المادة كاملة    
المعتزلة فرقة ضالة، لها أصول خمسة خالفت فيها أهل الإسلام، وقد تأثرت بالفلاسفة المارقين، الذين قدموا كلام الهند واليونان على كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد سموا (معتزلة) لاعتزالهم مجلس الحسن البصري، ومن أصولهم: نفي أسماء الله تعالى وصفاته، الذي يسمونه: التوحيد.
  1. المعتزلة.. نشأتها وأصولها

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [وقد أبدلتها المعتزلة بأصولهم الخمسة التي هدموا بها كثيراً من الدين، فإنهم بنوا أصل دينهم على الجسم والعَرَض الذي هو الموصوف والصفة عندهم، واحتجوا بالصفات التي هي الأعراض على حدوث الموصوف الذي هو الجسم، وتكلموا في التوحيد على هذا الأصل، فنفوا عن الله كل صفة؛ تشبيهاً بالصفات الموجودة في الموصوفات التي هي الأجسام.
    ثم تكلموا بعد ذلك في أفعاله التي هي القدر، وسموا ذلك (العدل).
    ] اهـ.
    الشرح:
    موجز كلامه رحمه الله هو أن المعتزلة جعلت أصول الدين خمسة:
    الأول: التوحيد، والثاني: العدل، والثالث: الوعد والوعيد، والرابع: المنزلة بين المنزلتين، والخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    هذه هي الأصول الخمسة للمعتزلة، كما لخصها المصنف رحمه الله.
    فمن هم المعتزلة ؟ ومن قادتهم؟ وماذا يريدون؟
    1. أثر الفلسفة في نشأة مذهب المعتزلة

      بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم والناس في ظلمات الكفر والشرك والبدع والضلالات التي أُحدثت في دين الله تبارك وتعالى، وغُيِّرَتْ بها ملة إبراهيم عليه السلام، ولم يكن الناس خلواً من العقول، بل كانوا أهل عقول تفكر، فكان عند اليونان : أرسطو، وأفلاطون، وسقراط، وأفلوطين، وفورفوريوس وأمثالهم، وكان عند الهنود: بيدبا الحكيم، وكان عند الفرس أيضاً أهل الأمثال والحكم؛ كـأنوشروان وشيرويه، فكل أمة لها مفكرون، ولديها عقلاء بحثوا في الأمور العقلية؛ في الطبيعيات، وفي الإلهيات، وفي الرياضيـات.
      والله سبحانه وتعالى بعث هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ قال تعالى:((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ))[إبراهيم:1] فكل الفلسفات التي جاء بها أولئك المفكرون ظلمات لا تغني من الحق شيئاً، ولا تغني الناس عن الوحي، ولا تغنيهم عن الكتاب، ولا تغنيهم عن بعثة رسول، ولو أن الناس يستغنون عن الرسل بتلك الفلسفات، لوكلوا إليها، ولما احتيج إلى رسول يبعثه الله.
      وقد أرسل الله سبحانه وتعالى هذا الرسول النبي الأمي محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل بالحق المبين، ودعا إليه الخلق أجمعين، ولم يجعل طريقاً إلى معرفته ولا إلى جنته إلا طريق هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يسع أحداً -كائناً من كان- أن يخرج عن شريعته وأمره ونهيه وما جاء به أبداً.
      وبعد أن أظهر الله تعالى هذا الدين على العالمين، وأخضع له الدولتين العظيمتين؛ جاء فروخ الفلاسفة واليهود والنصارى، وأخذوا الفلسفات والحكم -بزعمهم- وقالوا: لابد من تعلمها ومن نشرها بين المسلمين.
      وهناك اختلاف حول تحديد من كان السبب في نشر الفلسفة اليونانية، وفي ترجمة كتبها، ولا يهمنا ذلك التحديد بقدر ما يهمنا أن الأمر قد وقع، وأن أناساً أعرضوا عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلبوا الهدى في غير ما شرع الله، فقالوا: وما لنا لا نتعلم ونقرأ حكمة اليونان، ونقرأ حكمة الهند وفارس والصين، ونفيد منها، فإنهم كانوا أهل عقول؟! فنقول: نعم كانوا أهل عقول؛ ولكن لو أن هذه العقول تجدي وتهدي لما احتيج إلى رسول.
      لكنهم هكذا ظنوا، وبعضهم في الأصل يعتقدون هذه الأديان والفلسفات، ولم يخرجوا عنها، كما هو حال الصابئة وأمثالهم، لكنهم تستروا بالإسلام نفاقاً، كما فعل المنافقون في المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يرون الآيات الباهرات على نبوته وصدق رسالته، فما بالكم بالذين دخلوا الإسلام في غير عهده صلى الله عليه سلم؟! ألا ينافقون؟! لقد نافقت كثير من الأمم، فأظهروا الإسلام وأبطنوا خلاف ذلك، ومما يدعو إلى هذا النفاق أن الدين الإسلامي العظيم هو دين العقل، وهو دين التفكر والتدبر، فمن هنا دخل بعض المنافقين وأعجبوا بما في هذا الدين من الحث على التدبر والتفكر، فأخذوا بهذا الجانب، ولكنهم تفكروا وتدبروا في غير ما أمروا أن يتفكروا فيه ويتدبروا، وأعملوا عقولهم كما يشاءون؛ فقالوا: نحن نفكر ونتدبر، ونحن نقيم الحجة على الكافر.
      وهناك بعض العلماء دافع عن المعتزلة، ولا نعني بذلك علماء السنة الذين عاصروهم وعرفوهم، والذين يحتج بقولهم، ولكن بعض الكتاب أو بعض المتأخرين؛ يدافع هؤلاء الكتاب عن الجهمية أو المعتزلة أو أشباههم؛ بحجة أنهم كانوا على حسن نية، وأنهم يريدون الدفاع عن الإسلام؛ فنقول: النيات علمها عند الله، والمحاسب عليها هو الله؛ لكن: أيدافع عن الإسلام بما يهدمه؟! أيدافع عن القرآن بأن يضرب بعضه ببعض؟! أتلغى آيات الوعد لتنفذ آيات الوعيد؟! أتهمل آيات الصفات لتنفذ آيات التنزيه؟!
      إن الدفاع عن كتاب الله ودينه إنما يكون باتباع منهج رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد كتب صلى الله عليه وسلم إلى هرقل إمبراطور تلك الأمة -التي جاءت بهذه الفلسفات وهذه المعقولات والنظريات- رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، وقد كان أباطرتهم على علم بهذه العلوم جميعاً، ويتربون على عقيدتهم وعلى دينهم النصراني المحرف، ولم يكتب صلى الله عليه وسلم إلى هرقل في تلك الرسالة عقلانيات مجردة، ولا أنه صلى الله عليه وسلم سيرسل إليه وفداً ليناظروه وليتجادل معهم بنفسه، أو ليخرج من علمائه من يجادلهم، ومن يغلب يكن الحق معه... ما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم، بل كتب إليه: {من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و(( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ))[آل عمران:64] } ... الحديث. وذلك استجابة منه صلى الله عليه وسلم لما أمره به عز وجل بقوله: ((قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ))[الأنبياء:45] والوحي هو القرآن والسنة التي تشرحه وتفسره.
      فهذه رسالته صلى الله عليه وسلم إلى عظيم الروم؛ آية من كتاب الله سبحانه وتعالى، ومقدمة قصيرة قبلها؛ فإن آمن فقد آمن بما أنزل الله واتبع كتاب الله، وإن كفر فقد كفر بكتاب الله؛ فالمناط هو كتاب الله، وهو الوحي الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر به.
      وإن المعتزلة وأشباههم لهم صلة قوية جداً بما كان عليه فلاسفة اليونان، ومتكلمو النصارى، ونشأتهم ظاهرة التأثر بهؤلاء، وقد مر معنا في مبحث الكلام بيان شيء من هذه الحقيقة.
    2. قادة المعتزلة ورجالهم الأوائل

      يرجع أصل الاعتزال إلى رجلين اثنين هما: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وواصل بمثابة الشيخ الأكبر للمعتزلة أو المؤسس ومعه عمرو بن عبيد قبحهما الله جميعاً.
      أما واصل بن عطاء فسيرته عجيبة، وقد ترجم له في أكثر الكتب المعنية بالرجال والتاريخ، وترجمته في الميزان، وفي لسان الميزان، وسير أعلام النبلاء، ووفيات الأعيان، والكامل، والبيان والتبيين للجاحظ وغير ذلك.
      ولد واصل بن عطاء في المدينة سنة (80) من الهجرة، وتوفي سنة (131هـ)، كان داهية ذكياً، ولكن هل ينفع الذكاء إذا تجرد عن الإيمان؟! ونضرب لكم بعض الأمثلة من ذكائه، ومن المعلوم أن المنطق والبيان والفصاحة لا ينالها كل أحد، وهذا الرجل من عجائبه في ذلك أنه كان ألثغ، أي: لا يستطيع أن ينطق بحرف الراء، وإنما ينطقها دائماً (غاء)، فمن فصاحته وقوة بيانه أنه كان يخطب الخطب الطويلة البليغة، ولا يأتي فيها بحرف راء أبداً، وهذا شيء صعب جداً، لا يستطيع فعله إلا المتمكن من اللغة، فالوقوف أمام الناس والتحدث إليهم لا يؤتاه كل أحد، بل بعض الناس لديه العلم والحكمة والفهم، لكنه لا يستطيع أن يخطب، لكن هذا الرجل -كما قيل في ترجمته- كان ألثغ قبيح اللثغة في الراء، فكان يتخلص منها ولا يفطن إلى ذلك أحد؛ حتى مدحه شعراء المعتزلة، فقال أحدهم:
      عليم بإبدال الحروف وقامع            لكل خطيب يغلب الحق باطله
      وقال آخر:
      ويجعل البر قمحاً في تصرفه            وخالف الراء حتى احتال للشعر
      (ويجعل البر قمحاً)، أي: إذا أراد أن يقول: (البر) وهي بالراء، يقول: (القمح) في تصرفه.
      (وخالف الراء حتى احتال للشعر)، أي: أنه كان لا يقدر أن يقول: شعر. فكان يحتال حتى لا يأتي بهذه الكلمة.
      ولم يطق مطراً والقول يعجله            فعاذ بالغيث إشفاقاً من المطر.
      ومما ينقل عنه أن أحد الناس أراد أن يحرجه في مجلس من المجالس، وكان فيه الخليفة أو أنه سوف يبلغ الخليفة، فكتب إليه ورقة وقال: اقرأها يا واصل، وكتب فيها: أمر أمير المؤمنين بحفر بئر على قارعة الطريق، يشرب منها الوارد والصادر. فنظر إليها وكلها بحرف الراء، وهو لا يقدر أن ينطقها، فأراد أن يتخلص منها وبدون أن يفطن إليه أحد، فأخذ الورقة تلك، وقال: قضى الخليفة بشق جب على السكة يتزود منها الغادي والجائي، وتخلص منها كلها في لحظة ولم يفطن إليه أحد.
      وذكر الجاحظ أن بشار بن برد -وكان زعيماً للزندقة والإلحاد- كان صديقاً لـواصل بن عطاء، ثم افترقا كعادة أهل البدع.
      وهذه قاعدة: إذا رأيت أناساً مجتمعين وأردت أن تعرف هل اجتمعوا على سنة أم على بدعة، فانظر إليهم، فإن كانوا على بدعة فسيتفرقون شذر مذر، بل قد يكفر بعضهم بعضاً، وإن كانوا على سنة فسيجمع الله تعالى قلوبهم بإذنه -فأخذ بشار يدين بدين المجوس الأول، ويدين بالرجعة، ويكفر جميع الأمة، حتى كفر واصلاً وعمرو بن عبيد، وأخذ يهجو واصلاً بعد أن كان يمدحه بالشعر، وكان بشار أكبر شعراء الدولة العباسية، فقلب المدح إلى هجاء، فلما بلغ واصلاً نبأ بشار، قال: أما لهذا الأعمى المكتني بـأبي معاذ من يقتله؟! أما والله لولا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه.
      يقول الجاحظ : قال: (هذا الأعمى) ولم يقل: (الضرير)، وقال: (المكتني بـأبي معاذ ) ولم يقل: (بشار )؛ لأنه لا يقدر أن ينطق بحرف الراء، وقال: (من أخلاق الغالية، وكان يستطيع أن يقول: (من أخلاق الخوارج) أو المغيرية -من فرق الخوارج - لكنه تجنبها وقال: (خلق من أخلاق الغالية)، ثم قال: (لبعثت إليه) بدل أن يقول: (لأرسلت). ثم قال: (من يبعج بطنه) بدل أن يقول: (يبقر بطنه). ثم قال: (وهو على مضجعه) بدل أن يقول: (وهو على فراشه). فهو رجل عجيب متمكن في اللغة وفي الجدل، وكان يقال له: واصل الغَزَّال، وقد رجع أحد الشعراء عن بدعتهم، فأنشد يقول:
      برئت من الخوارج لسـت منهم            من الغزال منهم وابن باب
      ومن قوم إذا ذكـروا علياً            يطيلون التأمل في السحاب
      فـالغزال هو واصل بن عطاء ؛ وقد يطلق هذا الاسم في كتب الكلام، فيكون هذا المقصود، ثم اختلفوا في سبب تسميته بـالغزال، فقيل: لأنه كان يجلس في سوق الغزل، وقيل غير ذلك.
    3. اعتزال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد لحلقة الحسن البصري

      كان الحسن البصري رحمه الله تعالى جالساً في الحلقة في المسجد، فجاءه إنسان يسأله فقال: إن الناس قد اختلفوا؛ فما تقول في مرتكب الكبيرة؟ وكان الخلاف قد اشتد بين الخوارج وبين أهل السنة وبين المرجئة، فـالخوارج يقولون: هو كافر، وأهل السنة مذهبهم في مرتكب الكبيرة أنه مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فهو عندهم مؤمن ناقص الإيمان، وأما المرجئة فيقولون: هو مؤمن، ويعنون كامل الإيمان، فلما قيل ذلك للحسن وفي حلقته هذان الرجلان: واصل وعمرو، قال الحسن رحمه الله: لا أراه مؤمناً ولا أراه كافراً وإنما هو منافق، أي: أنه أخذ المسألة من الجانب التربوي لا كما يظن البعض أنه جاء بقول جديد، وخرج عن معتقد أهل السنة، إنما أخذها من الجانب التربوي، فهو رجل واعظ، يعلم الناس ويعظهم؛ فيقول: كيف نقول أن مرتكب الكبيرة مؤمن وهو يرتكب الكبائر؟! وكيف نقول أنه كافر وهو لم يخرج من الملة؟!
      إذاً: هذا منافق؛ لأن المنافق هو الذي يقول ما لا يفعل، هو الذي يخلف إذا وعد، وهذا الرجل أخلف ونقض عهده مع ربه، يقول بلسانه: أنا مؤمن ويذهب يشرب الخمر.. هذا ما أورده الحسن رحمه الله.. لكن الله سبحانه وتعالى -بحكمته- أراد أن تفتن هذه الكلمة قلبين مريضين كانا يجلسان في الحلقة، وهما: واصل وعمرو، فبادرا بالجواب، وقالا للرجل: هذا ليس بكافر ولا بمؤمن، فقال السائل: فكيف إذاً؟! قالا: في منزلة بين المنزلتين؛ فهو في منزلة ليست هي منزلة الكفر ولا منزلة الإيمان، فلا نقول: خرج من الملة بالكلية، ولا نقول: دخل في الكفر، ولكنه في منزلة بين منزلتين.
      والمنزلة التي ذكراها لا وجود لها ولا حقيقة، فابتدعا هذه البدعة، واعتزلا مجلس الحسن البصري إلى سارية من السواري، وأخذا يشرحان هذا الكلام للناس، حتى قال الحسن : اعتزلنا واصل، فسموا معتزلة .
      ثم أخذ واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد يؤسسان دينهما على ما تعلماه من علوم الفلاسفة .
    4. نشاط واصل بن عطاء في نشر الاعتزال في الأقطار

      قال صاحب المنية والأمل أحد مؤلفي الشيعة، والشيعة هم في العقيدة معتزلة، ولهذا من يكتب عن الشيعة فإنه يكتب عن المعتزلة وهاهو صاحب المنية والأمل في الفرق والملل والنحل وهو من كتب الشيعة ترجم للمعتزلة، وذكر أمراً عجيباً.
      يقول: قال أبو الهذيل العلاف -من الجيل الثاني من أجيال الاعتزال-: بعث واصل عبد الله بن الحارث إلى المغرب، فأجابه خلق كثير، وبعث إلى خراسان حفص بن سالم ؛ فدخل ترمذ ولزم المسجد حتى اشتهر، ثم ناظر جهماً شيخ الجهمية، وبعث القاسم إلى اليمن، وبعث أيوب إلى الجزيرة -يعني: الجزيرة التي بين نهري دجلة والفرات، وهي شمال العراق وسوريا - وبعث الحسن بن ذكوان إلى الكوفة، وعثمان الطويل إلى أرمينية .
      انظروا كيف نظم خلايا خبيثة، وبعث رجاله إلى كل بلد لنشر الاعتزال، وهدم مذهب أهل السنة والجماعة !
      ومؤلفات واصل بن عطاء عبارة عن كتب صغيرة، ككتاب أصناف المرجئة، وكتاب: المنزلة بين المنزلتين وكتاب ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد .
      وهناك كتب أخرى لا يهمنا ذكرها وإنما هي رسائل، مثل خطبته التي أخرج منها الراء، ولا تعد كتاباً.
    5. الأصول الاعتزالية التي أصلها واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد

      واصل هذا هو الذي شرع للمعتزلة مسألة نفي صفات الله سبحانه وتعالى وهي الأصل الأول من أصولهم وهو التوحيد.
      فبعد القول بالكبيرة أخذ يؤصل لهم مسألة التوحيد، ثم مسألة القول في مرتكب الكبيرة وما يترتب على ذلك، ثم خاضوا في مسألة مهمة في ذلك الزمن وهي مسألة: الصحابة والإمامة، وكان لـعمرو بن عبيد القول الشاذ الذي قال به، ولم يُسبق إليه، قال: نتوقف في علي ومن معه وفي طلحة والزبير ومن معهما -يعني: من أصحاب الجمل- ونقول: إحدى الطائفتين فاسقة لا بعينها.
      وقال: لو شهد عندي علي، أو طلحة، أو الزبير، أو عائشة على درهم لم أقبل شهادتهم. نعوذ بالله من الخذلان!! يعني: أنه بوقوع القتال وقع الفسق، ونحن لا نعلم من كان منهم على صواب، وعليه فنتوقف في الجميع، ولو شهد عندنا أحد هؤلاء الأجلاء من الصحابة رضوان الله عليهم، فلن نقبل شهادته؛ لاحتمال أن يكون هو الفاسق -في منزلة بين المنزلتين- إن لم يكن كافراً على مذهب هؤلاء الضلال.
      وهذه المسألة هي التي تكلم الناس فيها عن سوء مذهب هذا الرجل، وكذلك له كلام في مسألة القدر، ولذلك فإن أصحابه يسمون المعتزلة، ويسمون القدرية كما ذكرنا في باب القدر؛ لأنهم يقولون: العبد هو الخالق لأفعاله، ويقولون: ننزه الله عن المعاصي، فننكر أن يكون الله سبحانه وتعالى يريد المعاصي والقبائح أو يشاؤها، أو يقدرها، أو يخلقها.
      هذه من أصولهم التي أسسها هذان الرجلان: واصل وعمرو بن عبيد، وهما الطبقة الأولى من طبقات المعتزلة، وقد أعقبهما ذلك أن كان بينهما مناقضات.
      وقد اشتهر عمرو بن عبيد بالتزهد، فقد كان يظهر التزهد ولا يأكل إلا الكفاف والقليل من العيش، فغر بذلك كثيراً من الناس.
      فلا يغتر المرء بمن قد يراه رث المظهر أو متقشفاً أو بعيداً عن الحياة، فيقول: هذا زاهد فهو على السنة والاستقامة.
      إن الخوارج كانوا أشد الناس في هذا الأمر، ويليهم المعتزلة وأئمة الصوفية في ذلك، بل إن رهبان النصارى كانوا كذلك، فالحق لا يعرف بهذه الأمور، ولكن بموافقة ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والزهد الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه معروف مشهور، ولا ينبغي أن يخلط بزهد أولئك المبتدعة الضُّلاَّل.
  2. ذكر بعض رجال الاعتزال

     المرفق    
    بعد أن انقضى الجيل الأول من أجيال الاعتزال -واصل وعمرو- أعقبهم الجيل الثاني الذي كان ممثلاً في رجلين: الأول هو: أبو الهذيل العلاف والثاني هو: إبراهيم النظام، وعلى يدي هذين الرجلين تأصل المذهب، وأصبح مشتهراً معروفاً، ثم جاءت الطبقة التي من بعدهم مثل: ابن أبي داود الذي أغرى المأمون بتعذيب الإمام أحمد ؛ ووقعت الفتنة بسببه.
    ثم جاءت بعدهم طبقات منها: معمر بن عباد، ومنها: بشر بن المعتمر، ثم جاء بعدهم: أبو علي الجبائي، وابنه: أبو هاشم الجبائي، وأبو علي الجبائي هذا كان قد تزوج أم أبي الحسن الأشعري، فتتلمذ عليه أبو الحسن الأشعري في أول حياته، فكان معتزلياً، ثم خرج وترك الاعتزال.
    وكان من أئمتهم: الخبيث المدعو: برغوث، وهو الذي كان يناظر الإمام أحمد في مجلس المعتصم .
    والمعتزلة استمروا قروناً إلى أن جاء من أئمتهم أو من كبارهم: القاضي عبد الجبار المعتزلي، فألف الكتب الواسعة لهم، مثل: المغني والأصول الخمسة .
  3. تحول الشيعة إلى مذهب المعتزلة

     المرفق    
    تحولت المعتزلة في القرن الرابع من فئة فكرية محدودة إلى عقيدة شعبية عامة، وذلك حين اتحدت المعتزلة مع الشيعة على يدي النوبختي وأمثاله.
    والسبب في ذلك أنه بعد عودة المتوكل إلى السنة وظهور السنة في البلاد، صار خلفاء بني العباس وولاتهم يكتبون في جميع الأمصار إلى القضاة والعلماء الذين أُذلوا وعُذبوا وأهينوا وكبتوا، وقتل منهم من قتل في أيام ظهور المعتزلة، فأعقب ذلك حرباً شديدة على المعتزلة في جميع الولايات الإسلامية، فحشر المعتزلة وحصروا وضيق عليهم حتى من العامة، وكذلك وقع للروافض، فاتحد الطرفان؛ حتى إن الرافضة -وكانوا قبل ذلك مشبهة- تخلت عن مذهبها في التشبيه؛ فمذهب الشيعة في صفات الله سبحانه وتعالى هو ما قاله هشام بن الحكم الرافضي، وداود الجواربي، وما أصله لهم عبد الله بن سبأ ؛ من أن: علياً هو الله؛ فهم حلولية يمثلون الله بخلقه، ويثبتون الصفات إلى حد أنهم يجعلونها مثل صفات المخلوقين، هذا أصل دين الشيعة، لكنهم تحولوا فأصبحوا معطلة نفاة، ينفون الصفات.
    والذي يعرف أصول الشيعة لا يستغرب أي شيء منهم، فمن أصول الشيعة التي يقولون إن أبا عبد الله جعفر الصادق علمهم إياها، وذلك حين سأله بعضهم فقال: إني أكون في بلد ليس فيه أحد من الأئمة ولا من الفقهاء، فماذا أصنع فقال: "انظروا إلى ما عليه العامة فخالفوهم، فهو الحق" حسب زعم الشيعة ! والعامة هم أهل السنة، ويعنون بذلك جميع أهل السنة حتى كبارهم، وحتى العلماء منهم، وهكذا دأبهم: خالف تصب، المهم ألا توافق أهل السنة في شيء.
    فكانوا يقولون بهذا التمثيل كما هو دين عبد الله بن سبأ اليهودي؛ فلما وجد الرافضة أن أهل السنة يحاربون الاعتزال -لأن المعتزلة ينفون صفات الله وينفون الكلام عن الله وينفون الرؤية- وافقوا المعتزلة وخالفوا أهل السنة، فالمطلب عندهم أن يخالفوا علماء أهل السنة؛ كالإمام أحمد بن حنبل ومالك والشافعي وغيرهم، وأن يكونوا على خلاف دينهم؛ فخالفوهم؛ فأصبحوا معتزلة ؛ ولذلك نقول: إن الكتب التي تتحدث عن تراجم متكلمي الشيعة تتكلم عن المعتزلة والعكس، ولو أن أحداً ألف عن متكلمي المعتزلة فإنه يتعرض لمتكلمي الشيعة .
    فاتحدت الفرقتان وأصبحتا شيئاً واحداً، وما تزال الشيعة إلى اليوم تعتقد في صفات الله ما تعتقده المعتزلة، فينكرون صفات الله، وهذا هو التوحيد عند المعتزلة وهو الأصل الأول عندهم.
  4. الكلام على الأصل الأول من أصول الاعتزال وهو التوحيد

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله: [فإنهم بنوا أصل دينهم على الجسم والعرض، الذي هو الموصوف والصفة عندهم، واحتجوا بالصفات التي هي الأعراض على حدوث الموصوف الذي هو الجسم، وتكلموا في التوحيد على هذا الأصل؛ فنفوا عن الله كل صفة؛ تشبيهاً بالصفات الموجودة في الموصوفات التي هي الأجسام].
    1. طريقة المعتزلة في نفي الصفات

      أول أصل عند المعتزلة : هو نفي صفات الله سبحانه وتعالى، وتبعهم في ذلك الشيعة .
      يقولون: إن النصارى -وقد أخذوا ذلك عن يوحنا أو عن سيسويه- قد احتجوا على المسلمين؛ فقالوا لهم: إنكم تقولون: عيسى كلمة الله: ((بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ))[آل عمران:45] وتقولون: القرآن كلام الله وهو غير مخلوق، وفي نفس الوقت تعتقدون أن عيسى مخلوق وهو روح من الله وكلمة منه؛ فالنصارى يلزمون المسلمين إذا قالوا بأن الله يتكلم أن يقولوا: إن عيسى إله، لأنه كلمة الله، كما أن القرآن كلامه، لأن المسلمين يقرون أن عيسى كلمة الله، فيلزمهم أن يعتقدوا أن كلمة الله إله مثله.
      فقال المعتزلة : نفر من هذا فنقول: إن عيسى مخلوق، وإن القرآن مخلوق؛ حتى لا يكون هناك تعدد في الآلهة، وقالوا في جميع الصفات مثل ذلك.
      وقالوا: إذا قلنا: إن الذات قديمة ونحن نقول: إن الله تعالى ما سمى نفسه القديم، وإنما سمى نفسه الأول؛ قال تعالى: ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ))[الحديد:3] وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء} لكنهم يقولون: (القديم) اعتماداً على عبارات فلاسفة اليونان فهم يقولون: إذا قلنا: الذات قديمة، وقلنا: هو العليم، والحكيم، والعزيز، والرحمن، والرحيم، والقاهر، والمتكبر، والجبار، وغير ذلك من الأسماء، استلزمت هذه الأسماء صفات، وهي العلم والحكمة والعزة والرحمة.. إلخ، وإذا وصفنا الله بصفات متعددة قديمة، لزم من ذلك تعدد القدماء، فيلزم تعدد الآلهة، وذلك محال والقول به كفر، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم، فقالوا بنفي جميع الصفات، وإثبات الأسماء، وهذا القول منهم مبني على أن الصفات غير الموصوف، وأن تعددها يستلزم تعدد الموصوف، فهو عندهم عليم بلا علم، عزيز بلا عزة، حكيم بلا حكمة... إلخ.
      فإن قيل: إن الأسماء ستكون متعددة وكثيرة، فيلزم المحظور الذي فررتم منه، قالوا: أسماء الله مترادفة، وليس لأي اسم منها معنى خاص، فلو سمينا أحداً: محمداً، وسميناه أيضاً: عبد الله، فدعوناه تارة محمداً وتارة عبد الله؛ فإنه هو هو، وليس في أحد الاسمين هناك معنى يختلف عما في الاسم الآخر، فلو قلت: العزيز، فهو مثل قولك: الرحيم، وهو مثل قولك: الحكيم، ومثلما لو قلت: الخبير، لا فرق في ذلك، فالكل في المعنى يساوي الله؛ فهو مرادف له فقط، وليس له معنى مستقل، وقد قال المعتزلة بذلك فراراً منهم -بزعمهم- من تعدد القدماء.
    2. الرد على شبهة تعدد القدماء عند المعتزلة

      إن هذه الشبهة -الفرار من تعدد القدماء- التي بنى عليها المعتزلة إنكارهم للصفات هي شبهة باطلة، لكنهم أسسوا عليها ما لا يحصى من الضلالات.
      ومن أسهل الردود عليهم أن يقال: هذا محمد (أو زيد أو عمرو)، ويمكن أن نصفه بأنه: طويل، عليم، سميع، جواد، كريم، شجاع، وغير ذلك من الصفات، فهل تتعدد ذاته إذا وصفناه بكل هذه الأوصاف، أم تبقى ذاتاً واحدة؟ فإذا قالوا: بل تبقى ذاتاً واحدة، قلنا: فكذلك الله سبحانه وتعالى الذي له المثل الأعلى في السماوات والأرض واحد، وأسماؤه وصفاته متعددة.
      لكن قد أعمى الله بصيرتهم، وظنوا أن الاسم له وجود حقيقي في الخارج، فظنوا أنهم -إذا أثبتوا أسماء كثيرة- يثبتون ذوات كثيرة، وهذا من نتاج العقول السقيمة السخيفة، التي تأثرت بـفلاسفة اليونان، فقد كان أفلاطون -صاحب نظرية المثل- يرى أن كل شيء في الوجود الذهني له مثاله في الوجود الخارجي، فأخذ المعتزلة ذلك، وبنوا عليه أنه يجب أن ننفي عنه سبحانه وتعالى الأسماء والصفات، بمعنى: أن الأسماء تبقى حروفها لكن حقائقها ومعانيها تنفى، وتكون مرادفات لاسمه الذي هو الله -تعالى الله عما يصفون- وهذا هو الأصل الأول عندهم، وهو التوحيد.
      وأصول المعتزلة الخمسة التي ذكرها المصنف رحمه الله قد أجمعت عليها المعتزلة مع أن بينهم خلافات كثيرة، حتى إن بعضهم يكفر بعضاً، فـعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء كل منهما يرد على الآخر، وأبو الهذيل العلاف يكفر النظام، والنظام يكفر العلاف وهما أكبر من أسس هذا المذهب؛ فمع ذلك أجمعوا على هذه الأصول الخمسة في الجملة، ومما أجمعوا عليه تبعاً لأصل التوحيد القول بخلق القرآن، والقول بنفي رؤية الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، وأخذ هذا المذهب عنهم الشيعة والخوارج؛ فـالشيعة والخوارج إلى هذا اليوم يقولون: إن الله تعالى لا يُرى في الآخرة، ويقولون: من قال: (إن الله يرى في الآخرة) فهو كافر، ويؤولون ويحرفون الآيات في الرؤية، وقد سبق مبحث الرؤية بالتفصيل والآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة عليها.
      قال المصنف: "فإنهم بنوا أصل دينهم على الجسم والعرض الذي هو الموصوف والصفة عندهم" والجسم أو الجوهر: هو الشيء الذي يبقى بذاته، أو يمكن أن يتصور بذاته مستقلاً عن صفاته، والأعراض: هي الصفات، فمثلاً: السارية ذاتها هو الجرم القائم المنتصب، والأعراض كونها طويلة أو قصيرة، حمراء أو زرقاء، وربما تغير لونها، لكن الذات لا تتغير، فالمتغير هو الأعراض، وهي الصفات، والذات هي الجسم، لكنهم أخذوا اصطلاحات الفلاسفة اليونان؛ فبدلاً من أن يقولوا: الموصوف، قالوا: الجسم أو الجوهر، وبدلاً من أن يقولوا: الصفات، قالوا: الأعراض، وفي الواقع لا يمكن أن توجد ذات ليس لها صفات، فلا توجد ذات خارج الذهن ليس لها صفات، فهذا مستحيل؛ فلا توجد ذات إلا ولها صفات.
      ولذلك هم أنفسهم لما قالوا: ماهية الشيء هي عبارة عن ذاته متميزة عن العرضيات، لم يستطيعوا أن يأتوا بمثال على ذلك؛ حتى قالوا: إن معرفة الماهيات إما متعسر أو متعذر -هذه عباراتهم- والمعنى: من الصعب جداً أن تعرف ماهية الشيء، ولهذا إذا أرادوا أن ينزهوا الله -بزعمهم- قالوا: ننزه الله عن الأعراض، ويعنون بذلك نفي صفات الله سبحانه وتعالى.
      قال: "واحتجوا بالصفات التي هي الأعراض على حدوث الموصوف الذي هو الجسم" معنى هذا الكلام: أن الموجودات عندهم على نوعين: حادث وقديم، فالقديم الذي ليس له أول، والحادث هو المخلوق الذي وجد بعد أن لم يكن، وقالوا: مما يعرف به الحادث من القديم أن الحادث هو الذي تحل به الأعراض؛ أما القديم فهو الذي لا تحل به الأعراض؛ ولهذا قالوا: إذا قلنا: إن الله سبحانه وتعالى حي أو كريم أو رحيم أو ما أشبه ذلك، أو قلنا: إنه يغضب ويرضى وينزل، فقد قلنا بحلول الحوادث بالله، وما تحل به الحوادث فهو حادث، ولذلك قالوا: ننفي جميع هذه الصفات حتى وإن جاءت في القرآن والسنة، فهم ينفونها حتى يسلم عندهم هذا الأصل.
      وانظر إلى تفاهة معتقدهم ومبدأ قولهم في توحيد الله سبحانه وتعالى، فهذا مما أجمعت عليه المعتزلة، وجعلوه الأصل الأول من أصول الدين، وسموه التوحيد، وهو أن تنفى صفات الله سبحانه وتعالى على هذا الأساس.
    3. الرد على شبهة أن إثبات الصفة تشبيه

      قال المصنف: [وتكلموا في التوحيد على هذا الأصل، فنفوا عن الله كل صفة؛ تشبيهاً بالصفات الموجودة في الموصوفات التي هي الأجسام].
      قالوا: إذا قلنا: إن الله له قدرة -مثلاً- والعبد له قدرة، فقد شبهنا، فلابد أن ننفي القدرة، وإذا قلنا الله له رحمة والعبد له رحمة، فقد شبهنا، وإذا قلنا: الله له علم والعبد له علم، فقد شبهنا؛ ولذلك قالوا: ننفي صفات الله حتى لا نشبه الله سبحانه وتعالى بخلقه، ولهذا حين ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قواعد أهل السنة في نقاشهم ونقدهم؛ قال للمعتزلة: يلزمكم فيما أثبتموه مثل ما يلزمكم فيما نفيتموه، فلو لم تثبتوا إلا أنه موجود؛ فنقول: والمخلوق موجود، فهل تنفون عن الله الوجود، يقولون: نحن نقول وجود الله غير وجود المخلوق، نقول لهم: وكذلك قدرة الله غير قدرة المخلوق، وحكمة الله غير حكمة المخلوق، ونزول الله غير نزول المخلوق، وكل ما ثبت من صفات الله في القرآن والسنة، فهو غير ما هو للمخلوق، ولا إشكال في ذلك، فالله سبحانه وتعالى وصف بعض المخلوقات في القرآن بما وصف به نفسه فقال: ((إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا))[الإنسان:2]... وقد قال سبحانه: ((وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا))[النساء:134] فهذا المخلوق سميع بصير، لكن ذلك على قدر حاله من العجز، أما سمع الله وبصر الله، فكما يليق به سبحانه.
      المطر ينزل، والمخلوق ينزل؛ كجبريل عليه السلام، قال الله تعالى: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ))[الشعراء:193]، وذكر في الحديث أن الله ينزل إذا كان الثلث الأخير من الليل، وليس نزول الله كنزول جبريل عليه السلام أو أي مخلوق، فالمخلوق له ما يليق به لأنه مخلوق، وله سبحانه وتعالى ما يليق به، فله الأسماء الحسنى والصفات العلى.
      وهكذا ينهدم أصل هؤلاء المعتزلة في التوحيد بكل سهولة، ويعلم أهل السنة وأهل الإيمان -حتى العامة منهم- بطلان أصل المعتزلة الذي سموه توحيداً.
      وما قالوه في القرآن قد سبق تفصيل القول فيه في مبحث الكلام، وما قالوه أيضاً في رؤية الله ونفيهم لها قد سبق أن أصلناه وقررناه في مبحث الرؤية.