة والعقل والميثاق الذي أخذه الله على عباده أدلة كافية بذاتها، على أنه حق، وأن الإيمان به واجب؛ قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ))[الأعراف:172] أو (ذرياتهم) على القراءة الأخرى: ((وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ))[الأعراف:172] فالحجة قائمة، والعذر منقطع، والحق واضح جلي، بدليل الفطرة ودليل العقل؛ لكن -رحمةً من الله سبحانه وتعالى بالعباد- علق العذاب على أمرٍ زائدٍ على مجرد العقل والفطرة، وهو إرسال الرسل؛ ولهذا فإن الملائكة تحاج أهل النار بالرسل لا بالعقول؛ قال تعالى: ((كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ))[الملك:8] وقال تعالى: ((وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ))[الزمر:71] فالتقريع لهم من الملائكة إنما هو بإرسال الرسل؛ وهذا يؤكد أن أبلغ دليل وأعلى حجة هي إرسال الرسل، لأنهم بشر من جنس الخلق؛ فهم مثلهم يكلمونهم بما يفهمون؛ قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ))[إبراهيم:4] ويخاطبونهم بما يعقلون، ويردون الشبه شبهةً شبهةً، فهذا دليل السمع، وليس كل الناس يعقل دليل العقل.
      لكن الكفار لم ينتفعوا بدليل السمع ولا بدليل العقل؛ قال الله تعالى عنهم: ((وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ))[الملك:10] فلا سمع ولا عقل، لم يعملوا بالوحي ولا بالفكر كليهما.
      إن الله تعالى له الحجة البالغة، وليس لأحدٍ حجة على الله سبحانه وتعالى، وليس في إثبات قدر الله تعالى ونفاذ مشيئته: نسبته تعالى إلى الظلم، وإنما هذا من تخيلات المعتزلة .
    3. مذهب المعتزلة في حقيقة السحر وأولاد المشركين

      يرى المعتزلة أن من العدل أن الله سبحانه وتعالى لا يأتي القبيح ولا يفعل القبيح، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى لا يظهر المعجزات على أيدي الكذابين.
      وهذا رد على الأشعرية لأن من مذهب الأشعرية أن السحر خارق ومعجزة، فما يفعله النبي وما يفعله الساحر كلاهما خارق للعادة، لكن الفرق بينهما أن الأشاعرة يرون أن النبي يقترن بخرقه للعادة ادعاء النبوة، أما الساحر فلا يستطيع أن يدعي النبوة، ولو ادعاها لأبطل الله سحره، وهذا كلام غير معقول، فما المانع للساحر من أن يدعي النبوة ويبقى سحره؟!
      قالت: الأشعرية : إن الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده، فما دام يقول: أنا ساحر فليسحر كما يريد، فإذا قال: أنا نبي وهذه آيتي فإن الله سيبطل سحره في ذلك الوقت؛ وهذا شيء لا رئي ولا سُمِعَ ولا يتصور بالضرورة؛ لأنه قد يعقل أن يوجد في حالة أو حالتين مثلاً.
      فأرادت المعتزلة أن ترد عليهم فقالت: من تقرير أصل النبوات أن نجزم بأنه لا خوارق أصلاً؛ فلا معجزات ولا كرامات؛ لأننا لو قلنا هذا لفتحنا الباب للكذابين والدجالين، فالأفضل أن ننفي المسألة من أصلها، ونقول: إن الله عدل، ومن العدل ألا ننسب إليه أن يظهر المعجزات على أيدي الكذابين.
      فنقول للمعتزلة : أنتم رددتم باطلاً بباطل، فكلا المذهبين خطأ وغلط وضلال، وأمر النبي أجلى وأشهر وأعظم من أن يختلط بالساحر أو الدجال.
      وكما لا يمكن أن يخطئ الناس فيقولوا: السماء أرض والأرض سماء، أو يقولوا: إن الليل ضوء والنهار ظلام، فكذلك لا يمكن أن يختلط النبي بالساحر ولا أن تختلط الآيات والبراهين التي يظهرها الله ويعطيها لأنبيائه بما يفعله الدجالون والمشعوذون على الإطلاق.
      مع أن السحر حق واقع، فالسحرة يفعلون أشياء ولها تأثير؛ كما ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن: ((فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ))[البقرة:102] ولكن: ((وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ))[البقرة:102] فالسحر حق وله تأثير، ولكن فرق كبير بينه وبين الآيات التي يجريها الله سبحانه وتعالى على أيدي أنبيائه ورسله، فلا خلط بين هذا وذاك، وقد سبق تفصيل هذا حين تعرضنا لمبحث النبوات فيما مضى.
      تقول المعتزلة : إن الله سبحانه وتعالى عدل، ومن عدله أنه لا يعذب أطفال المشركين بفعل آبائهم، والذي جعلهم يقولون هذا هو أن الخوارج النجدات -أتباع نجدة- والأزارقة -أتباع نافع بن الأزرق - يقولون: إن أبناء المشركين في النار تبعاً لآبائهم؛ لأن الله تعالى قال على لسان نوح: ((وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا))[نوح:27].
      ويقصد الخوارج بالمشركين في قولهم: (إن أبناء المشركين... إلخ) المسلمين الذين ليسوا على مذهب الخوارج .
      فردَّ عليهم المعتزلة وقالوا: ليسوا بكفار، لأن الله عدل؛ فكيف يعذبهم بذنوب آبائهم؟! فـالمعتزلة خالفوا الأشعرية والخوارج في هذه المسائل، لكن المعتزلة ردوا الباطل بباطل، وجعلوا الباطل الذي جاءوا به وأصلوه هو الحق، وجعلوه هو الدين والشرع الذي يجب أن يتبع، والذي من خالفه فإنه إما كافر وإما فاسق، وأقل ما يقال: إنه مخطئ.