المادة كاملة    
إن المتأمل لحضارة الغرب وفلسفته بروية وتمهل دون تعجل في الحكم، يرى أنها حضارة زائفة وخداعة، فهي قائمة على النفعية والمصلحة، فالمصلحة هي التي تحكم الدين والأخلاق، وإلا فلا دين ولا خلق. ولأن الدين النصراني محرف وهو مخالف لمصالحهم؛ فقد همشوه جانباً وسعوا لنبذه، واتخذوا الإلحاد فكراً ومنهجاً. فهل يعي ذلك المتفلسفون والمستغربون؟!!
  1. الفلسفة هي البديل الإلحادي عن الدين

     المرفق    
    قد تعرفنا على اعتقاد الفلاسفة في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر بإيجاز شديد، كما هو في الكتاب.
    وإن هذه الطائفة الخبيثة -التي هي أبعد الطوائف عن الدين وأضلها في معرفة طريق رب العالمين- هي اليوم أكثر ما تكون قوة؛ وأشد ما تكون في كل مكان فكراً وخطاباً، فلا تكاد تجد جامعة إلا ولهم فيها نصيب، ولا تجد مجلة أو كتاباً فكرياً أو معهداً أكاديمياً إلا ولهذه الفلسفة -على اختلاف مذاهبها وأنواعها- دور ونصيب.
    إن الفلسفة في الحقيقة هي البديل الإلحادي عن الدين، ولا سيما في هذا العصر؛ لأن أعظم أمم الأرض وأكثرها وأقواها في عالم اليوم هم العالم الغربي، وهم الذين تسيطر حضارتهم وفكرهم على العالم، وهؤلاء يدينون بالفلسفة بعد أن تخلوا عن دينهم النصراني وتركوه. وهي فلسفات مختلفة يجمعها أنها بديل عن الدين، فهي عقائد يعتقدها أصحابها، ومناهج في الحياة؛ ترسم الدول والمجتمعات حياتها وفق هذه المناهج، فالدول الشيوعية -وهي كثيرة- ترسم حياتها وفق الفلسفة التي وضعها ماركس وإنجلز، ثم لينين ... إلخ. والدول الغربية الرأسمالية تضع أيضاً خططها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وفق النظريات الفلسفية التي تؤمن بها، مع تعدد أنواعها.
    إذاً: البديل العالمي الموجود اليوم للدين وللعقيدة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، وبينها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم هو الفلسفة، والعالم الإسلامي قد أصابه ذلك، فإن في معظم كليات الآداب في العالم الإسلامي قسماً للفلسفة، إضافة إلى أن الأقسام الأخرى تدرس هذه الفلسفات؛ ففي قسم علم النفس لا بد أن تدرس نظريات علم النفس، وأي كلية اقتصاد في العالم لا بد أن تدرس النظريات الفلسفية الاقتصادية.. وهكذا.
    ولذلك سوف نستعرض ما يعانيه هؤلاء الفلاسفة من حيرة واضطراب وبعد عن الدين، ونمر على ذلك ولو مروراً عابراً، وليس غرضنا هو مناقشة هذه الفلسفات، فإنها كثيرة، وقد حاولت أن أختار نموذجاً حياً وشخصية من هؤلاء الفلاسفة، هناك إجماع عالمي على تفوقها في هذا الجانب، فنعرج على حياته وسيرته وآرائه؛ لنعرف كيف يفكر هؤلاء الفلاسفة، وماذا يريدون، ولماذا يلحدون.
    1. فيلسوف القرن وزعيم الملحدين

      لقد وقع اختياري على الفيلسوف الإنجليزي العالمي المشهور لدى المفكرين جميعاً في هذا العصر، وهو برتراند راسل، وهذا الفيلسوف شهرته كبيرة، وقلَّ أن تجد أحداً يعالج شئون الفكر والفلسفة إلا وهو يعرفه، وميزته التي جعلتني أختاره هي وضوحه في التعبير عن نفسه؛ لأن بعض الفلاسفة يكتب عنه غيره، أما هو فقد كتب عن نفسه، ولهذا لا يمكن أن يقال: إن أحداً قام بتحليل منهجه، فنسب إليه شيئاً، أو استنبط من كلامه شيئاً، فأضاف إليه ما لا يريد؛ فهو بنفسه قد كتب عن حياته وعن فكره وكيف نشأ وكيف تطور.
      وإذا قارناه بـأرسطو يظهر لنا التقارب والتشابه مع فارق العصر طبعاً.
      وبرتراند راسل قد جعل في كثير من مؤلفاته -وهي كثيرة ومترجمة- أرسطو هدفاً له، وقد وضع أسساً منطقية جديدة، فهو مجدد ومبدع في الجانب الفلسفي، وكأنه يريد أن يجعل نفسه المعلم الأول لآخر الزمان، كما كان أرسطو المعلم الأول للزمان القديم، ومع أنه رجل إنجليزي، والفلسفة السائدة في بريطانيا هي الفلسفة التجريبية؛ إلا أنه لا يؤمن بهذه الفلسفة التجريبية؛ كما لا يؤمن بالمثالية الألمانية؛ وله تحفظات على الفلسفة البراجماتية الموجودة في أمريكا، فهو يطور ويجدد وينتقد، ويكتب عن هذه الفلسفات جميعاً، وله كتاب مشهور جداً في عالم الفكر وهو حكمة الغرب، وهو جزءان: الجزء الأول: عن الحكمة اليونانية القديمة، والثاني: عن الحكمة المعاصرة... يسمونها حكمة، وهي أبعد شيء عن الحكمة، وإنما هي فلسفة.
      وسنقرأ كيف كتب عن حياته بنفسه، فقد ألف كتاباً بعنوان : برتراند راسل، وقد ترجمه الدكتور مصطفى غالب، وهو أستاذ متخصص في الفلسفة، وهو باطني إسماعيلي، يصرح هو بذلك، وله كتب في الباطنية والإسماعيلية، وهو من بلاد الشام من سوريا، وله زميل آخر هو عارف تامر هو كذلك باطني إسماعيلي؛ فهذان الاثنان - مصطفى غالب وعارف تامر - كاتبان باطنيان قرمطيان إسماعيليان، وبالرغم من أنهما معاصران إلا أنهما مع ذلك يتعبدان ويدينان بدين القرامطة، وكل مؤلفاتهما تقريباً تصب حول تأييد مذهب القرامطة، ومن هنا نجدهما يعجبان بأي فلسفة من الفلسفات؛ لأن الباطنية لا يؤمنون بالقرآن ولا بالدين كله، وإنما الدين عندهم مجرد سياسة مدنية؛ كما في الأبيات المشهورة، فالدين عندهم مجرد سياسة للإصلاح، والفلسفة هي الأساس، وقد ذكروا ذلك في رسائلهم المشهورة التي هي: رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، فهي خلاصة للفلسفة اليونانية، والباطنيون المعاصرون يريدون الآن أيضاً خلاصة للفلسفة الغربية ليقدموها للعالم بديلاً عن الدين؛ لأن الأساس عند الباطنية : أن الحق هو ما قالته الفلاسفة، لا ما جاء به الأنبياء، والأنبياء عندهم أصحاب تجهيل وأصحاب تخييل وأصحاب تمثيل... إلى آخر ما أشرنا إليه سابقاً من قولهم: إن الأنبياء مصلحون خيلوا للناس الجنة والنار وأمثال ذلك، ليصلح حال الناس.
  2. الظروف المصاحبة لطفولة راسل

     المرفق    
    يقول برتراند راسل عن نفسه: "ماتت أمي وأنا في الثانية من عمري، وكنت في الثالثة حين مات أبي -وهذه معلومات مهمة حتى نعرف حياة الإنسان الذي يعيش في مثل هذه الظروف- فنشأت في دار جدي لورد جون راسل الذي أصبح فيما بعد إيريل راسل، ولم يكد يجيئني أحد بنبأ عن والدي، وهما لورد وليدي أمبرلي، حتى لقد شاع في نفسي إحساس بأن يكون في الأمر لغز غامض؛ لقلة ما عرفته عنهما"
    لم يعرف أمه ولا أباه، ولم يحدثه أحد عنهما، فنشأ أول ما نشأ وفي نفسه سؤال غامض: من أمي؟ ومن أبي؟ فاحتار وقال: لابد أن هناك لغزاً، وهذا معناه معروف عند أكثر الغربيين؛ فإن أكثر القادة والزعماء المشهورين أبناء غير شرعيين لا يعرف أحدهم أمه ولا أباه؛ وهذا الأمر يجهله كثير من الناس.
    فـبرتراند راسل من عائلة مشهورة في بريطانيا، وكان يخاف أن يكون منسوباً إلى هذه العائلة، ولا يدري هل هو فعلاً من أبناء هذه العائلة، أم أنه متبنىً، وما كان أحد يحدثه عن هذا الموضوع، وهذه الأفكار بدأت تراوده وهو ما يزال صغيراً!
    1. الولد سر أبيه

      يقول: "فلما بلغت الحادية بعد العشرين أخذت في العلم بشيء من الخطوط الرئيسية في حياة أبي وأمي، وما كان لهما من رأي؛ فكم دهشت حين رأيتني قد اجتزت المراحل بعينها تقريباً التي اجتازها أبي في تطور عقله وشعوره". لقد عرف كيف عاش أبوه وكيف كانت حياة أبيه، وهو قد جاوز العشرين من عمره.
      يقول: "كان منتظراً لأبي أن يخوض الحياة السياسية جرياً على تقليد في عائلة راسل، وكانت له في ذلك رغبة، فدخل البرلمان لمدة سنة، لكنه لم يكن له من المزاج ولا من الرأي ما قد كان لابد له منهما إذا أراد لنفسه نجاحاً في السياسة، فما أن بلغ من عمره الحادية بعد العشرين حتى أحس في نفسه كفراً بـالمسيحية، وأبى أن يذهب إلى الكنيسة يوم عيد الميلاد" هكذا تحدث عن أبيه، ويقول: وأنا في نفس العمر وجد عندي هذا الشعور.
      يقول: "وقد جعل من نفسه تلميذاً فصديقاً لـجون ستيوارت مل " وهذا أيضاً فيلسوف مشهور، وله اهتمام بجانب المنطق، وهو من أكثر الغربيين كتابة في المنطق، ومحاولة لتغيير المنطق الذي وضعه أرسطو، يقول: "الذي علمت منذ أعوام قليلة أنه كان لي أباً في العماد"، يعني أن أهله أرادوا أن يعمدوه، على طريقة النصارى؛ فإنهم إذا ولد لهم مولود فإنه يُعمَّد؛ بمعنى يغطس في الماء بطريقة معينة، وتلاوات وقراءات معينة، إيذاناً بدخوله في النصرانية، فأي إنسان يدخل في النصرانية أو كان طفلاً، فإنه يعمد علامة على أنه نصراني، وهذا المعمَّد لابد أن يحضره ولي أمره، ولما كان أبو راسل ميتاً؛ أخذ جون ستيوارت مل الذي كان صديق أبيه، وعمَّده، فصار أباه في العماد؛ ولذلك كان بينهما علاقة روحية.
      يقول: "وكان أبي وأمي قد تبعا مل في آرائه، ولم يقتصرا في ذلك على الآراء التي صادفت عند الناس قبولاً نسبياً، بل جاوزاها إلى الآراء التي كانت عندئذ تصدم الناس في شعورهم". إن أمه وأباه كانا أيضاً ثوريين، وتعلما من مل وتقبلاً كل آرائه؛ بل دافعا عن آراء مل التي كان يستنكرها الأوروبيون آنذاك.
      قال: "مثل حق المرأة في الانتخاب وضبط النسل"، فالذي يراد له في العالم الإسلامي الآن أن يكون طبيعياً جداً كان في أوروبا قبل أقل من قرن أمراً يصدم شعور الناس ولا يتقبلونه، لكنهم بعد ذلك استمرءوه، ثم فرضوا علينا هذه الآراء، حتى أصبحت غير مستنكرة بل هي مقررة في أكثر أنحاء العالم الإسلامي مع الأسف.
    2. راسل في بيت جده

      يقول: "أراد لي أبي أن أنشأ في الفكر حراً من القيود، وكذلك أراد لأخي، فأقام علينا وصيين عرفا بحرية التفكير" يعني: لما مات أبوه، أوصى على كل واحد من أولاده بوصي حر التفكير، أي: لا يؤمن بـالنصرانية ولا بأي دين.
      يقول: "لكن جدي وجدتي معاً سعيا لدى المحكمة المختصة أن تغض نظرها عن وصية أبي"، أي: أن الجد والجدة فسخا الوصية في المحكمة ليتوليا الإشراف عليه وتربيته هو وأخيه.
      يقول: "فكان نصيبي أن أنشأ على العقيدة المسيحية التي عليها الجدة والجد، ذلك أني انتقلت بعد موت أبي إلى منزل جدي، وكان ذلك عام (1876م)، وكان الجد عندئذ في الثالثة بعد الثمانين من عمره، وقد نال منه الضعف الشديد، فشملني بعطف متصل، ولم تبد منه علامة واحدة تدل على ضيقه بشغب الأطفال، لكنه كان أشد ضعفاً من أن يكون له في تكويني أي أثر مباشر"، فما أثر فيه جده ثم مات جده.
      يقول: "فتولتني بالتعليم جدتي التي ما فتئت تقدس ذكرى زوجها، فكانت أقوى أثراً في توجيهي من أي شخص آخر"، فأقوى من رباه جدته، فماذا كانت تعتقد جدته؟ وما هي الآراء التي أثرت بها عليه؟
      يقول: "غير أني منذ أن بلغت رشدي، جعلت أختلف معها في كثير من آرائها... كانت جدتي متزمتة العقيدة، صارمة الأخلاق" وهذه نقطة أخرى في تربيته؛ فجدته كانت متزمتة -كما يرى- صارمة "تزدري الترف ولا تأبه لطعام، تمقت الخمر وتعد التدخين خطيئة، وعلى الرغم من أنها قد عاشت حياتها ضاربة في مناكب الأرض حتى استكان جدي في مأواه، إلا أنها لم تكن بطبعها مقبلة على الدنيا، فكانت تقف من المال موقف من لا يكترث به، وهو موقف لا يستطيعه إلا الذين رزقوا منه ما يكفيهم، أرادت جدتي هذه لأولادها ولأحفادها أن يحيوا حياة نافعة فاضلة"... إلى أن يقول: "ولما بلغت الثانية عشرة من عمري أهدت إليَّ جدتي إنجيلاً ما زلت محتفظاً به إلى اليوم، وكتبت على الورقة التالية لغلافه بعض ما أحبت من آياته، فمنها هذه الآية: (لا يجوز لك أن تتبع كثرة الناس في فعل الشر)، وهذه الآية: (كن قوياً شجاعاً فاضلاً، لا تخف ولا يأخذنك اليأس؛ فربك المولى في رعايتك أينما ذهبت"، وهذه ترجمة بعض العبارات الموجودة في الأناجيل والرسائل.
      يقول: "فكان لهاتين الآيتين أثر عميق في حياتي"، أي أنه لما قرأها تأثر بها وأخذ يطبقها "ولا أحسب ذلك الأثر قد أصابه الوهن -بقي متأثراً بهاتين الآيتين- حتى بعد أن أمسكت عن الاعتقاد في الله"، يعني: حتى بعد ما كفر بالله لم يستطع أن يتخلى عن تأثير هاتين العبارتين اللتين يسميهما آيتين.
      وهذا يشير إلى قاعدة مهمة في التربية، وهي أن الإنسان لا يمكن أن يفصل عما تربى عليه، فهو قد كفر بالله، وأعلن إلحاده بهذا الرب وأنه لا يؤمن بهذا الرب الذي يقال: إن هذا الإنجيل كلامه، ومع ذلك يقول: إنه لم يستطع أن يتخلى عن تأثير هاتين العبارتين، وهذا يوضح لنا أشياء كثيرة، منها: أن الإنسان الغربي قد يتخلى عن كل ما في الإنجيل من تدين وصلوات وعبادات، لكن لا ينسى ما فيه من حديث عن الأمم الأخرى، أو احتقار للوثنيين وللمشركين ولأشباههم، فينشأ وهو يحتقر المسلمين على اعتبار أنهم وثنيون ومشركون، وإذا قرأ التوراة وتعلق بما فيها، فإنه ينشأ على محبة أرض الميعاد، وإن كان غير متدين، فقد يأتي ولو سائحاً، كما ترونهم اليوم لا يتدينون بدين، لكنهم يأتون إلى فلسطين سياحة؛ لأنهم تأثروا بهذا الشعور، الذي يجده كل من يقرأ التوراة عن هذه الأرض، وقداستها وأهميتها وعظمتها... إلخ.
      فالإنسان قد يكفر بأصل المبدأ، أما تأثيرات التربية فلا يستطيع أن ينفصل عنها.
    3. جدة راسل تعتنق مذهب الربوبيين

      ثم حصلت له نقلة في حياته، يقول: "تحولت جدتي في السبعين من عمرها إلى عقيدة الموحدين".
      الذين ينكرون ربوبية المسيح، الذين يقولون: (إن الإله واحد فقط، وأن المسيح بشر) يسمونهم موحدين، فبعضهم يثبت للكون خالقاً، وينفي ما تدعيه الكنيسة من أن الآلهة ثلاثة، ويعتقد أن الأب هو الإله، وأما الابن وروح القدس فمخلوقات، ويقول بعضهم: نكفر بكل الثلاثة، ونثبت للعالم خالقاً واحداً فقط، ليس هو هذه الثلاثة ولا واحداً منها، وذلك من شدة نفورهم من التثليث، وهذا المبدأ يسمى مبدأ الدايزم، أي: الذين يؤمنون بالربوبية، أي بالخالق فقط، وبعض المترجمين يترجمهم بـالربوبيين، وهي أولى من كلمة الموحدين؛ لأن الموحد من وحَّد الله وعرفه، لكن هؤلاء ربوبيون، يؤمنون بالربوبية؛ أي أن هذا الكون له رب خالق مدبر رازق، ليس هو ما يقوله رجال الدين، لكنهم بعد ذلك لا يؤمنون بشريعة له يتبعونها، واعتقادهم إنما هو اعتقاد ربوبية، كما كان المشركون في الجاهلية يعتقدون، وقد قال الله عنهم: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ))[الزخرف:9].
      يقول عن جدته: "وأخذت على نفسها في الوقت نفسه أن تنصر الحكم الذاتي لـإيرلندا "، وقضية الحكم الذاتي لـإيرلندا وعلاقة إيرلندا بالإنجليز لا تهمنا، لكن هذا يوضح لنا أن هذه العجوز -التي كانت في أول حياتها متزمتة متمسكة بالتقاليد، وتحرص على تربية حفيدها تربية دينية، والتي فسخت وصية أبويه من المحكمة هي وزوجها من أجل أن ينشأ على النصرانية، والعادة أن الإنسان في السبعين لا يتغير، بل ربما في الخمسين، وهذه في السبعين- قررت أن تتخلى عن كل الآراء القديمة، فأصبح رأيها في الدين عكس ما في الأناجيل، وعكس ما كتبت لحفيدها هذا، ورأيها في السياسة عكس ما يؤمن به الإنجليز بالنسبة لـإيرلندا، "وكذلك راحت تعارض الاستعمار في حرارة"، عكس ما يمكن أن يؤمن به أي إنسان وطني تعجبه سياسة بلاده.
      يقول: "ولقنتني وأنا بعد في السابعة أن أسيء الظن ببلادي في حروبها التي أثارتها في أرض الأفغان، وعلى قبائل الزولوا، وأما عن احتلال مصر فلم تحدثني عنه إلا قليلاً"، قالت له: الحروب التي تخوضها الإمبراطورية في أمريكا الوسطى وفي القارة الهندية، وفي غيرها حروب تافهة ولا معنى لها، أما العالم الإسلامي: كـمصر وبلاد الشام مثلاً، فلم تحدثه عنها؛ لأن هذه الأرض عندهم هي أرض الوثنيين وأرض المشركين، فمن الطبيعي أن تكون تحت سيطرة النصارى، حتى وإن كانت هي (جدة راسل ) قد تركت ديانتها.
      يقول: "لأن ما فعله جلادستون وقع من نفسها موقع الإعجاب" وجلادستون هو الذي رفع المصحف وقال: ما دام هذا الكتاب عند المسلمين، فلن نستطيع أن نسيطر عليهم، ولا أن نقضي عليهم، وكلامه حق لكن ما داموا يعملون به، ويؤمنون بما فيه.
      يقول: "وإني لأذكر الآن نقاشاً دار بيني وبين مربيتي الألمانية التي قالت لي عندئذ: إن الإنجليز ما داموا قد دخلوا مصر، فلن يخرجوا منها مهما تكن وعودهم، فرددت عليها في وطنية مشتعلة قائلاً: إن الإنجليز لم ينكثوا قط وعداً، دار هذا النقاش منذ ستين عاماً، لكن الإنجليز ما زالوا هناك" لما كتب هذا الكلام كان الإنجليز لا يزالون في مصر، يقول: أنا كنت أثق في الوعد الإنجليزي، وكنت -وأنا صغير- أصدق أن بلادي مخلصة وصادقة في وعودها وفية بالتزاماتها، لكن بتأثير جدته وبما رأى تبين له أنهم بالعكس، وأن الإنجليز لم يفوا بهذا الوعد.
      ونحن المسلمين وللأسف نضرب بهم المثل في الوفاء بالوعد، ونقول: وعد إنجليزي! وهم إذا وعدوا بشيء فيه مصالح لهم أوفوا به، وإذا كانت وعودهم في صالح المسلمين جعلوها وعوداً تلو وعود دون وفاء.
      فاتفاقية (سايكس بيكو) طبقوها تماماً وكذلك (وعد بلفور) طبقوه تماماً، ولكن إذا وعدونا بأن يساهموا في حل مشكلة في العالم الإسلامي، أو يقدموا مساعدات، فهووعد إنجليزي، لكن من النوع الآخر، وعود الثعالب والذئاب للدجاج والغنم، كما في قصيدة الرصافي يقول:
      والعهد بين الإنجليز وبيننا            كالعهد بين الشاة والذؤبان
      يقول: "كانت مكتبة جدي هي غرفة دراستي وموجهة حياتي، وكان فيها من كتب التاريخ ما أثار اهتمامي، لا سيما أن لأسرتي في التاريخ الإنجليزي مكاناً ظاهراً...". إلى أن يذكر أن جده وليم لورد راسل قد أعدم، وكانت هذه قضية مهمة.
  3. المؤثرات الفكرية والثقافية في نشأة راسل

     المرفق    
    ثم يتحدث راسل عن حياته الفكرية، وهذا هو ما نريد أن نعرفه ونستكشفه، لكن ما سبق مهم لنعرف كيف ينشأ هؤلاء الملحدون.
    يقول: "وحدث حادث عظيم في حياتي عندما كنت في عامي الحادي عشر، وهو أني بدأت دراستي لـإقليدس الذي لم يزل عندئذ هو المتن المعترف به في دراسة الهندسة، وأحسست بشيء من خيبة الرجاء، حين وجدته يبدأ هندسته ببديهيات لا بد من التسليم بها بغير برهان".
    هذه أول قضية مهمة في نقد الفكر اليوناني الذي -مع الأسف- آمن به الفلاسفة المنتسبون للإسلام، والمعتزلة والأشاعرة إلى حد ما، وهي القضية الأساسية في نقد هذا الفكر -وقد أحس بها هذا الطفل- وهي أنهم يحاولون أن يثبتوا لك أشياء أنت مسلم بها من غير برهان؛ لأنها مما لا يقبل النقاش، فهم -مثلما قلنا- يتكلمون في الماهيات؛ في حقائق الأشياء؛ إثبات أن الإنسان إنسان، وإثبات أن الجبل جبل، والناس كلهم -إلا من مرض بهذا الداء- لا يشكون في هذه الحقائق، أما الفيلسوف فتراه يأتي بنظرية بدهية في الرياضيات ويطيل في الاستدلال على صحتها، وهي قضية مسلم بها من غير هذا الطريق الطويل في الاستدلال.
    من هنا بدأت في نفسه الثورة على الفكر اليوناني والفلسفة اليونانية، وما قاله أرسطو وأشياعه.
    1. راسل جبرياً

      بعد أن يذكر القضايا التي أثرت في حياته وأعطته شعوراً بأن اليقين لا يوجد إلا في قوانين الرياضيات؛ يقول: "لكن كان أهم من ذلك كله -وقد كنت لم أزل صبياً- أنني آمنت بأن الطبيعة تعمل وفق قوانين الرياضة، وأن الأفعال الإنسانية كحركات الكواكب، يمكن حسابها في دقة إذا ما أسعفتنا القدرة الكافية لذلك".
      أرأيتم كيف يبدأ الإلحاد؟! يقول: إن اليقين في قوانين الرياضيات وحدها وليس في غيرها، كما يقول بعض الناس: (1+1=2) هذا علم لا يناقش فيه، وهذا الكلام صحيح، لكن هذا العلم لا يمكن أن يطبق في حياة الناس، يمكن أن نقول: أثبت العلم مثلاً أن هذا الكوكب كذا وكذا، وأن المادة الفلانية كذا وكذا، وأن القانون الرياضي كذا وكذا، فهذا ممكن جداً، وإذا قلنا في هذا: قال العلم وأثبت العلم، أمكن أن نكون صادقين، ولا يعترض علينا أحد غالباً.
      المشكلة هي في قوله: (وأن الأفعال الإنسانية كحركة الكواكب يمكن أن تضبط وأن تخضع لمنطق علمي)، هذا هو الخطأ، وقد لبَّسوا هذه القضية على العالم الإسلامي؛ يقولون: إن الدارس لعلم النفس كالدارس لعلم الطب، وكلاهما له مجال تكون كلمته مسموعة فيه، وكما أن طبيب القلب يعرف حركات القلب وعمل القلب ووظائف القلب، ويستطيع أن يشخص أي مرض يصاب به القلب، ويكتب الأدوية التي تعيد القلب إلى صحته وسلامته، فكذلك الطبيب النفسي يستطيع أن يحلل سلوكك ويعرف شخصيتك ويحدد ميولك، ويستطيع أن يرسم لك منهجاً تسير عليه في حياتك، وليس هذا فحسب، بل يمكن لعلماء النفس أن يحللوا سلوك المجتمعات ويعرفوا ما يصلحها وما يفسدها ويمكن أن يضعوا لها تشريعاً تسير عليه، بمعنى أننا لو أتينا بعلماء النفس وعلماء الاجتماع، وقلنا لهم: ضعوا لنا كتاباً تسير عليه البشرية في حياتها الاجتماعية والنفسية، لقالوا: يمكن ذلك؛ لأن العلم توصل إلى حقائق، وهذا هو الخطأ، فالمشكلة أن العلم البشري في هذا الجانب لا يصل إلا إلى الضلال والشك والحيرة والتخبط، والباحثون في هذه الأمور لا يتفقون على رأي، وكل تلميذ منهم يخالف أستاذه، والأستاذ يتراجع أيضاً وتختلف أقواله، وبهذا لا يمكن أن يصلوا إلى اليقين في جانب الإنسان، أما في جانب الكون أو في الجانب الجسدي المادي البحت، فالقضية منظورة، ويمكن أن يتوصل فيها إلى قوانين، لكن هؤلاء الفلاسفة خلطوا بين المجالين.
      يقول: "فلما بلغت من عمري الخامسة عشرة انتهيت إلى نظرية شديدة الشبه بنظرية الديكارتيين؛ إذ شعرت باعتقاد الواثق أن حركات الأجسام الحية إنما تنظمها قوانين الديناميكا تنظيماً تاماً" أي: أنه قد توصل إلى نفس ما توصل إليه الديكارتيون.
      يقول: "إذاً فحرية الإرادة وهم الواهمين". إذاً ليس هناك حرية إرادة، والإنسان مثل الكواكب ومثل الشجر، ومثل بقية الأمور المادية يخضع لقوانين ليس له إرادة فيها.
      وهذا يجرنا إلى مسألة القدر عند الغربيين؛ فالقدر عند الغربيين إما حتميات لا فكاك للإنسان عنها، وإما حرية مطلقة ليس لأحد عليها رقابة ولا هيمنة، فالفكر الغربي يؤمن بإحدى الحالتين فقط.
      فـبرتراند راسل يذكر أنه وصل إلى هذه النتيجة؛ أنه ليس للإنسان حرية إرادة.
      يقول: "وقد سلَّمت بوجود الشعور الواعي عند الإنسان على أنه حقيقة قائمة لا شك في صدقها، فلم أستطع أن أذهب مع المادية مذاهبها، ولو أنني أحسست نحوها بعض الميل لما فيها من بساطة وتنظيم، ولأنها تنبذ الترهات في تفسير الكون، وكنت عندئذ لا أزال على عقيدتي في وجود الله؛ لأن برهان العلة الأولى قد بدا لي ممتنعاً عن الدحر".
      وصاحب برهان العلة الأولى هو أرسطو، فـبرتراند راسل يذكر أنه كان في ذلك الوقت لا يزال معتقداً بوجود إله، لكنه أنكر حرية الإرادة.
    2. على خطى الإلحاد

      ثم يقول: "هكذا لبثت حتى ذهبت إلى كامبردج -وهي من أشهر الجامعات في العالم- في سن الثامنة عشرة، وقد كنت عشت حياة معتزلة إلى حد بعيد، وذلك لأني نشأت في دار جدي على أيدي مربيات ألمانيات، ومديرات الدار كنَّ ألمانيات أو سويسريات، ثم انتهى أمري بعد ذلك إلى مربين من الإنجليز، فلم أخالط الأطفال إلا قليلاً"، فهو عاش بين الكبار ولم يعرف الحياة مع الأطفال إلا قليلاً، يقول: "وحتى بعد أن خالطتهم وجدتهم لا يحتلون في نفسي اهتماماً بأمرهم، حتى إذا ما كنت في عامي الرابع عشر أو الخامس عشر، اهتممت بالدين اهتماماً شديداً" لأن الإنسان في الرابعة عشرة والخامسة عشرة يهتم كثيراً بالدين.
      إن الشباب في المرحلة المتوسطة -وهي توافق سن المراهقة تقريباً- يبدأ عندهم الشعور الحاد والتفكير العميق في مسألة من أين جئت، وكيف جاء هذا الكون، ولماذا يفعل الناس هذا، ولا يفعلون ذاك؛ فقد يأتونك بأسئلة وتصورات وتوقعات وتكهنات غريبة جداً في هذه الفترة، ولذلك تجد بعض الشباب الذين هداهم الله واستقاموا في هذا السن يشكون من القلق ومن الوسوسة ومن الحيرة، خاصة إذا لم يتربوا تربية مكينة، وهناك من الشباب الذين نشئوا نشأة دينية مَن قد ينحرف -عافني الله وإياكم- يربيه أبوه ويهذبه ويعلمه في الصغر، فيحفظ القرآن، ثم إذا بلغ الرابعة عشرة أو تجاوزها بقليل، إذا به ينحرف ويتغير عما كان عليه تماماً، وحين تنظر إليه تستبشع هذا التغير.
      فهذه الفترة هي فترة تغير؛ ولذلك يجب على المربين والمعلمين والآباء والدعاة أن ينتبهوا لهذه القضية.
      والمدرسون في المرحلة المتوسطة عليهم عبء كبير بالنسبة لهذه القضية، وكذلك الدعاة في المساجد أو المدارس الخيرية أو ما أشبه ذلك؛ لأن الإنسان -إذا جاوز الخامسة والعشرين من عمره- تستقر نفسيته، ويعيد النظر في حساباته، وينتقد سيرته الماضية، أما ما قبل ذلك فتجد الاندفاع والتهور والتقلب والتذبذب في الرأي والشكوك، وأكثر ما يعاني المربون والموجهون والدعاة والناصحون هو ما يعانونه من الشباب الذين هم دون العشرين، ولا سيما من كان في مرحلة المراهقة.
      يقول: "اهتممت بالدين اهتماماً شديداً، وجعلت أقرأ مفكراً في البراهين التي تقام على حرية إرادة الإنسان وعلى خلوده -يعني: على اليوم الآخر- وعلى وجود الله، وقد كان يشرف على تربيتي لبضعة أشهر أستاذ متشكك".
      وهنا يبرز لنا خطر تسليم أبنائنا في المرحلة المتوسطة لأساتذة متشككين ملحدين، فقد يزعزعون إيمانهم.
      يقول: "فكنت أجد الفرصة سانحة لمناقشته في أمثال هذه المسائل، لكنه طرد من عمله، ولعلهم طردوه لظنهم أنه يهدم لي أساس إيماني". فكأن جده وجدته طردوا هذا المدرس حتى يحافظوا على عقيدته.
      يقول: "فإذا استثنيت الأشهر التي قضيتها مع هذا الأستاذ؛ وجدتني قد احتفظت بفكري لنفسي، وكنت أدونه في يومياتي بأحرف يونانية، حتى لا يقرأها سواي، لهذا كنت أشقى شقاءً من الطبيعي أن يعانيه مراهق معتزل عن الناس، وعزوت شقائي عندئذ إلى فقداني لإيماني الديني".
      هو معزول عن الناس ومعزول عن الأطفال، وانسجم مع أحد المدرسين وبدأ يطرح عليه الأسئلة، ولكنه لتشككه طرد؛ فلم يجد هذا الطفل إلا أن يكتب خواطره بحروف يونانية؛ حتى لا يقرأها أحد غيره.
      وغالب الشباب في هذا السن وفي هذه المرحلة يمرون بمثل هذه الأمور، يخفون أشياء كثيرة مما يعانون عن آبائهم وعن أمهاتهم وعن زملائهم، ولكل واحد منهم أشياء شخصية يحتفظ بها ولا يريد أن يطلع عليها أحد.
      وهنا تأتي مهمة التربية، إن كانت التربية إسلامية وصحيحة وسليمة فإنها توجه الشباب إلى الإيمان، وإلا فالإلحاد -والعياذ بالله- يبدأ من هذا السن.
      يقول: "كنت أشقى شقاءً من الطبيعي أن يعانيه مراهق معتزل عن الناس، وعزوت شقائي إلى فقداني لإيماني الديني".
      وهو كذلك، ومع أن دينه محرَّف إلا أنه أحس بالشقاء لأنه فقده، فإن الدين -وإن كان محرفاً- أهون بكثير من أن يعيش المرء بلا دين وبلا هدف، فيظل حائراً متشككاً متردداً.
      يقول: "ظللت ثلاثة أعوام أفكر في الدين؛ معتزماً ألا أدع أفكاري تتأثر بأهوائي، فانتهيت بفكري أولاً إلى عدم الإيمان بحرية الإرادة"، أي أنه كفر بـالكاثوليكية التي ترى حرية إرادة الإنسان، وتنكر القدر، فهم قدرية كما هو مذهب المعتزلة، فمذهب المعتزلة مثل مذهب الكاثوليك في القدر؛ لأنهم أخذوا فكرهم عن الفكر اليوناني؛ بخلاف ما عليه البروتستانت في هذه المسألة -وهي مسألة القدر- فقضية القدر شغلت فكره كما تشغل بال الغربيين.
      فاعتقد برتراند راسل بأن الإنسان مجبور على أفعاله، وهو على كل حال إن آمن بالجبر فقد كفر، وإن آمن بإنكار القدر أيضاً فقد كفر.
      يقول: "ثم انتهيت إلى نبذ فكرة الخلود"، إذاً بعد ما كفر بالقدر، انفرط نظام دينه عقيدة تلو عقيدة، والكفر بالخلود معناه الكفر بالآخرة والحياة بعد الموت، لأن الخلود يستلزم وجود الروح، فهي تنتقل من الدار الدنيا إلى عالم البرزخ، ثم منه إلى العالم الآخر، وإنكار الخلود معناه إنكار هذا كله، وأن الإنسان إذا مات فلا رجوع إلى الحياة بعد ذلك؛ وليس هناك حساب ولا قيامة ولا بعث ولا برزخ، ((بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ))[النمل:66].
      ولهذا كان الشقاء مطبقاً عليه.
      يقول: "لكنني ظللت على عقيدتي في وجود الله حتى أتممت عامي الثامن عشر - لم يبق عنده من دينه إلا اعتقاد وجود الله فقط- وعندئذ قرأت في الترجمة الذاتية التي كتبها مل عن حياته هذه العبارة: (لقد علمني أبي أن سؤالي: من خلقني؟ ليس بذي جواب؛ لأنه يثير على الفور سؤالاً آخر: من خلق الله؟) وفي هذه اللحظة التي قرأت فيها تلك العبارة استقر مني الرأي على أن برهان العلة الأولى على وجود الله برهان باطل" وهكذا يبدأ الإلحاد! فهذه العبارة وجدها هذا الحائر في كتاب أستاذه في الإلحاد -جون ستيوارت مل الذي كان صديقاً وقريناً لأبيه، والذي هو أبوه في العماد؛ يقول فيها مل : "لقد علمني أبي أن سؤالي ..." أي أن أبا مل كان فيلسوفاً وكان ملحداً، فعلم ابنه الإلحاد، ولما صار الابن ملحداً كتب هذه العبارة فقرأها تلميذه الشقي الذي هو راسل يقول مل: "لقد علمني أبي أن سؤالي: من خلقني؟ ليس بذي جواب -أي ليس له جواب- لأنه يثير على الفور سؤالاً آخر: من خلق الله؟" تعالى الله عما يصفون! وهذه الكلمة قد أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يزال الناس يقولون: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول قائلهم: من خلق الله؟} ولهذا لما سأل الأعرابي أبا هريرة بذلك السؤال، قال أبو هريرة : "صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في زمن أبي هريرة وسوف يظل يقع إلى آخر الزمان.
      فهذا الرجل الذي كان يعبد أرسطو لم يستطع أن يأتي بأي برهان على وجود الله غير برهان العلة الأولى، وكفر بـالنصرانية لخرافاتها وتحريفاتها وضلالاتها.
      وهذا يدلنا على جهل ومغالطة الذين يقولون: إن الفلسفة تقوم على الحقائق وعلى العقل، وهذه العبارة ترد كثيراً في كتب الكلام القديمة وفي عبارات المعاصرين اليوم، وتراهم يزعمون أن الفلسفة حقائق وعقل وقواعد وبراهين وقواطع ويقينيات... إلى آخر ما يقولونه.
      فـبرتراند راسل كان يعتقد بوجود الله بناءً على برهان العلة الأولى، وهو كالخيط الرفيع أو كالشعرة؛ رغم كل الدعاوى التي تحاط به من أنه قطعي ويقيني إلا أنه تبدد أمام أول شبهة، فقد وجد راسل -وهو حائر ضائع مراهق معتزل متشكك- عبارة لإنسان حائر آخر -وهو مل- يقول فيها: (إن سؤالي: من خلقني؟ ليس بذي جواب)، لماذا؟! قال: (لأنه يثير السؤال الآخر: من خلق الله؟) ولأنهم يقولون: الرب يسوع؛ فمن الطبيعي جداً أن يرد هذا السؤال عندهم على غرابته، فهذه العبارة تولد الحيرة وينشأ عنها كثير من الأسئلة: هل الرب يسوع هذا هو الذي خلق السماوات والأرض؟! ورجال الكنيسة لا يجيبون السائل على أسئلته، بل يطردونه ويصمونه بالإلحاد، ولو أجابوه فسيقولون: نعم، هذا الكون الذي خلقه هو الرب يسوع، فيسألهم تلقائياً: ومن خلق يسوع؟! ألستم تقولون في الأناجيل: إنه جاء الملك وكلم أمه وقال: تحملين وتلدين، ثم تضعين غلاماً، ثم جاء الغلام من غير أب؟! -والقصة موجودة في القرآن على اختلافها عما في الأناجيل، لكن الفكرة الأساسية تقريباً واحدة- فهل هذا هو الذي خلق السماوات والأرض؟!
      وأي شخص لديه أدنى مسكة من عقل لا يصدق كلامهم، وخاصة بعد ما كشفت لهم العلوم الكونية أبعاد الفضاء، فإن عيسى عليه السلام قد ولد سنة (1) ميلادية أو قبل ذلك -فهناك اختلاف في ولادة المسيح، ولا يعنينا الآن هل ولد سنة (1) ميلادية، أو ولد قبل الميلاد بسنتين، أو ولد بعد الميلاد بسنتين -فكيف يقولون: إنه هو الذي خلق هذا الكون العظيم؟! هذه مشكلة، فهنا يأتي السؤال: من خلق هذا الرب؟!
      رجال الكنيسة يقولون: الثلاثة واحد، فماذا يقصدون؟! هل يقصدون أن الخالق هو المخلوق؟! ولا يجد السائل عن هذا جواباً مقنعاً يشفي غليله، ومن هنا تنشأ المشكلة؛ ولذلك يكفر الغربيون ويلحدون.
      ومع ذلك نقول: يجب أن ننتبه لمثل هذه السن ومثل هذه التربية، حتى لا يقع شبابنا في الإلحاد، فكل من ألحد من شباب المسلمين، فصار شيوعياً أو وجودياً، فلا بد أنه مرت به مثل هذه الظروف: يتيماً منعزلاً متشككاً... إلى آخر ما سمعتم.
      يقول: "وفي هذه اللحظة التي قرأت فيها تلك العبارة، استقر مني الرأي على أن برهان العلة الأولى على وجود الله برهان باطل" لقد بنى عقيدته على برهان أرسطو، وهو تافه متهافت، ليس بذي دليل ولا حجة، ثم كفر به حين قرأ كلام شخص آخر متهافت ليس بذي دليل ولا حجة، هذا كل ما كان لديه، ومن هنا أصبح علماً مشهوراً على الإلحاد والملحدين.
  4. راسل في المجال الأدبي

     المرفق    
    يقول: "أكثرت من القراءة في تلك الأعوام، لكنها لم تكن قراءة موجهة" لقد تحرر من آخر شعرة، وكفر والعياذ بالله، فأصبح يقرأ قراءة غير موجهة، يقول: "ولذلك ذهب كثير منها بغير جدوى، فقد قرأت مقداراً كبيراً من الشعر الرديء" يعني أنه كان يمكن أن يصير حداثياً، ولقد كان معاصراً لزعيم الحداثة العالمية، الذي هو صاحب الأرض الصخر أو الأرض اليباب إيليوت، وهو رجل إنجليزي، لكن الغريب -في هذه المناسبة- أن إيليوت زعيم الحداثة في العالم رجع في آخر حياته إلى الكاثوليكية، وأصبح يطالب بأدب كاثوليكي ملتزم، وقال: يجب أننا نتخلص من الآثار الوثنية في أدبنا.
    والمقصود أن راسل كان يمكن أن يكون حداثياً، يقول: "قرأت مقداراً كبيراً من الشعر الرديء، وبخاصة شعر جونسون وبايرون، لكني وقعت آخر الأمر وأنا في السابعة عشرة من عمري على شيللي الذي لم يكن قد أنبأني به أحد، فظل شيللي لأعوام كثيرة هو الرجل الذي أحببته أكثر من أي رجل آخر بين عظماء الماضي، ثم قرأت كثيراً لـكارلايل، وأعجبت بكتابه الماضي والحاضر، لكني لم أحب كتابه عن الملابس".
    كارلايل هذا له كتاب مشهور هو كتاب الأبطال، ومن جملة الأبطال الذين تحدث عنهم كارلايل في كتابه محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد ذكره من جملة الأبطال، وأثنى عليه ثناءً كثيراً؛ يذكرنا بما قلناه من أن الفلاسفة يعتقدون أن الأنبياء مجرد عباقرة مصلحين، لهم قوة نفس وقوة إدراك وذكاء، وقدرة على التأثير وصفاء في الذهن... إلخ، وبعض من تقرءون له في السيرة يأتي بكلام كارلايل ويقدسه ويعظمه حين يتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب أن نتنبه إلى خطورة هذه القضية.
    وكذلك الأمريكي الذي كتب قبل أربع سنوات أو خمس سنوات تقريباً أبطال العالم المائة، وجاء بمحمد صلى الله عليه وسلم وبوذا والمسيح وداروين ولينين، فجمع بين المتناقضين، لكنه أيضاً أعجب به كثير من الكُتَّاب، وكتبوا عنه.
    سبحان الله! ما دام هذا الأمريكي ذكرنا أو أتى بسيرتنا أو أتى باسم نبينا جعلنا هذا فخراً! كأننا نعيش على فتات الأمم؟! إن كل ما يعجبهم في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ويتحدثون به عنه أنه وحَّد العرب، وحولهم من قبائل همجية إلى أمة موحدة، حاربت الرومان وغلبتهم، وحاربت الفرس وغلبتهم.
    يقول: "وأما الرجل الذي كدت أن أتفق معه في الرأي اتفاقاً تاماً، فهو مل، وكان لكتبه: الاقتصاد السياسي والحرية وخضوع المرأة أثر عميق في نفسي، وعلقت على كتابه في المنطق تعليقاً مفصلاً".
  5. اعتناق راسل للمذهب النفعي وتهكم من حوله به

     المرفق    
    ثم يقول: "وقد أخفيت شكوكي الدينية عن أهلي؛ ذلك أني قلت مرة لمن كان في الدار: إني مؤمن بـالمذهب النفعي في الأخلاق، فقابلوني بعاصفة من السخرية حملتني على أن أمسك عن التعبير عن فكري أمام أهلي".
    وهذه قضية مهمة؛ فبعض الناس لا يترك لابنه الفرصة ليعبر عما يعتقده أمامه، فهو حين قام يتكلم أمام أهله ومن حوله وقال: أنا مؤمن بـالمذهب النفعي في الأخلاق، ثاروا عليه وسخروا منه، فسكت، وبعد ذلك لم يعد يتكلم في هذا الموضوع.
    والمذهب النفعي الذي نادى به راسل وكرره: هو ما يؤمن به الغربيون اليوم، أن الأخلاق لا تقوم على أساس ديني، وإنما تقوم على أساس النفعية، فعندما يجب عليك أن تكون أخلاقك حسنة، فليس ذلك لانتظار ثواب، ولا لرجاء في الدار الآخرة، وإنما لمنفعتها، بمعنى أنك إذا كنت صادقاً ووفياً واحترمت الناس، فالناس سيحترمونك ويتعاملون معك، وستربح تجارتك، ويرضى عنك رؤساؤك، فتترقي في وظيفتك، وتكسب الناس، ولا تخسرهم... وهكذا.
    ولذلك نشير إلى مسألة مهمة، وهي مسألة الحب والمحبة التي يكتب عنها كثيراً، ويسأل عنها في المقابلات، ولا نعني الحب الذي هو من ناحية المرأة.
    فكثيراً ما يرد في كتابات الصحف: الناس أحوج ما يكونون إلى الحب، والحب مفقود بين الناس، وعاملوا الناس بحب.
    وغالباً كل الأدباء والمحررين في الصحف تجدهم يتكلمون عن هذا المعنى، يسأل أحدهم: ماذا يفتقد إليه الناس في رأيك اليوم؟ فيقول: المحبة! ولا يذكر لك الأخلاق ولا الاستقامة ولا الدين.
    وبعضهم يقول: إن الناس فقدوا رباط الحب، وبعضهم يفسر فقدان المحبة بكلام قريب من الدين، فيقول: ولذلك قطعوا الأرحام وما أشبه ذلك من العبارات.
    إن هذا الحديث عن المحبة هو في الأصل من عادات النصارى؛ فإن الدين النصراني أصلاً يقوم على فكرة المحبة، ولهذا يقولون: الله محبة، وهكذا هي عقيدتهم، أي أن المحبة عندهم هي الشيء الذي يربط الناس، وليس لديهم نظام أخلاقي متماسك كما عندنا في الإسلام؛ فالإسلام يوضح للإنسان كيف يتعامل مع أبويه، وكيف يتعامل مع زوجته، وكيف يتعامل مع جيرانه، وكيف يتعامل مع ولي أمره، ويفصل له إذا كان مسئولاً أو ولي أمر كيف يتعامل مع من هم دونه.
    فكل تلك المسائل والقضايا فيها أحكام مفصلة، فيها واجبات، وفيها حقوق، والعاطفة جانب من الجوانب، لكن الغربيين يفتقدون مثل هذا التفصيل، واعتقادهم نظري مجمل، ينبني على قضية عامة هي مجرد المحبة.
    وحين جاء الفلاسفة وكفروا بـالنصرانية، قالوا: ندعو الناس إلى المحبة، فما الذي يضرنا؟! فلتبق المحبة لكن على أساس نفعي لا على أساس ديني؛ فيعلمون التاجر أهمية الصدق ويخبرونه بالفوائد الدنيوية التي سيجنيها إذا التزم بالصدق؛ من ثقة الناس به وكثرة زبائنه وزيادة أرباحه، ويقولون له: ليكن صدقك لأجل ذلك لا لنيل الأجر من الله في الآخرة؛ فتوصلوا بذلك إلى مرادهم.
    وهذا هو السبب فيما هو مشاهد عن الغربيين من انضباط في أعمالهم، والتزام في مواعيدهم، ودقة في مواصفات بضائعهم؛ فحكوماتهم وأنظمتهم قد التزمت بهذا وألزمتهم به.
    ومن المسلمين من يفتتن بذلك، ولا سيما وهو يشاهد انحطاط كثير من المسلمين.
    والحقيقة أن صدقهم نفعي، وانضباطهم إنما هو لمنفعة، ثم إذا سنحت لهم فرصة للسرقة أو الغش دون أن ينتبه لذلك أحد، استغلوا تلك الفرصة وليس لهم عنها رادع من دين أو خلق متين.
    فأي صدق هذا الذي يوصفون به؟! وأي أخلاق هذه التي يتشدقون بها؟! كل ما هنالك أنهم ينظرون في حساب مصالحهم إلى المدى الطويل ويخططون لها؛ لا كما يفعل المنحطون من المسلمين؛ حين يكذبون على الناس فيكتشف الناس كذبهم، ويسقطون من التجربة الأولى.
  6. راسل في المرحلة الجامعية

     المرفق    
    يقول راسل: "فلما ذهبت إلى كامبردج انفتح أمامي عالم جديد من نشوة ليس لها حدود؛ إذ وجدت للمرة الأولى أنني إذا ما صرحت بفكري صادف عند السامعين قبولاً، وكان عندهم على الأقل جديراً بالنظر".
    والانتقال إلى الجامعة قديماً أو حديثاً معناه: الانتقال من بيئة محدودة مغلقة إلى بيئة متفتحة، الإلحاد فيها موجود، والذي لا يصلي موجود، والذي لا يلتزم بالدين موجود، الغربي والشرقي من أصحاب الفلسفات والضلالات يجدهم الشاب في الجامعة، بعد ما كان في الثانوية محصوراً تقريباً.
    وهنا تبدأ مرحلة جديدة في حياة هذا الملحد حينما يلتقي بفيلسوف إنجليزي آخر هو وايتهيد .
    والخلاصة النهائية التي نستفيدها من قصة هذا الملحد أننا تعرفنا من خلالها كيف ينشأ الإلحاد، وعلى أي أساس يقوم؛ على يقينيات أو على قطعيات، وما قوة الفلسفة، وما مكانتها، وهل تصلح بديلاً عن الدين، وهل يمكن أن تعوض البشر عن الدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالى كتاباً مفصلاً يهدي إلى الطريق المستقيم، وتكفَّل بالهداية والسعادة لمن عمل بما فيه وآمن به واتبعه: ((فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى))[طه:123]، ولا ضلال ولا شقاء إلا لمن أعرض عنه: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا))[طه:124] وتكفل الله سبحانه وتعالى لمن عمل به -وهو مؤمن- بالحياة الطيبة: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً))[النحل:97] الحياة الطيبة للمؤمن يقابلها المعيشة الضنك للكافر وللملحد.