وأما النوع السادس: فشفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه فهذه الشَّفَاعَة خاصة له من جهتين: الأولى: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي يشفع، ولا يشفع أحد من النَّاس في قريبه المشرك.
والجهة الثانية: أنه ليس هناك مشرك يخرج من النَّار بإطلاق ولا يخفف عنه لا بشفاعة شافع ولا برحمة من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ لأن رحمته تَعَالَى أعظم وأشمل من شفاعة الشافعين كما في حديث الجهنميين، حتى أن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، يحاول ويريد يَوْمَ القِيَامَةِ أن يدخل أباه الجنة، ولا يدخل النار، فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: انظر إِلَى موضع قدمك، فينظر إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام إِلَى موضع قدمه، فإذا هو ملطخ بالدماء فعندما ينظر في هذا الدم يقذف بأبيه في النَّار نسأل الله العفو والعافية.
فلم تقبل شفاعة الخليل إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام وهو خليل الرحمن في أبيه، ولا يكون ذلك إلا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه الشَّفَاعَة شبيهة بالشَّفَاعَة العظمى في أنها واضحة الاختصاص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحديث أبي طالب هذا رواه الشيخان، ولفظ مسلم: {أن العباس بن عبد المطلب أخا أبي طالب سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: يا رَسُول الله! هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كَانَ يحوطك ويحميك؟ يعني: هل من مقابل لتلك الحماية والنصرة للدعوة، بل إن أبا طالب حوصر في الشعب وجعل نفسه مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل بقية المؤمنين وهو ليس منهم فقَالَ: رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم هو في ضحضاح من النَّار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النَّار}
.
وفي الرواية الأخرى قَالَ: {له شراكان من النَّار يغلي منهما دماغه وهو يظن أنه أكثر أهل النَّار عذاباً} -نسأل الله العفو والعافية- فهو مخفف عنه بالنسبة إِلَى حال جميع الْمُشْرِكِينَ، ومع ذلك يظن من شدة حر النَّار -عافانا الله من حرها- أنه أعظم أهلها عذاباً، فهذه خاصة مستثناة إكراماً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخصوصية لـأبي طالب لما قام به من حماية الدعوة وهذه الشَّفَاعَة مستثناة من قوله تعالى: ((فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ)) [المؤمنون:101].
وبما ورد من النهي عن الاستغفار للمشركين كما قال تعالى: ((مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى))[التوبة:113] فالاستغفار للمشركين، لا يجوز وإنما الذي جاز وورد فقط هو هذه الشَّفَاعَة ((وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْه))[التوبة:114] وهذا هو الذي حصل، لكن في يَوْمِ القِيَامَةِ يأخذ الحزن والأسى قلب الخليل عَلَيْهِ السَّلام ويحاول أن يخاطب ربه عَزَّ وَجَلَّ في أبيه.

والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخاطب ربه في عمه أبي طالب فتكون من الخصوصية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولعمه الذي حمى الدعوة ونصرها وأيدها، إلا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يوفقه لأن يشهد شهادة الحق عند الموت وفي ذلك حكمة عظيمة وآية بالغة لمن أراد أن يتذكر ولمن أراد أن يتفكر في هذه العبرة، والقصد أن هذه الشَّفَاعَة واضحة أنها من خصوصياته.

وأما القوم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فهَؤُلاءِ هم -كما فسرهم حبر الأمة عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أهل الأعراف، فقد قال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أما السابقون بالخيرات فيدخلون الجنة برحمة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى"، وهم الذين قال الله تَعَالَى فيهم لمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن قَالَ: أمتي أمتي: {أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من الجنة} ثُمَّ قَالَ: [[وأما المقتصدون -أو أهل الأعراف- من تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيدخلون الجنة بشفاعة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]] وهَؤُلاءِ أهل الأعراف يمكثون عَلَى مكان بين الجنة والنَّار فيها أشجار وماء فيشفع فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيدخلون الجنة، وكما أسلفنا سابقاً: أنه لا يمتنع أن يشفع فيهم غير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قال المصنف: [وفي أقوام آخرين قد أمر بهم إِلَى النَّار ألاَّ يدخلوها] وهذا أيضاً كما سيأتي في حديث الجهنميين ثابت، وحق لمن دخل النَّار أن يخرج منها، فأولى منه ذلك الذي لم يدخلها بعد.