أخذ المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ يذكر الحديث، والحديث ضعيف كما قال الشيخ ناصر: "ضعيف أخرجه ابن جرير في تفسيره -كما ذكره المصنف- من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعاً وإسناده ضعيف؛ لأنه من طريق إسماعيل بن رافع المدني عن يزيد بن أبي زياد وكلاهما ضعيف، بسندهما عن رجل من الأنصار وهو مجهول لم يسم.
وقول الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/248، 4/63): إنه حديث مشهور... إلخ، لا يستلزم صحته كما لا يخفى عَلَى أهل العلم.

والمقصود أن هذا الحديث وأمثاله ليست ثابتة فيما روي في وصف المحشر كاملاً ولكنها مركبة، وقد تكون مركبة من أحاديث صحيحة، وأحاديث ضعيفة.
فقول المصنف: [لكن من مضمونه أنهم يأتون آدم ثُمَّ نوحاً ثُمَّ إبراهيم ثُمَّ موسى ثُمَّ عيسى، ثُمَّ يأتون رَسُول الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيذهب -يعني رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيسجد تحت العرش في مكان يقال له: الفَحْصُ، فيقول الله تعالى: ما شأنك؟ -وهو أعلم- قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقول: يارب! وعدتني بالشَّفَاعَة فشفعني في خلقك فأقض بينهم] هذا المضمون يتفق مع الحديث الأول، وليس إِلَى هنا أي تعارض، لكن بعد ذلك يأتي ما يدل عَلَى أن متن هذا الحديث يخالف متن الأحاديث الصحيحة.
يقول: [فيقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: شفعتك، أنا آتيكم فأقضي بينهم قَالَ: فأرجع فأقف مع الناس، ثُمَّ ذكر انشقاق السماوات، وتنـزل الملائكة في الغمام، ثُمَّ يجيء الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لفصل القضاء، والكروبيون والملائكة المقربون يسبحون بأنواع التسبيح، قَالَ: فيضع الله كرسيه حيث يشاء من أرضه].
ومعنى هذا: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يأت بعد لفصل القضاء عندما سجد الرَّسُول في أول مرة، فيكون عَلَى هذا: أن النَّاس ذهبوا إِلَى آدم، ثُمَّ إِلَى نوح، ثُمَّ إِلَى إبراهيم، ثُمَّ إِلَى موسى، ثُمَّ إِلَى عيسى، ثُمَّ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذهب إِلَى تحت العرش، فسجد وخاطبه ربه وقَالَ: أنا الآن سآتي لفصل القضاء، ثُمَّ تنشق... فإذا كَانَ السجود تحت العرش قبل أن يأتي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لفصل القضاء.
إذاً: فأي مكانٍ يسجد فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو غيره، فهو ساجد تحت العرش ضرورة، لأن العرش فوق المخلوقات وهو أعظمها أو أكبرها، فلا اختصاص إذاً.
والروايات الصحيحة الثابتة تدل عَلَى أن ذلك إنما يكون بعد أن يأتي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للحساب ولكن لا يفصل بينهم؛ بل كما قال الأنبياء: (إن ربنا غضب في هذا اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله)، هذا هو الذي يتفق مع الأحاديث الصحيحة، والاضطراب والشذوذ يعرف في قوله: {فإذا أفضى أهل الجنة إِلَى الجنة قالوا: من يشفع لنا إِلَى ربنا فندخل الجنة، وهذه شفاعة أخرى فيقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم عَلَيْهِ السَّلام إنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وكلمة قبلاً، فيأتون آدم: فيطلبون ذلك إليه وذكر نوحاً ثُمَّ إبراهيم ثُمَّ موسى ثُمَّ عيسى ثُمَّ محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}.
وهذا اضطراب آخر، فالنَّاس بعد أن يطلبوا من آدم عَلَيْهِ السَّلام أن يشفع لهم الشَّفَاعَة العظمى فيعتذر، ثُمَّ يعتذر نوح، ثُمَّ يعتذر إبراهيم، ثُمَّ يعتذر موسى، ثُمَّ يعتذر عيسى عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، فلما يعتذروا كلهم يفض الموقف، ولم يبق إلا أن يدخل أهل الجنة الجنة، فكيف يأتون إِلَى آدم من جديد وقد اعتذر من الأصل؟
فالمقتضى -لو كَانَ بغير حديث- أنهم يأتون إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا هو الواقع لأنا نجد بعد ذلك أن المُصنِّف نفسه يذكر أن من الشفاعات شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهل الجنة أن يدخلوها، فذكر ذلك، والأدلة عليه، فهذا إذاً هو المختص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الأليق: أن النَّاس بعد ذلك يأتون إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما من اعتذر في الأول فكيف يرجعون فيأتونه مرة أخرى، ثُمَّ بعد ذلك يستمر الحديث وكأنه قطعة من الحديث الصحيح الثابت أولاً، فبهذا يتبين لنا أن المُصنِّف -رحمه الله تعالى وغفر لنا وله- قد أخطأ فيما أورده من تعليق عَلَى هذا الحديث، وليس وجهة نظره فيما يبدو لنا بمكان من الصواب والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أعلم.